الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصيات إلتقيتها فى السجن : محمد إبراهيم الفيشاوى

كريم عامر

2012 / 3 / 24
أوراق كتبت في وعن السجن


رأيته للمرة الأولى فى ديسمبر عام 2006 بينما كنت أقضى مدة حبسى الإحتياطى فى سجن الحضرة العمومى بالإسكندرية ، شاب فى مقتبل العمر يبدو غريبا على هذا المكان الممتلىء عن آخره بالجانحين وأصحاب السجلات الإجرامية ، كانت إدارة سجن الحضرة قد عزلتنى فى زنزانة إنفرادية تقع فى الطابق الأرضى ( دور 9 ) بعنبر ( ج ) وتحمل رقم ( 9 ) ، وفى هذا الوقت لم تكن إدارة السجن تسمح لى بالخروج من الزنزانة سوى لعشرين دقيقة يوميا للذهاب الى دورة المياة الواقعه خارج الزنازين ، حيث أن جميع الزنازين بهذا السجن مجردة من دورات المياة تماما ، ويلجأ نزلائها فى غير أوقات التريض إلى إستعمال الجرادل والزجاجات البلاستيكية فى قضاء حاجتهم .

عندما التقيته للمرة الأولى كان قد بدأ لتوه العمل كمساعد لـ " مسير " عنبر ( ج ) ، ولمن لم يخض تجربة السجن فى مصر ، فالمسير هو المسجون المعين من قبل مباحث السجن لأداء عدة مهام ، المعلن منها هو كتابة بنود دفتر أحوال العنابر ، وكتابة القوائم التى تتضمن أسماء المسجونين المقيمين فى العنبر وتنبيههم إلى مواعيد جلساتهم أو تبشيرهم بصدور قرارات بالإفراج عنهم ، بإختصار هو مكلف بأداء معظم الأعمال الكتابية الخاصه بالعنبر الذى يكون مسؤلا عنه ، أما المهام الغير معلنه للمسير هى مساعدة قوة المباحث فى السيطرة على السجن من خلال جمع المعلومات عن كل ما يحدث داخل عنابر السجن وإبلاغ المباحث عن أى مخالفة داخل العنابر كحيازة المخدرات أو السلاح الأبيض أو أوراق البنكنوت ، والإبلاغ عن من يقومون بلعب القمار أو من يشتبه فى كونهم مثليين جنسيا أو من يمارسون الجنس المثلى داخل العنابر ، هذا فيما يتعلق بالجنائيين ، أما بالنسبة للمسجونين السياسيين ، فالمسير مكلف بجمع أكبر قدر من المعلومات عن نشاطهم وإتصالاتهم خارج السجن لصالح مكتب مباحث أمن الدولة الموجود بالسجن، وهو يوظف لجمع هذه المعلومات عددا من المسجونين الذين يعملون فى مهام توزيع الغذاء وتنظيف العنابر حيث أنهم يختلطون يوميا بالمسجونين و يتعاملون معهم بشكل مباشر، بالإضافة الى بعض المسجونين العاديين الذين يسعون إلى تملق ضباط المباحث بالعمل كمرشدين من تلقاء أنفسهم .

قبل أن أتعرف إليه لاحظت أن أغلب المسجونين ينادونه بلقب " بحرية " ، ولم أفطن إلى ما يقصدونه بهذا اللقب سوى بعد أن تحدث معى وأخبرنى أنه طالب يدرس فى الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحرى ، ولم يكن عمره وقتها قد تجاوز الحادية والعشرون ، وعندما سألته عن سبب وجوده فى السجن أخبرنى بشكل مقتضب أنه مسجون فى قضايا " أموال عامة " وأن جميع قضاياه ملفقة تماما ، وساعد على ذالك وجود ثغرة قانونية إستغلها أحد رجال القانون الفاسدين للإنتقام منه .

على حسب ما أخبرنى فى وقت لاحق ، فإن قضيته بإختصار شديد تكمن فى أنه كان صديقا لشخص يعمل وكيلا للنائب العام ، وقام بتقديمه إلى إحدى زميلاته فى الأكاديمية سورية الجنسية ، وتوطدت علاقتهما وفيما يبدو أنهما إتفقا على الزواج ، وفيما يبدو أيضا أنه تنصل من هذا الإتفاق بعد أن فقدت عذريتها معه ، تدخل بينهما بحكم كونه صديقهما المشترك وحاول رأب الصدع ، فلم يفلح ، لجأ الى التهديد بتصعيد الأمر بشكل قد يؤثر على مستقبله الوظيفى ويهدد إستمراره فى العمل بجهاز القضاء ، حينها قرر صديقه الإنتقام منه مستغلا ثغرات فى القانون ، لجأ وكيل النيابة لإستئجار أحد الأشخاص الذى عمد إلى تقديم صور من إيصالات أمانه مزورة وموقع عليهم بإسم "محمد الفيشاوى" الى النيابة ، وكى يبرر عدم حيازته للأصول قدم تقرير طبيا يفيد بتعرضه للإعتداء بالضرب وتحرير محضر ضد "محمد" يتهمه بضربه وسرقة مستندات أصلية ( إيصالات الأمانه ) منه بالإكراه ، فمن السهولة بمكان إستخراج مثل هذه التقارير عن طريق أطباء فاسدين أو شخصيات نافذة .

ربما يفكر أحدهم فى إمكانية قيام محمد بالطعن بالتزوير على صور الإيصالات ، لكن فى الحقيقة لم يكن بإمكانه القيام بذالك ، فقسم صحة التوقيعات بمصلحة الطب الشرعى لا يقوم بفحص التوقيعات على صور المستندات ، بل يلزم إحضار المستندات الأصليه ، ونظرا لوجود قرينة ضد محمد تفيد بقيامه بالاعتداء بالضرب على المبلغ وإدعاءه القيام بذالك لسرقة مستندات كانت بحوزته ، فقد تعامل بعض القضاة الذين نظروا قضايا إيصالات الأمانة مع إدعاءات المبلغ بإعتبارها حقيقية ، بالرغم من أن قيام محكمة الجنايات بتبرأته من تهمة سرقة المستندات بالإكراه ، ونظرا لغيابه عن بعض الجلسات ودخوله فى مشادة مع وكيل النيابة الذى إستدعاه للتحقيق ، فعومل بشكل بالغ التعسف ، وحصل على أحكام نهائية فى قضايا الإيصالات بالسجن لمدة وصلت حتى آخر مرة إلتقيته فيها لثمانى سنوات ، ووقتها كانت بعض القضايا الأخرى لم تنظر بعد .

فى الحضره إلتقيت بـ" محمد إبراهيم الفيشاوى " أو كما يناديه زملاءه ( محمد بحرية ) للمرة الأولى ، توطدت صداقتنا هناك رغم كونه يعمل فى خدمات العنبر ، فلم يكن وقتها يأبه للأوامر والنواهى التى يصدرها له الضباط والمخبرين معتمدا على صلته بقائد العنبر النقيب ( فى ذالك الوقت ) مصطفى الخضراوى ، وأذكر له يوما أنه أتى الى زنزانتى بعد الحكم على وأخبرنى أن مقالا نشر عنى بمجلة روزا اليوسف صيغ بلهجة إيجابيه مساندة لى ومستنكره لتحويلى للقضاء والحكم على ، وفى هذا التوقيت كانت إدارة السجن تمنعنى من قراءة الجرائد والمجلات ومتابعة الأخبار خاصة ما ينشر منها عن قضيتى ، عندها طلبت منه أن يحضر لى نسخة من هذه المجلة كى أقرأها ووافق على الفور .

ولكن يبدو أن أحد المسجونين الآخرين وشى به إلى ضباط المباحث ، الأمر الذى أسفر عنه إستدعاءه من قبل رئيس مباحث السجن عمرو أبو العينين الذى نبه عليه بعدم التعامل معى نهائيا وإلا سيقوم بتخزينه ( التخزين مصطلح يعنى فى عرف السجون إيقاف المسجون العامل عن عمله ) .. جاء إلى فى اليوم التالى وإعتذر إلى عن عدم قدرته على إحضار المجلة لأن المباحث قامت بمصادرتها وأخبرنى عن كل ما دار بينه وبين رئيس المباحث ، وأخبرنى أنه لن ينصاع لمثل هذه الأوامر مهما حدث .

بعدها بأيام تم نقلى إلى سجن برج العرب ، ولم ألتقيه مرة أخرى إلا بعد مرور أكثر من عام ، فقد تم ترحيله إلى برج العرب بعد أن ضاق به ضباط مباحث سجن الحضرة ذرعا لعدم طاعته أوامرهم كما أن الضابط الذى كان وثيق الصلة به تم نقله من السجن إلى سجن آخر ، فى هذا الوقت كان يذهب لحضور جلسات فى المحكمة ، وكان يقيم فى العنبر الذى أقيم فيه فى الأيام التى يذهب فيها إلى الجلسات ، وخلال هذا الوقت التقينا كثيرا وقص على تفاصيل قضيته ووعدته بالكتابة عنها بعد الإفراج عنى ، وها أنا أوفى بوعدى له الذى قطعته على نفسى .

توقف عن الدراسة فى الأكاديمية بعد دخوله السجن ، فنصحته بتقديم أوراقه للإلتحاق بكلية الحقوق والدراسة من داخل السجن حتى لا تضيع السنوات التى يقضيها فى السجن دون فائدة ، وبالفعل إلتحق بكلية الحقوق بجامعة الإسكندرية ، وتم تسكينه فى غرفة مخصصة للطلاب ، وكان هذا أفضل على كل النواحى ، فغرفة الطلاب يشغلها عدد أقل من النزلاء وهم يتلقون معاملة أفضل من قبل إدارة السجن ، بالإضافة أنهم يستغلون وقتهم بشكل أفضل ويستفيدون من وجودهم فى السجن بدلا من أن يضيع الوقت هباءا .

إلتقيته للمرة الأخيرة نهاية عام 2009 قبيل قيام إدارة السجن بنقل غرفة الطلاب من مجموعة عنابر (هـ) إلى مجموعة عنابر (د) ، وبعدها لم أتمكن من التواصل معه ، لكنه حملنى أمانة أن أفضح هذه الثغرة القانونية التى مكنت خصمه من إستغلالها أبشع إستغلال لإذلاله وسجنه وتم له ما أراد .

كثيرون قابلتهم داخل السجن ، كلهم يحاولون أن يقنعوا من أمامهم ببراءتهم وتلفيق الإتهامات لهم ، ولكن لم يستطع أحد من هؤلاء أن تترك فى حكايته أثرا عميقا يجعلنى أتعاطف معه بشده مثلما تركت قصة محمد الفيشاوى هذه ، فى الغالب لا يزال محمد خلف أسوار السجن ، وربما لا يزال أمامه الكثير من الوقت حتى يتم الإفراج عنه ، لكن هؤلاء الذين يقبعون خلف أسوار السجون وهم - فى الغالب - أبرياء من التهم الموجهة اليهم وضحايا لبعض المتنفذين فى القضاء والشرطة وغيرها لا ينبغى أن ننساهم أو نتنكر لهم .

أوردت قصة محمد هنا كما رواها لى عهدته الشخصية ، لكن شعورا يخالجنى بأن تفاصيلها حقيقية ، فلم أشعر للحظة واحدة بأنه يحاول أن يكذب كى يجمل صورته على سبيل المثال ، لا أعتقد أنه كان بحاجة إلى ذالك .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمريكا: اعتقال طلاب خلال احتجاجات داعمة لغزة بجامعة جنوب كال


.. لحظة اعتقال مصور شارك بفعالية للتضامن مع غزة في أمريكا




.. آندرو تيت للعربية English: أنا بريء من تهمة الاتجار بالبشر و


.. موجز أخبار الرابعة - مقررة الأمم المتحدة تدعو إلى وقف الإباد




.. منظمة -هيومن رايتس ووتش- توثق إعدام 223 مدنيا شمال بوركينا ف