الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تباينات سوسيولوجية وارهاصات ثورية في المجتمع السوري

عماد يوسف

2012 / 7 / 11
مواضيع وابحاث سياسية



تتباين المجتمعات في تركيبتها، تتحدد هذه التباينات تباعاً، عبر الموروث الثقافي والديني، وبمدلولات أقل العامل الاجتماعي. كما يؤدي التنوع البيئي الجغرافي، الذي يشكّل جامعاً كبيراً لشرائح بشرية بعينها، وظيفة مفصلية بين هذا وذاك. حيث يكون العامل الحاسم في تحديد مساراته وخياراته التالية في قضايا الحياة المصيرية. من مثل؛ نظرته إلى الآخر المختلف، انتمائه الوطني أو القومي، مرجعيته الدينية، مرتكزاته الإنسانية، وفاعليته الاقتصادية وخصوصيتها.
تندر المجتمعات في العالم التي تتشابه والتركيبة الاجتماعية السورية، من حيث قربها أو بعدها الحضاري من مدلولات، أو محددات اجتماعية بعينها، بحيث يعكس ذلك التنوع تأثيرات أنتروبولوجية موغلة في القدم. إلى جانب مؤثرات حضارية مشبعة بصورة "العصرنة". أو النمط الحداثوي في العيش، والتفكير. فما يمكن أن يكون ثورة – على سبيل المثال- في جزء منها، يشكّل مدلولات للغوغائية والهمجية في مكان آخر من جغرافيتها. وما يمكن أن يكون دولة في بعضِ من أرضها، يمكن أن يكون إمارة متسلطة في موقع آخر. أمّا التعاطي الثقافي البيني الذي يجمع بين شرائحها الاجتماعية المتنوعة، فليست سوى معايير للتعاطي الفوقي النخبوي، أو الدونيّ، في تمايزات اجتماعية جليّة. ما لا نلحظه في مجتمع كالمجتمع السعودي، الأكثر تجانساً، مع عدم توفر هذه العوامل في المصري المتجانس بغالبيته، مع بعض التباين. أوفي المجتمع الجزائري، التونسي، الخليجي بشكل عام، أو المغربي، وصولاً إلى دول أفريقيا، والكثير من دول آسيا. بينما تتحد بعض هذه التشابهات في مجتمع كالمجتمع اللبناني، الأردني، والتركي. وفي جزء منها، المجتمع العراقي في عهد حزب البعث.
تعرّي، وتعمّق الأزمات الكبرى هذه التباينات، والتمايزات الواسعة. مما يجعلها، في غياب الثقافة الوطنية المدنية الجامعة، صاحبة التأثير الأكبر في تكوين مسار هذه الشرائح الاجتماعية المتنوعة. وبالتالي تفاعلها، وتعاطيها مع الحدث العام، باعتباره، تهديداً مباشراً لوجودها. أو تغييرها، أو نصرةً لها، أو تغييراً خارج اطار المألوف العام. ما يجعلها تنكفىء وتتخفى خلف مكنوناتها التي تحقق لها عامل الأمان. المتمثل في الإنضواء في عباءة الدين، المذهب، العائلة، الطائفة، القومية، أو العشيرة. وتتعاطى مع هذه الأزمات عبر قربها أو بعدها منها ومن نارها التي تلوح في الأفق العام. ينطبق هذا على الأقلّيات، المذهبية، الطائفية، الدينية، والإثنية. وبجزء منها على الشرائح الاجتماعية المتجانسة، التي تشكّل أغلبية في المجتمع، ولكنها تكون من أصحاب الوجاهات المناطقية، والامتيازات الاقتصادية، والمالية. فتتعاطى مع هذا الشأن بنفس منطق الخوف والهلع، ولكن الأسباب الموجبة تكون أقل عمقاً ودلالةً. وهي تمتلك آليات الإلتفاف المرن على هذه التحوّلات. لذلك تجدها تتفاعل بارهاصات أقل خوفاً، وانكفاءً. حيث تتماهى بين تمفصلات السالب والموجب، النفي والإيجاب، والقبول والرفض. وصولاً إلى لحظة الحسم التي تساهم فيها هي نفسها، أو ربما تكون هي نفسها الحاسم الأكبر لهذه التحوّلات البنيوية العميقة.
تجمع سوريا البدو وأهل المدن، وما بينهما. العلمانيين والملحدين وما بينهما. أصوليين، وسلفيين، ومدنيين وغيرهم. إسلام، ومسيحيين ويهود. سريان، آكّاديين، وآشوريين. عرب وأكراد وتركمان وأرمن. أهل السنّة، والشيعة، والعلويين والإسماعيليين والدروز والمرشديين. وتنويعات طائفية وإثنية أخرى متناثرة هنا وهناك على امتداد الأرض السورية، الواسعة حضارياً، الضيّقة جغرافياً. هذه الإنتماءات، ماقبل الوطنية جميعها، تشكّل بمجملها عوامل تحدي عميق باتجاه أي مشروع تغيير لا ينسجم مع اطارها ومحددها الاجتماعي الذي رسمته عبر سنوات طويلة من وجودها في نفس البقعة الجغرافية، وتحقق توازنها الطبيعي من خلاله. هذا الإطار الاجتماعي- السياسي امتد ما يقارب النصف قرن، وهو عمر النظام السوري والذي كان من المفترض أن يحوّل سوريا إلى مجمّع سوري بإمتياز، مبدداً هذه التباينات والفوارق الاجتماعية في عباءة سورية واحدة، تؤسس الحاضنة الوطنية، العميقة، عنواناً عريضاً لوجودها، وانسجامها فيه، ومن خلاله..؟
الأزمات العميقة في المجتمع السوري، تشابهت مع الكثير من أزمات العالم العربي، لذلك كان الشرط الاجتماعي للتغيير قائماً. يستعر كما الجمر تحت الرماد ويتحين الفرصة التي وصلت إليها عدوى التغيير. فسوريا تُشبه مثيلاتها من الدول العربية في نظام الحكم، وفيما عدا تموضعها الجيو- سياسي الذي جعل منها بقعة صراعات تتطلب توازنات عديدة، بين الشرق والغرب، والعرب وإسرائيل، وتركيا وايران. ومشاريع المد المذهبي التي تتأجج نيرانها يوماً بعد يوم. فيما عدا ذلك، فسوريا تنتمي إلى نفس العائلة المأزومة، في بنيانها المجتمعي، وفي شكل الدولة الوهمي. والذي يصبح ناراً حارقة في وضع كهذا نظراً للتنوع الفسيفسائي البشري، والموقع الجغرافي، والملّفات الساخنة التي تتحكم بها، فتحقق توازن وجودها، ومعادلات الصراع في المنطقة من خلالها. يرتبط ذلك كلّه، بنظام يستشرس للإمساك بزمام الأمور ومقدّرات الدولة والمجتمع، ويسعى إلى توظيف تناقضاته، لدعم أجل أطول لبقائه في السلطة. نافياً بذلك أي تنوع، أو مشاركة حتى مع من تتشابه معهم في توجهاتهم السياسية ورؤيتهم للصراعات الكثيرة في المنطقة.
قَدَرالسوريين، أن يسعوا إلى التغيير، ولكن هل كانت الشروط والحوامل الاجتماعية مهيئة لذلك؟ هذا سؤال يستحق الدراسة والتمحيص، وهو يعكس أهمية الواقع السوري من حيث تبايناته السوسيولوجية في المستويين، الأفقي والعمودي! فقد نظر "السنّيّ " المدينيّ، إلى التغيير القادم، أنه ضرورة تاريخية تستوجبها كل الشروط المحيطة والواقع الأليم المُعاش لجهة سيطرة فئة من النخبة السياسية على القرار، الاقتصادي، السياسي، العسكري، والاجتماعي. لكّنَ شريحة عريضة من هذه الطبقة " المدينية" اختلفت حول شكل التغيير وآفاقه، فبين مستفيد من النظام، وبين شريحة موظفين واسعة، تنوعت الرؤيا، حول الآليات التي يجب أن يتم فيها التغيير، لجهة السقوط الحر للنظام كما الهاوية، فيكون سقوطاً مدوّياً يزلزل المنطقة، ما لا تريده شريحة كبيرة من المجتمع السوري بما فيه "السنيّ"، وبين من ينادي بدخول نفق الاصلاحات الدستورية والمراهنة على مشروع اصلاح مهما كان متواضعاً، للعبور بأمان إلى مرحلة الدولة المدنية التعددية، الديمقراطية. في هذا الجانب انتصر الخيار الثاني. فالأمان، وتجربة العراق وليبيا تركت وجعاً عميقاً في أعماق كل عربي، فمابالك بسوريا، التي تزداد أسهم وجعها بسبب تنوعها الفسيفسائي الواسع، والتاريخي.
نظر أصحاب الإمتيازات الخاصة، طبقة برجوازية، رجال أعمال ( انتهازيين)، برجوازية طفيلية أنجبتها تحالفات مع طبقة العسكر القديمة والجديدة، نظرت إلى التغيير بوصفه خطراً يحدق بمصالحها وامتيازاتها التي اكتسبتها عبر سنوات طويلة من حكم هذا النظام، فحقق لها، مع ما يتسع له المجال من فساد، حقبة ذهبية غابت فيها معايير القانون والشرائع التي تلجم جشعها، وتكبح شهواتها الاستثمارية. وهذا ما لم، ولن يحققه أي نظام آخر، وخاصة بعد مرحلة تغييرية جوهر هدفها الأبعد هو تدمير هذه البنى الفاسدة وتحقيق التوزيع المتكافىء للثروة، ودولة الحق والقانون. على الأقل هذا ما يُطرح من خطاب، أمّا مسألة التحقيق، والتنفيذ، فهي شأن آخر، ووجع مختلف. وللأسباب سالفة الذكر، وقفت هذه الشرائح ضدّ أي مشروع تغيير وأعلنت منذ البداية وقوفها إلى جانب النظام. التي لولاه، لكانت في عداد المهمشين الذين خرجوا يتظاهرون مطالبين بحقوقهم، وحرّيتهم المسلوبة.
الأقليّات؛ مسيحيون وأرمن وسريان وآشوريين وغيرهم. مسلمون؛ علويون، وإسماعيليون، ودروز موحدون، وغيرهم، لا يختلف ما وقع عليهم من ظلم، وانعدام للمساواة عن باقي الشرائح السورية. فالنظام كان طائفة "مستقلّة "، لها ثقافتها و أيديولوجيتها، وفكرها التكفيري باتجاه الآخر، وعقيدتها الإيمانية الخاصة. ومدرستها في قوانين الفعل ورد الفعل، التجاذب والتنافر، الولاء المطلق أو القطيعة المطلقة. لا وجود لألوان رمادية في صفوف "طائفة النظام"، ولا حياد عن قوانينه وتشريعاته، بما فيه؛ قوانين ونهج الفساد والإفساد التي تحدث عنها في مشروعه الثلاثي الدكتور طيب تيزيني. أشهر المفكرين في حزب البعث. هذه الأقلّيات، لم تكن جاهزة لتقبّل فكرة التغيير. فهذا التغيير تحكمه شروط اجتماعية غير محققة، ويفتقد لنخبة سياسية تحمل مشروعاً بديلاً. يُعالج المشكلات العالقة، ويطرح حلولاً للأزمات المستفحلة في البلاد. وُيجيب على أسئلة و استحقاقات في غاية الخطورة، والتي تشكّل بمجملها العناوين العريضة لأي مشروع تغييري محتمل، وهذه المشاكل هي نفسها التي شكلّت حواضن تغيير لأحزاب الحكم الواحد سابقاً في طريقة تعاطيه معها؛ شكل الدولة، النهج الاقتصادي، الوضع الإقليمي، الصراع العربي الإسرائيلي، مشكلة البطالة المستفحلة، توزيع الثروات، الملّكيات الخاصة، المدنية، العلمانية، المسألة الدينية، تحدّيات المستقبل، القومية العربية، المسألة الكردية، الأقلّيات. وغيرها من أسئلة تُثقل كاهل أكبر المنظرّين والسياسيين الذين يتنطحون لمشروع تغيير محتمل. مع غياب هذه البرامج المفصلية، وظهور طيف الانتماء الديني السلفي والأصولي في شكل الحراك وأدواته وإرهاصاته، الدعم اللوجستي والمادي، والمعنوي والإعلامي من جهات ودول ذات مشاريع وبنى سلفية وهّابية. كل هذه المعادلات جعلت من مشروع التغيير رُهاباً يؤرّق ليل السوريين قبل نهارهم. وكانت النتيجة وقوف هذه الأقليّات إلى جانب الواقع المُعاش، بأمنه وطمأنينته، برغم حجم سلبياته ومرارته، مراهنين على مشروع اصلاحي يحقق لهم بعضاً مما افتقدوه من مشاركة حقيقية في الدولة، وشؤونها، واستعادة مأمولة لكرامات فُقدت عبر سنوات طويلة. أمّا الفئات "القبلية" الأخرى التي تنتمي إليها بعض هذه الأقلّيات " الريفية " بمجملها، فقد رأت في مشروع التغيير تعدّياً على ولّي الأمر. فهو الوجه الآخر لإنتمائهم الذي يجدون فيه رمزيتهم في الدولة (المتمثلة بالحاضنة الأكبر للقبيلة). التي يتحقق فيها وجودهم وكيانهم المهزوز أصلاً، بسبب غياب مفهوم العلاقة الوطنية الناظمة، بينهم وبين سلطة الدولة. فهم بقوا في حدود المفهوم الرعوي لوليّ الأمر. لذلك كان اصطفافهم حالة نمطيّة تقليدية أكثر ما هو حالة جدلية عقلانية. حيث يفتقد التحليل، والموضوعية، والنقد. ورأوا في التغيير شبحاً خطيراً يؤسس لتعدّي معنوي ووجودي، على رمزهم وصاحب أمرهم.
هذا هو الواقع السوري اليوم، كثير من الأزمات، قليل من الحلول. الكثير من التعقيدات، مقابل القليل من الانفراجات. فارهاصات ما يُقارب النصف قرن من حكم حزب البعث الشمولي الواسع، لا يُمكن أن تترك دائرة ضيّقة من التناقضات. بل هي تتجاوزها إلى دوائر أوسع تطال كافة مستويات بنيان الدولة والمجتمع. في الظاهر والباطن. وفي الحاضر والغائب. وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك أزمة المفاهيم، وبنية العقل المهزوم الذي يتمظهر في التصحّر الخطير الذي عرّته الأزمة السورية لجهة غياب كل ثقافة فكرية في مبادىء قبول الآخر ومنطق التعايش والإنتماء الوطني الواحد وغياب مع ما كرّسته فكرة الخوف من مجهول لم تحدد معالمه ولم تثبت أهدافه بعد. مع كل هذه العوامل نجد أنَّ سوريا، دولة، ومجتمعاً، مازال أمامها الكثير لإنجازه فيما لو تحقق لها شرط الاستقرار وتفادي الزلزال المدّوي الذي سينتج عن معالجات متطرّفة، من أي جهة كانت لهذه الأزمات البنيوية العميقة. فهل في جعبة المستقبل القريب عصاً سحرية تحقق ما يرجوه الجميع؟ نأمل ذلك. فقد امتلأت قلوبنا بالهزائم والانكسارات الموجعة ..؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س