الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بانوراما دينامية حركة 20 فبراير بعد عام من الحراك - مأزق كثيرين و آمال متعدد - (الجزء 1)

فؤاد بلحسن الخميسي
كاتب وباحث

(Belahcen Fouad)

2012 / 4 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


يمثل هذا المقال سليل خليط من القراءات لمقالات كُـتبت - على سبيل النقد أو المتابعة أو حتى السخرية، سواء كانت غثة أم سمينة - قـُـبَـيل أو بعد الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لخروج حركة 20 فبراير إلى الشارع. و هو كذلك ثمرة مجموعة من الحوارات التي أجراها كاتب السطور مع عشرات الناشطين – قياديين و نشطاء عاديين - في صفوف التنسيقيات المحلية للحركة على طول خريطة البلاد و عرضها (مدنا كبيرة كالرباط، سلا، فاس، القنيطرة، آسفي، و غيرها أو متوسطة و صغيرة، كميسور، زاوية الشيخ، الخميسات، تزنيت، سيدي سليمان و غيرها) و كذلك مع عشرات الناشطين السياسيين- إسلاميين و يساريين و غيرهم. و أخيرا، هو كذلك نتيجة معايشة لمسار الحركة – كتابة و عملا ميدانيا - في معظم تفاصيلها و منعرجاتها.
هي محاولة لتقييم مسار حركة شكلت ديناميتها مرحلة تاريخية بامتياز في التاريخ العام للمغرب، وذلك عبر رصد فعلها و تفاعلها مع المحيط (الفاعلون السياسيون و المجتمع بدرجة أساسية) انطلاقا من الفترة التي سبقت الانتخابات التشريعية الأخيرة و إلى اليوم، ودون أن يعني هذا التنكر للمسارات الكبيرة التي سبقت هذه المرحلة و التي لازالت آثارها مستمرة (ربما رغبة لتجنب تكرار الأفكار التي سبق وأن خطها الكاتب سابقا و يمكن الرجوع إليها).
* * * * *

الذات في مرآة الآخر .. حسابات المحيط و القصر !
بعد حوالي سنة على انطلاقتها، الجميع (الحركة ذاتها و الحليف و حليف الأمس و الخصم و "العدو") تحسس موطأ قدمه في ساحة المـَعْمعَان و مسافته من حرارة الحراك. جميعهم أخذوا نَـفَسا طويلا ليلفظوا تقريرا عن ذواتهم، بل مـن بين هؤلاء من بادر إلى ذلك قبل هذا التاريخ (العدل و الإحسان مثلا). و مؤكدا أن الحركة آخر من فعل ذلك، فلقد كانت بيروقراطيتها عصية على إعادة التوجيه وممارسة النقد الذاتي بالسرعة المطلوبة في علاقتها مع الخارج.
على أي حال، كل رأى وجـهه في مرآة الآخر و رآهم المجتمع جميعا: فلأول مرة يتحدد فرز حقيقي للفاعلين. فعَـهْدنا أن يتحدث الجميع همسا في فضاء منغلق على نفسه، حتى تكاد لا تميز بين ما إذا كان هذا الفاعل أو ذاك يتحدث أم يختنق .. و لا تكاد تُـميز في الخطاب و السلوك بين من يتحدث ليقول ما يعتقده حقيقة و بين من يقول ما يريد الآخرون سماعه منه. الآن بات للجميع أن يتحدث مع منسوب كبير من الأوكسجين، شرط أن ينتقي الكلام و المواقف و يتحمل تبعاتها السياسية. و باختصار، تقلص هامش العبث وانكشفت أكثر ساحة الغموض و قواعد اللعب.
فحتى القصر- و الملك تحديدا- تقلص هامش مناوراته السياسية و ضاقت خياراته، نتيجة: الرجة الثورية في المنطقة و سياقها المغربي، سقوط مشروع "حزب صديق الملك" – حزب الأصالة و المعاصرة - ، الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد، انكشاف تعثر ما سمي بالانتقال الديمقراطي، و الرغبة الأكيدة لبعض الأحزاب و التنظيمات في الأغلبية و في المعارضة في العيش في جو ديمقراطي حقيقي بعيدا عن التحكم و السلطوية التي تتدخل في كل شيء باسمهم هم، ...
وقد نتصور كيف كان سيبدو الأمر مُحـرجا لو أن حركة 20 فبراير طالبت بفتح ملف "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" للنقاش و التقييم و المحاسبة، و رفعت صوتها الاحتجاجي عاليا على هذا الصعيد، مثلا !
و باختصار، لم يعد مسموحا - شعبيا و مؤسساتيا – أن يبقى التخلف و الفساد و الإستبداد قدَرا مفروضا على شعب يعيش على بعد 14 كيلومترا من القارة الأوروبية و يشهد إنجازاتها الإنمائية و الديمقراطية صباح مساء.
في السياق المغربي للربيع العربي، انكشف الجميع أمام الجميع. و باتت السياسة تمارس عارية، انطلاقا من الخطب الرسمية والحزبية، مرورا بالبرامج التلفزية و الكتابات و وصولا إلى الشعارات الإحتجاجية. خلعت السياسة ثوب النفاق السياسي، و شُرع في تسمية الأشياء بمسمياتها.
و في الأخير، و بعد أشواط من الصراع و التنافس السياسيين بين الفاعلين، لم تقم لا ثورة و لا تم الحسم، توافقيا، في شروط عبور البلد إلى الديمقراطية .
فأصبح مشروعا و ضروريا الآن التساؤل: ماذا جرى تحديدا؟
* * * * *

حركة 20 فبراير و الدور المفقود !
بتاريخ الخميس 23 فبراير 2012، كتب د. فؤاد بوعلي مقالا عن حركة 20 فبراير ، و مما جاء فيه: « في الذكرى السنوية للحركة قالت صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية أن حركة 20 فبراير "ضلت طريقها" إلى الثورة، لتحقيق تغيير في المشهد السياسي للبلاد، موضحة أنه بعد مرور عام على انطلاق الحراك الشعبي في المغرب، فإن الحركة التي قادت الاحتجاجات في المغرب يبدو عليها الآن بعد عام من ولادتها أنها ضلت طريقها وإن كانت لا تزال تناضل من أجل الحصول على دور».
هل هذا ضرب من المبالغة أو من المزايدة؟. لا يبدو الأمر كذلك، ما دام حتى مناضلو الحركة باتوا يرددون نفس الأمر وووقفوا على نفس النتيجة.
لا بل، ذهب آخرون إلى أبعد من هذا، عندما أعلنوا نهاية الحركة، من بينهم صحفيون متتبعون (مثلا، توفيق بوعشرين، مدير تحرير جريدة أخبار اليوم) و أكاديميون جادون كذلك (الباحث في الحقل السياسي عبد الرحيم منار أسليمي مثلا) .
لكن، ما الذي دفع إلى هذه النتائج/ الاستنتاجات؟
لا يجادل أحد في أن حركة 20 فبراير أحدثت فـتـقا في جدار السلطوية بالمغرب و أرْخت قبضة النظام – و على رأسه المؤسسة الملكية - على الفضاء العام. فلوقت طويل، أطرت- بـإحكام- طابوهات سياسية كبيرة على النقاشات السياسية و حدث انسداد في الفضاء العام. فكان لها السبق إلى إشعال الديناميت في كل ذلك الركام السياسي المريض: تخلف تنموي و سياسي و خطابي و مع ذلك لم يخجل آل النظام من التشدق بكل أدبيات الحداثة و التنمية البشرية و الديمقراطية و هلم جرا.
لن يدخل الكاتب في تعداد ميكانيكي للمكاسب التي تحققت، فقد كتب غيري، ضمنهم متخصصون، و كتب كاتب السطور أيضا في وقت سابق في الموضوع؛ هنا سيتم تجاوز هذه المقاربة لنطرح سؤالا يبدو أكثر أهمية.
هل فعلا ما حققته الحركة حتى الآن أقل بكثير مما كان ممكنا؟. هذا السؤال سيكون مدخلا للإجابة على السؤال المطروح قبل قليل.
سؤال محير و يفتح النقاش على التأويل و حرفة افتراض السيناريوهات بامتياز.
لا أحد تقريبا يُـنكر – و قليل مَن يفعل على أي حال - أن الحركة دخلت، مبكرا، سن اليأس الإبداعي، على الرغم من احـتـفاظها بحيوية نضالية غير مسبوقة. فلقد جرب النظام أكثر من وسيلة و حيلة لإخماد الفتيل الفبرايري أو على الأقل تطويق امتداداته: تارة في اتجاه الحركة و هيئاتها الداعمة، و تارة في اتجاه الهيئات غير الداعمة و المناوئة لها، و ثالثة في اتجاه الشعب، و ذلك عبر مناورات سياسية، اجتماعية و إعلامية عبرت عن علو كعب النظام في التعامل مع الأزمات المتولدة. و مؤكدا، كان العنف في حالات عدة هو لغة الخطاب، لكن بقي دائما في دائرة الاستثناء و ليس القاعدة. بل و تم اللجوء إلى الذاكرة الجماعية الأسطورية والخرافة لحث الناس على أخذ مسافة من الحركة ( حدث أمر في تزنيت مثير للضحك حقيقة: فبالموازاة مع الأنشطة التعبوية التي باشرها الناشطون بتنسيقية الحركة هناك؛ إعدادا للإحتفال بالسنوية الأولى؛ باشر كذلك المخزن تعبئة مقابلة غريبة، حيث روج بين أوساط الناس و المؤسسات - التعليمية و غيرها- أن "الغُـولة" في طريقها إلى المدينة و ستنقض بطبيعة الحال على كل من وُجد خارج بيته يوم الأحد- أي يوم الإحتفال!. و من علامات وفود "الغولة" أنها تهجم على البيوت ليلا خابطة بقوة على أبوابها. و كذلك فعل البلطجيون بعد أن انتشر الخبر كالنار في الهشيم، إذ بادروا ليلة الاحتفال بالذكرى السنوية إلى الضرب، بعنف، على أبواب الناس لترهيبهم!).
و عموما، استطاع النظام في جبهته إقناع حلفائه و خصومه، غير الفبرايريين، بأنه على استعداد للدخول في مسار سياسي جديد يستهدف تحقيق تغيير جذري في بنية الدولة، بينما بقي الخط النضالي في جبهة الحركة رتيبا و بلا مناورات تكتيكية و لا أفق استراتيجي: مسيرات و وقفات محلية روتينية، سرعان ما بدأت تتراجع، رويدا رويدا، من حيث الامتداد الجغرافي، الكم الجماهيري والعمل الميداني على السواء (الرباط، طنجة، القنيطرة، و غيرها)، لا بل توقف نشاط العديد من التنسيقيات المحلية تماما ( الجديدة، مريرت، زاوية الشيخ و غيرها).
نعم، هكذا دخلت الحركة دورة رتابة لم تفكر/لم تسطع الخروج منها. و يتذكر كثيرون كيف أنه قبيل التصويت على مشروع الدستور كنتَ ترى و تسمع الناشطين الفبرايريين يرددون عبارات لا تحتمل اللبس حول ضرورة تجديد تكتيك الحركة و ضخها بأفكار جديدة لمواجهة استراتيجية الدستور المحكمة، لكن و بُـعيد التصويت على هذا الأخير، تَـنكَّر معظم هؤلاء إلى ما بدا البارحة حاجة ملحة. فدخلت الحركة، مجددا، روتين الوقفات و المسيرات، بدون أدنى التفات إلى قياس مدى تناسب وقعها مع أهداف الحركة !
و بقي الحال على ما هو عليه إلى حين وصول الانتخابات التشريعية، فأشعلت الحركة موجة التنديد بالانتخابات و رفضها جملة وتفصيلا؛ بطرح مبررات معقولة إلى حد كبير، و على رأسها غياب هيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات (هذا، بغض النظر عن موقف الحركة من الدستور نفسه التي تنظـَّم في إطاره هذه الانتخابات، و التي تطالب كبديل عنه مجلسا تأسيسيا منتخبا لصياغة دستور ديمقراطي و شعبي للبلاد). و بالتأكيد لها الحق في ذلك، كما لغيرها الحق في وجهة نظر مخالفة، لكن المؤسف هو أنها لم تفكر في إبدال تكتيكها أبدا و بقي "السلاح" هو "السلاح": مسيرات تعبوية و وقفات تنديدية (الملاحظ أثناء هذه الأشكال النضالية أنه لم تتم إدانة حزب السلطة "حزب التراكتور" بشكل صريح؛ عبر فضح أصوله و أساليبه في تمييع الحياة الحزبية، و استغلاله موارد الدولة/المواطنين، و دوره في خلخلة الموازين السياسية و تشويه العمل الحزبي !).
و زاد الطين بلة توقيف جماعة العدل و الإحسان نضالها ضمن صفوف الحركة، و الذي لحقته موجة انسحابات في صفوف من سُـموا بـ«المستقلين» ( و لا تخفى أعمال البلطجة التي مارسها بعض هؤلاء ؛ للتشويش على نضال الحركة، لإضعاف جماهيريتها وللطعن في مناضليها. ومنهم من فعل ذلك خدمة للرجعية المخزنية، و أسماء بعضهم معلومة و موثــَّـقة.
قد لا يبالغ أحدهم إذا قال، أنه، فقط، عقب موجة توقيف الأنشطة و الانسحابات المذكورة بادرت الحركة إلى "إبدال استراتيجيتها": أصبحت "الإستراتيجية الجديدة" لدى المكونات السياسية و المدنية المستمرة في النضال- و التي أصبحت هي العمود الفقري للحركة (حزبي النهج و الطليعة و مكونات سياسية و مدنية أخرى)- الحفاظ على استمرارية وجود الحركة أكثر منه البحث في سبل تجاوز أزمة الحركة التعبوية و أزمة تعثر الإنجازات المنتظرة و سبل مواجهة محاولات إجهاض حُـلمها المشروع في تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية للشعب المغربي.
و لم يشفع طول الانتظار و سوء تدبير الموارد الجماهيرية في المراحل الأولى للانطلاقة و عدم الاحترافية في إدارة لعبة الضغط وغياب تحديد أهداف مرحلية واضحة للنضال في ظل تشتت قرار الحركة - و التي انضافت إليها موجة تعليق الأنشطة و الاستقالات المذكورة آنفا – إلى الدفع في اتجاه مراجعة جذرية لمسار الحركة. فكان ما هو جارٍ واقعا في اليومي حاجبا لما هو ممكن في الأفق !
و في الواقع، كثيرا ما كان الملاحِظ أو الناشط يشعر أن الأمور في الحركة تمشي بلا عَـلم هداية و لا قَـبس من نور.
لقد مثَّـلت اجتماعات مجلس الدعم الدورية، منذ البداية، مجرد محطات لجرد التطورات و الحشد و إدانة خروقات النظام أكثر منه محطات لصياغة أوراق مرجعية تُـلم كل مُشـتَّـت و تقترح و تقدم رؤية نضالية واضحة يمكن أن توجه النضال و تـزرع الثقة بين مكونات الحركة و توجه عملهم الجماعي نحو أهادف واضحة.
فقد كان لتشبث الحركة بمبدئها / معتقدها التنظيمي «لا قيادة للحركة» نصيبا في تكريس العمل التنظيمي غير المنظم !. و في الواقع، كان هذا المبدأ التنظيمي يترجم حالة من عدم الثقة فيما بين المكونات السياسية من جهة، و فيما بين الناشطين من جهة أخرى، أكثر مما كان يترجم مجرد الرغبة في حفظ استقلالية الحركة: فأن تكون للحركة قيادة موحدة لا يعني بالضرورة أنها ستفقد استقلاليتها آليا. لقد آمنت أغلب التنسيقيات بهذا المبدأ، فكانت بذلك تدوس على أَلِف بَاءِ سوسيولوجية التنظيمات. و هو أن وحدة القيادة من وحدة الهدف، ولا تنظيم بلا قيادة محددة، وطنيا و محليا. لقد نجح المبدأ، بشعبويته الجذابة، في استقطاب كثيرين في البدء، لكن سرعان ما تحول إلى مصدر لإصباغ ضبابية على الحركة، و بالتالي على عدم انسجام خطابها.
و يبدو أن بعض الإيديولوجيات الجذرية داخل الحركة استساغت هذا الوضع، ما دام يضمن لها الحد الأدنى لصعود سفينة المغامرة في اتجاه أهدافها الإيديولوجية بلا التزامات سابقة مقيدة لأفعالها.
و لك أن تتأمل في حركة رفضت الحوار مع حكومة عرضت ذلك في أكثر من مناسبة على لسان رئيسها (بغض النظر عن الموقف من الرجل)، كما لو أن كفة ميزان القوى مائلة بما يجعل النظام يركع تحت قدميها. لقد رُفض الحوار، حتى قبل أن يطرح للنقاش داخل بعض التنسيقيات (هنا، سُـمح للبعض أن يتحدث باسم البعض الآخر !). و من الواضح أن المزايدات الإيديولوجية و السياسية تحكمت في موقف الرفض هذا.
يتذكر الجميع يوم عَـرض المناضل المحترم و اليساري الراشد نجييب شوقي رأيه في الموضوع، مبديا قبوله المبدئي بالحوار على أرضية شروط تحددها الحركة، فما أن كان من سهام النقد العدمي إلا أن توجهت إليه من كل حدب و صوب، كما لو أنه نطق بما لا يجب أو تكلم فيما لا يعرف. انهالت عليه سهام النقد و التجريح، و كذلك نصيب من السب و القدح و التخوين، ما دفعه - مرغما و ربما خائفا- إلى التراجع عن وجهة نظره تلك في أكثر من توضيح على حسابه الفايسبوكي.
لقد أدان الفبرايريون الإستبداد، ثم فجأة استبد بهم الروتين، ثم تحول هذا الأخير إلى عقم في الخطاب و التحليل و الإبداع.
منذ البدء، كانت الخشية أن تـُهدر اللحظة التاريخية التي طالما انتظرها الشعب المغربي لنيل الديمقراطية و الكرامة (كانت الخشية، دائما، قائمة من خطاب يقف فيه واحد من آل النظام ليقول: فَاتــَكم الڭِـطار !). ففي الواقع، وراء المطالب الأساسية النبيلة والمشروعة للحركة و المجهود النضالي الكبير الذي بـذل، و لازال، من قبل مناضلين شرفاء و مُضحيين بالغالي و النفيس يكمن فكر جماعي لا يقيس المعطيات بعناية و لا يستثمر الفرص المتاحة التي من شأنها أن تفتح أفقا جديدا للنضال و إحراز مكاسب كبرى جديدة. لقد تمكن منطق «كل شيء أو لا شيء» من العقل الجماعي للحركة، لكنه في لحظة وجد أن «كل شيء» ذاك ليس بقريب.
لقد عاش العقل المذكور مزهوا بالحرية الممارسة في شوارع المدن و المراكز القروية كتعبير أقصى لإدانة الوضع القائم. و مع مرور الوقت، اختلط الهدف بالوسيلة: تحولت المسيرات إلى هدف، و تراجع الهدف الحقيقي وراء ضباب المزايدات و التعنت السياسيين. استمر الوضع على هذا الوقع إلى أن استفاق من استفاق على أن الواقع لا يرتفع، مهما تجاهلنا معطياته.
كرد فعل على هذا النفق شبه المسدود الذي اتخذه مسار النضال، و على ضوء التجارب العربية المقارنة، وصلت عدمية بعضهم - و هم قلة لحسن الحظ - إلى تفضيلهم الاستمرار على هذا الحال (لا توقف و لا ثورة إلى يوم غير معلوم)، بدل الانخراط في عملية نقد شاملة لإعادة النظر في المسار المذكور بما يخدم تطلع الشعب المغربي إلى الديمقراطية و الكرامة. و ذلك بدعوى أنه إذا كان من شأن انتصار الثورة – أو حتى الديمقراطية - بالمغرب تسليم مقاليد الحكم للإسلاميين – على غرار مصر، تونس و ليبيا و دول أخرى في الطريق- فالأفضل أن لا تتحقق لا الثورة و لا غيرها، و من ثم ليبقى الحال كما هو إلى إشعار آخر!. لا أقول أن هذا موقف غالب، ولكن على الأقل هو حاضر في لاوعي فئة واسعة من الفبرايريين. و هو يـُـنبأ – إذا ما ساد و غلب - عن انسداد كبير في التجربة المغربية زمن الربيع العربي!
و يبدو اليوم مشروعا و مطلوبا أيضا، و إن كان متأخرا، أن يتساءل المرء بشكل ممزوج بالخشية: أَقَـدَرنا أن لا نعيش ديمقراطية حقيقية و كاملة بعد أن فشلنا في تحقيق ثورة حَـلمنا بها و لو لمجرد الحلم ليس إلا؟
عموما يمكن عرض بعض الحجج التي تدفع إلى القول بوقوع انتكاسة في مسار و تطلعات الحركة من خلال ثلاث مؤشرات رئيسية:
1- ضعف التفاف الجماهير حول الحركة رغم مناخ الحرية النسبية في العمل التي تمتعت به هذه الأخيرة. وأكثر من هذا، كثيرا ما شهدنا مواقف "متطرفة" من قبل الجماهير المفترضَة اتجاه الحركة تَـعتبر أن كل تضامن لهذه الأخيرة معها هو محاولة ركوب على مطالبها الإجتماعية لأغراضها الخاصة. لا بل هناك احتجاجات شعبية عفوية لساكنة بعض الأحياء الهامشية ساوت بين الأحزاب السياسية و حركة 20 فبراير في تحميلهم مسؤولية استمرار التهميش المسلط عليهم (احتجاجات ساكنة حي جمايكا المهمش بالخميسات )، مع أن الحركة رائدة على أكثر من مستوى في دعم نضالات الجماهير الشعبية و مطالبها الإجتماعية تحديدا. هنا يكون النهج الإعلامي للحركة في موقع المساءلة. و عموما، يمكن تفسير سوء الفهم الكبير هذا بفكرتين تبدوان متكاملتين:
الأولى، هي أن رد فعل الناس، ذاك، يعكس تأخر الحركة في فتح ملفات اجتماعية مرتبطة بالحاجات المحلية للساكنة،و
الثانية، تتمثل في إيلاء الحركة الأهمية الأكبر للملف السياسي (الدستور، الملك، البرلمان، الأحزاب، ...) على صعيد الشعارات و العمل التعبوي بدرجة أساسية. فإذا استرجعنا أهم فترات نضال الحركة حرارة وجدناها تتمحور حول محطات سياسية بدرجة أساسية (الخروج الأول تزامنا مع سيادة الجو الثوري في المنطقة العربية، تعديل الدستور، الانتخابات التشريعية، ...)،

2- انسحاب جماعة العدل و الإحسان، هو الآخر كان له تأثير كبير على نفس الصعيد (كما سيتم ذكره بتفصيل)،
3- تحول الحركة من أداة طليعية في نضال الشعب المغربي ضد الفساد و الإستبداد - كحركة مبادرة، مُربكة، منشأة للحدث ومؤثرة في الرأي العام- إلى حركة متفاعلة مع ما يجري هنا و هناك من انتفاضات طلابية أو سكانية. فسرعان ما تحولت أخبار هذه الأحداث و امتداداتها إلى مادة اشتعال لنضال الحركة و بعث روح الحياة فيها، و ليس العكس. بل كثيرا ما علقت عليها هذه الأخيرة آمالا على صعيد إرباك حسابات المخزن و خروج الأمور عن سيطرته و بالتالي تحقيق انتفاضات عارمة من شأنها التحول إلى "ثورة" تهز الأركان و تقلب الوضع رأسا على عقب!
لقد كانت هذه الانتفاضات إعلانا عفويا و ضمنيا عن انفصالها التنظيمي عن حركة 20 فبراير حتى و إن وجد في صفوفها أو اعتقل خلالها بعض الفبرايريين. مثلا، في زاوية الشيخ خرجت انتفاضات عفوية ذات مطالب اجتماعية بقيادة تنظيم سمى نفسه بـ «شباب زاوية الشيخ لمحاربة الفساد». مثال ثاني من مدينة بني بوعياش، حيث تشكلت لجنة شبابية سمت نفسها بـ «اللجنة المؤقتة لمتابعة أحداث بني بوعياش» على أثر الأحداث الأمنية التي وقعت بنفس المدينة مطلع شهر مارس الماضي؛ دورها متابعة التطورات والتفاوض مع السلطات. كما أن التداول و التقرير في البرامج النضالية أثناء الأحداث الأمنية ببني بوعياش كان يتم في حلقيات نقاش عامة في الشارع و ليس في الجموع العامة لحركة 20 فبراير (على سبيل المثال، الحلقية المنظمة زوال الخميس 15 مارس 2012 بالقرب من إعدادية عقبة بن نافع للتداول في الخطوات التي يمكن اللجوء إليها مستقبلا على المستوى الاحتجاجي للتنديد بالتدخل الأمني المذكور). و هناك مدن أخرى تشهد على انتهاء قيادة حركة 20 فبراير للعمل الاحتجاجي الشعبي (إيمزورن، تيزي وسلي، بوكيدارن، الحسيمة وتازة).
و إذا كانت هذه الأشكال تمثل، مؤكدا، امتدادا نضاليا لحركة 20 فبراير (الشق الاجتماعي للنضال)، فإنها في الوقت نفسه تمثل تراجعا – بل و إرباكا - في النقاش السياسي الذي دشنته دينامية الحركة: أصبح الأمر أمر خبز و عيش أكثر منه مسألة حرية و توزيع سلط و تكريس مبدأ المحاسبة و محاكمة الجلادين و المفسدين و ناهبي المال العام.
و كما لا يخفى، فإنه على هذا المستوى الثاني من النضال (الشق الاجتماعي الصرف) - المنفصل تنظيميا عن الحركة إلى حد بعيد- نجد أن النظام يتدخل بعنف أكبر لكن بتوتر أقل. و عندما تفشَل العصا، تصير الجزرة حلا لكل العقد: فَـضَخ المال يكفي هنا لإخماد الإحتجاج منح بقع أرضية أو فرص استثمارية للمعطلين أو تشغيلهم، زيادة عدد الأطر الطبية في مركز صحي أو مستشفى، إخلاء حي للدعارة، غلق خمارة، تسهيلات في استخلاص فواتير الماء و الكهرباء أو تخفيض قيمها، و غيرها من أساليب "تبريد الطرح" و تجميد امتداداته عند تَخْم التَّماس مع المطالب السياسية. بل و في حالات، يكون مجرد الوعد بالاستجابة لمطالب المتظاهرين، في اجتماعات يُجيد رجال السلطة إدارتها، كافيا لإرجاع آلاف أو مئات المتظاهرين لبيوتهم " مُطمئنين ".
...
لقد بدت حركة 20 فبراير مكشوفة أمام مفارقات متعددة، يمكن ذكر من بينها التالي:
- من المفارقات الغريبة في مسار نضال حركة 20 فبراير، نجد أن ارتفاع سقف الشعارات كثيرا ما سار بشكل طَردي مع قوة الحركة، بل و تزامن مع أوج احتدام النقاش حول هذا السقف في حد ذاته. لم ترفع الحركة مثلا شعار إسقاط النظام في عز الربيع العربي، و لا حين كانت أقوى جماهيريا، بل وقع عكس ذلك تماما. و اللافت أيضا على هذا الصعيد، أن هكذا شعار/مطلب لم يكن وليد إجماع أو اتفاق مسبق داخل التنسيقيات المحلية التي أعلنته، بل جاء نتيجة مبادرات أفراد (حدث ذلك، على سبيل المثال، في مدن طنجة، الدار البيضاء، و الخميسات). لا شك في إخلاص و شجاعة أصحاب تلك المبادرات، ولكنهم كانوا بالتأكيد على خطأ، و قد دفعهم إلى ذلك إما أجواء الحماس النضالي أو اليأس من ثورة تُـطل برأسها دون أن تكشف عن نفسها كاملة. و لعل أكبر دليل على خطأ هذا التوجه، هو أن المسيرات و الأشكال النضالية الجماهيرية للتنسيقيات التي رفع فيها هذا الشعار/المطلب يمكن عدها على رؤوس أصابع اليد الواحدة!
- مفارقة ثانية: لقد دعم ناشطون من الحركة بعض النزعات الراديكالية (مثلا، المطالبة باستقلال شمال البلاد)، كما أنهم، من شدة احتفائهم بالثورة، رفعوا أعلاما لدولة ما بعد الثورة، وقد حصل هذا قبل أخذ النضال الجماهيري شكل الثورة العارمة المهددة لاستقرار النظام. لا بل أكثر من ذلك، فقد شرع بعضهم في ترديد – عبر الشبكات الافتراضية – ما أسماه النشيد الوطني الجديد للبلاد، و ووقع حظر – شبه تام- على وجود العلم الوطني في الأشكال الإحتجاجية للحركة. هذا في الوقت الذي نجد أن جميع الثورات العربية- و باستثناء ليبيا- رفعت الأعلام و الشعارات الوطنية و احتفت بها باعتبارها رمزا للشعب لا للدولة. لقد استغرق بعض النشطاء الكثير من الجهد في حرصهم على الشكليات و تناسوا الجوهريات.
و هكذا، يبدو أن جيل التكنولوجيا – و خاصة المواقع الإجتماعية الافتراضية – كانوا أوائل ضحايا رسائلها الحماسية بإفراط. فبالقدر الذي مكنت هذه القنوات الافتراضية الناشطين و المتعاطفين مع الحركة من ترويج أفكارهم الثورية والراديكالية ومن كشف ما تخفيه القنوات الإعلامية الرسمية من تظاهرات و قمع، بالقدر نفسه الذي ضخَّمت الذات والأحداث معا في عيونهم و عقولهم!
- مفارقة ثالثة: في الوقت الذي تؤكد الحركة على بعدها الوطني؛ كحركة مدنية احتجاجية غايتها، عبر نضال وطني عام، تحقيق تغيير سياسي جذري في البلاد؛ نجدها قد عاكست/أهملت كل المبادرات التي ابتغت إبداع أشكال نضالية مركزية يكون من شأنها تكريس الطابع الوطني العام للحركة و لمطالبها (مثلا، عن طريق تنظيم مسيرة وطنية في إحدى المدن الكبرى– كما سبق أن اقترحها المناضل المحترم و الإسلامي الراشد سعيد بنجبلي، و الذي تعرض لحملة تطهير مبكرة! - أو عن طريق تنظيم مسيرات جهوية - أربع مسيرات جهوية مثلا كما اقترح أحد الناشطين من الدار البيضاء)!
- مفارقة رابعة: على صعيد ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، يلاحظ، مثلا، أنه في الوقت الذي ركَّـز فيه، و بشدة، مناضلو الحركة (تنسيقية الرباط على وجه التحديد) في أوائل انطلاق ديناميتها على المطالبة بإغلاق معتقل تمارة السري ومحاسبة المسؤولين على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تُـرتكب بداخله، نجدهم لا يحركون ساكنا في اتجاه دعم مبادرة أحد الفرق البرلمانية المعارضة آنذاك (فريق العدالة و التنمية) إلى تقديم مشروع تشكيل لجنة تقصي حقائق برلمانية في الموضوع. لقد كان الوقوف من أجل مطالب عامة/مجردة شكلا عاديا و روتينيا لكن لا شيء حصل في هذه النازلة من أجل دعم مبادرة شجاعة جاءت في الوقت المناسب و تصب في نفس الأهداف التي أعلنها هؤلاء المناضلون أنفسهم، بل وتعرضوا بسببها إلى تدخل عنيف لقوى الأمن فيما بات يعرف بأحداث نزهة تمارة بتاريخ 15 ماي 2011. هنا يُـجهِض المناضل أحلامه بيده عندما لا يستثمر جميع الأوراق المتاحة أمامه لبلوغ مراده. و جدير بالذكر، أن هذا الموقف جاء مجاراة ومراعاة لحسابات سياسية و إيديولوجية ضيقة لا غير. و النتيجة، أُجهض مشروع اللجنة من قبل حلفاء الرجعية المخزنية وقوى سياسية أخرى داخل قبة البرلمان، و أُجهض معه أمل الناشطين الفبرايريين في كشف الحقيقة و محاسبة الجلادين. وبذلك توقفت معركة سياسية كان سيكون لها الأثر الكبير في تاريخ البلد الحقوقي و النضالي. هل هكذا تدار المعارك السياسية.؟!
و نفس الشيء يمكن قوله عن "معركة أجر غيريتس" – مدرب الفريق الوطني- التي انحصرت التعبئة النضالية من أجلها في فئات قليلة – أغلبها إعلامية. لم تتعاط الحركة بالمستوى المطلوب من أجل تحويل القضية إلى قضية تبذير للمال العام، من شأنها خلخلة العديد من الخروقات داخل جامعة كرة القدم و من تم المساهمة في توقيف الكثير من السلوكات العبثية و العفِنة التي تمارس باسم الشعب، مع أنها تبذير غير محدود لثرواته.
و نفس الشيء أيضا يمكن قوله بخصوص تقارير المجلس الأعلى للحسابات، إذ نذكر جميعا إغفال الحركة القيام بدورها في "تسخين" النقاش حول تقرير المجلس الذي نشر سنة 2011 (التقرير السنوي لسنة 2008)، و في الدفع بتفعيل ما جاء فيه عبر مختلف الأشكال النضالية الممكنة.


(يتبع: في الجزء الثاني سيتم الحديث عن: علاقة كل من جماعة العدل و الإحسان و اليسار الجذري المغربي بدينامية حركة 20 فبراير)
لقراءة المقالات السابقة ذات العلاقة بنفس الموضوع، أنظر الموقع الفرعي الخاص بالكاتب: http://www.ahewar.org/m.asp?i=4620








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - .................
yassin rabat ( 2012 / 4 / 17 - 15:31 )
الانطلاق من التساؤل حول وجود كيان من عدمه، ترتيب اهدافه من تشتتها، اختيار قياداته من فوضويته، ضبط سلوكه من غريزته، تقيد طموحه بما لا يتناسي وكيفية نشأته، التعلق بفكرة بدل التريث في وضع سيناريوهات مخاطرها، الثقة فيمن ابدو تعاطفهم ليعلنوا صمود الذي خططوا لاسقاطه، هي كلها مسببات الانهيار الشعبوي في الايمان بقدرات الافتراض في استنساخ الثوراث

اخر الافلام

.. السعودية.. شخص يطعم ناقته المال! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الادعاء الأمريكي يتهم ترامب بالانخراط في -مؤامرة إجرامية-




.. هذا ما قاله سكان مقابر رفح عن مقبرة خان يونس الجماعية وعن اس


.. ترامب يخالف تعليمات المحكمة وينتقد القضاء| #مراسلو_سكاي




.. آخر ابتكارات أوكرانيا ضد الجيش الروسي: شوكولا مفخخة