الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الحاجة الى الاخر أ- تجربة الوحدة

محمد قرافلي

2012 / 3 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


في الحاجة إلى الآخر 1/3

ا- تجربة الوحدة
من منا لا تأتيه لحظات ينقطع فيها عن الناس وعن العالم ويلوذ إلى أعماق حميميته باحثا عن مأوى امن وعن هواء نقي يبعث روح الوجود بحيث يعيد ترتيب حساباته ويراجع مدونته ومفكرته ويستنفر هممه لمواصلة المسير. فالبعض قد تستهويه تلك الحياة الهادئة وتصبح قدرا واختيارا، حصل ذلك مع العديد ممن سجلهم التاريخ وفي مجالات متعددة، أدبية وفلسفية وفنية، منهم من اعتبرها مكتوبا شان أبي العلاء المعري، ومنهم من وجد فيها لحظة للتطهير والتأمل وتحقيق الصفاء الذهني كما هو حال بعض الفلاسفة أمثال جون جاك روسو أو هايدغر في أواخر حياته. لذلك امتدح البعض تجربة الوحدة واعتبرها اختيارا إراديا وفلسفة في الحياة وتجربة خاصة لا تتأتى إلا لمن امتلك شروطا خاصة لأنها ليست في متناول عامة الناس فهي تحتاج إلى تربية خاصة وترويض للجسد حتى يمكنه التحرر من مختلف المتعلقات التي تفرضها الحياة اليومية وإكراهاتها، وانعتاق من سلطة العادة ومن الارتهان لتحديات اللحظي والعابر. كما يمكن اعتبار تجربة الوحدة حالة ملازمة للإنسان وظاهرة تخترق المجتمعات بحيث يلاحظ حضورها في حياتنا الراهنة كظاهرة مزامنة للتحولات الكمية والكيفية التي راكمها الإنسان، وتختلف مظاهرها وأشكالها باختلاف المجتمعات وباختلاف التحولات التي عرفتها ديناميكية تلك المجتمعات. فكلما تكسرت البنيات التقليدية للأسرة ولأنماط المعيش إلا وارتفعت حدة الشعور بتلك الحالة وتفاقمت أشكال العزلة كما هو الحال في المدن الكبيرة، أو في المجتمعات الغربية حيث افرز المجتمع الصناعي أنماط معيش تقوم على الفردانية وعلى ترسيم الحدود في العلاقات الإنسانية وعلى مستوى تدبير اليومي. فالإنسان رغم انه يقضي يومه في حضرة الناس بينهم ومعهم وينسج علاقات متعددة إلا انه يظل يحس بوجود جدار بين عالمه وعالمهم وان الحياة مع الآخرين تشكل في الغالب تهديدا لخصوصيته وتتحول إلى جحيم لا يطاق. ولعل اغرب مفارقة تستدعي التوقف هو الكيفية التي يتفاقم فيها قلق الوحدة وتجربتها في ظل الانجازات التي تحققت في عالم الاتصال والتواصل مع الطفرة التقنية وما واكبها من اختزال للزمان والمكان ومن تغيير في خارطة جغرافية الكون،إذ يقر الجميع بان العالم قد تحول إلى قرية صغيرة وأصبح الإنسان يعيش في عوالم افتراضية ويقيم علاقات كونية تتجاوز بنية العائلة وحدود الوطن وتتجاوز كل الأعراف والانتماءات القبلية والدينية والثقافية. مع ذلك لانزال نسمع من يتحدث عن العزلة والوحدة وعن أمراض التوحد وعن حالات من الاضطرابات الناتجة عنها كالانفصام والانحراف والشذوذ والغربة والاغتراب. فكيف يمكن حل تلك المفارقة؟ هل تعبرعن اختلالات في أنماط المعيش وفي المنظومة القيمية والفلسفية التي تؤسس وتوجه الحياة الراهنة؟ أم تعبر عن حالة انتقال حرجة وعسيرة تمر بها البشرية وتؤشر على انتقال من نمط حياة تقليدي يقوم على منظومة قيمية تقليدية مشدودة إلى مفاهيم حول الإنسان وحول الحياة وحول العلاقة مع الأخر، لا تأخذ بعين الاعتبار وتيرة الطفرات الخطيرة والمنعطفات التي تحصل في عالم الفكر والتقنية وانعكاساتها المباشرة على الحياة، والتي تحصل بكيفية متسارعة ولا يواكبها جهد تنظيري على مستوي الفكر وفلسفة الحياة، وبيداغوجي على مستوى التربية وبناء الإنسان، وجهد وإرادة سياستين على مستوى التقعيد والتدبير وفعالية اقتصادية على مستوى استثمار الطاقات والموارد وتفعيلها وتجديدها لتجاوز مختلف أشكال الهشاشة.
ألا يمكن للمجتمعات "الثالثية" التي تتكرس فيها تلك الاختلالات بشكل فاحش أن تعيش مظاهر من العزلة والانحرافات اعمق واخطر عن غيرها من الشعوب الاخرى؟ على عكس ما تدعي الغالبية العظمى بأننا مجتمعات لا تزال تحكمها أواصر الرابطة الأسرية والاجتماعية وبان الدين يشكل سندها وعروتها الوثقى والعاصم من التفرقة والقواصم. لان المؤشرات الواقعية تؤكد عكس ذلك وتكشف على أن مظاهر العزلة والاغتراب والوحدة تتفاقم بين مختلف الفئات في مجتمعنا. ليس الغرض من هذه المحاولة مساءلة واقع العزلة والوحدة كشكل من العلاقة مع الآخر والحفر في جذور تلك الظاهرة، والإمساك بشروطها ومحدداتها وتجلياتها، وإنما نحاول الاقتراب منها كما تجلت في الكثير من الأعمال الأدبية، بحكم أنها ما تلبث تتمظهر في أعمال فلسفية رائعة مثل رسالة ابن طفيل "حي بن يقظان"، او في التأملات الفلسفية لجون جاك روسو، سواء التربوية في "إيميل أو في التربية"، أو في اعترافاته و تأملاته "أحلام مسافر وحيد" أو "هكذا تكلم زرادشت" لنتشه. كما تشكلت تجربة الوحدة في أعمال فنية رائعة "كمغامرات روبنسون كريزوي" لدانييل ديفوي سنة 1917، هذا الأخير الذي تمخض عنه نمط خاص في الكتابة الأدبية دفع البعض إلى الحديث عما يمكن نعته ب "الروبنسيات" نسبة إلى روبنسون كريزوي .
وتجلى أيضا في أعمال سينمائية متعددة مثل شريط "الطفل المتوحش" للمخرج الفرنسي، فرنسوا تيفو1970، الذي حاول فيه تناول إشكالية العلاقة مع الآخر في مختلف أبعادها النفسية والتربوية والفلسفية والسياسية وما يطبعها من توتر وصراع وتجاذبات. ويندرج عمل ميشيل تورنييه في نفس السياق، إذ يحاول صاحبه تناول تجربة الوحدة من منظوره الخاص مستلهما التجارب السابقة، معيدا صقلها بأسلوبه الخاص وانطلاقا من تجربته الحياتية والأدبية.
هل ثمة دواعي لإعادة تقديم عمل أدبي يبدو متداولا ولا يعد الخوض فيه بأفق جديد؟ ألا يمثل مجاله ورشة لاختبار أسلوبي وفني يسعف الكاتب أكثر من اقتحام جغرافية أرض جديدة؟ قد يعزى ذلك من جهة إلى توفر متن أدبي غني يمكن النهل منه والارتكاز عليه، ومن جهة ثانية تكمن في راهنية سؤال الوجود في العالم وعلاقة الإنسان بالكون وبالآخرين والتي تمثل محور الوجود واصل كل علاقة، وما ينتج عن تلك العلاقة من أنماط وكيفيات في المعيش.
إذا تبث ذلك هل في إمكان المقاربة الأدبية أن تكشف عن أسرار تلك العلاقة بكيفية أعمق مما تراهن عليه المقاربات الفلسفية والعلمية حول تلك العلاقة عموما وتجربة الوحدة بشكل خاص؟. أخذا بعين الاعتباران صاحب العمل قد جمع بين المنظور الفلسفي( كان تلميذا لعالم الانتربولوجيا الشهير ليفي ستراوس) والحس الأدبي. من مواليد 1924، بعد دراسته للفلسفة انفتح على عالم الأدب والكتابة الصحفية، كما اهتم بالفن التصويري، له مؤلفات عديدة تتوجت بعدة جوائز من أهمها حصوله على دكتوراة فخرية من جامعة لندن...ويعيش الآن في مدينة صغيرة بالجنوب الشرقي تبعد بسبعين كيلومترا عن العاصمة الفرنسية باريس تتميز بجمال طبيعتها وبهدوئها .
يتبع......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إنسحاب وحدات الجيش الإسرائيلي وقصف مكثف لشمال القطاع | الأخب


.. صنّاع الشهرة - تيك توكر تطلب يد عريس ??.. وكيف تجني الأموال




.. إيران تتوعد بمحو إسرائيل وتدرس بدقة سيناريوهات المواجهة


.. بآلاف الجنود.. روسيا تحاول اقتحام منطقة استراتيجية شرق أوكرا




.. «حزب الله» يشن أعمق هجوم داخل إسرائيل.. هل تتطورالاشتباكات إ