الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جنون العصر

محمد قرافلي

2012 / 5 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



يتخذ الجنون أشكالا متعددة في حياتنا اليومية ويلازم الإنسان في كل أحواله، ينتاب كل واحد منا في لحظة من لحظات العمر ويدفعه إلى ارتكاب حماقات تخرجه من دائرة المألوف والمعتاد، كان يعتنق في لحظة أفكارا تبدو في عرف الجميع أنها شاذة ولا تتلاءم مع منظومة القيم وتحمل بذور الجنون وتعبر عن اضطراب في الفكر والسلوك وتلك حالة يعيشها كل واحد بطريقته قد تطول أو تقصر، تحضر وتغيب. وتلف تلك الحالة الوجود الإنساني برمته وتتجلى بشكل واضح على مستوى المشاعر والانفعالات كالفرح الشديد الذي قد يؤدي إلى فقدان التوازن بحيث تجد البعض ينتشي فرحا في حضور دواعي الفرح وفي غيابها أو العكس كالغرق في الحزن والسوداوية إلى حد أن لا شئ يبعث على الفرح. مثلا حينما يستحوذ على البعض الشعور بالخوف فانه يسلبه إرادته ويجعله غريبا عن ذاته ويحوله إلى عبد لما يخافه مثلما أن استحواذ العشق على العاشق يجعله متيما بمعشوقه ويدور في فلكه دوران الكواكب حول الشمس وتجذبه جاذبية النور للخفافيش ... وقس على ذلك المنوال كافة المشاعر والقيم الإنسانية التي تحفل بها حياتنا إذ يمكن القول أنها تحمل بذور الجنون ويظل يتربص بها مادام تجاوز الحدود في تمثل ما أو اعتناق فكرة أو في الإحساس بشئ واعتباره تفريطا أو إفراطا يؤديان حتما برمي صاحبهما بالجنون. لا ريب أن اعتبر الإنسان كائنا ميالا للجنون بكونه لا يستطيع أن يحافظ على ميزان العلاقة بين تلك الحدود ويتراوح في سعيه بين الإفراط والتفريط في كل شئ ، يطلب كل شئ أو اللاشئ ، أن يكون أو لا يكون، يكون حرا أو لن يكون أبدا، إما سيدا أو عبدا... تارة تجده يطلب الفرح ولا شئ غير الفرح وتارة سوداويا لا يرى إلا السواد في النور وكلما اغرق في الحلم تراءى له الضوء في العتمة وتارة عقلانيا لا يرى إلا ما يتمثله عقله وما يقبل للبرهنة وما عدا ذلك بالنسبة له وهما وسرابا أو حسانيا ينفي ما يثبته الأول ويثبت ما ينفيه ...
نستنتج أن الجنون محايث للوجود ولا احد في منأى عنه ويتصف بالالتباس ويصعب تعيينه وإدراكه مادامت طبيعته التخفي والتستر كما ورد في لسان العرب وانه يحمل على الكائنات المرئية من جماد كقولنا ارض مجنونة دلالة على خصبها وزهرتها وعلى الحيوان مثل جنون الذباب وتعالي طنينه واللامرئية بحيث يطلق على ما هو مستتر عن الأنظار من مخلوقات غيبية. ستجهد المعاجم الأجنبية محاولة تعقب الجنون في مختلف تجلياته الفكرية والأدبية والعلمية، بحيث يشير إلى اضطراب في العقل والحكم والسلوك كما يتخذ عدة أشكالا متعددة في الكتابات الأدبية أو التأملات الدينية كالعشق إلى حد الجنون والاستشهاد في سبيل الخلاص. أما في المجال الطبي فيعبر عن خلل جزئي أو كلي يصيب الجهاز العصبي للإنسان ويؤدي إلى اضطرابات في قوى الإنسان الذهنية الجسدية والنفسية تفقده المقدرة على السيطرة على سلوكاته وتصرفاته وعلى الحكم والفعل، وقد يكون دائما أو متقطعا. وتسهب المعاجم النفسية المختصة في تصنيف أعراضه وضبط أنواعه من صرع وعصاب وذهان ووسواس قهري وهستريا وانفصام وما إلى ذلك من التسميات التي أصبحت فروعا علمية قائمة بذاتها لا يفهم لغتها إلا أهل الاختصاص.
ب- مديح الجنون
كذلك تعددت وتباينت أشكال التعامل مع الجنون بتعدد وتباين الحضارات وباختلاف المقاربات تاريخية أو فلسفية أو علمية ، تارة يتم الاعتراف به وامتداحه والنظر إليه كطاقة روحية تحريرية تختص به فئة خاصة من الملهمين وتارة يتم القدح فيه باعتباره لعنة تصيب الكائن البشري وتسلبه إنسانيته وتحوله مأوى لأرواح شريرة وقوى تدميرية تهدد الجسد الاجتماعي وتماسكه. لذلك عملت تلك الثقافات على تعقبه محاولة ترويضه وتوظيفه. واليوم تتعالى الصيحات في كل مكان مرددة أن الإنسان يعيش عصر الجنون وانه لم يعد وقفا على شرذمة نادرة من الناس بل يكاد يمثل ظاهرة تمتد إلى مختلف أشكال الوجود يمس الثقافة ويدفع البعض إلى الحديث عن جنون المثقف وجنون العظمة وجنون الحقيقة وجنون الحضارة ويطال الدين ويسهب البعض في تعداد أشكال الجنون التي تطال المتدين كجنون التعصب وجنون التوحد وجنون الانتقام وجنون الحلول وجنون الخلاص....ويحتوي السياسي ويجعله يركض خلف جنون الزعامة والسلطة وجنون الطاعة وجنون الخداع والغواية وجنون الاستبداد والتسيد.....كما يطلق البعض على العصر صفة الجنون المطلق في العري والإباحية وجنون المال والموضة وجنون التنافسية ....يظهر جليا أن الجنون قد تزحزح عن عالمه المألوف والمحدود الذي كان يخص فئة من الناس تحياه وتتكلمهم لغته ويثيرون بحماقاتهم أهل العقل وتجدهم يتضاحكون من حالهم ويسخرون منهم، وأحيانا يرمونهم بالفضلات وأعقاب السجائر وهم لا يدرون أو يتجاهلون أنهم من المجانين. ما الذي يميز الجنون المألوف عن جنون العصر؟ وبأي معنى يمكننا الحديث عن جنون العصر؟
نتحدث عن جنون العصر في كل المنابر الإعلامية ولكن لا احد يعترف أننا نحيا الجنون وأننا مجانين بالفعل بل الكل يتنكر لذلك ويجد ما يكفي من الحجاج للتبرء منه، لأنه خفي ولا يمكن معاينته بينما الجنون المألوف قد حصل التواطؤ حوله وتم تعريفه ويمثل حالات فردية معزولة هنا وهناك يمكن محاصرتها وعزلها وتحويلها إلى ورش للاختبار والتجريب. كما يمكن لأهل العرفان تشخيص علله وأسبابه برده لأسباب وراثية أو خلل في الجهاز العصبي وربطه بروح شريرة أو خلل في النمو النفسي والجنسي وفي أقصى الحالات ربطه بعوامل اجتماعية واقتصادية. أما جنون العصر فانه يمثل ظاهرة جماعية إن لم نقل كونية تختلف حدتها من مجتمع لأخر، كيف يمكن التعامل معه إذا كان كذلك؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟
كل من يستقرئ تاريخ الإنسان تنكشف له تابثة ملازمة لعلاقة الإنسان بالجنون تكمن في كون الجنون يمثل قاعدة عامة مقابل اليقظة الفكرية والحكمة التي تكاد تشكل الاستثناء وان لعبة الجنون متبادلة بين مختلف الأطراف بين الحاكم والمحكوم بين أهل الفكر والحكمة وبين أصحاب الرأي وعامة الناس بين المتمردين والخانعين..... وتشهد على ذلك السير الذاتية للمفكرين بحيث تم رميهم بالجنون واتصفت أفكارهم بالجنون، والتاريخ يحفل بنماذج مثيرة كما في ملحمة الخلق جلجامش والاتهامات المتبادلة بين من أعلن التمرد ومن برهن عن الولاء والطاعة، ونفس المنطق نجده مع الفلاسفة كطاليس الذي اتهمته جاريته بالتيه وعدم قدرته على إبصار موطئ قدميه وبالمقابل سخرية طاليس من لهث اليونانيين خلف جنون الثروة وعدم قدرتهم على رفع أعناقهم، أو سقراط الذي حاكمه المجتمع الإغريقي بالجنون وبالمقابل سخرية سقراط من عدالة الإنسان اليوناني المجنونة ومن جهله بحقيقة الآلهة التي يتقرب منها ويدعي كبرياء انه حارسها وان ما يهمه في الواقع إشباع نزواته وإرضاء غروره، ساخرا من محاكميه وجلاديه بالقول "ما أروعك أيها الإنسان اليوناني، تنتمي لأعظم مدينة والأكثر شهرة بمعارفها وقوتها ومع ذلك لا تستحي من الجري وراء تحقيق المزيد من المال والسمعة والألقاب، أما حينما يتعلق الأمر بالحكمة والحقيقة وبذل الجهد لاستكمال روحك لا تعبأ البتة لذلك"
كما يسجل التاريخ الفلسفي جنون ديوجين الذي فاق كل الحدود وأصبح شخصية رمزية مفاهيمية ألهمت العديد من أهل الفكر لأنه لم ينف جنونه بل اعترف به وجعله فلسفة في الحياة. استولت عليه لغة الجنون وأصبحت تتكلمه أكثر مما يتكلمها لذلك نجح في زعزعة أبجديات اللغة اليومية وتحرر من نحوها ومنطقها ضاربا عرض الحائط بالسلطة الفكرية للفلاسفة اليونان ومسفها كل قيم وأحلام الإنسان اليوناني إلى حد النيل من الاسكندر قائلا له "تنحى من أمامي انك تحجب الشمس عني" الأمر الذي دفع الاسكندر إلى الإعجاب بقوة شخصه . لم يتوانى لحظة من النيل من الإرث الفلسفي اليوناني واضعا مقابل نموذج حياة الآلهة حياة كلبية كأنه يواجه جنون المجتمع اليوناني بجنون بديل اشد جرأة وأكثر فعالية. فإذا كان أفلاطون يمتدح الروح ويعتبر التطهير العقلي والروحي أسمى ممارسة فلسفية ويشترط في أكاديميته ضرورة تعلم الرياضيات فان ديوجين يتمرد على تعاليم الأكاديمية وينزل الفلسفة إلى اليومي والعابر والهامشي ويربطها بالإنسان الحافي والعاري، وإذا كان الإنسان في نظر أفلاطون هو كائن طائر محلق في فضاء الأفكار والمثل فإن ديوجين يسخر من تلك الحقيقة أمام الجمهور بحيث يأخذ ديكا وينتزع ريشه معلنا أن "هذا هو الإنسان عند أفلاطون".
يتبين من خلال الأمثلة أعلاه أن لعبة الجنون تبادلية بين مختلف الأطراف وانه يختلف في حضوره من حيث الاعتراف به وتهذيبه وتوجيهه، فهناك من يعترف بجنونه ويحوله إلى حكمة وسلاحا للمواجهة وهناك من ينفيه ويدعي انه اعقل العقلاء ومصدرا للحكمة والحقيقة. تتداول الكتابات التراثية حكاية تعبر عن حالة الاتهام المتبادل بين مختلف الأطراف، إذ مرت عجوز ساحرة ببئر القرية وألقت فيه سما فأصيب كل سكان القرية بالجنون إلا الملك والوزير. أخذ أهل القرية يهتفون بان الملك والوزير قد أصيبا بالجنون ويجب قتلهما، فما كان من الملك والوزير إلا أن شربا بدورهما من البئر وهكذا احتفل الكل بالجنون. ترى ما الذي يميز الجنون المالوف عن جنون العصر؟ وما مصوغات مقارنة الجنون المألوف بجنون نكرة وغير مصرح به ؟
ج- جنون العصر
يتميز الجنون المألوف( ما يتعارف عليه مجتمع ما ويدرجه في خانة المرضي) بتلقائيته وعفويته ولا أدل على ذلك من أن أصحابه يتمتعون بروح الطفولة وعفويتها بينما جنون العصر( ما يطلق عليه مجتمع ما اصطلاحا وتجاوزا جنونا) يغرق في التصنعية والافتعالية غائبا حاضرا يتقنع باستمرار إلى درجة يبدو مخطط له وموجه،فالأول يطال فئات محدودة وعدواه تظل محدودة بينما جنون العصر يكتسح فئات عريضة وتفوق عدواه سرعة الطاعون، فمثلا جنون التسلط والسيطرة على الأخر يسري في دماء من يتعاطى السياسة ويرافقه في كل أحواله ولا حدود لعدواه، والحضارات تباينت عن بعضها البعض على مستوى ترويضه وتهذيبه وتقنينه، فلا ريب أن لزم عنه الحديث عن شعوب همجية ودموية وأخرى متمدنة ومتأنسة، وتسعى الشعوب الى التفاضل في ذلك. يحتفي الجنون المألوف بالحياة ويضفي عليها المعنى بالمقابل فان جنون العصر لا يكتفي بنشر الأوجاع والمرارة بل يتفنن في تدمير كل أشكال البراءة ويسرق البسمة من شفاه الصغار قبل الكبار مادام عالم الطفولة مقياسا حقيقيا لإدراك مدى الوجع ودرجة المرارة التي يسببها جنون العصر والتي تصل في مجتمعاتنا إلى حد لا يحتمل. كما اعتبر الجنون المألوف مصدرا للحكمة" اعقل الحكمة من أفواه المجانين" ونفحة إلهية ومصدر الهام للعديد من المفكرين والأدباء كنزار قباني الذي يقر أن "الجنون وراء نصف قصائدي أوليس في بعض الجنون صواب" ؟! ونمط حياة في التمرد على المألوف والاعتيادي وخرق منظومة القيم أو بعبارة أوجز فلسفة في الحياة بخلاف ذلك فإن جنون العصر يمثل نزوعا تدميريا لمصادر الحياة وسياسة تسلطية وان احتمى بالعقل ورفع شعارات القيم الإنسانية كالحرية والعدالة والمساواة، ولا ادل على ذلك ما تتخبط فيه الشعوب العربية من اختلالات واضطرابات فكرية واجتماعية واقتصادية. إذا تقرر أن الجنون المألوف قد تمكن البعض من التحكم فيه ومحاصرته بألاعيب التحليل النفسي وبمهدئات النوروبيولوجيات وأنواع الرقيات وصيحات موضة اليوغا والسفريات فان جنون العصر قد توغل في الجسد الاجتماعي وتحول إلى وسواس ينخر قوى ذلك الجسد، بل الأمر من ذلك يتم توظيفه لأجل تفكيك الجسد الاجتماعي بغية إحكام السيطرة عليه ورغبة في إشباع فئة من الذئاب الجائعة ومتعطشة للدم البشري. شتان إذن بين جنون عفوي يتناغم مع أصوات الكون وينفتح على الكائنات ويضفي عليها المعنى ويحررها من رتابتها وبين جنون ماكر وخبيث في نظرته وتسلطي في سياسته وأناني مفرط في الأنانية والعنصرية وأداتي نفعي في نزعته.
لن يبقى مجال للشك أن الواحد منا واقع لا محالة في الجنون مادامت جاذبيته وغوايته تدفعان كل مقاومة وما دام العصر يقر بذلك، وعليه فان كل واحد إما حاملا لبذور الجنون وقد يأتيه المخاض في أية لحظة من الزمن عند الصباح أو في المساء، في ربيع العمر أو خريفه، وعلى أية حال نائما أو يقظا، عاقلا أم حالما، ومهما على شانه، فقيها أو فيلسوفا، حاكما أو محكوما، متعلما أو إنسانا عاديا، أو يكون محمول الجنون من حيث لا يدري يسبقه ويتكلمه ويلف جسده ويدفعه إلى أن يدعي انه سيد العقلاء. أو قد يكون هاربا من الجنون ينزعج عند سماعه ويشمئز من منظره ويتفادى سلوك دروبه مخافة مصادفته والاحتكاك به، تحول إلى كابوس يطارده باستمرار مثل ظله، أو يكون مقدما عليه يقتفي أثره وحيث هو مطلوبه يفتقده ولكن هيهات بين الطالب والمطلوب هوة. وإذا كان ولابد من الجنون فما عليك إلا أن تختار شكل الجنون ومادمت فيه يتبقى أمامك الانزياح والانتقال من حال إلى حال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران