الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زيارة إلى أوشفيتز

كريم عامر

2012 / 3 / 20
أوراق كتبت في وعن السجن


قبل أن أغادر المنزل فى الصباح الى وسط المدينة كى أستقل الباص المتوجه إلى معسكرى " أوشفيتز " و" بيركيناو " كتبت على حسابى على موقع التواصل الإجتماعى " فيس بوك " عن إعتزامى زيارة هذين المعسكرين اللذين شهدا عددا من أبشع الجرائم التى إرتكبها نظام " هتلر" العنصرى ضد اليهود وغيرهم من الأقليات التى كانت تعيش فى أوروبا فى هذا الوقت ، معبرا عن أملى أن تتحول السجون المصرية التى شهدت عمليات القمع والتعذيب والقهر فى عهد النظام السابق إلى متاحف مفتوحة شاهدة على هذا العهد البشع .

ما إن نشرت هذه الكلمات المعدودة حتى وجدت بابا من الجحيم قد فتح على ، عدد كبير من هؤلاء الذين يهوون خلط الأوراق تحمسوا وبشدة لإدانتى فقط لأننى أفصحت عن نيتى زيارة هذه الأماكن ، بعضهم لم يتورع عن توجيه الإتهام لى بما أسعفه به خيالهم المريض بالمؤامرة ، تارة بالعمالة وأخرى بالخيانة ،ولم يتورع بعضهم عن الإشادة بـ" هتلر " وما إرتكبه من جرائم بحق اليهود وغيرهم ، وبرر هؤلاء ذالك بمرجعياتهم الدينية التى تصف اليهود بكل ما هو سىء وقبيح لمجرد أنهم يهود ، وبعضهم الآخر إنتابته حالة من الفلس الفكرى ، وأخذ يردد تلك الإدعاءات التى تشكك فى أعداد الضحايا أو تنفى قيام " هتلر " بإرتكاب هذه الجرائم ، مدعين أن اليهود قد إختلقوا قصة المحرقة فقط من وحى خيالهم شديد الخصوبة !.

خلفت ذلك كله ورائى متوجها إلى مقصدى ، ووصلت إلى أوشفيتز بعد أن تحرك الباص من مدينة كراكوف بساعة ونصف الساعة ، فى الطريق شاهدنا فيلما وثائقيا يصور بعض مشاهد تحرير معسكر أوشفيتز من قبضة الجنود الألمان ، قام بتصويره جندى روسى كان ضمن القوة التى حررت المعسكر .

بعد وصولنا إصطحبتنا مرشدة بولندية لاستكشاف معالم المكان ، أخبرتنا فى البداية أن جدها كان أحد ضحايا نظام " هتلر " حيث تم اعتقاله والزج به فى أحد المعسكرات لكونه أحد الكتاب المعارضين للنازية ، ولم يكن " هتلر" يحب المفكرين والكتاب والمثقفين ، لكونهم يمثلون خطرا على نظامه العنصرى ، وقد نسب إلى " جوزيف غوبلز " وزير دعايته السياسية أنه قال " كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسى " ، حيث كان النازيون يستهدفون فى المقام الأول الطبقة المثقفة والعلماء والمفكرين لتجريد البلدان -التى يسيطرون عليها- من قوتها الناعمة .

بدأنا الجولة داخل المعسكر الذى يحوى العديد من المبانى المصممة بشكل متشابه ، حول بعضها إلى معارض تحوى بعض الصور التوضيحية لما كان يجرى داخل المعسكر خلال هذه الفترة ، تضمن ذالك مشاهدا لبعض الضحايا الذين تم تحريرهم عقب الإستيلاء على المعسكر ، وكان بعضهم ضحايا لتجارب طبية بشعة أجراها الطبيب " جوزيف منجلى " الذى كان يطلق عليه لقب " ملاك الموت " وهو الذى أجرى عددا من التجارب الطبية البشعة على نزلاء المعسكر ومن بينهم العديد من الأطفال ، كذالك تضمنت هذه المعارض مقتنيات نزلاء المعسكر من الحقائب والأحذية والنظارات الطبية والملابس وغيرها ، ولكن أكثر ما آلمنى فى هذه المعارض هو الكمية الهائلة من الشعر البشرى التى وضعت داخل صندوق زجاجى كبير وأخبرتنا المرشدة أنها كانت تنتزع من الضحايا لصناعة بعض المفروشات ، التى كانت نماذج منها معروضة فى نفس المكان .

فى مبنى آخر شاهدنا الغرف التى كان يقيم بها النزلاء والتى تحتوى على أسرة مكونة من ثلاث طوابق يخصص كل طابق منها لاستيعاب اربعة أفراد ، فى هذا المكان ، كان هناك العديد من الزنازين الإنفرادية التى كان يوضع داخلها من يتم عقابهم بالحرمان من تناول الطعام حتى الموت ، وفي أحدها لقى القس "ماكسميليان كولب" مصرعه بعد أن قضى عليه بالموت جوعا ، ففى عام 1941 وبعد إكتشاف إختفاء ثلاثة مسجونين من المعسكر قرر قائد المعسكر إعدام عشرة رجال من نزلاء المعسكر بتجويعهم حتى الموت ، وعندما صرخ أحد الرجال الذين تم إختيارهم للموت وهو ضابط بولندى يدعى " فرانشيشك جايوفينجكش " خائفا على مصير زوجته وأولاده من بعده ، تطوع القس " ماكسيميليان " بأن يحل محله فى الموت ، وبالفعل تم إيداعه إحدى هذه الزنازين التى لقى بها حتفه فى السابع عشر من أغسطس عام 1941 .

فى نفس المبنى كان هناك ثلاث فتحات طولية فى الحائط كانت تستخدم لتعذيب السجناء بتركهم فى وضع الوقوف حتى الموت ، حيث أن مساحة هذه الفتحات لا تكفى سوى للوضع الواقف ، وقد أجهز على الكثيرين بهذه الطريقة البشعة والتى لا أعرف كيف سيكون شعور هؤلاء المؤيدين والداعمين لهتلر ومحرقته إن وضعوا فى نفس المكان ومورست ضدهم ذات الجرائم البشعة ، الأمر لا يتعلق بانتمائك العرقى أو الدينى أو توجهك السياسى ، هو فقط إجابة على سؤال جوهرى مفاده على أنت حقا تستحق أن تصنف كآدمى يستنكف أن يتعرض آدمى مثله لمثل هذه الظروف البشعة ، أم أنك مجرد كائن حى يعيش لنفسه فقط ، وهو دون ذالك فاقد للشعور بآلام ومعاناة الآخرين ؟؟ .

بعد أن أنهينا جولتنا فى هذا المبنى ، تأملت شكله من الخارج وتذكرت سجن برج العرب ، تصميم عنابر السجناء هناك لا يختلف كثيرا عن تصميم هذه المبانى سوى فى تعدد الطوابق فى المبنى الواحد بـ" أوشفيتز " ووجود طابق تحت أرضى بينما عنابر سجن برج العرب تحتوى على طابق واحد فقط ، لكن الشكل الخارجى للمبان يتشابه إلى حد كبير .

بجوار هذا المبنى يقع حائط الموت ، الذى كان يستخدم لإعدام السجناء رميا بالرصاص ، حيث لقى الكثيرين حتفهم هناك بشكل جماعى ، وكان الأطفال يتم إعدامهم أولا أمام أعين أمهاتهم قبيل الإجهاز عليهم .

فى جهة أخرى من المعسكر هناك المبنى الذى يحوى أفران الغاز التى إستخدمت لحرق مئات الآلاف من السجناء ، يحوى المبنى فتحات فى السقف كانت مخصصة لإدخال الغاز إلى الأفران التى كانت النزلاء يوضعون داخلها لإحراقهم .

وفى الجوار هناك المبنى الذى كان يستخدم فى إجراء التجارب الطبية على بعض النزلاء من الغجر واليهود ، والتى تسببت فى مقتل العديد ممن أجريت عليهم هذه التجارب وتسببت أيضا فى تشويه أجساد الكثيرين ممن تعرضوا لمثل هذه الممارسات البشعة وقضوا البقية الباقية من حياتهم فى عذابات مستمرة جراء تلك التجارب .

بعد أن أنهينا جولتنا فى معسكر أوشفيتز تحركنا بالباص إلى معسكر بيركيناو الذى يبعد عنه مسافة تقدر بحوالى ثلاثة كيلو مترات ، مساحة معسكر بيركيناو أكبر بكثير من أوشفيتز حيث تم بناءه على أنقاض قريه كامله لاستيعاب عدد أكبر من النزلاء ، وقد تمكن النازيون من تدمير أغلب المبانى التى كانت موجوده بهذا المكان قبل إنسحابهم منه ومنها مبنى المحرقة الذى يحتوى على أفران الغاز ، وإن كانت أنقاض المبنى لا تزال على حالها .

فى مدخل المعسكر هناك خط قضبان حديدية وعربة قطار ، حيث كان يتم شحن المسجونين الى المعسكر بواسطة قطار مخصص لنقل الحيوانات ، وكان يتم وضع حوالى مائة سجين داخل كل عربة قطار قبل أن تغلق عليهم بإحكام شديد ، وعندما كان القطار يصل الى داخل المعسكر ، وبعد أن يتم إخلاء المسجونين منه ، كانت هناك سيارة لورى تسير فى المؤخرة وتحمل كل من يتخلف من السجناء لضعفه أو لمرضه وتقتاده إلى مبنى المحرقة لإعدامه .

تم بناء المعسكر على يد سجناء أوشفيتز عام 1941 ، و يحوى عددا أكبر من المبانى لإستيعاب أعداد كبيرة من النزلاء ، بعض هذه المبانى بنيت بالأخشاب فقط لانخفاض تكلفتها عن تكلفة البناء بالحجارة .

عندما كان النزلاء يدخلون إلى المعسكر ، كانوا يقتادونهم أولا للإغتسال ، وحلق شعر رؤوسهم رجالا ونساءا وأطفالا عن آخره ووشم أجسادهم بأرقام لتعريفهم والإستدلال عليهم ، وطوال فترة وجودهم فى المعسكر كانوا يتعرفون عليهم من خلال الأرقام الموشومة على أجسادهم فقط ، ولم يكن هناك أى رعاية صحية من أى نوع للمعتقلين فقد كانوا يساقون إلى أفران الغاز لإعدامهم إن ظهرت عليهم علامات التعب أو الإعياء أو عدم القدرة على العمل .

فى نهاية المعسكر هناك نصب تذكارى للضحايا الذين لقوا مصرعهم داخله ، يحتوى على لوحات رخامية مكتوب عليها أعداد الضحايا بلغات مختلفة ، لكن أكثر ما إستفزنى وسط كل هذا وجود علم اسرائيل - التى لم تكن قد أنشأت فى هذا العهد - بالقرب من النصب التذكارى ، فالضحايا لم يكونوا من مواطنى اسرائيل ، بل كانوا ينتمون إلى دول أوروبا المختلفة ، وحتى إن سلمنا جدلا بأن علم إسرائيل هو رمز لليهود فى مختلف أنحاء العالم ، فإن ضحايا أوشفيتز لم يكونوا فقط من اليهود ، بل كان من بينهم أناس ينتمون إلى أعراق وأديان وثقافات مختلفة ، فـ" هتلر " لم يكن يستهدف اليهود فقط خلال فترة حكمه ، بل كان يستهدف كل من هم لا ينتمون إلى الجنس الآرى وأيضا المعاقين وأصحاب العاهات والمجانين ، لكن الإستغلال السياسى القذر يحول تلك القضية العادلة إلى جزء من لعبة الصراعات التى يذهب ضحيتها أناس لا صلة لهم بها .

ورغم قسوة المكان الذى ارتبط بموت الالاف من البشر بدم بارد داخل أفران الغاز ، فإن الأمر لم يخل من تعليق طريف لا يخلو من الألم ، فإحدى صديقاتى وهى شاعرة من سلوفينيا إختطف والدها خلال الحرب العالمية الثانية وهو طفل لم يتجاوز الحادية عشرة ،وأجبر على العمل فى بعض المنازل فى ألمانيا ، أخبرتنى أن بعض أصحاب المعتقدات الهندية الذين يؤمنون بتناسخ الأرواح يزعمون أن أرواح القادة النازيين الذين أرتكبوا هذه الجرائم البشعة قد تلبست بأجساد قادة إسرائيل الذين لم يتورعوا عن إرتكاب أبشع الجرائم بحق شعوب أخرى ، بالطبع أنا لا أؤمن بهذه الماورائيات والخزعبلات ، وإن كان الأمر يستحق بعض الدراسة ، فهل تعمد إسرائيل إلى إرتكاب تلك الجرائم كرد فعل على جرائم " هتلر " ضد بعض من أصبح أبنائهم فيما بعد مواطنين فيها ، وإن كان الأمر كذلك حقا فلم توجه إسرائيل ردة فعلها ضد من لم ليس لهم ناقة ولا جمل في جرائم إرتكبت فى الماضى ، وبنفس المنطق هل نتوقع أن يحذو بعض الفلسطينيون حذو إسرائيل فى المستقبل ليبحثوا عن ضحايا جدد يوجهون اليهم ردة فعلهم على غرار ما تفعله إسرائيل ؟؟!!

هل عندما يعجز الضحية عن الإنتقام من المجرم يجد نفسه مدفوعا لإرتكاب جرائم أخرى ؟؟!!.

مشاعر مختلفة إنتابتنى عندما زرت هذا المكان ، تراوحت بين الشفقة على الضحايا والغضب ممن يستغلون قضيتهم لتحقيق مآرب سياسية قذرة ، وبين السخرية العميقة من هؤلاء المغفلين الذين يعمدون إلى إنكار حقائق التاريخ الواضحة للعيان رغم أنهم لا ناقة لهم ولا جمل فى الأمر ، ورغم أنهم كانوا سيوضعون فى نفس المكان مع اليهود وغيرهم إن عاشوا فى ألمانيا النازية إبان حكم " هتلر " ، وعلى كل فالتاريخ يعيد نفسه بأبشع السبل والأساليب ، فقتل المدنيين على الهوية لم يتوقف بنهاية الحرب العالمية الثانية ، بل إستمر بصور أخرى مختلفة ، النازيون ليسوا فقط هؤلاء الذين حكموا ألمانيا فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى ، النازيون يجددون من أنفسهم ويظهرون بأشكال مختلفة فى معادلة لا منتهية القيمة الثابتة فيها هى قتل الإنسان لمجرد أنه مختلف ، تجدهم فى سفاحى إسرائيل ومجرمى الحرب فى إفريقيا ويوجوسلافيا السابقة ، والإسلاميون المتعطشون للدماء دائما والمنتشرون فى كل بقاع العالم ، وجنود الجيش والشرطة الذين قتلوا المتظاهرين فى مصر وسوريا وليبيا واليمن والبحرين وبلاد الرمال، وكل من يستحل قتل الإنسان لأى سبب أو ذريعة أو يؤيد قتل هذا الإنسان ، أو لا تنتابه غصة وألم عندما يرى تلك المشاهد على الشاشات .

" هتلر " لم ينته من الوجود عندما إنتحر مع عشيقته ، فأفعال " هتلر " سبقت وجوده ولحقته ، فهو لم يبتدع شيئا جديدا ولم ينته بموته أى شىء ، تحول ضحايا نظام " هتلر " العنصرى إلى مجرمين ، وتحول ضحايا هؤلاء المجرمين إلى مجرمين جدد ، متتالية لا يعرف أحد متى ستتوقف لتتوقف معها أنهار الدم التى تجرى فى أنحاء متفرقة من عالمنا البائس .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هتلر : ألأصل و الصورة
‎هانى شاكر ( 2012 / 3 / 20 - 21:11 )


جاء أعضاء مجلس الثورة فى يوليو 1952 من كوادر العسكرية الريفية و كانوا فى غاية ألقسوة و ألضحالة الثقافية .. فكرهوا كل ماهو ناجح او جميل او ثقافى ... أيضا كانوا جبناء يتحسسون مسدساتهم باستمرار ..

أستورد عبد ألناصر زبانية ألجحيم من بقايا ألكوادر ألنازية .. وأللذين أكملوا وأتقنوا ما بدأه هتلر و أعوانه عندما تكون جهازى ألأمن وألمخابرات ( ألبوليس ألسرى ) فى ألمانيا ألشرقية ...

حضر ألأساتذة إلى مصر - من ألمانيا ألشرقية - عام 1955 لحماية الثورة وأذاقوا ألمصريين - خاصة ألمثقفين منهم - الوان العذاب .. مما رأته عيناك فى رحلتك ألأخيرة إلى أوشفيتز .. ولكنك ذقته عمليا قبل سنوات فى غياهب ألمعتقلات ألمصرية


نفس الزبانية - ألمرضى نفسيا - ...نفس نظام ألمبانى .. و نفس الاساليب و ألممارسات

تقولش ياعزيزى .. أصل صورة؟

اخر الافلام

.. French authorities must respect and protect the right to fre


.. تحقيق مستقل: إسرائيل لم تقدم إلى الآن أدلة على انتماء موظفين




.. البرلمان البريطاني يقر قانونا مثيرا للجدل يتيح ترحيل المهاجر


.. كاريس بشار: العنصرية ضد السوريين في لبنان موجودة لدى البعض..




.. مشاهد لاعتقال العشرات من اعتصام تضامني مع غزة بجامعة نيويورك