الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنها ليست كراهية، إنه حب امتلاك

سها السباعي

2012 / 4 / 30
ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة


مقالان لكاتبتين عربيتين ، نُشرا في مطبوعتين غربيتين أثارتا لدي العديد من التأملات والمزيد من التساؤلات، أعرض لهما ترجمة موجزة في محاولة لتركيز الأفكار، ثم أسمح لنفسي بالتعقيب عليهما، موردةً ما أغفلته كلتاهما على الرغم من شمولية الفكرة ومحاولة طرقها من جانبين مختلفين، فإحداهما ترى الحل للمشكلة يبدأ بثورة اجتماعية ثقافية قبل أن تكون سياسية، والأخرى ترى العكس، ومع احترامي الكامل للطريقين المتقابلين الذي سلكته كل منهما للوصول إليه، إلا أنني أرى الحل يبدأ بثورةٍ داخلية.

فقد بدأت منى الطحاوي مقالها الطويل "لماذا يكرهوننا؟"(1) المنشور في عدد مايو/ أيار من مجلة Foreign Policy مستشهدةً بقصة قصيرة للكاتبة المصرية أليفة رفعت، التي انتقدت كتاباتها الطريقة التي تُعامل بها النساء في بيئة لا تمنحها حرية الاختيار فيما عُرف بـ "أدب الاحتجاج" ، ثم صاغت تضادًّا ملفتًا للانتباه حين قالت "إنهم لا يكرهوننا بسبب حريتنا – كالقول الشائع بين الأمريكان بعد أحداث سبتمبر - ، بل إننا نفتقر للحرية لأنهم يكرهوننا!". وقررت حقيقة مفادها أن رجال العرب يكرهون نساء العرب.

تربط الطحاوي بين ثورات الربيع العربي وبين حقوق المرأة، وتحاجج بأن أي نظام اقتصادي أو اجتماعي يعامل نصف البشرية كحيوانات يجب أن يُطاح به مثل كافة الأنظمة الاستبدادية الأخرى، وأنه ما لم ينتقل الغضب ضد القمع المُمارس من القصور الرئاسية إلى القمع المُمارس في الشوارع والمنازل، فإن الثورة لم تبدأ بعد.

وبينما تعرض الكاتبة الحجة الجاهزة التي سيرد بها معارضوها أن الولايات المتحدة وهي من هي لم تنتخب بعد سيدةً لمنصب الرئيس وأن المرأة تُعامل كمجرد جسد في كثير من الدول الغربية، فإنها تتحدى معارضيها أن يذكروا لها اسم أي دولة عربية وسترد عليهم بدورها بقائمة طويلة من الانتهاكات التي تتعرض لها النساء، وهي انتهاكات يذكيها خلط سام بين الموروث الثقافي والدين، الذي لا يقدر أي أحد على الفصل بينهما خشية التعرض للتكفير أو السب على أقل تقدير، فمن يمكن أن يجادل الفتاوى الدينية التي تبيح ختان الإناث للحفاظ على العفة وضرب الزوجات بغرض التأديب.

وتورد الكاتبة العديد من أمثلة هذه الانتهاكات في مختلف الدول العربية، مبتدئة بمصر كختان الإناث وكشوف العذرية ومواد القانون التي لا تعاقب الزوج إن ضرب زوجته بحسن نية! مرورًا باليمن حيث 55% من نسائها أميَّات، و79% منهن لا يعملن، وامرأة واحدة فقط في برلمانٍ عدد أعضائه 301، وحيت يتم تزويج الفتيات وربما لم يبلغن الثانية عشر . وفي السعودية حيث يتم فيها تغطية النساء بالكامل، ولا يحق لهن القيادة ، ولا يجوز لهن السفر إلا بمرافقة محرم ، ولا يحق لهن الزواج – أو الطلاق – إلا بمباركة ذكورية. وحتى في المغرب ، التي توصف بأنها تقدمية بسبب قانون الأسرة بها، والتي قال عنها خبراء غربيون "مثال لدولة إسلامية ترغب بالاندماج مع المجتمعات المتقدمة"، سجلت فيها ، بحسب أرقام وزارة العدل ، 41098 حالة زواج لفتيات تحت سن الثامنة عشر.

وتذكر الكاتبة تساؤلاً على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية في أحد المؤتمرات حيث قالت أن سبب تركيز المتطرفين على النساء يمثل لغزًا بالنسبة لها، وأنه يبدو لها أن جميعهم يفعلون ذلك بغض النظر عن الدول التي يأتون منها أو الدين الذي ينتمون إليه، فجميعهم يريدون السيطرة على المرأة. ومع ذلك، فإن كلينتون نفسها تمثل إدارةً تدعم العديد من هؤلاء المستبدين الكارهين للنساء.

وتتعرض الطحاوي للجانب الاقتصادي في الدول العربية، الذي أدى إلى ارتفاع سن الزواج، والذي أصبح حجة جاهزة لتبرير حوادث التحرش الجنسي بالنساء في الشوارع في جميع الدول العربية، مستشهدة بواقع أنه حتى في السعودية ، يوجد مراكز تجارية للعائلات فقط، وفي مصر تجد عربة في المترو مخصصة للسيدات فقط، وتتجه معظم الفتيات لارتداء الملابس التي تغطي أجسادهن، ترفقًا بالشباب في الشوارع، في محاولة للحماية وتقليل التعرض للمضايقات. ولكن لماذا لم يتعرض هؤلاء المبررون لأثر تأخر سن الزواج على الفتيات أيضًا، تتساءل هنا الكاتبة في سخرية مقررةً أن هيئة المحلفين العرب ليس لديها أدنى حد من المعرفة بالبيولوجيا الإنسانية!

ومن خلال مقارنتها بين الدول المختلفة، تخلص الكاتبة إلى أن الدول الفقيرة مثلها مثل الدول الغنية في انتهاكاتها ضد المرأة، وكذلك الدول التي قطعت شوطًا في التحضر مثل التي ظلت في مكانها. ففي الكويت، حيث حارب الإسلاميون طويلاً ضد تحرر المرأة، وعندما نجحت أربع سيدات فقط في دخول البرلمان، ظلت الملاحقات مطالبة اثنتين منهما حاسرتي الرأس بارتداء الحجاب، وحتى بعد حل البرلمان في ديسمبر الماضي، طالب نائب إسلامي في المجلس الجديد الخالي تماماً من أي عنصر نسائي، بمناقشة مشروع قانون تقدم به "للملابس اللائقة". وحتى في تونس، التي كانت أقرب ما تكون لمنارة التسامح في المنطقة، تنفس النساء الصعداء بعد فوز حزب النهضة الإسلامي بالأغلبية البرلمانية، فقد تعهد قادة الحزب بعدم المساس بقانون الأحوال الشخصية التونسي لعام 1956 والذي ينص على المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ولكن العديد من السيدات اللاتي يشغلن مناصب التدريس في الجامعة والطالبات تعرضن للإساءات والترويع بسبب عدم ارتداء الحجاب من قبل إسلاميين. مما جعل نشطاء يتساءلون ما الذي ستكون عليه تونس ما بعد الثورة في ظل قوانين إسلامية. وفي ليبيا، حيث كان أول شيء فعله رئيس الحكومة المؤقت، هو رفع الحظر الذي كان القذافي قد وضعه على تعدد الزوجات، ولا يظنن أحد أن القذافي كان مناصرًا لحقوق المرأة، فلنتذكر أنه في عهده كانت النساء الناجيات من الاعتداءات الجنسية والمدانات في جرائم أخلاقية يودعن فيما سمي بمراكز عادة التأهيل الاجتماعية، وهي ليست إلا سجون لا يخرجن منها إلا إذا قبل رجل الزواج بإحداهن أو رضيت عائلاتهن باستعادتهن!

وتذكر الكاتبة ضمن أمثلتها البرلمان المصري الجديد، الذي يشكل فيه الإخوان المسلمون أغلبية ويشغل السلفيون ربع عدد المقاعد، الذين يؤمنون أن المرأة لا يجوز أن تتولى أي مناصب قيادية. وأنه كما قالت نائبة للإخوان المسلمين أن المرأة لا يجب أن تخرج للتظاهر لأنها أجل وأكرم من أن تعرض نفسها للشارع فلتترك أخاها أو زوجها يتظاهر بالنيابة عنها.

وتمضي الكاتبة في عرض الانتهاكات التي تعرضت لها متظاهرات مصريات بصفة خاصة من ضرب وإهانة وواقعة كشوف العذرية التي انتهت أمام القضاء، وفي اقتراح جذري للحل ، دعت بقوة لتسمية الأمر باسمه، وأن كل هذه الممارسات ما هي إلا نتاج كراهية متأصلة في نفوس الرجال العرب للنساء العربيات. ودعت لرفض نسبية الثقافة، مؤكدة أنه حتى في البلاد التي تقوم فيها الثورات على أنظمة مستبدة تبقى النساء أرخص بطاقات المساومة. وخاطبت العالم قائلة بأنهم سوف يخبرونكم إنها معايير ثقافتنا وأسس ديننا التي تحل لنا أن نفعل ما نشاء بنسائنا، ولكن تذكروا أن من وضع تلك المعايير لم يكن امرأة.

وتزيد الطحاوي على ذلك فتذكر أن من بدأ الثورات العربية هو محمد البوعزيزي الذي انتحر من فرط اليأس، هو رجل، ولكن من سينهي الثورات سيكون امرأة، وعددت أسماء مثل أماني الفيلالي الفتاة المغربية ذات الستة عشر عاماً التي انتحرت بشرب السم بعد أن ضربها مغتصبها الذي أجبرت على الزواج منه، سلوى الحسيني أول من تحدث عن واقعة كشوف العذرية وسميرة إبراهيم من رفعت الموضوع إلى القضاء، منال الشريف الفتاة السعودية التي خرقت حظر قيادة النساء للسيارات في السعودية وقضت تسعة أيام في السجن وحكم عليها بعشر جلدات ثم خرجت بعفو ملكي. وتصورتهن جميعا كمحمد البوعزيزي قائلة أنه لا يجب أن ننتظر ليمتن ليصبحن في مثل مكانته.

وترى الكاتبة أن الثورات السياسية لن تنجح إلا إذا صاحبتها ثورات اجتماعية وثقافية، وإن الهدف من هذا القهر هو إسكات صوت المرأة وعودتها إلى البيت، كي لا تشارك في المقاومة، فهم يعرفون أن لصوت المرأة وزنًا. وتنهي الكاتبة مقالها بأن كون المرء إسلاميا أو من الإخوان المسلمين كان فيما سبق يجعله الأكثر عرضة للهجوم في الشارع السياسي، وتحذر من أن هذا الدور ستأخذه المرأة في الأيام القادمة، كما لو أن الحال لم يكن دائمًا كذلك.

* * *

أما المقال الثاني الذي عقب على مقال الطحاوي فهو للكاتبة السودانية نسرين مالك في الجارديان وقد نشر في الخامس والعشرين من أبريل / نيسان ، التي كتبت مقالاً أكثر تركيزًا عنوانه "هل يكره الرجال العرب النساء؟ الأمر ليس بهذه البساطة"(2). بدأت مالك مقالها بالحديث عن الغلاف اللافت للنظر لمجلة Foreign Policy والذي يشير لمقالها الرئيسي الذي كتبته منى الطحاوي، وتعترف أنها بعد أن قرأت المقال أخذت موقفًا معاديًا، وشعرت في الوقت نفسه بالذنب لاتخاذها مثل هذا الموقف؛ إذ لا يمكن لأحد أن ينكر التمييز الخطير والمتوطن ضد النساء في البلاد العربية. وتمضي نسرين مالك في اعترافها أنها حاولت إقناع نفسها في البداية بأن أسلوب الكاتبة المثير هو ما أثار حفيظتها و أنها لم توفق في اختيار العنوان أو في التصور، ولكن المشكلات التي كانت تحاول توضيحها كانت واقعية تمامًا.

تخبر مالك أنها اكتشفت ما أثار فزعها أثناء قراءة المقال، وهو أنه بدلاً من تفكيك ومحو الصور النمطية الشائعة في الكتابة عن النساء العربيات، وبدلاً من محاولة كشف الفوارق الدقيقة، فإن الطحاوي فرضت رؤيةً أحاديةً – تدعم النقاش بأسلوب بلاغي وإيقاعي ممتلئ بالحكايات الشخصية – مفادها أن كل الرجال العرب يكرهون النساء العربيات. ولم تكن الصورة المضلِّلة لامرأة عارية مغطاة الجسد فقط بالطلاء الأسود فيما عدا عينيها فقط هي التي تهين إدراك القارئ . وتعتبر مالك أن هذا كسل من جانب الكاتبة ، يربط المرأة فقط بالجنس ويبتعد عن هدف العدد المنشور ، باختزال المرأة في نمطٍ نفته الطحاوي نفسها قائلةً أن النساء العربيات "لسن فقط أغطية رأس وأغشية عذرية".

تقول نسرين مالك أنها نشأت في مصر والسودان والسعودية، واضطرت على المستويين الشخصي والعملي إلى التعامل مع معظم المشكلات الواردة في المقال، وتقر أنها حقيقية تمامًا. ولكنها ترى أن هناك خطًّا رفيعًا يجب السير عليه عند الكتابة عن النساء العربيات والمسلمات؛ فعدم فعل أي شيء سوى الإدانة الصريحة وفضح المعاناة التي تمر بها النساء يشعرنا فقط بالتنصل من المسؤولية وتضييع الفرصة. مشكلة رفض التعميم فيما يخص القمع ضد المرأة هو أنه يُفهم على أنه إنكارٌ للمشكلة، من الذي يمكنه أن يرفض تسليط الضوء على قضايا زواج الأطفال وختان الإناث والعنف المنزلي المحمي بقوة القانون؟ فقط المصابون بمتلازمة ستوكهولم المدافعون عن السلطة الأبوية والنسبية الأخلاقية.

تعترف مالك أن الجرائم المذكورة في مقال الطحاوي لا يمكن إنكارها، ولكن يجب ألا ننشغل بمحاولات الغرب تقليص حجم النساء العربيات والمسلمات إلى أحجار شطرنج في حرب ثقافية أو حملات عسكرية، أو بالهجوم الدعائي على منى الطحاوي نفسها، أو بالشكوى من نشر ملابسنا القذرة. يجب أن نقر أن هذه الجرائم لا تحدث بسبب كراهية الرجال للنساء، أو كما يوحي مقال الطحاوي لأن الرجال العرب يكرهون النساء العربيات، فهذا ليس مرضًا يولدون به وليس واقعًا يفرضه المناخ العربي العام، حتى الطحاوي نفسها، عزت السبب إلى "خلط سام بين الموروث الثقافي والدين" ، وإلى هذا الخليط أضافت نسرين مالك القمع السياسي، والركود الذي يؤدي بهذه الهياكل إلى أن تحكم بقوة الأمر الواقع، حيث الولاء الراسخ للتقاليد القبلية، ولأعراف سادت في فترة ما قبل الإسلام، ولعادات اجتماعية تغلبت على ثقافة سياسية ضعيفة. تخلفٌ عام امتد ليشمل ليس فقط النساء وإنما كل ملامح الحريات الشخصية والحقوق المدنية.

وتقر الكاتبة في مقارنة عادلة ، بأن النساء في السعودية قد لا يستطعن القيادة، لكن الرجال هناك لا يستطيعون انتخاب حكامهم. وأنه ربما خضعت فتيات في مصر لكشوف العذرية، لكن الرجال أيضًا قد يتعرضون لهتك العرض. وفي السودان، قد تجلد امرأة لأنها ارتدت "البنطلون"، ولكن الأقليات العرقية تهمش وتتعرض للانتهاك. وتقر أنه لا يجب أن نقلل من شأن المشاكل التي تواجهها النساء، أو أن ننزلها إلى مرتبة أدنى، ولكن يجب وضعها في سياق أعم حيث يجب القيام بإصلاح شامل.
وتستشهد نسرين مالك بجملة من مقال منى الطحاوي ، "إن الثورات السياسية لن تنجح إلا إذا صاحبتها ثورة في الأفكار"، وتجادلها بأن الأخيرة أيضًا لن تنجح بدون الأولى. فحرية سياسية أكثر سوف تسمح بتحدي نظام السلطة الأبوي فيمتد أثر ذلك إلى إصلاح سياسي أكثر عمقًا. فهي ترفض الاستجابة لنداء الطحاوي بالانغماس في مقاومة الاستبداد الثقافي. وإذا أردنا الاقتداء بالنموذج الغربي، فحتى هناك لم تحصل النساء والأقليات على الحقوق الأساسية إلا في مناخ سياسي تراجع في ظله حكم التقاليد (ممثلاً في سلطة الكنيسة).

وتنهي مالك مقالها بأن الدعوة للمقاومة لا يجب أن تكون للعالم الخارجي لكي يعترف بكراهية الرجال للنساء، بل يجب أن توجه للعرب. وفي وقت تسود فيه الاضطرابات السياسية، يجب أن تكون الدعوة للنظر إلى الداخل واستمرار العمل على تفكيك الهياكل التي دام تقديسها لوقت طويل، وتقول أن هذه الإصلاحات بدأت بالفعل وأنها في جارية إذا تعلق الأمر بحقوق المرأة ، وأن الفضل في ذلك يعود إلى جهود ناشطات في الحركة النسوية أمثال نوال السعداوي وتوكل كرمان، اللاتي أدركن أننا المقاومة يجب أن تكون ضد البطريركية وليس ضد الرجال.

* * *

حسناً، لقد بذلت الكاتبتان، على الرغم من اختلاف رؤية كل منهما لمنبع المشكلة، جهدًا ملحوظًا في تحليل سبب الممارسات القمعية الظاهرة التي تمارس ضد النساء في الدول العربية، واتخذت كل منهما نقطة بداية مغايرة للأخرى على الرغم من التقائهما في الهدف العام وهو تحقيق الحرية ونبذ الخوف، ولكن كل منهما سارت على الخط الخلفي للجبهة، استشرفتها من بعيد ولم تدخل أي منهما إلى عمقها الاستراتيجي؛ لقد أغفلتا منبع القمع وأصل الخوف، القمع الناعم، القهر المعنوي، ذلك القمع المسموح به والمجاز بحق الأبوة والزوجية والأخوَّة والبنوَّة، حيث يجب أن تطيع الفتاة أباها وزوجها المفوضين إلهيًّا في فرض ما يشاءان على حياتها ويتحكمان فيما تفعل وما لا تفعل، وربما فيما تأكل وما ترتدي ومن تعرف ومع من تتكلم، وقد يصل الأمر إلى فرض رقابة على كيف تفكر وماذا يلهم تفكيرها إذا تُرجمت أفكارها إلى واقع عملي، وكل هذا يحدث تحت غطاء من الحب والرعاية، وتطيع هي بدافع الحرص على الانتماء للأسرة.

إن القهر المعنوي الذي يسحق الإرادة ويخرس الصوت ولا يترك أثرًا ظاهرًا أو يتخذ شكل فعلٍ ماديِّ يمكن رصده يماثل وسائل التعذيب الحديثة في المعتقلات، حيث لا يستطيع المجني عليه أن يجهر بالشكوى أو يثبت حدوث الاعتداء فيتمكن من اللجوء للقضاء عارضًا قضيةً مكتملة الأركان مشفوعةً بأدلة ملموسة. أن تًحرم المرأة من حق التعبير بسيف الحياء، أن لا يسمح للمرأة بالكلام في حضور زوجها، وإن تكلمت فليكن صوتها خفيضًا ورأيها غير معارض. أن لا يؤخذ برأيها في قرارات مصيرية تمسها كفتاة أو تمس منزلها كزوجة أو تمس أسرتها كأم تعنيها طريقة تربية أولادها. أن ترغم على اختيارات بعينها في الدراسة والعمل والزواج بحجة أن هذا ولي أمرها يعرف الأصلح لها وبدافع من "الحب والرعاية" لأنها كائن ناقص العقل والدين، غير مكتمل الأهلية. إنها ليست الكراهية هي ما يؤدي لهذا، إنه حب التملك، فالمرأة في المجتمعات العربية تعامل على أنها ملكية خاصة بعقد موثق من آلاف السنين، وطبيعيُّ والحال هكذا أن يحافظ المرء على ملكه ولا يسمح لأحد بانتزاعه! وسأطرح مثلاً شائكًا ولكنه واضح كالشمس؛ إذا غير رجل دينه في مجتمعاتنا العربية، فعادة لا يلقي أحد له بالاً، ربما نبذه أهله، ولكن إذا فعلت امرأة هذا، فرد الفعل يكون مختلفًا تماماً، والأمثلة موجودة ومعروفة.

المرأة في المجتمعات العربية تمضي في حياتها بقوة القصور الذاتي، طريقها مرسوم ومنتهٍ ومحدد من قبل أوصياء. قليلات هن من حققن لأنفسهن مكانة مختلفة ومرتفعة وهذا لا يتأتى إلا بنضال من جانبهن ضد الأعراف السائدة المستقرة، أو بأن يسعدهن الحظ بأن يتخلى هؤلاء الأوصياء ذوي القربى طواعية عن هذه الوصاية.

ولن أكون متحاملة للنهاية وأدعي أن هذا هو الحال دائمًا، فهناك الكثيرون ممن تخلصوا من هذا الميراث الحجري وأصبحوا أكثر تحضرًا وفهمًا لما يجب أن يكون عليه التعامل مع نصف المجتمع، وهذا سائد فقط في الجيل الحالي من الشباب. والسبب في اعتقادي هو التعرف على ثقافات أخرى والتواصل معها، وفهم أعمق لما يجب أن تكون عليه ذاتهم الإنسانية بسبب جسور بناها العلم لم يسعد آباؤهم بعبورها، على الأقل ليس بالكثافة التي نشهدها اليوم.

إنه لمشهد حزين، أن نختصر حق المرأة في أن تنال قسطاً باهتًا من التعليم ثم تدفن في وظيفة ليس بها أي قدر من السماح للإبداع والتجدد، وتشارك في تحمل مسئولية أسرتها ماديًّا ويذوي شبابها وتختفي ملامحها تحت طبقات من الأقمشة والزمن، ثم تقبع مريضة في منزلها وكل ما جنته في نهاية العمر معاش هزيل قد لا يكفي نفقات علاجها وزوج طاعن في السن مثلها يسلقها طيلة الوقت بألسنة حداد غير راحم لمرضها وشيخوختها، وهو يحتاج إليها كرضيع إن ابتعدت عنه خطوات شعر بالضياع والعجز، وهي لا تملك إلا أن تطيب الخواطر وتحتمل ثم تحتمل وكل أملها في النجاة هو يوم الخروج من منزلها إلى القبر!

إنني أستطيع أن أسرد مئات القصص عن مجهولات لم تتردد أسماؤهن في الصحف ولم تحتفِ بهن الفضائيات ولم يستطعن في يوم أن يأخذن ندوبهن النفسية إلى المستشفيات أو أرواحهن القتيلة إلى القضاء، ولكنني إن فعلت فسوف أنساق وراء خط درامي يسطح المشكلة ولا يجعل من هذا المقال إلا مادة صالحة لمسلسل عربي آخر.

إن المرء إذا نظر حوله في الكون، سيجد العديد من الكائنات، أجناس وأنواع من الحيوانات والحشرات، تحتل فيها الأنثى مرتبة مساوية للذكر ومشاركة له إن لم يكن لها السيادة أحيانًا، فكيف يكون هذا هو الحال بين الإنسان الذي هو أرقى الكائنات تطورًا حيث تعامل المرأة كأنها مخلوق من الدرجة الثانية؟

إن العلاقة المبنية على المشاركة ووحدة المصير وحرية التعبير عن الرأي وممارسة الديموقراطية الصحيحة يجب أن تبدأ من داخل البيوت قبل أن تنتقل إلى خارجها، وإن كان التسلسل الهرمي في القيادة يصلح في المؤسسات وفيما بين الرتب العسكرية فهو بالتأكيد لا يصلح داخل الأسر. إن كلمة "لا" يجب أن تقال أولاً داخل البيوت قبل أن تنتقل إلى الشارع وإلى المظاهرات، اكتساب القوة الداخلية أمر حتمي لاكتساب القوة الخارجية، قهر الخوف في المحيط الضيق لازمٌ قبل محاولة قهر الخوف في محيط أوسع. إن حب التملك المرضي أولى بالمكافحة قبل مكافحة الكراهية أو لنقل حب التسلط الظاهر في الشارع والبرلمان والقصور الرئاسية.

-----------

(1) Why Do They Hate Us?, Forieghn Policy,
http://www.foreignpolicy.com/articles/2012/04/23/why_do_they_hate_us
(2) Do Arab men hate women? It s not that simple, The Guardian.
http://www.guardian.co.uk/commentisfree/2012/apr/25/arab-men-women-mona-eltahawy













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لماذا يخشوننا...
كنعان الكنعاني ( 2012 / 5 / 1 - 20:29 )
تحياتي للسيده الكاتبه
القول بأن الرجال في العالم العربي يكرهون النساء فيه إسراف في التجني، ولو كنت مكان السيده الطحاوي لعنونت المقال ب لماذا يخشوننا.... هكذا تبدو لي الصوره من الجبهة الأخرى:( .
نعم قد يكون في جزء كبير منه حب تملك كما تقول الكاتبه، ولكنني أعتقد أنه تم إغفال ما أراه خوفا للرجل العربي من المرأة العربيه واهتزازا لثقته بنفسه أمامها، لأسباب تتعلق بطريقة التنشئه، أنماط العلاقات والقيم الإجتماعيه، وقلة الخبره.


2 - مقال ممتاز يبشر بكاتبة ممتازة
خليل كلفت ( 2012 / 5 / 3 - 11:13 )
إذا كان هذا أول مقال للأستاذة سها السباعى على الحوار المتمدن فإن لنا أن نتوقع منها الكثير فهذا مقال ممتاز فى عرض مقالين آخرين لكاتبتين عربيتين فى الصحافة الغربية بكل دقة وأمانة وإلمام بروحهما وتفاصيلهما وهو ممتاز بمنطقه الصارم فى التعامل معهما بالتحليل والنقد. على أن البقاء فى إطار نقد الموروث الدينى وعلم النفس الاجتماعى فى تفسير وضع المرأة فى العالم العربى أو العالم الثالث أو فى غيرهما يظل عملا ناقصا. والحقيقة أن هذا الوضع الثقافى والنفسى يظل هو ذاته بحاجة إلى تفسير اجتماعى اقتصادى ثقافى وهو ما يفسر أيضا وضع النساء فى عالم اليوم واستحالة تغيُّر هذا الوضع بعيدًا عن التطور الاجتماعى الاقتصادى الثقافى الذى يواجه فى العالم كله جبالا من العقبات. أعجبنى فى المقال وبوجه خاص أسلوبه الأدبى الرفيع فى زمن عزَّ فيه مثل هذا الأسلوب لدى الأدباء والكتاب والمترجمين العرب.


3 - نعم، أحيانًا يخشوننا
سها السباعي ( 2012 / 5 / 4 - 07:00 )
السيد كنعان الكنعاني:
أشكر تعليقك، وأتفق معك أن الخشية سبب آخر لبعذ هذه التصرفات، فالزوج لا يسمح أن تكون زوجته أفضل منه، أو أعلى ماديا أو أدبيا، وهذا راجع في رأي لنفس مبدأ التسلسل الهرمي في التعامل، إنها ليست سلسة قيادة بل يجب أن تكون مشاركة على خط أفقي واحد. إذا رسخ ذلك في الوجدان ستحل العديد من المشاكل. ولن يكون هناك أي داع لا للكراهية، ولا لحب الامتلاك ولا للخشية.


4 - شكر وتقدير
سها السباعي ( 2012 / 5 / 4 - 07:05 )
الأستاذ خليل كلفت:

تحيتي وخالص امتناني لتشجيعك المخلص. وأتفق معك ـن للموضوع جوانبه العديدة التي قد لا يمكن اللإلمام بها في مقال قصير نوعًا. أرى أننا يجب أن نتخلص من هواجسنا الباطنية ونترك خلفنا صورًا نمطية للتعامل في تحرك موازٍ للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي، مواجهة مخاوفنا ومناقشة متاعبنا الناتجة عن تمزق بين ماضٍ ذهب وحاضرٍ يفرض نفسه ومستقبل مجهول وسط تطورات يومية متلاحقة سوف يساعد كثيرًا. شكرًا جزيلاً لك.

اخر الافلام

.. الأمم المتحدة: مقتل نحو 10 آلاف امرأة في الحرب على غزة


.. ليوقع لها على قرض.. امرأة تصطحب جـ ـثـ ـة عمها إلى البنك




.. انطلاق أسبوع أفلام المرأة في الأردن


.. قصة صادمة.. امرأة تطلب قرضاً من البنك في البرازيل بجثة عمها




.. ثورة في عالم الجمال.. مسابقة ملكة جمال الذكاء الاصطناعي تقام