الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة الجنون ولذة العسل ..في مسرحية أيام الجنون والعسل

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2012 / 6 / 13
الادب والفن


يغادر العقل البشري سفينة المجانين التي أبحرت في العصور الوسطى .. والتي باتت تشكل واحدة من اساطير التأريخ البشري الذي ترتفع الاصوات فيه اليوم مطالبة بحقوق الانسان ، ذلك الكائن البشري الذي قررت المؤسسة الدينية في أوروبا القديمة التخلي عنه ، والعمل على حشره في سفينة تتجه إلى البحار المجهولة، وبحسب (فوكو) فإن "سفينة المجانين تلك قد فقدت نقطة الإرساء النهائية فتحولت إلى قدر سيزيفي دائم التجدد " .
ولم يكن فن المسرح بعيدا عن تلك الشخصيات التي حملت في عقولها المضطربة العديد من الفرضيات الفكرية كما هو الحال مع مسرحية (مارا صاد ) للكاتب الالماني (بيتر فايس) وغيرها من النصوص الدرامية التي باتت تشكل علامة فارقة في المسرح العالمي ، وقد تنوعت التجارب المسرحية العراقية في تقديم هذا النمط من الشخصيات التي تثير الجدل في سلوكها على خشبة المسرح ، ولعل من أبرز تلك التجارب مسرحية (المجنون) التي أخرجها الراحل (قاسم محمد) وجسدها الراحل أيضاً (حامد خضر) وغيرها من الشخصيات التي عمل المخرج العراقي على تقديمها بأشكال ورؤى متباينة وصولا إلى تجربة الاستاذ (سامي عبد الحميد) الذي يقتحم هذا العالم الانساني بما فيه من تناقضات وذلك من خلال إعداد رواية (الجنون والعسل ) تأليف (خضير ميري) وتقديمها على قاعة منتدى المسرح في بغداد مؤخرا.
تختلف هذه التجربة عن غيرها من التجارب المسرحية التي تناولت الموضوع ذاته على الرغم من وجود الشخصيات النمطية ذاتها التي تتوافر في المكان / المستشفى النفسي الذي بات هو الآخر يشكل إيقونة واضحة المعالم والدلالات وذلك من خلال المفردات التي تتوافر فيه سواء على مستوى القطع الاكسسوارية او البيئة المكانية، إلا ان منظومة الاختلاف تكمن في ان المخرج أفاد من المتن السردي المحلي الذي عمل (خضير ميري) على تأسيسه إبتداءا وعمل الاستاذ (سامي عبد الحميد) على اختزاله داخل فرضيات العرض المسرحي مستخدماً لذلك عددا من التقنيات التي تقف في مقدمتها قدرته على توظيف الوثيقة التاريخية التي إشتغلت داخل العرض على مستوى النص الوثائقي المرتبط بالذاكرة الجمعية العراقية والمتمثل بالحرب التي وقعت على العراق عام (1991) والتي كان المرضى في مستشفى (الشماعية) شريحة بسيطة من ضحاياها .. وقد عمل المخرج على توظيف هذه الحادثة داخل منظومة العرض البصرية على نحو خاص وقد بدا ذلك واضحاً من خلال بيئة العرض التي أفاد المخرج من توظيف المكان /التقليدي المتمثل في المنتدى التراثي وتحويله إلى مكان يقترب من السجن أكثر مما يقترب من كونه مؤسسة طبية تعنى برعاية المرضى .. وقد يبدو في ذلك إحالة من نوع أخر ترتبط بالنظام العسكري الذي حكم البلاد في تلك المرحلة الذي كان يعد المرضى النفسيين خطرا على الامن والمجتمع ، وهي فكرة ليست بالبعيدة عن المنظور العالمي الذي إقترح القائمون عليه في العصور الوسطى فكرة سفينة المجانين التي تجوب البحار ، والتي عمل فيلسوف الجنون (ميشيل فوكو) على دراستها في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) ومن جهته فإن المخرج يؤكد على وجود السجن بوصفه بديلا عن المستشفى ، ولذلك نراه يعمل على تطوير الدلالات التي تطرحها الازياء المسرحية ، وذلك من خلال تغيير النسق اللوني التقليدي الذي تقترحه المؤسسة الطبية في المستشفيات التقليدية والذي غالباً ما يتجه نحو اللون الابيض الذي يثير في نفوس المرضى الهدوء والسلام ، أما في السجن / المستشفى فإن المخرج يقدم لنا منظوراُ دلالياً مختلفاً ذلك أنه عمل على تحويل الازياء إلى سجن واضح المعالم والدلالات وقد تمثل ذلك في الالوان القاتمة التي استخدمت وكذلك الخطوط السوداء التي حشرت الشخصيات خلفها لتكون سجنا انفراديا لكل واحد منهم ، فضلا عن ذلك فإن المخرج عمل على تأسيس سجن خارجي يعزل فيه الممثلين / المجانين عن المتلقي من جهة وعن باقي الشخصيات السوية من جهة اخرى والتي تمثلت في (الحارس ، الطبيب ، الممرضة ، موظفو الصليب الاحمر) فضلا عن ذلك فإن المخرج لجأ إلى توظيف تقنيات المسرح التسجيلي والتي تمثلت في الاشتغال على تقنية (المسرح داخل مسرح ) وهي تقترب بذلك من مسرحية (مارا صاد ) التي سبق ذكرها ، أما على المستوى السينوغرافي فقد عمل المخرج على الكشف عن عمق الخراب الذي وقع في المكان بعد ان قصفته الطائرات وقد بدا ذلك واضحاً من خلال توظيف (الجنفاص) الذي بدا محترقاً ومتهرئا فضلا عن وجود بقايا الاعمدة الكونكريتية المحطمة والتي دفعت المتلقي إلى مغادرة الاداء التمثيلي من اجل أن يسترق النظر إليها ذلك انها كانت بعيدة عن مستوى نظر المتلقي وتقف شاخصة بمعزل عن البيئة التي كان يفترض أن تكون منسجمة معها ومكملة لها .
إن إعتماد المخرج على الاداء الجماعي من خلال تدريب عدد من الممثلين الشباب حمل معه الكثير من الاضافات التعبيرية ، فضلا عن ذلك فإن توظيف المخرج للاغاني التراثية ومحاولة مزجها مع الاحداث المعاصرة والتي جاءت منسجمة في كثير من المواضع إلا ان الامر لم يكن يخلو من التكرار في السلوك والحركات التي احالت العرض في بعض أجزاءه إلى فوضى .. وقد يكون للمخرج تفسيراً لذلك لاسيما ونحن نتحدث عن مستشفى المجانين الذين لا يمكن الامساك بسلوكهم ، إلا اننا نعتقد ان العرض المسرحي هو القدرة على تنظيم العناصر على خشبة المسرح والتي يعد الممثل/ الشخصية أحد اهم تلك العناصر التي تمتلك القدرة على التنظيم بما ينسجم مع إيقاع العرض المسرحي ، من جهة اخرى فإن شخصية (خضير ميري) التي جسدها الفنان (سلام داغر) كانت قريبة إلى شخصية (خضير) في الحياة الطبيعية الآنية.. ذلك انها كانت تحمل في طياتها الكثير من هدوء المفكر العارف بما يدور حوله .. وذلك لم يكن متوافقاً من تلك الشخصية التي سكنت المصحة / السجن في تسعينيات القرن الماضي، كما ان شخصية الفنانة (سوسن شكري ) حملت معها نمطاً تقليدياً من الاداء التمثيلي خاطبت فيه مشاعر المتلقي من دون ان تسعى إلى إيقاظ عقله الغائب عن ضحايا هذا المكان ، وهي بذلك الاداء تغادر الأسلوب التسجيلي في الاخراج ، كما أن شخصية الطبيب التي قام الممثل (وسام فاخر) بتجسيدها ومساعدته التي جسدتها الممثلة (شيماء شوكت) لم تكونا منسجمتين مع حجم المأساة التي وقعت في هذا المكان ، على الرغم من إدراكهما المهني المفترض لحاجة المرضى إلى الرعاية الطبية الخاصة ، إلا ان الاداء التمثيلي لهما كان بعيدا عن ذلك التفاعل الانساني بين الطبيب والمريض.
أن اقتحام عالم الجنون ومحاولة تفكيكه في ظل عالم لا يكاد العاقل فيه يدرك ما يجري، يعد مغامرة في سفينة مجهولة .. ربانها مجنون وبحارها عميقة .. يا ترى أين المستقر أيها العقلاء؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته


.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع




.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202