الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحية لمن جدد فينا الأمل

عدنان عاكف

2012 / 5 / 6
الحركة العمالية والنقابية



انطلقت المسيرة من امام المسرح الوطني باتجاه ساحة الاندلس عبر ساحة كهرمانة. سبق لي ان شاركت خلال الأشهر الأخيرة في العديد من الفعاليات والنشاطات الجماهيرية التي نظمها الشيوعيون والتيار الديمقراطي. ولكن لم أرى من قبل هذا التواجد الكبير للمرأة والأطفال بين المحتفلين، مما أضفى الكثير من معالم البهجة ومنح المناسبة ما تستحق بكونها عيدا للشعب بأسره، وليس للعمال فقط.
بعد أقل من خمسين خطوة شعرت ان أحدهم يربت على كتفي. كان الصديق أبو ليث. فرحت للقائه. صافحته وقلت:
ماذا تفعل في مسيرتنا أيها المهندس البرجوازي المتقاعد ؟
ضحك صاحبي حتى اكتسب وجهه لون الرايات التي ترفرف حولنا. مَدَ اليّ يده وأعطاني علما أحمرا وقال وهو يضحك :
- وهذه هدية متواضعة من البرجوازي الصغير الى الرأسمالي الكبير، القادم الينا من خلف بحر الظلمات.
بعد دقائق لم يعد بجواري. وجدت نفسي بين مجموعة من النساء والصبايا وسط اللون الأحمر الزاهي، وهن يصفقن ويرددن بعض الأغاني والهوسات.
واصلت مسيرتي وأنا أحاول ان أتمتم بكلمات " الهوسة ". لاحظت ان شيخا وقورا، بزيه الشعبي، ليس بعيدا عني كان يرمقني بنظراته. ما أثار انتباهي انه لا يتوقف عن الغناء، وبصوت مسموع. في هذه اللحظات عاد أبو ليث وهو يحمل في عينيه، وبين التجاعيد التي تغطي وجهه المُحمر الكثير من المرح. حين توقفنا عن الحركة اقترب العجوز من أبي ليث، ثم مد اليه يده و قال بدون مقدمات:
- أين عثرت على برميل الكآبة هذا؟ هل جئت به كي يعكنن على فرحتنا في هذا اليوم ؟ ضحك أبو ليث وكأنه سمع نكتة من النوع الذي لا يروى إلا في مجالس خاصة ، وقال:
- إطمأن يا عم! الكآبة ليست من الأمراض المعدية ولن تعكنن إلا على صاحبها. ومشكلة صاحبنا انه من النوع الذي يشار اليه ويقال له: لا تبحث عن النكد، فهو يعرف عنوانك. ضحك الشيخ وقال وهو يخاطبني :
- ما بالك يا رجل مكفهر الوجه هكذا؟ أنا أكبر منك بكثير، ولكني أكثر شبابا. هيا غني وامرح مع الجميع. انه يوم واحد ولن يعود إلا بعد سنة من الغم والهم والحسرة.
أخذت يده بين يدي وصافحته بحرارة، وكنت أحس بان ابتسامتي تتسع لكل من كان في المسيرة. لكني اعتذرت عن المشاركة في الغناء، لآني لا أجيده، إضافة الى ان صوتي كذاك الصوت الذي يضرب به المثل ولا يُحتمَل. لكن صاحبي لا يريد ان يسمع:
- كل الأصوات هنا تصلح للغناء. كل يغني حسب ما رزقه الله من مقدرة. قاطعه أبو ليث قائلا:
- رحم الله والديك. ثم التفت الي وقال: هل نسيت يا رجل : مِنْ كـُل حسب طاقته. انبرى له الشيخ مقاطعا وهو يضحك:
- عاش لسانك! أليس هذا ما كان يضحك به الأفندية، من أمثاله ، على ذقوننا أيام زمان ؟؟
ودع أبو ليث العجوز و واصل سيره.
وصلنا الى ساحة الأندلس. عندما بدأ الناس يتوافدون الى الساحة اكتشفت ان صاحبي لم يكن حالة فريدة ولم يكن الأكبر سنا بين الحضور. التقيت بمن هو عاجز عن المشي إلا بمساعدة عكازة، او الى مساعدة شخص آخر.
أمام مقر الحزب الشيوعي أعطى عريف الحفل الكلمة للمتحدث الأول.. مع ان التظاهرة لم تستغرق وقتا طويلا لكني كنت أشعر بالتعب. وجدت على الرصيف مصطبة يجلس عليها عسكري شاب مدجج بالسلاح. ألقيت عليه التحية واستأذنته بالجلوس. بعد قليل خرج صاحبي العجوز من بين الواقفين وتوجه نحو ثلاثة أشخاص بملابس شعبية كانوا يقفون على بعد أمتار منا. توقف العجوز وراح يعانق الواحد بعد الآخر.
من أنت يا فيلسوف أيام زمان وهذا الزمان ؟ من أنت أيها الرفيق الذي عجز مسؤلك الحزبي ومعه المشرف باقناعك انه سيأتي يوم يتصرف فيه ابن آدم حسب التوازن بين حاجاته وطاقاته. وأشهد انك وانا وهناك الكثير معنا حاول ان يقتنع بما كانوا يحاولون اقناعنا به لكنهم لم يفلحوا، ليس بسبب عناد منا، بل لأن الحياة بكل قساوتها ورعونتها كانت أقوى منهم ومن الشعارات. كانت الدنيا مصرة على اقناعنا بعكس ما كنا نود ونرغب ان يكون. يوم بعد يوم تتعزز في عالمنا روحية الجشع والأنانية، حتى لم يعد هناك حدود للحاجة ولم يعد وجود لشيء اسمه العطاء. ومع كل يوم يزداد عدد من يسعى للحصول على كل شيء، لكنه، في المقابل، ليس على استعداد لتقديم أي شيء.أتذكر الأغنية :
في ناس بتحب تأخذ كل حاجة
مع انها مش محتاجة
وناس بترضى بأي حاجة
في عز ما هي محتاجة
وناس تدي وتنسى
وناس تأخذ وتنسى
وناس تدي وتندم
ويا ريتها بتدي حاجة
ومع ذلك ما تزال تجد القدرة على الفرح وان تعلم الأفندية كيف يمكن عشق الحياة ، بالغم من قساوتها. ما الذي جاء بك الى هنا؟ لم يكن من الصعب علي ان أجد الجواب، لكونه عالق في ذاكرتي، بالرغم من ضعفها. لقد سمعت الجواب قبل أيام فقط يتردد في نص قرار الحكم الذي أصدرته محكمة بداءة الكرادة أصبح بموجبه الانتماء للحزب الشيوعي يعني ان من ينتسب اليه هو معارض لنظام حكم صدام حسين. هؤلاء الكهول الشباب الذين يقفون أمامي هم مِنْ بين مَنْ أفنوا حياتهم في سبيل هذا الوطن الذي خرجوا يغنوا له اليوم مبتهجين بعيدهم، بالرغم من كل ما يعانوه هم وعائلاتهم من ضنك العيش. جاؤا الى هنا مع ان كل منهم يعلم علم اليقين بان الانتماء الى المجموعة التي ينتمي اليها " لم يوفر له مكاسب مادية او وعودا آخروية " كما ورد في قرار حكم المحكمة !!!
تسلحت بهذا الحكم وقررت مواجهة العسكري الشاب الذي يجلس جنبي وبيده الكلاشنكوف وقلت :
هل لي ان أطرح عليك سؤالا، وتستطيع ان لا تجيب عليه ان شئت. هل ترى الرجل العجوز الذي يقف أمامنا ؟ برأيك ما الذي جاء به الى هنا في هذا الحر ؟ كنت أتوقع كل شيء إلا تلك الضحكة التي جلبت الينا أنظار القريبين منا. بعد ان توقف عن الضحك قال :
- المعذرة يا عم. كان من الأجدر لو طرحت هذا السؤال على نفسك ؟ ثم انفجر بالضحك ثانية. بدأت ضحكته تنرفزني، فقلت:
- اسمع يا هذا! لو تمعنت جيدا وتأملت الوجوه بدقة ستجد انه يكبرني بالكثير الكثير.
- هو أكبر منك بالتأكيد، ولكن ليس بالكثير الكثير. بذل جهده كي يحاصر الضحكة قبل ان تنفجر ثانية وقال: لست متأكد من اني سأنفعك في هذا الأمر. ومن الأفضل لو تسأل السياسيين ممن يشاركون في هذه المسيرة، فهم أعرف مني.
- انا لا أريد ان أسمع جواب من هو أعرف وأفهم منك، وأعرف جيدا ما سوف يقولون. أريد سماع الجواب منك.
- حسنا! ولكن إياك ان تسخر مني. أعتقد ان الذي جاء به الى هنا هو صوته. يريد ان يصرخ بصوت عال كي يسمعه الناس.
- ولكن ماذا لو ان أحدا لن يسمعه ولا يوجد من يريد ان يصغي اليه؟
- اتفقناعلى سؤال واحد، لكنك تبدو طماع. هو يعرف بالتأكيد انه كمن يصرخ في الصحراء. انه يتحدث بصوت عال منذ عشرات السنين، ومع ذلك يصر على مواصلة الكلام ، ويبقى على أمل.أعرف أمثال هؤلاء جيدا. انهم أهلي وبينهم نشأ أبي وجدي.
- يبقى على أمل بماذا ؟
انهم يعيشون على الأمل. نعم ! لا تنسى الأمل أيضا. بدون أمل سوف يَبحُ الصوت ويتوارى صاحبه غارقا في اليأس. الآلاف بحت أصواتها، بعد ان فقدت الأمل فانزوت في بيوتها تاركة أمرها للخالق. لكن هؤلاء كما يبدوا من النوع الذي يتمسك بالأمل بعناد. نعم ! الصوت والأمل، هما من دفع هذا العجوز ورفاقه الى هنا. اذا بَحَ الصوت فالأمل يعيده من جديد.
- لكنك لم تـُجيب على السؤال. الأمل بماذا ؟
- دعك من هذا . بدأت تسخر مني. تمعن جيدا في عينيه وفي تجاعيد وجهه وستعرف ان أحلامه بسيطة. الأمل في أشياء كثيرة كان يتمناها . ولكن يبقى الأمل الأكبر في ان صوته، في يوم ما، سوف يقتلع الطين والعجين من آذان من بيده الحل والربط. وحتى ان لم يحصل ذلك في الغد فهناك أولاده آتون لا محال، ومن بعدهم أحفاده!!
استأذن بالانصراف ونهض. صافحته وشكرته وأهديته نصف الابتسامة التي قدمها لي الشيخ قبل قليل، وقلت وانا أتطلع في ظهره الذي كان يبتعد عني ببطء:
- ان كان بيننا فيلسوف فهو أنت!!ّ
شكرا لذاك العجوز الشاب الذي زرع على شفتي ابتسامة كنت بأمس الحاجة اليها، وشكرا لك أيها الفيلسوف العسكري المجهول لأنك زرعت في نفسي الأمل بعد ان كادت ان تجف، وتحية لعمال العراق في عيدهم الذي سوف يبقى يجدد الأمل فينا، لبناء وطن الحرية والعدل والحياة الكريمة لكل العراقيين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاستاذ عدنان المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2012 / 5 / 6 - 05:40 )
تحيه وشكر
اه يا هلذكر
كل البشر بيه تحتفل تفتخر
شكَد رادوا أيمسحونه
بس محد كَدر
تجالبوا من كتر
اقطاب شر
وائمة كفر
وجمعوا اوياهم كل قذر
و محد كَدر
ظل صامد جَسِرْ
اتسلح بالحقيقه والجهد والصبر
وانتشر
ونشر اطيب او احسن عطر
الناس بيه تتعطر


2 - تحياتي
شامل عبد العزيز ( 2012 / 5 / 6 - 11:09 )
هل الدكتور هو أحد الحضور في المسيرة التي انطلقت من المسرح الوطني ؟
هل هي رواية عن أحد ؟
هل هو تخيل لهكذا مسيرة ؟
مهما كان الجواب ,, المهم هو الأمل ولكن ؟
الأمل قد يبدو طويلاً في ان يتحقق وقد يبدو بعيد المنال ؟
الأمل والأحلام مطلوبة ولكن تحقيقها هو المهم
قد تبدو بعض الأفكار مثالية نتيجة الأمل او الحلم
النظرية والتطبيق
نظرية بدون تطبيق هي المثالية
تطبيق بدون نظرية لا نتائج
أمنياتي بعراق متجدد للجميع
تقديري

اخر الافلام

.. صدامات بين طلبة والشرطة الإيطالية احتجاجا على اتفاقيات تعاون


.. التوحد مش وصمة عاملوا ولادنا بشكل طبيعى وتفهموا حالتهم .. رس




.. الشرطة الأميركية تحتجز عددا من الموظفين بشركة -غوغل- بعد تظا


.. اعتصام موظفين بشركة -غوغل- احتجاجا على دعمها لإسرائيل




.. مظاهرات للأطباء في كينيا بعد إضراب دخل أسبوعه الخامس