الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احلام الحضارة ام احلام الهامش والمهمسين (تامل14) س- احلام الهامش وسياسة الجسد والقوت اليومي

محمد قرافلي

2012 / 4 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


(تأمل 14)
س- أحلام الهامش وسياسة الجسد والقوت اليومي
تبدو أحلام الهامش بسيطة إلى درجة تثير السخرية عند أطباء الحضارة لقزميتها مقارنة مع الحلم الحضاري إلا أنها تعبر عن عمق وفلسفة تتجاوزان سطحية وتعالي الحلم الحضاري مادامت تنم عن عفوية الجسد وحيويته . ما العيب أن يعلن أطباء الحضارة أن حلم الهامش والمهمشين حلم جسدي ومغرق في الترابية وملتصق بعناصر الأرض وجغرافيتها؟ ولعل أول حلم بسيط يفرض نفسه يتمثل في حفظ البقاء واستمرار النوع. لا يطلب الهامش في حلمه أكثر ما تطلبه بقية الكائنات الأخرى. سمه ما شئت قانون الكائن الحي وسنة الحياة، الصراع من اجل البقاء، أو إرادة البقاء وإرادة الحياة تعددت التسميات والمسمى والغاية واحدة. لا عجب أن شكل ذلك القانون محرك الوجود وأساس تطور الكائنات ولا عجب أن اشتركت الكائنات فيه وتقاسمته وانه يمثل اعدل الأشياء قسمة بين مختلف الكائنات ومما يزيد من العجب أن أي تهديد من قبل الحلم الحضاري لذلك الجانب الحيوي ينعكس بشكل متناسب على عضوية الكائنات الحية وقد يؤدي إلى اختلالات في العضوية والى ردود أفعال. مثلا تهديد المجال الحيوي قد يولد نفس المخاوف ونفس الإحساس بالتهديد لدى كل من الإنسان والحيوان، ألا ترى عصفورا حينما يهاجمه ثعبان غادر كيف يهب للدفاع عن بقائه وكيف تتكتل كل أبناء نوعه كان الحدث مصيري ويتعلق بالبقاء والحياة. فالذئب الجائع مثله مثل الإنسان يقسم العالم إلى مجالين ما هو قابل للأكل وما هو غير قابل للأكل كما يؤكد كارل بوبر، وربما قد يؤدي الجوع إلى تحويل غير القابل للأكل مأكولا ويجعل العاشب يصير لاحما والعكس . الأدهى من ذلك أن الجوع ودافع البقاء في عالم الإنسان وبحكم ارتباطهما بغريزة التفكير وهاجس التأصيل للحلم الحضاري ينتهيان إلى إفناء الكائنات الأخرى والى إفناء النوع البشري وتعبر مقولة توماس هوبز عن ذلك النزوع المفزع بوضوح " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" ، مادام الذئب لا يلتهم نوعه فان وحشية الإنسان تتجاوز وحشية الذئب وضراوته وقد يهدد نزوعه العدواني اقرب المقربين ويمتد إلى الذات. ولكن بأي معنى يمكن الحديث عن الحلم بالبقاء وان أحلام الهامش لا تتجاوز حلم الجسد؟
يطلب الجسد إشباع عضويته و من بين عناصر إشباع تلك العضوية وتحقيق توازنها الأكل و القوت اليومي. رغم ضرورة الغداء فان الحكمة المتداولة " نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل" قد حولته إلى مجرد وسيلة بينما يكشف التاريخ عكس ذلك بحيث أن الصراع من اجل تحقيق الاكتفاء وإشباع العضوية قد مثل غاية الغايات ، ينبغي إذن قلب تلك الحكمة أو إعادة النظر فيها ولما لا تجاوزها؟ فكيف تحول الأكل من مطلب حيوي إلى حلم والى كابوس ؟ ألا يرجع ذ لك إلى تمرد الحلم الحضاري على الجسد وعلى أحلامه البسيطة وتجلى ذلك عبر مختلف مسارات الحضارة كما سبقت الإشارة إلى ذلك باعتباره تارة فاسدا بالطبيعة وتارة مصدرا للخطيئة وأخرى عائقا أمام تحقق الحلم الحضاري المنشود.
يتبين أن الإنسان قبل أن يكون كائنا مفكرا وعاقلا هو قبل كل شئ كائن حي يطلب إشباع عضويته وتحقيق رغباته ويمثل القوت اليومي ليس فقط ضرورة حيوية بل مقوما للوجود وأساس الاجتماع البشري. فلا يمكن لمقدرات الإنسان أن تتفتق وتنجلي بدون تحقيق التحرر من سلطان تلك العضوية وبدون تحقق القدر من الاكتفاء ومن القوت اليومي. ويمكن فهم نزوحات الإنسان وترحاله على مناكب الأرض بحثا عن تحقيق ذلك المطلب الضروري، وهي عملية ليست حكرا على النوع البشري بل تمثل قاسما مشتركا بين مختلف الكائنات. ستتشكل مع رحلة البحث عن الطعام والصراع من اجل فرض الهيمنة على المجال الحيوي منظومة مفاهيمية كالصراع والغلبة والتنازع والتنافسية والغنيمة والكر والفر والنزوح والاستقرار والاستيطان ....وازتها متوالية من الصفات والانفعالات كالخوف والشجاعة واللذة والألم، الشهامة والخساسة،الفرح والحزن... واستندت إلى خطط واستراتيجيات كالدهاء والتخطيط مقابل الارتجال والعفوية.....كما نهضت على متكآت ميتافزيقية تارة لاهوتية تجد سندها في قوى إلهية خارقة وأخرى فلسفية ترفع الإنسان إلى مقام الآلهة وتجعله مشرعا لذاته وللوجود وأخرى علمية تقنية ترتكز إلى عتاد تقني يكتسح العالم والكائنات ويقلب جغرافية الأرض.
وتختلف سياسات احتواء الجسد والقوت اليومي في مرجعياتها باختلاف البيئة والسياق وباختلاف الزمان والمكان وتتميز كل سياسة من حيث تصنيفها وتقطيعها للمجال وكيفية تحكمها في المجال الحيوي وكذا على مستوى اشكال وأنماط التعامل والتفاعل مع ذلك المجال وكيفية الفعل فيه وتغييره أو المحافظة عليه والتناغم معه. ينبغي إذن تجاوز مختلف التصورات التي تبخس أهمية القوت اليومي وترد البعد الحيوي في الإنسان إلى المستوى الحيواني وإعادة الاعتبار إلى البعد الحيوي بكون مختلف الطفرات والثورات التي تحققت شكل القوت اليومي محورها ومنبعها ويمكن الاستدلال على ذلك بشواهد لا تعد ولا تحصي تحفل بها النصوص الأسطورية والدينية كظاهرة القرابين والافتداء والتي لا تنفصل عن هاجس القوت وما لف لفه من منع وتحريم وإباحة أو قصة الخليقة وربط الخطيئة بالجسد والبعد الحيوي أو ما تحفل به النصوص الدينية من قصص ومن محاولات للتحكم في البعد الحيوي كقصة موسى مع بني إسرائيل أو قصة النبي يوسف وسياسة تدبير القوت اليومي من خلال تفعيل المجال وابتكار وسائل لحفظ الغداء وتخزينه وعيا بأهميته وضرورته الوجودية. لذلك عبر القران عن ذلك بوضوح في سورة قريش" لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" . لا مجال للخجل من أن حلم الهامش خبزي بامتياز وان فلسفة الهامش "فلسفة خبزية" لأنها تمثل حقيقة الكائن وان كل محاولة انعتاق وتحرر إذا لم تتأسس على تلك الفلسفة الحيوية لن يكتب لها الشهادة والتمكين وان كل أمراض الجسد واضطرابات الحضارة ووساوسها ناجمة عن الاختلالات التي أحدثتها سياسات الجسد والقوت اليومي في بنية العضوية وفي بنية العلاقات مع المجال. كذلك بدون استحضار ذلك العنصر يستحيل فهم مختلف الثورات التي عرفها التاريخ البشري بحيث أن كل محاولات التحرر مثلت رد فعل على سياسة الجسد والقوت اليومي.
حصل ذلك في الفترة اليونانية مع ظهور المدينة وحاجتها إلى تحقيق الاكتفاء وتكديس مصادر العيش المادية والبشرية وما نتج عنها من تحكم في الجسد وفي الفضاء من خلال توظيف اللوغوس مما أدى إلى ردود أفعال معاكسة تجلت مع فلسفات كالايبقورية والرواقية ودعوة ديوجين إلى فلسفة كلبية تتمرد على سياسة الجسد اليونانية وعلى نظام حياتها فمقابل الاعتناء بالجسد وترويضه على مثال آلهة الأولمب يفضل ديوجين إهماله وتدنيسه وصقله على مثال الحيوان "الكلب" ومقابل إشباع رغبات الجسد وفق معايير المدينة وأعراف المجتمع الإغريقي الأصيل فانه يطلق العنان لرغباته متجاوزا كل عرف...عرفت الحضارة العربية الإسلامية ذلك الصراع سواء في لحظتها التأسيسية أو عبر مراحل تطورها...واليوم تعرف غليانا وثورة على مختلف تلك السياسات التي ما تفتأ تحدث شروخا وتعبث بذلك الجسد وتتلذذ في تعذيبه.
لنتأمل حكاية ابن المقفع من كتابه كليلة ودمنة والتي على الرغم من مرور قرون على تأليفها لا تزال تزعج على طريقة ديوجين بحكم أن نواتها الكائن الحي" الغراب والتعبان" :
زعموا أنّ غرابا كان له وكر في شجرة على جبل وكان قريبا منه جحر ثعبان أسود، فكان الغراب إذا فرّخ عمد الثعبان إلى الفراخ فأكلها، فبلغ ذلك من الغراب وأحزنه، فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوى.
وقال له: أريد مشاورتك في أمر قد عزمت عليه.
قال له: وما هو؟
قال الغراب: قد عزمت أن أذهب إلى الثعبان إذا نام فأنقر عينيه فأفقأهما لعلّي أستريح منه.
قال ابن آوى: بئس الحيلة التي احتلت, فالتمس أمرا تصيب به بغيتك من الثّعبان من غير أن تغرّر بنفسك وتخاطر بها، وإيّاك أن يكون مثلك مثل العلجوم (وهو طائر) الذي أراد قتل السّرطانة فقتل نفسه.
قال الغراب: وكيف كان ذلك؟
قال ابن آوى: زعموا أنّ علجوما عشّش في بحيرة كثيرة السّمك، فعاش بها ما عاش، ثمّ كبر في السّنّ فلم يستطع صيدا، فأصابه جوع وجهد شديد، فجلس حزينا يلتمس الحيلة في أمره، فمرّ به سرطان فرأى حالته وما هو عليه من الكآبة والحزن فدنا منه وقال: مالي أراك أيّها الطّائر هكذا حزينا كئيبا؟
قال العلجوم: وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ههنا من السّمك، وإنّي قد رأيت اليوم صيّادين قد مرّا بهذا المكان، فقال أحدهما لصاحبه: إنّ ههنا سمكا كثيرا أفلا نصيده أوّلا أوّلا؟ فقال الآخر: إنّي قد رأيت في مكان كذا سمكا أكثر من هذا فلنبدأ بذلك فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذا فأفنيناه.
فانطلق السّرطان من ساعته إلى جماعة السّمك فأخبرهنّ بذلك، فأقبلن إلى العلجوم فاستشرنه وقلن له: إنّا أتيناك لتشير علينا فإنّ ذا العقل لا يدع مشاورة عدوّه.
قال العلجوم: أمّا مكابرة الصّيّادين فلا طاقة لي بها، ولا أعلم حيلة إلاّ المصير إلى غدير قريب من ههنا فيه سمك ومياه عظيمة وقصب، فإن استطعتنّ الانتقال إليه كان فيه صلاحكنّ وخصبكنّ.
فقلن له: ما يمنّ علينا بذلك غيرك.
فجعل العلجوم يحمل في كلّ يوم سمكتين حتّى ينتهي بهما إلى بعض التّلال فيأكلهما حتّى إذا كان ذات يوم جاء لأخذ السّمكتين فجاء السّرطان فقال له: إنّي أيضا قد أشفقت من مكاني هذا واستوحشت منه فاذهب بي على ذلك الغدير .
فاحتمله وطار به حتّى إذا دنا من التّلّ الذي كان يأكل السّمك فيه نظر السّرطان فرأى عظام السّمك مجموعة هناك، فعلم أنّ العلجوم هو صاحبها وأنّه يريد به مثل ذلك، فقال في نفسه: إذا لقي الرّجل عدوّه في المواطن التي يعلم فيها أنّه هالك سواء قاتل أم لم يقاتل كان حقيقا أن يقاتل عن نفسه كرما وحفاظا. ثمّ أهوى بكلبتيه على عنق العلجوم حتّى مات، وتخلص السّرطان إلى جماعة السّمك وأخبرهنّ بذلك.
وإنّما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنّ بعض الحيلة مهلكة للمحتال، ولكنّي أدلّك على أمر إن أنت قدرت عليه كان فيه هلاك الثّعبان من غير أن تهلك به نفسك وتكون فيه سلامتك.
قال الغراب: وما ذاك؟
قال ابن آوى: تنطلق فتبصر في طيرانك لعلّك أن تظفر بشيء من حلىّ النّساء، فتخطفه فلا تزال طائرا بحيث تراك العيون, حتى تأتي جحر الثّعبان فترمي بالحلىّ عنده، فإذا رأى النّاس ذلك أخذوا حليّهم وأراحوك من الثّعبان.
فانطلق الغراب محلّقا في السّماء فوجد امرأة من بنات العظماء فوق سطح تغتسل وقد وضعت ثيابها وحليّها جانبا، فانقضّ واختطف من حليّها عقدا وطار به.
فتبعه النّاس ولم يزل طائرا واقعا بحيث يراه كلّ أحد حتّى انتهى إلى جحر الثّعبان فألقى العقد عليه والنّاس ينظرون إليه، فلمّا أتوه أخذوا العقد وقتلوا الثعبان.
يتبع.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - قمر الطائي تجرب التاكو السعودي بالكبدة مع الشيف ل


.. لحظة تدمير فيضانات جارفة لجسر وسط الطقس المتقلب بالشرق الأوس




.. بعد 200 يوم.. كتائب القسام: إسرائيل لم تقض على مقاتلينا في غ


.. -طريق التنمية-.. خطة أنقرة للربط بين الخليج العربي وأوروبا ع




.. سمير جعجع لسكاي نيوز عربية: حزب الله هو الأقوى عسكريا لأنه م