الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الربيع العربي، الحراك الإجتماعي وسؤال الذاكرة

محمد الخمليشي

2012 / 3 / 19
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية



إذا كان الربيع العربي- الذي طال انتظاره بعد أجيال من الانتكاسات- قد استهدف معاودة المطالبة بالإصلاح والتوزيع العادل للسُّلَطِ والثروات، فإن الشعار المركزي لا زال يهتف بإسقاط ورحيل الاستبداد ورموزه التي ظلت جاثمة على النفوس، عدة أجيال وعلى امتداد جغرافية الشعوب العربية، من الخليج إلى المحيط.
و إذا كان من المتفق عليه، منطقياً وتاريخياً، أن ثورة الحراك الاجتماعي ضد الاستبداد والعبودية لا تأتي إلا بعد امتناع الإصلاح، فإن لهيب ثورات الربيع العربي اشتدت لتسقط رموز أنظمة فاسدة في تونس ومصر وليبيا واليمن.. بالرغم من أن هذه الأنظمة ظلت مطمئنة، وهي تستقوي في اضطهاد وتحقير شعوبها بالمصالح التي تجمعها بسلطات دَوْلَتــِيَّة خارجية وأجهزتها المخابراتية المحترفة.
و بالرغم من أن التطبيع السياسي العربي، الرسمي مع الالتزامات الدولية المشتركة المنسوبة للعَوْلَمة وللشمولية (النظام العالمي الجديد)؛ فإن هذا التوجه المُعولم ظلَّ ينص صراحة على نهاية الحكم المطلق وعلى الديموقراطية واحترام حقوق الانسان... و وُجُوب تنفيذ ذلك طواعية أو إكراهاً. وقد اختمر ذلك الأمر، لأكثر من عقدين من الزمان مستهدفاَ الذهنيات والوجدان، بواسطة تقنيات الإعلام والتواصل الحديثة، خاصة منها الفضائيات ومواقع التواصل الافتراضي..
وبعد خمسين سنة من استقلاله لم ينأَ المغرب الحديث عن ذلك التوجه، إلا مع بدايات العقد الأول من القرن الحالي، حيث عَظُمَت الدعوة إلى التخلص من إرث زمن الرصاص الذي عمَّر طويلا. فجاءت نتائج المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب ( نوفبر 2001) كمحطة متقدمة في اجتهادات الحركة الحقوقية المغربية، وبالتوافق مع أعلى سلطة في البلاد، الشيء الذي مَكَّنَ من إصدار توصيات همَّت الجوانب الآتية: التسريع بمصادقة الدولة المغربية على مجموعة من البروتوكولات والاتفاقيات التي تهم الحقوق المدنية والسياسية ومناهضة التعذيب، والمحكمة الجنائية الدولية، وإدخال تعديلات على النص الدستوري وعلى المؤسسات من أجل تعزيز دولة الحق والقانون، وإصلاح المنظومة الجنائية، وتعزيز استقلالية السلطة القضائية، وتوسيع نطاق الحريات العامة، و تأهيل الإدارة وإخضاعها للقانون ولسلطة الحكومة، ونشر ثقافة حقوق الإنسان بين الموظفين المكلفين بتنفيذ القوانين، و اتخاذ إجراءات وتدابير على المستوى التربوي والثقافي من أجل ترسيخ قيم حقوق الإنسان والمواطن، كما أوصت المناظرة بإحداث هيئة مستقلة للحقيقة بنص قانوني، تتولى إنجاز تحقيقات مُعمقة وغير منحازة أو انتقائية بخصوص كل ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
ومن جهته، سارع المغرب الرسمي إلى استباق كل بوادر الانفجار والثورة بإعلان الإصلاح والمصالحة، برعايته الخاصة؛ بدءً من إعمال "العدالة الانتقالية" وإحداث لجنة الحقيقة، تحت إسم "هيأة الإنصاف والمصالحة"، مروراً ب " تقرير الخمسينية"، الباحث عن المغرب الممكن، إلى "برنامج التنمية البشرية"...
لا شك أن هذا المسار تحكَّمت فيه عديد من الإرادات المتناقضة؛ فمن جهة لا يمكن إنكار تلك الإرادات الوطنية الصادقة، خاصة إذا اعتبرنا الحضور الوازن لضحايا الأمس القريب. ومن جهة أخرى تتجلى بوضوح معالم توجهات الإملاءات الخارجية للرأسمالية المُعولمة، التي أضحت تشكل فضاءً تزدحم فيه القوى الدولية (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة الأمريكية..)، مع كل مؤسساتها ومنظماتها الحكومية وغير الحكومية (منظمة العفو الدولية، هيومن رايت ووتش، مركز العدالة الانتقالية....)، بكبرى الشركات العابرة للقارت، وهي التي تسعى إلى احتلال مقدمة السفينة، رباناً وحيداً، يقود كلَّ العالم، ضدَّ كلِّ ما-عداها، منتشيةً بانتصارها على عدوها الشرقي (النمط الاشتراكي) وكل فصائله اليسارية المهزومة. ولتكتمل طقوس الاحتفال بنهاية عدو الحرب الباردة، أعلنت نهاية التاريخ والإيديولوجيا، مبشِّرَةً بأسمائها الجديدة ك "النظام العالمي الجديد". لكن هذا "النظام الجديد" ظلَّ مهووساَ باستعلائه و وَاحِدِيَّةِ نموذجه "المُطلق"، ومُخفياَ زيف أيديولوجيته في ترغيب سكانه في محاسن أَمْرَكَةِ العالم وتدبير صناعة وتسويق السلاح والموت. وعقب تفجيرات توأمي نيويورك في سبتمبر 2001 ستحتاج الولايات المتحدة الأمريكية الرُبَّان (الأوحد) الجريح إلى تجييش سكانها باستنبات الكراهية والخوف في نفوسهم وترهيب سكان العالم للتعجيل بضرورة صناعة عدُوِّها الجديد، فصاغته من شبح، أسْمَتْهُ "الإرهاب الدولي" أو الكوني، المبثوث كخلايا نائمة، تستيقظ كشيطان مارد لتهدد الأمن القومي الأمريكي أو الغربي، هذا الأمن القومي الذي يمتد في كل جهات العالم، فهو، وَحْدهُ، بذاته، لا تحدُّه كلَّ الجغرافيا، حتى وإن كانت في عمق الصومال أو جبال تورابورا. فلا تقف الحدود السيادية للدول ولا القرارات الأممية ولا شَرْعَةُ حقوق الانسان، لتحول دون القبض على كل من اشْتُبِهَ - بلونه أو رأيه وعقيدته - ليُسَجَّ به في غوانتانامو... لقد كانت حاجة النظام "العالمي الجديد" ماسَّةً، إلى استراتيجية جديدة لتَسمية وتصنيف سكان الأرض وكياناتهم، فاستعار مفرداته من عمق قاموس التعصب الديني الصليبي، ليميِّز بين عالم الخير وعالم الشرِّ، فتَمَثَّلَت لديه دول محور الشرِّ المارقة في كلٍّ من العراق و إيران و كوريا الشمالية مقابل الدول الديموقراطية والمتحضرة والدول الحليفة والصديقة وخارطة "الشرق الأوسط الجديد"...
لقد سار المغرب وكل الأنظمة العربية في موكب المتوجس من غضب السيِّدِ الجريح؛ فكان الانخراط اللامشروط في محاربة الإرهاب ولو بتقديم خدمات حِرَفِــيَّة، سابقة في التعذيب... كما تم استصدار قانون محاربة الإرهاب في أغلب الدول العربية والمصادقة عليه بالإجماع. ومع ذلك ظل استشراف مستقبل مغاير يدعو إلى وجوب طرق أبواب التعايش الديموقراطي بين الدولة وأطراف المجتمع المدني والسياسي والتشارك في صنع المصالحة. ولما كانت موازين القوى غير متكافئة، فقد تحكمت مؤسسة صنع القرار من إعمال المقاربة الاندماجية، في تأطير "العدالة الانتقالية"، بصيغتها المغربية، الأمر الذي خلق فرزاً ونوعاً من الانتقائية وسط التنظيمات السياسية (اليسارية) والحركة الحقوقية، وأفرز، بالتالي جيلاً من الأشخاص، من ضمن الضحايا، ذاتِهِم، تمكنوا من الاندماج في قواعد اللعبة السياسية، مما كان يعني الابقاء على ثوابت النظام السياسي، وعدم مساءلته، وإمداده بجرعات إصلاحية تُبرزه بشكل لائق تجاه ما تفترضه الإملاءات الخارجية، على غير عادة التجارب الدولية الأخرى، في العدالة الانتقالية.
بالفعل، لقد تميز المغرب عن كثير من الدول العربية، في الانعطاف عن مسار زمن الرصاص المغربي نحو بناء مسار الإنصاف والمصالحة المجتمعية، مع التاريخ والذاكرة، بتفعيل آليات جلسات الاستماع العمومية لضحايا الخروقات الجسيمة و بالجبر الرمزي للأضرار الفردية والجماعية وبإنتاج توصيات متقدمة تهمُّ إعادة كتابة التاريخ وصون الذاكرة بما يحفظ ويُثَــمِّنُ ذاكرة ضحايا الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان، من حيث هي جزء لا يتجزأ من ذاكرة جماعية، وطنية وإنسانية. لقد مثلت هيأة الإنصاف والمصالحة، كلجنة للحقيقة (يناير 2004 - أكتوبر 2005)، رافعة، عن جدارة، هذا الطموح أو الحلم. بصيانة الذاكرة وتوفير ضمانات لعدم تكرار ما جرى ومعالجة مخلفات الماضي بجبر الضرر و استعادة الثقة في مؤسسات الدولة وسيادة القانون وتعزيز احترام حقوق الانسان. لقد أخذ المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بصيغتيه الأولى واللاحقة، وكمؤسسة وطنية - قائمة على قاعدة مبادئ باريس- مهمة متابعة تلك التوصيات.
في هذا السياق، تمت مقاربة سؤال الذاكرة، لتفعيل التوصيات التي تهم المرحلة التي شملها عمل هيئة الإنصاف والمصالحة (1956-1999)، بتمويل من الاتحاد الأوروبي، في إطار الآلية الأوروبية للجوار وذلك من خلال إحداث برنامجين: برنامج جبر الضرر الجماعي وبرنامج مواكبة توصيات هيأة الانصاف والمصالحة في مجال الأرشيف والتاريخ والذاكرة.
فهل تعني هذه المؤشرات على أن المغرب اعتاد التجاوب الإيجابي مع التوصيات الدولية، باختياره مَسْلك الشراكة مع الأمم والاتحادات الكبرى؟ أم أنه لا يعدو أن يكون مجرد مستجيب للإملاءات الخارجية، بكل ما تعنيه من ارتهان لتناقضات المصالح الظرفية ما بين السلطات الدَّوْلَتِيَّة (الدول والاتحادات الكبرى، السياسية والاقتصادية-الرأسمالية)، بمؤسساتها العسكرية والإستراتيجية ومنظماتها الحكومية وغير الحكومية وأجهزتها المخابراتية المحترفة؟
لا عاقل يرتاب، من أن تراكمات عِدَّة قد حصلت، بالفعل، في تاريخ المغرب الراهن، لكن فَجَوَات عدة و انْزِيَاحات عن أفق التشارك في العيش الآدمي اللائق والتعايش المدني الديمقراطي...لازالت تدل على مؤشرات الخلل في استتباب العدالة الاجتماعية وتسييد دولة الحق والقانون...؛ لقد بقيت جل المبادرات - في الغالب - محصورة ضمن فضاء الخطابات الحكومية - الدولتية، دون أن تتمكن من الانتقال إلى فضاءات أرْحَب تتسع لكل أندية الحركات الاجتماعية والثقافية والسياسية الفاعلة، وتشرك المواطن(ة)، بالفعل، في استحضار ذاكرته في الحاضر ولصنع التاريخ المشترك والاستجابة لتحديات ومصائر الجماعات والأجيال اللاحقة.
فبالرغم من احتلاله الموقع المتقدم في شراكته مع الاتحاد الأوروبي، لم يُعْفَ المغربُ من لهيب نسائم الربيع العربي. ولم ينأى عن هذا المسار العام وغير المسبوق في تاريخ الشعوب العربية. فالمغرب الذي إعتاد التجاوب مع التوصيات الدولية، هزت نسائم ربيع الشعوب أركانَ اطمئنانِه واستثنائِه؛ فقد مثلت حركة 20 فبراير عنوان الحراك الاجتماعي اليومي بأسمائه اليافعة والشبابية، التي لازالت تؤثر على المَا - يَحدُثُ، واقعياً، سواء على مستوى قاعدة الهرم المجتمعي، أو على مستوى البنيات الوسيطة، المدنية والسياسية، تجاه قمة هرم الدولة ومؤسسات صنع القرار السياسي. لقد خلقت حركة 20 فبراير دينامية مجتمعية متسارعة، ظلت مفاجئة لكل التوقعات الأمنية والسياسية والمعرفية، وهي تجتاح عمق الجغرافية المغربية في مدنها وقراها، من حيث جرأة الشعارات التي تُذَكِّرُ بإسقاط الفساد ورحيل رموزه السابقين واللاحقين واحتكار السُّلَطِ والثروة والاستبداد والخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان والمطالبة بالتوزيع العادل للثروة والكرامة والحرية والديمقراطية... وممَّا لا شك فيه، أن يوم 20 فبراير سيبقى علامة فاصلة في تاريخ الزمن الراهن المغربي، على لحظة تفصل بين ما قبلَها وما بعدَها. فبالرغم من تأخر هذه المبادرة التاريخية، وبالرغم من كونها لم تُقدِّم، بعدُ، الجوابَ، وبشكل واضح، عن الأسئلة الجيوستراتيجية الكبرى التي تهم المنطقة العربية؛ فإنَّ الجميع يقرُّ ويُثَمن المطالب المشروعة، بدءً من مطالب محاربة الفساد، وتوفير الشغل والصحة والسكن للجميع...إلى سقف المطالب: "إرْحَلْ". وبالرغم من أن قمة هرم السلطة سارعت إلى إعلان الإصلاح وتنزيل تعديل للدستور، بما يوحي أنه استجاب لمطالبَ الشارع المُلِحَّة، من قِبَل: فصل السلط ورفع القداسة المفرطة لحكم وسيادة الملك...وإعمال مقتضيات الدستور الجديد بشأن تعيين الحكومة الملتحية، من خلال ما أفرزته صناديق الاقتراع. مع ذلك فإن التوجس والمخاوف، تبقى واردة في ظل المسار الذي تتخذه الأحداث؛ حيث أن شهية الرأسمال المُعوْلَم، خاصة لحظة إنْجِرَاحِهِ، بأزمته المالية، يصير في أقصى درجات العدوانية، إن لم يكن هو ذاته: الشرّ المحض، فالتدخل الأجنبي، في شكله الإعلامي تميز بابتعاده عن المواكبة النزيهة والمحايدة، بالإضافة إلى ممارسته دور التعتيم والتحريض والعسكري. وفي شكله العسكري يكون الغرض المعلن بداية هو حماية المدنيين لكنه، يتحول إلى عمليات عسكرية مُمَنهجة، ومن تدخل محدود زمنياً إلى تدخل قابل للتمديد، متى رأت الجهة المتدخلة ذلك - وليس الأمم المتحدة -.
فكما يدُلُّ المثال العراقي والليبي والسوري...أن التدخل الأجنبي هو أبشع من كل "الديكتاتوريات" المحلية، بالرغم من أن هذه الأنظمة فقدت ذاكرة وعودها وشعاراتها واستقوت في اضطهاد وتحقير شعوبها، بغير المراهنة على قدرة الشعوب على تحرير نفسها بنفسها، وبغير المراهنة على التسامح والسلم المدني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتقال متظاهرين أغلقوا جسر البوابة الذهبية في كاليفورنيا بعد


.. عبد السلام العسال: حول طوفان الأقصى في تخليد ذكرى يوم الأرض




.. Britain & Arabs - To Your Left: Palestine | الاستعمار الكلاس


.. الفصائل الفلسطينية تسيطر على طائرة مسيرة إسرائيلية بخان يونس




.. مسيرة في نيويورك لدعم غزة والشرطة الأمريكية تعتقل المتظاهرين