الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزائر ، نظرة جديدة للتاريخ الوطني أكثر من ضرورية (7)

العربي عقون

2012 / 3 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


...///....
منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا رغم التقطعات والتقهقر وحتى في ظلّ بعض الازدواجيات فإنّ انصهار مختلف العناصر الاثنية والثقافية كان يجري ولو ببطء وظلت الاستمرارية قائمة وهو ما جعل الشعب الجزائري يؤمّن وجوده ويقوم من كل كبوة ليواصل بقاءه. وهذه الاستمرارية التي لا نعيرها في كثير من الأحيان الأهمية تكمن في :
1- ديمومة العمق الأمازيغي القديم.
2- ثراؤه من خلال الاتصال بالشعوب المجاورة.
3- العناصر المادّية للحضارة – مجال غير معروف كفاية أو مهمل في كثير من الأحيان – مثل التقنيات الفلاحية والحرفية، والعمارة الحضرية والريفية، استغلال المياه وحماية التربة... الخ وهي العناصر التي تنتقل عبر الأجيال التي تحتفظ بها وتطورها على امتداد العصور.
في شأن الهوية الوطنية، لا يمكن تجاهل هذه المسارات لإعادة اكتشافها وتثبيتها على أسس تاريخية راسخة، وهذا باستخراج ذلك التوافق الذي يوحّد الميول والأطراف – إعادة تشكيل الحصيلة دون إغفال شيء أو نسيانه فلا يحقّ لأي كان أن يقوم ببتر شيء من الشخصية الوطنية أو محو جزء من تاريخها.
وأكثر من هذا فإنّ الهوية التي هي شخصية الأمة ليست فقط المرآة حيث الأجيال المتعاقبة - بما فيها جيلنا- ترى ذاتها أو تتعرف على بعضها البعض، تؤسس لثقافة باعتبارها أداة تفعيل لهوية هي الكائن في ذاته فلا هوية دون ثقافة، ولا ثقافة دون هوية، فالثقافة هي الموقف إزاء الحياة، والاستعداد لمواجهة المشاكل من كل نوع وإيجاد الحلول لها، أي العمل على تنمية المجتمع أفرادا وجماعات، فهي صانعة الحضارتين: الحضارة المعنوية الفكرية والحضارة المادية، والاثنتان مرتبطتان ولا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى، والإنسان وهو يواجه الطبيعة التي يستمد منها جوهره في حاجة دائمة إلى العلم لعلاج ما يعترض طريقه من مشاكل وأزمات تطوّر متأصلة في كلّ مجتمع، وهي مشاكل وأزمات لا يمكن إيجاد حلول لها إلاّ باستعدادات مكتسبة ووعي وفكر يواكب التطور على الدوام.
المعارضات السياسية، والأزمات الاقتصادية الاجتماعية والازدواجيات الثقافية والمعارضات الدينية والمطالب النقابية والإضرابات والمظاهرات والأداء الديمقراطي ذاته، كل هذا لا يتطلب من الفرد أو الفريق الذي يواجه هذه الحالات والأوضاع إلا ما نسميه : " روح الثقافة " أي المعرفة والضبط؛ وتبرز أهمية المعرفة في أنّه لا يوجد مجال منفرد معزول في نشاط أحادي الجانب دون تبعات فورية ولاحقة؛ أمّا الضبط فهو في معناه الانضباط الذاتي لتحقيق الفعالية، إذ يكفي للاقتناع أن نرى ما الذي جرى في العصور القديمة وما نراه في الوقت الراهن. وكمثال على ذلك في الأسواق القديمة: الذي يمكن ضمانه للبائع هو استلامه أثمان البيع وللمشتري هو استلام البضاعة لان أحدهما يمكن أن يفرّ بعد أن يستلم ما أراد. ولكن هناك العادات المعمول بها، وهناك الفائدة التي تأتي بعد أمد بسبب حسن المعاملة، وهناك احترام الممارسات والوعي بالانتماء إلى مجموعة ينبغي الاحتفاظ بكرامتها، وهناك الوفاء للوعود التي يقطعها المرء على نفسه، أي باختصار هناك أخلاق وهذا كله يمثل ثقافة ومصيرا. وهو كله مرتبط بإطار علاقة اقتصادية قائمة على الانضباط.
وفي أيامنا انحرفت المطالب نحو الفوضى والأنشطة نو العنف وإذا لم تستحضر الأذهان فرديا وجماعيا المعرفة الصحيحة لعلاقات القوة والحدود التي ينبغي أن يلتزم بها الأفراد في إطار الحياة الاجتماعية وإذا لم يقم الفكر المنهجي يحلل الطلبات ليعطيها الشكل والمضمون سيحصل ذات الشيء في ميادين أخرى (سياسية، دينية ويمتدّ ذلك إلى نزاعات المواريث والزواج والعواطف) حيث تبقى الثقافة حاضرة.
قد يكون من السابق لأوانه بالنسبة لمعاصرينا، الإقرار بالتحولات السياسية والثقافية التي هي في طور الاكتمال، والإفصاح عن طبيعتها واتساعها، وهما يمكن استحضار الوضع في نهاية 1989 حيث بدت الأحداث حينها في تسارع، وأخذت الميول تحتدّ وتقف وجها لوجه، وبيس من المستبعد أن تمتدّ المسألة خارج إطار الوطن، وكـأنّنا في الطريق لنعيش ثورة جديدة فيما يشبه دوامة اهتزّ لها المجتمع أفرادا وجماعات، ومع أنّ التحولات الاجتماعية الاقتصادية ليست هي القضية إلا أنّ السبب في الوضع الحالي يكمن في مشاكل اللغة والثقافة والديمقراطية وحتى الدين ذاته، وهي مشاكل تمّ التعبير عنها بالإرادة في تولي المسؤوليات الإدارية السياسية الاقتصادية من قبل طبقات اجتماعية جديدة وتبعا لذلك الطعن في النظام القديم الذي وزّع تلك المسؤوليات.
نحن في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى نخبنا الفكرية من أجل نظرة جديدة إلى تاريخنا الوطني الذي هو التراث والمرجعية الأساسية لنكون في مستوى الأحداث والحقائق الأصيلة، التي تنشأ كلّ يوم.
قياسا على تجربتي فإنّ كلّ المسار الذي يبدأ منذ 1950 كانت خلاله مفاهيم الأمة وتصوراتنا عنها بسيطة، وإلى ذلك الحين كانت تصوراتنا تلك كافية لاحتياجاتنا السياسية والفكرية. أمّا الآن فإنّ الزمن والأفكار تغيرت ولذلك نرى من الضروري القيام بمراجعة شاملة.
هل نحن أقل شأنا من أسلافنا البعيدين الذين -رغم معارفنا المحدودة عنهم- يبدون أقرب إلى الوقائع الحية لمجتمعنا وماضيه، واستشهادا بتفكيرهم وسلوكهم اليومي الذي نجد بصماته في النصوص القديمة، يعرفون أنّ الشعب متنوع فسلكوا سياسة التسامح وحسن التفهم التي بفضلها ظل المجتمع متماسكا وما بعض التصدعات التي تحدث أحيانا إلا استثناءات لا تضرّ بالنظام المعمول به، وطيلة التاريخ القديم والقرون الوسطى والفترات اللاحقة، كانت النخبة من الأدباء والمؤرخين لم تهمل في كتاباتها أيّا من الأحداث والوقائع في حاضرها وماضيها فأعطت لتاريخ الشمال الأفريقي منذ ألف سنة بعده الأكثر اتساعا والممكن في عهدهم.
كنت قد حاولت الإحاطة بالنظم التاريخية القديمة وكذا القريبة منا في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، والواضح أنّ هدف هذه الدراسة هو تقديم نقاط أساسية من تاريخنا على الخصوص في فلسفته، وتبيان أن هذا التاريخ لا ينبغي فصله عن أصوله ولا عن حجم الحقائق التي يتضمنها أو ترتبت عنه : النيوليثي، الصلة بعالم البحر المتوسط ، المزغنة (Berbérité) الرومنة ، العربنة ، الحداثة... أي كل المكتسبات - كما كنت قد أشرت - الناجمة عن المعاناة تحت نير الاحتلال ولكنها مع ذلك تظل مكتسبات مهمّة.
وأنا أختم هذا التمهيد أودّ تكثيف الفكر حول بعض المرجعيات التي يبدو لي أنها تثري على وجه الخصوص روح التفتح التي لا تخلو منها الكتابات القديمة، والتي هي جديرة بأن نحكم من خلال ديمومتها على روح العصر. لأنه منذ عقود إلى يومنا (لا يمكن أن يتكرر في كثير من الأحيان) نرى أنّ المفاهيم والأيديولوجيات حصرت تاريخنا في حيّز ضيق مع أنّ الأسباب التي أدّت إلى هذه النتيجة لا سند لها، ومع استمرار الأفكار القديمة نرى في الأفق ارتسام تيارات فكرية جديدة، وأن الحكومة وحزب جبهة التحرير بصدد التحضير لميثاق ثقافي وهذا يمثل في الأخير تقدما يتكامل في أحسن توجّه متّّخذ يأخذ في الاعتبار معطيات تاريخنا.
مع أنّ نصوص تيت – ليف (تاريخ الرومان) وسالوست (يوغرطة) وقيصر (الحرب الأفريقية) ... وآخرين صادرة عن شخصيات رومانية صميمة، مدفوعة بفكرة أنّ روما هي قلب العالم فإنّنا ونحن نتصفح هذه النصوص نكتشف أنّه رغم تلك المركزية المتمحورة على الذات الرومانية هناك مكانة خاصة لباقي العالم وأنّ القرطاجيين أندادا للرومان وأنّ هانيبال هو أكبر قائد عسكري في القديم وأنّ للأمازيغ سياستهم الخاصة: يعقدون تحالفات وأن ملوكهم كانوا يحظون بالتقدير وأن فرسان ماسينيسا لا بديل لهم وإليهم يعود النصر الحاسم في معركة زاما وأنّ جيش بوكوس يعدّ خمسة وعشرين ألف محارب، وأنّ مدن وقرى أفريقيا كانت غنية بالقموح والذهب وقد طلب منها تموين جيوش سيبيون، وبعده قيصر في حربه ضدّ منافسه بومبيوس، وأنّ التحالف مع الملوك والمدن النوميدية كان عنصرا أساسيا في استقرار الوضع في أفريقيا وحتى في روما ذاتها، وأخيرا ومنذ القرن الثالث استحوذت أفريقيا لفائدة شعبها على جوهر الحضارة الرومانية : ففي القرنين الرابع والخامس أصبح الأدب اللاتيني أفريقيًّا على الأقل الكتاب الذين يمثلونه كانوا من الأمازيغ (أبوليوس، القديس أوقوستين ، دوناتوس، ترتوليان، أوروز ...)( ).
هذه المفاهيم والتصورات قد تبدو جريئة أو مزيفة مع أنها تستند إلى نصوص وإلى وقائع مشهود لها، أما بالنسبة لنا فإن ما يبدو مزيفا (وهو ما أبرزناه في بحثنا في شأن حضارة الريف الجزائري) هو مثلا تصور أفريقيا رومانية دون إدراج العنصر الأساسي لأن أفريقيا لم تكن رومانية ولكن كانت أمازيغية –رومانية (تماما كما هو حال المجتمع الفرنسي الذي كان في ذات الفترة غالو-رومانيا وهنا كان الفرنسيون سباقين إلى إبراز الحقيقة في ما يتعلق بتاريخ بلدهم).
بالنسبة للكتّاب اللاتين (وحتى الإغريق) الذين اطلعنا على بعض نصوصهم واقتربنا منها، لو تركنا لبعض الوقت الأيديولوجيات السياسية والمذاهب التاريخية على طريقتهم لوجدنا أنهم أعطوا لأفريقيا صورة كاملة وحقيقية إلى حدّ كبير. هذه الرؤية المنصفة نجدها في كتابات القرون الموالية عند الكتّاب باللغة العربية عربا وأمازيغ ومصريين وسوريين وأندلسيين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة