الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نعيم الشطري.. علم وراية في شارع المتنبي

مازن لطيف علي

2012 / 7 / 17
سيرة ذاتية


مات الرجل الذي صنع لشارع الكتب دهشته، الرحمة له حيث يكون، متقدا بطيبة عجيبة، وفطرة هائلة بعشق "تكيته" ونظرة عينيه، وإحساسه أنه يموت غدا، وعليه ان يبتسم ويخمن سعر الكتاب!

فقد شارع المتنبي عطره بفقدان نعيم الشطري، أحد أهم الوراقين في شارع المتنبي، بل شيخ الوراقين في بغداد، تلك الشخصية الشفافة صاحب القلب الكبير، والروح الطيبة،

عام 1990 دخلت شارع المتنبي، وكنت أصغر بائع كتب في حينها، فيما كان نعيم الشطري أكبر بائع للكتب، وصاحب مزاد مشهور.

توطدت علاقتي به، وأصبحنا أصدقاء وأكثر من ذلك، عرفته وخَبرتُه منذ 22 عاماً، في كل حياته العامة والشخصية، كنت الأقرب لروحه وقلبه، ولو قدر لي الوقت، لكتبت عنه كتاباً مستقلاً، فهو ذاكرة مكان، فأغلب الأدباء والمثقفين والفنانين يزورونه عند قدومهم للمتنبي، ذكريات كثيرة ومواقف كثيرة جمعتني بالشطري، لا يسع المجال لذكرها هنا، لكثرتها، حنجرته الصادحة دوماً، يملأ شارع المتنبي، طيلة أيام الاسبوع، وفي يوم الجمعة يعلو صوته مردداً: كلمن يكلك زين كله انت جذاب، الشطري صار اسبوع مابايع كتاب.

أمست علاقتي بالشطري تؤرخ لعلاقتي المشيمية مع هذا الشارع الهائج المضطرب، الذي أصبح مؤشراً لمناخات الثقافة، وبؤرة للتنوير، بعدما عانى وعاند وعارك لعقود طوال، النكوص الشمولي والرقابة على الوعي وشرطة الثقافة.

كانت لقاءاتي بالشطري، كما الطالب والتلميذ، حينما يتزاملا بعد سنين ويعملا في مدرسة واحدة، فكان فقيدنا غزير المعلومات، سريع البديهة، ويجد في كل مقام مقالا للنكتة، لقد كان أبو ربيع طيب القلب، لا يعرف الحقد، وما كان في قلبه تسمعه على لسانه، فطيبة روحه كانت توحي لي أحيانا أنه طفل كبير، ذو حس مرهف، لا تفارقه الدعابة الأخوية حتى في المواقف الحرجة، لقد أمسى بطبعه الدمث شعبي ومتشعب العلاقات، فهو صديق الجميع ومرغوب من الكل.

للشطري تاريخ حافل بعلاقته مع نخبة المجتمع العراقي، فقد خدم الكثير من الأدباء والمثقفين بتوفير كتب ومصادر نادرة، الحصار الاقتصادي أكل منه الكثير، كنت دائم الحضور معه حتى في سكنه، أصابه الفقر سنوات كثيرة حتى موته كان لا يملك في جيبه 10 آلاف دينار، ومات وهو يعاني من الإفلاس، والعناية والاهتمام من الدولة أو من المؤسسات الثقافية.

في إحدى السنوات، إبّان حكم النظام البعثي عام 1998، وحينما كنت معه في المكتبة، وصلوا رجال الأمن، قالوا له أن هناك استدعاء له في الأمن العامة، ولأنه كان يخاف كثيرا من هذه الزمرة البعثية، قال لهم أنه مريض ويمكن ان يستجوبوه داخل المكتبة، حاول المراوغة معهم، لكنهم لم يقتنعوا، قالوا له ربع ساعة وتعود، وذهب نعيم وهو ينظر لي والدمعة في عينينه كأنه يعلم أنه لايعود، ذهب معهم ولم يخرج إلا بعد شهر واحد، تهمته كانت أنه باع صحفا عراقية، إلى شخص كردي، وهذا الشخص كان يسكن في أحد فنادق بغداد، وبعد السؤال قال لهم أنه اشتراها من كاكا نعيم.

تمتع نعيم بذكرياته عن أهم باعة الكتب والمكتبات في شارع المتنبي، لأنه قضى عقودا فيه، كنا نجلس في مكان ما في زمن النظام الصدامي، ونتحدث في الكثير من القضايا، كنا عدداً من باعة الكتب، نقدر قيمته واهميته في شارع المتنبي ونستمتع بذكريات الشطري.

قضى الأيام الأخيرة، جالساً على كرسي عند باب مكتبته في شارع المتنبي، وبعدها أصبح ينام على هذا الكرسي، وتدهورت صحته كثيرا، كان يحمل فكراً وضميراً إنسانياً، وكم أسمعني شكواه المستمرة من ضيق العيش.

وبالرغم من إقرارنا، أن الموت حق، وأن العراق ولّاد ونضح متدفق يستدرك ما يفقده وينعتق بعد كل خراب، لكن تلك النومة والغياب السرمدي لبؤر الإبداع العراقي تؤرق وتحز في النفوس، بعدما عانت من مناخات التخبط السياسي والإنتقالات العشوائية، والتوجهات الجزافية للثقافة وسياساتها، وها نحن نرى جيلاً بعد جيل يهرب، وجماعات بعد أخرى تعتكف وتنزوي وتفضل الخلوة، في وسط طيش الدنيا وضياع نصاب الموازين، وها هو عاشق بغداد، أبو ربيع الذي تركها بمرارة .

سلاما عليك وعلى روحك الطاهرة يا أبا ربيع، حيثما ترقد في ترتبك الطاهرة، وسأمكثُ حزينا باكيا على فراقك الأبدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا استاذ مازن لشهامتك في نعي وتكريم ابو الربيع
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2012 / 7 / 17 - 20:04 )
تحيه مخلصه اخي استاذ مازن على مقالتك الرائعه في نعي وتكريم ابو ربيع صديقنا جميعا وواحد من انصع اقمار العراق طيبة وحبا للعراق وبغداد والعدالة
بالسليقة -اخي استاذ مازن شعرت ان بينك والراحل نعيم الشطري علاقات حميمه
لذالك حينما توجه الي اصدقاء لمساعدة -كاتبة-ناشئة عراقيه من الامارات اعطيتهم عنوانك وعنوانه وربما كتبت لك عن ذالك
انا ايضا من اصدقاء ابو ربيع من العهد البعثي وانا من الاكاديميين الاقدمين فكان يفرح بصورة خاصه حينما ازوره ويحضر 4-5كراسي وسرعان مايتجمع ثلة من اخيار العراق ويبداء حديث لاتجده في اي كتاب
زرته في شباط 2009 بعد انقطاع ثم في مايس ولاادري ما الذي دفعه ليقترح ان نذهب لنادي اتحاد الادباء سيما وانا في عمر متعب وافقت وذهبنا وزرنا الصديق الفريد وفرح ابو ربيع وهو يستمع لذكرياتنا من الستينات فما خرجنا الا وطلب مني ان نلتقي ابو داود علما والمقر عبر الساحه ولكن استقبلنا بيروقراطي متحجر ولم نستطع لقاء ابو داود الذي كان نعيم مشتاقا للقياه ابو داود رجل على خلق عظيم هاتفني اليوم الثاني واعتذر لماحصل واستقبلني ولكن بدون للاسف ابو ربيع ولكني اخبرته بالتفصيلات ففرح كطفل يحصل جكليت

اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة