الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احلام الحضارة ام احلام الهامش والمهمسين (تامل15) س- احلام الهامش وسياسة تدبير القوى الحيوية

محمد قرافلي

2012 / 4 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


(تأمل15)
س- سياسة الجسد وتدبير القوى الحيوية
يتبين أن القوت اليومي يمثل محور الوجود الإنساني وأساس علاقة الإنسان بالعالم وانه ليس مجرد مطلب حيوي يرتبط بالجانب الحيواني في الإنسان. ولا يحيل إلى علاقة بسيطة بين جسد راغب وموضوع رغبة يحقق إشباعا حال تحصله أو بين ذات عارفة وموضوعا للمعرفة بل يحيل على انفتاح وسعي وحركة ويختزن بعدا علائقيا مركبا ونسيجا من الدلالات العميقة ويحمل أبعادا انطولوجية وفكرية ورمزية اجتماعية، وقد يشكل مدخلا لإعادة النظر في تاريخ الإنسان. يندفع جسد الإنسان في رحلة بحث عن الطعام متجاوزا حدوده الذاتية ومنفتحا على الكائنات والأشياء، ومن خلال تلك الحركة تحصل تحولات كمية وكيفية سواء في بنية عضويته أو في علاقته بالمجال أو في عضوية الكائنات الأخرى. مما يؤشر على أن حقيقة الجسد سعي وحركة وانفتاح وانه بدون ذلك السعي فان الجسد يتعطل ويتخشب وتتلاشى قواه. وربما لهذا السبب اعتبر البعض Jérôme thélot في كتابه " في البدء كان الجوع "au commencement était la faim"أن الجوع والبحث عن القوت اليومي يشكل مبدأ للكائن الحي وقانون الحياة فعوض الحديث عن أهمية الفكر والوعي يمكن في نظره قلب وزحزحة الكوجيطو الديكارتي" أنا أفكر إذن أنا موجود " واستبداله بكوجيطو آخر مفاده "أنا جائع إذن أنا موجود"، بكون الجوع يحمل بعدا انطولوجيا، كما أن الجوع يدفع إلى الحركة والفعل والى انبثاق وتفتق إمكانات الإنسان اللغوية والفكرية والمهارية والتقنية ولا عجب أن حركة الطفل عند ولادته تبحث عن ثدي أمه، ويلزم عن السعي والاندفاع الجسدي مالا نهاية من الكوجيطوات على المستويات الفكرية والأخلاقية والرمزية على سبيل الإشارة "أنا جائع إذن أنا اصرخ وأتكلم"، "أنا جائع إذن أنا اعمل"، "أنا جائع إذن أنا أتعامل وأتحاور وأتفاوض" " أنا جائع إذن أنا أتمرد وأغير"، "أنا جائع إذن أنا اخضع وأطيع" " أنا جائع إذن أنا مهاجر"، "أنا جائع إذن أنا إنسان"،......
يروي عبد "الفتاح كيليطو" في كتابه "لسان آدم" حكاية تتقاطع مع السياق، نقلا عن المؤرخ اليوناني "هيرودوت" "مضمونها أن المصريين كانوا يعتقدون أنهم اعرق الشعوب وأقدمها. ولما اعتلى "بساميتيك" Psammétique"(ثالث ملوك السلالة الفرعونية) العرش أراد أن يتيقن من تلك الحقيقة ويعرف من هو الشعب الذي يستحق ذلك اللقب. بعدما باءت جهوده في البحث عن وسيلة تمكنه من مراده بالفشل تفتقت مخيلته عن السيناريو الآتي: عهد بطفلين حديثي الولادة ،من عامة الشعب، إلى راع يتكفل برعايتهما في مكان معزول وبعيدا عن أعين الناس واشترط على الراعي أن يمنع على أي شخص أن يتلفظ أمامهما بأية كلمة، وان يقدم إليهما حليب الماعز في الوقت المحدد والى حد الشبع، وتتم العناية بهما على أكمل وجه، حتى يتسنى للملك التقاط الكلمة الأولى التي يلفظانها عندما يجتازان سن الصراخ والتأتأة. وبعد مرور المدة المحددة في سنتين وأوشك الراعي على إنهاء مهمته فتح الراعي باب المعزل فهرع الصبيان نحوه يمدان أيديهما ويرددان الكلمة التالية "بيكوس"bécos ". في بادئ الامر لم يصدر عن الراعي أي رد فعل عندما سمع الكلمة لأول مرة ولكن بعد تردد نفس الكلمة عند كل زيارة اخبر سيده بالأمر.أمر الملك بإحضار الطفلين وعند سماعه كلمة "بيكوس" مضى يبحث عن معنى الكلمة واصلها. هكذا اكتشف أن كلمة "بيكوس" ترجع لأصول إفرنجية وتعني بالضبط الخبز. أصيب المصريون بالدهشة من هول الصدمة واعترفوا أن الفرنجة هم أقدم الشعوب وأعرقها".*
نستشف مما سلف أصالة البعد الحيوي في الإنسان وترسخه في الوجود، وحاولنا الاقتراب من ذلك الجانب، من خلال القوت اليومي وأهميته في بناء تلك العضوية وفي تشكيل معالم الوجود الإنساني، إذ بدونه يستحيل تصور عالم إنساني. حول الموقد وحميميته ستبنى نواة الاجتماع وتتفتق غريزة الحكي والسرد وعلى مائدته تنبسط أشكال الانفتاح على الآخر والعلاقة معه ومن خلال البحث عنه والصراع حوله ستتبلور منظومة الحقوق ومدونات القوانين وحق الامتلاك وستتمايز الشعوب والحضارات في طقوس الاحتفاء به والاحتفال به وفي أشكال الاعتناء به تقديسا وتبخيسا، منعا وإباحة ومن خلال العلاقة به ستقوم منظومات الآداب والأخلاق.....في حضوره أو عند غيابه تتنازع الميتافزيقيات وتتضارب. يأتي كذلك التركيز على ذلك الجانب من كون قوى الإنسان الحيوية ومقدراته وطاقاته اللامتناهية ترتبط به وتستلزمه استلزاما فلا مجال للحديث عن أبعاد الإنسان التي تزخر بها مدونات أطباء الجسد وسابري الأعماق( علماء النفس) وأطباء الحضارة من أبعاد حسية حركية وانفعالات وأحاسيس ومن مقدرات ذهنية وفكرية وحتى أدبية جمالية ذوقية...إلا في علاقتها بذلك البعد الحيوي عموما وبالجسد خاصة.
إذا تبث أن كل اضطرابات الفكر والوعي ترتبط بالجسد وان كل أمراض الحضارة ووساوسها ناجمة عن اختلالات أحدثتها تلك الحضارات وسياساتها في تدبير القوى الحيوية فكيف يمكن تجاوز تلك الاختلالات؟ الم تؤدي تلك السياسات إلى تشتيت وبعثرة لتلك القوى والى خلق تراتبيات هرمية في نواة العضوية؟ حيث تارة يتم إفراغها في ثنائيات متنافرة، جسد/ روح، مادة/ صورة، عرض /جوهر، فكر/ امتداد، ذات/موضوع، وأخرى من خلال تفكيكها وتحويل الجسد إلى آلة قابلة للتحلل إلى قطع غيار وقابلة للإصلاح والترميم واستبدال القطع المنتهية الصلاحية بقطع أخرى أمتن وأنجع وأكثر فعالية وأصلح ويقبل أيضا(الجسد الآلة) للاختبار والبرمجة وإعادة البرمجة إلى درجة يمكن الحديث عن الإنسان الآلي والإنسان الرقمي.... وأحيانا اختراق الجسد من خلال قواه الغذائية والشهوانية والحيوانية والعاقلة وإدراجها في سلم تراتبي قيمي تفاضلي أو جردها بيداغوجيا وتحويلها إلى مهارات حسية وحركية، ذكائية ومهارية، حوارية وتواصلية....الخ وكل سياسة تحشد مبرراتها ومسوغاتها الحجاجية اللاهوتية والفلسفية والعلمية... فكيف يمكن تجاوز مختلف تلك الأنماط التي ترسخت وتحولت إلى منظورات ورؤى في المعرفة وقوالب في المحاكمة والتقويم والى سياسات في التربية والاقتصاد والتدبير والى مبادئ في التعامل والتواصل؟ من يمكنه ذلك أو يدعي ذلك؟ أم أن القوى الحية ستزحف مثل الجراد وعندئذ لن تنفع سياسات الجسد وسياسات تدبير القوى الحية؟

*kilito Abdelfattah ; la langue d’adam et autres essais ; édititions toubkal ; deuxième édition ;1999 ;p.11
يتبع.......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان


.. أثناء زيارته لـ-غازي عنتاب-.. استقبال رئيس ألمانيا بأعلام فل




.. تفاصيل مبادرة بالجنوب السوري لتطبيق القرار رقم 2254