الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الجذور ام من الذروة ..... ستون عاماً على انتفاضة فلاحي آل ازيرج

فلاح علوان

2012 / 8 / 7
الثورات والانتفاضات الجماهيرية




ما ان شرعت بكتابة هذا المقال حتى وجدت نفسي امام موضوع يتوسع ويتمدد باستمرار ويفتح الباب امام اسئلة تاريخية عديدة. لقد وجدت نفسي في مواجهة مسألة الارض واسلوب ملكيتها او عائديتها القائم يومئذ وجذوره التاريخية، وموضوعة العشائر القاطنة كمجاميع في اراضي تسمى باسمائها غالبا، اي باسماء العشائر، الامر الذي يحيلنا الى جذر المشاعات وتداول ملكية الارض نتيجة الفتوحات والغزوات المتعاقبة. كذلك شكل النظام الاقتصادي السائد اثناء تلك الحقبة التي تعتبرها الدراسات الاقتصادية مرحلة من مراحل الاقطاع في العراق في حين ان الاقتصاد النقدي قد كان قائماَ الى جنب النظم البطريركية في الزراعة.
وباختصار وجدت نفسي امام موضوع يتطلب البحث التاريخي بموضوعية، للخروج باستنتاجات علمية حول المناخ السياسي لمرحلة الانتفاضات والثورات الفلاحية التي وقعت في الاربعينيات والخمسينيات في العراق.
ان كون الثورة مطلبا تاريخيا وضعته الطبقات الاجتماعية في العراق امامها وناضلت عقودا من اجله، هي مسألة مازالت تحتفظ باهميتها التاريخية والراهنة على السواء، على الرغم من سلسلة الهزائم التي واجهتها الجماهير على يد القوى البرجوازية التي وصلت الى السلطة عبر الانقلابات والمؤامرات او اخيرا عبر الاحتلال. وجرى اعادة توزيع الثروة على الفئات البرجوازية الجديدة، بحيث ان تناسب القوى الطبقية في البلاد لم يتغير، غير ان توازن القوى اصبح لصالح البرجوازية، مقابل استمرار الثورة كمطلب لحل الاوضاع الراهنة في العراق. انا ارى ان دراسة الثورات غير المنجزة والمقموعة، ما زال يحتفظ باهمية تاريخية لتعقب مسار الثورة الاجتماعية المستعصية في العراق.
لقد وجدت نفسي مضطرا بالنظر لنقص المصادر التاريخية، ونقص خبرتي في مجال تاريخ الحركة الفلاحية وقضية الارض في العراق، ان اركز على خطوط اساسية عامة لهذا الموضوع الذي يستحق العودة اليه وبحثه موضوعيا. لقد تركت موضوع تقييم دور القوى والاحزاب السياسية وبالاخص الشيوعيين وموضوع تاريخ مسألة ملكية الارض للمختصين. ومن جانب اخر فاني من الناحية العملية لم استدل على دور تنظيمي قيادي للقوى السياسية في الانتفاضات الفلاحية، بل كان دورها بالدرجة الاساس تحريضي وتعبوي مصحوبا ببيانات التاييد، مقابل تضحية بالنفس من قبل الثوار وبالاخص الشيوعيين، وليس ثمة ما يدل على وضع ستراتيجية سياسية للحركة العامة على مستوى البلاد، ولا على فهم طبقي لتناسب القوى الطبقية وبالتالي فهم الموقع التاريخي والاقتصادي للفلاحين. وفي الحقيقة كانت الصورة عن الفلاحين مشبعة باطار حماسي عاطفي تعبوي، ولم يجر اي نوع من الفصل بين فئات الفلاحين، كما فعل لينين عندما درس موضوعة الفلاحين وقام بتقسيمهم كفئات بدقة وبجداول، وحسب ملكياتهم.
ان الطريقة التي تكتب الطبقات الحاكمة بها التاريخ المعاصر اليوم تستلب من الطبقات الكادحة حقها في مساهمتها البطولية في تاريخ البلاد، بحيث تسعى الى تجريدهم من كل ذكرياتهم وذخيرتهم النضالية وتقطع على الاجيال اللاحقة التواصل مع النضال الثوري، وتسعى الى اضفاء صبغتها على تاريخ البلاد كما اضفتها على حاضره.
ان الانتفاضات التي خاضها فلاحو وعمال الامس القريب، ما زالت تعزز روح التحدي والنضال لدى الجماهير الكادحة وتمنحها الثقة بالنفس والتي يحاول اعداؤها الطبقيون طمسها وتحريفها وتشويهها. ان الاسئلة التي طرحتها ثورات الفلاحين والكادحين ما زالت مفتوحة، مثلما ان جراحهم ما زالت مفتوحة.


-1-

انقضت ستون عاماً على انتفاضة الفلاحين في الميمونة، والمعروفة بانتفاضة فلاحي آل ازيرج، والتي يؤرخ لانفجار مواجهتها الفعلية في 7 اب 1952 لتنتهي بمعركة ام كعيدة ونهر الرفيش في 5 تشرين الثاني من العام نفسه. في حين ان الفلاحين يشيرون الى ان بدايتها كانت شباط 1952. انا اعتبر ان الواقعة كانت مبادرة اصيلة وفريدة للثورة الاجتماعية في العراق والتي لم تقع الى اليوم، وقد قمعت تلك الانتفاضة بسرعة وبوحشية، خشية اتساعها الى ثورة فلاحية عارمة وشاملة. كما ان الاحداث تملك خصائص اصيلة تمنحها طابع ثورة اكثر منها تمرد.
لقد خاض الفلاحون معركة، في حين شنت البرجوازية حربا، ومعها كل القوى الطبقية المعادية للفلاحين والبروليتاريا. ثار الفلاحون بغريزتهم، وواجهتهم البرجوازية بكل ايديولوجيتها ومؤسساتها، فقد رأت في ثورتهم تهديدا طبقيا، ورأت مستعبدي الامس يتهيأون لاستعادة السيطرة على مصدر معيشتهم المنهوب منهم بقوة القانون والنظام السياسي. لقد كان الفلاح يريد الارض ليزرع ويأكل ويطعم صغاره، في حين ان الطبقات المسيطرة رأت في فقدان الارض فقدان سلطانها الاقتصادي والسياسي. كما ان انتفاضة الفلاحين واستيلائهم على الارض بالقوة، اي بالاسلوب الثوري كان سيدفع بنضال عمال المدن والجماهير الكادحة خطوات تاريخية الى الامام وكان سيطور النضال الطبقي بابعاد غير مسبوقة.
لقد خسر الفلاحون المعركة، وكسبت قوى النظام شبه الاقطاعي الحرب، واجهضت مبادرة الثورة. ان هذا النمط من الصراع او المعارك ما زال قائما الى اليوم ولكن مع البرجوازية الحديثة، اي ان يخوض العمال معركة جانبية او نضالا محدودا، لتعلن البرجوازية بكل جهازها التشريعي والتنفيذي ومؤسساتها القضائية مواجهة الخصم بحرب شاملة وسد المنافذ بوجهه ومحاولة خنقه قبل ان يبدأ حربا طبقية واسعة وشاملة. ان المعارك التي يخوضها حتى كتابة هذه السطور عمال النفط في البصرة وعمال الصناعات البتروكيمياوية والصناعات الجلدية وعمال مناجم الفوسفات في عكاشات وعمال الاسمنت وغيرها كثيرة، هي امثلة واضحة على خوض معارك منفصلة ضد خصم متكامل متاهب، يشنها حربا شاملة ضد اي تحرك جزئي لغرض اجهاضه او لوأده . ان تحقيق النصر الشامل من خلال معارك جزئية دون رسم ستراتيجية لحرب طبقية شاملة هو امر مستحيل، بل انه لا يمكن ان يقود سوى الى الهزيمة، رغم التضحيات والبطولات.
قبل رجوعي الى المصادر والكتابات حول الموضوع، كنت قد حاورت بعض المشاركين في الاحداث ممن بلغ الثمانين من العمر اليوم، وكان من ابرزهم ابو مشرق " مجيد حسين" وقد كنت اعتقد انها حدثا خاصا بمجموعة ثوار استطاعوا التمرد في منطقة بعينها واعلان العصيان ومن ثم الثورة المسلحة، غير ان حديثا مع فلاح من تلك الحقبة اثار لدي فضول البحث والتقصي. لقد قال لي " كانت عشائر البو محمد في المجر الكبير مستعدة كمن يضع يده على الزناد للاتحاق بالتمرد واعلان الثورة على الشيوخ اي الاقطاعيين مثلما فعل فلاحو آل ازيرج". اذن كان التمرد قابلا للاتساع ليبلغ مدى ثورة شاملة.
لا اقصد اعادة سرد حادثة تاريخية مشرفة تبعث على الحماس والفخر، مع ما فيها من بطولات، فانا لا ارى انها حدث من الماضي اصبح مجرد ذكرى، بل العكس ان فيها زخما كامنا، يمكن احياؤه، وساسعى من خلال المقال الى البرهنة على هذا الادعاء.
ان الانتفاضة كانت مقدمة لحرب فلاحين شاملة او ثورة شاملة، لقد كانت تتوسط عدة انتفاضات مثل انتفاضة فلاحي الشامية وعربت ثم اربيل وديالى، والتي سبقتها انتفاضة سوق الشيوخ 1935التي كانت تمردا مسلحا واسعا ضد ترسيم وتقسيم الاراضي وفرض نظام الارض الاقطاعي الجديد.
باختصار كانت الانتفاضة ضمن سلسلة من الانتفاضات والتمردات الفلاحية الواسعة، لقد وقعت انتفاضة فلاحي آل ازيرج في المركز النموذجي الكلاسي للاقطاع في العراق، مما يمنحها امكانية التحول الى ثورة تطيح بالنظام شبه الاقطاعي القائم، والذي هو المرتكز الاساس للنظام الملكي في العراق. ان عناصر الاصالة والمبادرة التي اتسمت بها الحركة، هي بالدرجة الاساس؛ كونها اول مبادرة لانتزاع الملكية بالقوة وبالاعتماد على القوة الذاتية للطبقات الثائرة وليس على التحولات التي كانت، بل مازالت تفرضها الفتوحات. وقد انجز الفلاحون هذه المهمة. ومن جانب اخر فان الانتفاضة قد وجهت ضربة للعلاقات البطريركية والعشائرية، بحيث رأى الفلاحون في الشيخ ليس شخصا من بينهم تربطه روابط القربى، بل رأوا فيه عدوا طبقيا مباشرا، وهذا الانجاز على صعيد الوعي الطبقي يعادل عقوداَ من التحريض والتعبئة والدعاية السياسية. لقد انجز الفلاحون الامر بضربة وبغريزتهم الطبقية. ورغم عدم تبلور بديل للبنية العشائرية فان الثورة في حال وقوعها كانت ستطرح مسالة التنظيم الاجتماعي للاوضاع الجديدة، وربما كانت ستقوض البناء العشائري الموروث والماثل لحد الان، وتغيره الى الابد.
ان التمرد والاستيلاء على الاراضي لم يكن بقصد انهاء الملكية الخاصة او اقامة الاشتراكية، بل لا ستملاك الاراضي التي يستولي عليها الشيوخ والدخول في اشكال علاقات انتاج حديثة. الامر الذي سيقود الى انجاز شكل من الثورة الديمقراطية وتصفية النظام شبه الاقطاعي وتطوير الثورة بالتضافر مع الطبقات الكادحة للاطاحة بالنظام الملكي المتهرئ، وفسح المجال امام تطور طبقي ثوري في عموم المجتمع. كل عناصر الثورة المشار اليها كانت قائمة، وكانت مهيأة. كما ان الفلاح الذي نظم نفسه في ما يشبه الكومونة المسلحة لبضعة شهور، اصبح يرى مكانته الاجتماعية واعتباره يتقرر من خلال دوره في الوضع الجديد الذي فرضته الاجواء الثورية، وليس في المكانة الوهمية للفلاح التي تتيحها له القبيلة وتجبره على الامتثال لسننها واعرافها، في ظل العلاقات الاقطاعية وسيطرة الشيوخ.
ان العوامل الموضوعية لتفسخ وانحلال النظام شبه الاقطاعي، كانت تنخر من زمان، منذ الدخول في الاقتصاد النقدي وتغير نظام الري، ووجود دولة مركزية وصناعة وارتباط العراق بالسوق العالمية ومن ثم تحول النفط الى مصدر رئيس للدخل. كما ان الاجواء الثورية والانتفاضة في العراق، كذلك تاثير الثورة الصينية واحداث ايران والتحولات في مصر. كل هذه العوامل كانت تشكل المناخ السياسي السائد يومئذ.

• اول انتزاع للملكية بالقوة.

ان جميع اراضي لواء العمارة، محافظة ميسان حالياً هي اراضي ميرية اي حكومية، اصبحت مملوكة للدولة من الناحية الاسمية بعد انهاء الحكم العثماني. وكان وضعها قبل الاحتلال البريطاني يشبه الى حد ما وضع مشاعات عشائرية لا اساس قانوني للملكية الخاصة فيها. لقد قام الاحتلال البريطاني بتوزيع الاراضي الخصبة الشاسعة على الشيوخ، فيما يشبه الى حد ما اسلوب اقتسام الاراضي في الاقطاع العسكري الذي يعقب الفتوحات. وبالتالي ليس ثمة مؤسسات تقليدية للنظام الاقطاعي ولا سند للملكية الخاصة، بل ان السلطة الفعلية كانت مستمدة من جهاز الدولة ومن الاحتلال البريطاني، ومن ثم دعم المؤسسة الدينية و ملالي المناطق وقد اسس الاقطاعيون سلطانهم على قاعدتها. يقول ارنست دوسن خبير الاراضي. ( نزع الاراضي من ايدي افراد العشائر ونقلها الى ملكية الشيوخ). ابراهيم كبة الاقطاع في العراق مطبعة المعارف بغداد 1957.

لم تكن الاراضي التي استولى عليها شيوخ القبائل عن طريق سلطة الاحتلال ملكهم، غير انهم كانوا يستولون على اكثر من ثلاثة ارباع منتوج الفلاح المستأجر، وفي احيان كثيرة لا ينال الفلاح سوى 1/7 من الناتج،واحيانا 1/21 في حين ان الشراكة الاسمية كانت تقضي بالمناصفة. ان وضع الفلاحين في نظام الارض الذي فرضه الانكليز والنظام الملكي الذي اقاموه، كان من السوء بحيث انه يشبه في كثير من الاحيان عمل سخرة دائمة، لقد كان الفلاحون الذين يعملون في الاراضي التي استولى عليها الشيوخ منزوعي الملكية، ومعدمين تماما.
وفي موضع اخر من الكتاب المذكور تقول دورين وورنر: ( ان سمعة الشيوخ تقوم على دورهم السابق الذي كانوا يلعبونه في مجتمع قبلي لا يدين للدولة بأي ولاء. اما المملكة العراقية الجديدة فقد قوت مركزهم، ومنحتهم الملكية الخاصة القانونية على اراضي عشائرهم، وجعلت البرلمان العراقي ندوة لممثليهم، وبذلك فهم كسبوا مركزا ممتازا في الوضع الجديد دون ان يلتزموا بأي التزام. ان دورهم يقتصر بالبساطة على مجرد الاحتفاظ بمراكزهم في المجالس النيابية المجموعة وعلى مقاومة التغيير) ابراهيم كبة الاقطاع في العراق. ص 23.
واكتسبت هذه الملامح شكلها الاشد قسوة وثقلا في لواء العمارة، حيث كانت مركزا اساسيا للاقطاع الذي كان السند الاساس للنظام الملكي في المناطق الزراعية.
ان الطبيعة العامة للفلاحين في مجتمع العمارة القديم، هي طبيعة محافظة الى هذا الحد او ذاك، وحين تثور الاقسام ذات الطبيعة المحافظة من المجتمع، فان المجتمع بعمومه يصطبغ بصبغة ثورية ولن تعود الاقسام الوسطية والمترددة خط دفاع تستخدمه الطبقات السائدة كعناصر للثورة المضادة. ان ثورة اقسام المجتمع التي تتميز بطبيعة محافظة بشكل او بآخر، تعني ان الثورة قد ضربت اسس البناء الاجتماعي من جذورها. وهنا انا اؤيد وجهة النظر التروتسكية التي تقول ان الثورة تنشأ من الطبيعة المحافظة للبشر. وان هذا الاحتمال ما زال قائما بابعاد ومقاييس اوسع، وحسب تناسب القوى القائمة، والحيث هو عن الثورة الاجتماعية وليس الهبات والغليانات الجماهيرية، التي يمكن ان تقع في اي مناسبة.
اذا رجعنا الى تاريخ تلك الحقبة وعلى لسان خبراء ومحللي ذلك الوقت نجد ان الاقتصاد الزراعي يشكل الاساس لمعيشة نحو 80% من السكان الذين هم من الفلاحين المعدمين. ومن هنا تتاتى خطورة دورهم التاريخي. وعن البؤس الذي عاشه فلاحو تلك الحقبة جاء في مقال لـ علي بدر (انتفاضة آل ازيرج في آب مقال 7-8-2009 )
(صورة البؤس أوضحتها الصحفية البريطانية فريا ستارك في صحيفة الأوقات البغدادية ذلك الوقت: نقلها دان أونييل في كتابه "بؤساء الشرق"، من العراق إلى الهند مرورا بإيران، نقلت ستارك صورة الحوشية وهم يربطون أحد الفلاحين من يديه بين زورقين وهو غاطس في الماء، وكلما يخرج رأسه ليتنفس، يضربونه بالمجداف ليغطس مرة أخرى، كل هذا التعذيب والذي يصل أحيانا إلى حد الموت هو عقاب على مخالفته لأوامر أحد الشيوخ، أو أحد أفراد حاشيته)
كما ورد وصف للاوضاع التي عاشها فلاحو تلك الحقية في تقارير الباحثة دورين وورنر التي تقول ( ان زيادة الانتاج الزراعي لم تمس بؤس الفلاحين اي مساس، فهم يعيشون عيشة الكفاف في اكواخ طينية مغلقة، اما احوالهم الصحية فهي فاجعة، وكما يقول البروفيسور كريشلي، والكلام مازال لوورنر، ان الفلاح المتوسط في العراق يمثل نموذجا مرضيا ممتازا لجملة أمراض، من اهمها الانكلستوما والبلهارزيا والتراخوما والملاريا والبجل .... الخ، ويقدر معدل الوفيات العام بثلاثين بالالف، اما بالنسبة لوفيات الاطفال فربما لا يكون من الخطأ تقديره بثلاثمائة الى ثلاثمائة وخمسين بالالف. ( ابراهيم كبة الاقطاع في العراق صص 18)

ان تحليل اوضاع الفلاحين يبرهن انهم كانوا يشبهون عمالا زراعيين بهيأة اقنان وباجور عينية، اي انهم لم يكونوا عمالا احرارا، فهم مرتبطون بالارض شأن الاقنان ومنزوعي الملكية والامتيازات تماماَ. لقد كانت اوضاعهم اوضاع بروليتاريا ريفية معدمة. يقول الدكتور والستون في كتابه نظام اجارة الاراضي في الهلال الخصيب- 1954: ( ان الفلاح العراقي فيما يتعلق بالارض التي يزرعها والحبوب التي يبذرها، واوقات والحصاد، يعمل بموجب أوامر الملاك او السركال الذي يشرف ايضا على عملية التسويق، ويراقب أمور الري. وعليه فلا يختلف الفلاح المشترك في نظام المحاصة عن العامل الزراعي الاجير الا بكونه لا يستلم اجورا يومية محدودة، بل يتقاضى اجوره عيناَ بنسبه ضئيلة من الحاصل تتوقف على عوامل خارجة عن ارادته). ابراهيم كبة نفس المصدر صص 22.
كان النهب الذي تعرض له الفلاحون على ايدي شيوخ الاقطاع ونسب الاستقطاعات التي يقتطعونها من الحاصل، تفوق الوصف بل انها وبمفاهيم عصرنا غير معقولة ولا مقبولة اخلاقيا بل تتنافى مع العقل والمنطق، ولكن المنفذ لقبول او تصديق ما كان يجري هو سيطرة واستبداد شيوخ العشائر، والفقر المدقع للفلاحين، وعدم وجود اقتصاد مواز او بديل للاقتصاد الزراعي في تلك الاصقاع.
جاء في مقال لـ خالد خلف داخل أنتفاضة أل أزيرج الفلاحية عام 1952
(ووضعوا الاسعار على الفلاحين اي كل دغار يشترى من الفلاح بخمسة دنانير والدغار يزيد على الطن ثم يبيعه الشيخ باربعين دينار ثم يستقطع منهم بقية الخمسة دنانير باساليب ملتوية ليجعل الفلاح لا يملك شيئا عندما يستلم الفلاح الخمسة دنانير فعليه ان يستوفي للشيخ 2% باسم المامورية اي لتغطية ما ينفقه الشيخ على وكلائه ورجال حاشيته و 1% لتغطية ما ينفقه من نفقات المضيف والقهوة و 1% لتغطية نفقات الكتابة اي للرجل الذي يستخدمه كاتبا له و 1% سركله اي الحصة التي تفرز من مجموع المحصول كجزء من الاتاوات بدأ هذا التعامل به منذ سنة 1942 سارت الامور على هذا التعامل فترة لم يعكرها سوى احتجاجات وتمردات صغيرة لكن الأنكليز وجشع الشيوخ ينموا ويتعزز حتى نفذ صبر( ال ازيرج ) حيث بدأت انتفاضتهم في ( اب عام (1952 لتعلن ثورتهم على الشيوخ عندما اقتنعت عشيرة البوعطوان ان تبيع محصولها للشيوخ وطردت حوشيتهم وسراكيلهم ثم تبعها الحريشاويين ثم السواعد البتران ليعلنوا ثورتهم ضد الشيوخ)
اذن كان دخول الاقتصاد النقدي احد عوامل تفسخ النظام الاقطاعي، كما ان الانتاج بغرض التسويق للسوق العالمية جعل الاقطاع عاجزا في شكله القديم عن الاستمرار في ظل اقتصاد السوق والتبادل التجاري. لقد ادرك الفلاحون ان الشيوخ الذين يشترون الطغار الواحد من الحبوب بـ 5 دنانير من الفلاح،يبيعونه بـ 40 دينار والتي تعادل 40 جنيه استرليني يومئذ. لقد امتنعوا عن بيعه للشيوخ وبدأوا بالتفاوض مع الحكومة ومتصرفية اللواء اي المحافظة قبل ان يعلنوا العصيان ثم الثورة. وكانت هذه هي العوامل المباشرة التي قادت الى التمرد والاستيلاء على الارض.

ان انتزاع الارض بشكل ثوري بالتحالف مع الفلاحين المتوسطين (السراكيل) والاطاحة بسلطة الشيوخ الاقتصادية وتجريدهم من استخدام سلطة العشيرة والولاءات لقمع الفلاحين والتسلح والاستعداد لمواجهة هجوم القوات الحكومية، بعد ان هزم الفلاحون قوات الاقطاعيين، هو ما برر هلع الطبقات المسيطرة من استيلاء الفلاحين على الارض بالقوة. كل هذه الملامح شكلت عناصر اصيلة لمحتوى ثورة اجتماعية، ، ولقد خنقت انتفاضتهم في المهد وبقسوة وبطش، وكان من اهم اسباب هزيمتها هي عدم اتساعها لتصبح ثورة شاملة.
لقد كانت مواجهة بطولية قاتل فيها الفلاحون ببنادق قديمة احدث المدافع الرشاشة والبنادق الالية من نوع فيكرز، فبعد هزيمة مسلحي الشيوخ، وانسحاب قوات الشرطة امام استعداد وبسالة الفلاحين، هاجمت القوة السيارة المكونة من مئات المسلحين وبعشرات الناقلات والاسلحة الثقيلة، مواقع الفلاحين في خدعة ومباغتة لم يحسبوا لها الحساب. الفلاحون الذين تخندقوا في الرفيش رفضوا الاستسلام او حتى التراجع، وقاتلوا حتى النهاية.
قتل في المعركة الفلاحة ليلوة والفلاحون رشم بدو، جداوة لازم، راضي لازم، موسى بن عودة، علي بن مزيد.
وجرح 7 فلاحين من بينهم؛ حسين بن جبار، محسن الحريشاوي عباس عامر.
وبعد انتهاء القتال جرى اعتقال مذكور العلم, حاتم مذكور، صلبوخ عجيل،جلوب خلف، بشت ابو جناح، فنجان العبل، بدر آل صكر، خليفة منصور، موزان حسين، وموزان ناصر. ص 67 حكمت خليل محمد ( ابو ناظم) دور الرفيق فهد والحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية في انهاض الحركة الفلاحية في العراق. دار العباد للطباعة والنشر بغداد 2009

وقد حكم بالسجن 5 سنوات كل من جاسم بدو، زاير العلي، عبيد كاطع، مانع الغضب، حمود خصاف، سلمان وادي، مرزوك كالط، مونس رضيو، عباس عامر( سجن وهو جريح)، عبود كاظم، عباس لفته.( صص 69 حكمت خليل محمد ( ابو ناظم) المصدر المشار اليه.
بهذه النهاية اختتم فصل دموي من تاريخ نضال الطبقات الكادحة في العراق. الا ان هذا البطش والقمع لم يمنع الفلاحين من الانتفاض ثانية عام 1955.
ان الثورة الديمقراطية لم تقع في العراق بقيادة او مساهمة العناصر الاساسية للمجتمع، اي طبقة الفلاحين، حينذاك، وكانت تلك الاوضاع هي الفرصة الانضج واللحظة التاريخية المناسبة موضوعيا وذاتيا. وحيث ان الثورة لم تقع فقد كانت عناصر البرجوازية الصغيرة والفئات المتطلعة للسلطة والمنظمة في الجيش الحكومي النظامي كضباط، قد استولت على السلطة المتاحة، وشرعت باجراء عدة اصلاحات اقتصادية لم تمس قطعا البناء الاجتماعي العشائري، على الرغم من الغاء قانون العشائر. بأسم الثورة تم الاستيلاء على السلطة السانحة وازاحة النظام السياسي الذي كان يترنح تحت ضغط الثورات الفلاحية والانتفاضات الجماهيرية المتعاقبة.
السؤال هو: كيف كان يستمر ارتباط او انتماء الفلاح الى العشيرة حتى بعد تحولها الى وسيلة واطار لاستعباده واستنزاف طاقته؟ وكيف استطاع الشيوخ الحفاظ على كيان العشيرة او خضوع وولاء الفلاح المستعبد والخاضع و "المطيع" رغم الظلم الفاحش والاستغلال القاسي؟
كيف استمرت العشيرة اداة للسيطرة الطبقية والانتماء المشترك معاَ؟ هل كان النظام شبه الاقطاعي، البطريركي هو الاساس المادي للعشيرة كبناء فوقي. ام ان توافر البناء العشائري مكن قيام نظام مثل النظام الذي ساد الاقتصاد الزراعي في العراق؟ كيف يستمر وجود العشيرة كواقع حال او "بديهية" مسلم بها؟
وحيث اننا لم نواجه ثورة تطرح هذه الاسئلة وتتطلب الاجابة عليها وتحليلها موضوعيا، وارجاع العشيرة الى عناصرها الاولية وحل اللغز والصوفية التي تحيط البناء الجاهز المتوارث، وتسليح الفلاحين والعناصر الثورية بهذا السلاح النظري الجبار. لذا لم تطرح هذه الاسئلة كمسائل عملية ملحة، ولم تواجه البنى العشائرية وضعا يتطلب ويعطي الامكانية لتفتيت البنى المستعصية وحل عناصرها وفسح المجال امام تطور تاريخي والاحرى دخول التاريخ.
واخيرا؛ كيف يتم اعادة انتاج بنية فوقية ليس لها اساس اقتصادي، وما هي قاعدتها المادية وما هي الرافعة لاعادة انتاج العشيرة؟.

ان ابطال معركة ام كعيدة لم يجر تمجيدهم من خلال نصب تذكاري في ساحة المعركة، او من خلال استذكار سنوي لتضحيتهم كما يفعل الناشطون في كل الاماكن التي تقع فيها الثورات والمعارك المشرفة. ان قيام السلطة بقمع الشيوعيين الذين احتفلوا بذكرى الانتفاضة في الميمونة بعد قيام الجمهورية، وجرى اطلاق النار عليهم، في ظل النظام الجمهوري الفتي انذاك، والذي مازال البعض يتغزل به كنظام شعبي او وطني ... الخ، هو دليل انتماء النظام المشار اليه الى نفس المنظومة الطبقية المعادية للبروليتاريا.
في حين لا يرد ذكر ليلوة، وهو اللفظ الجنوبي لـ اللؤلؤة، التي ضحت بنفسها في المعركة الحاسمة في ام كعيدة، كونها من رموز الحركة النسوية في العراق، رغم ان تضحيتها بنفسها وبطولتها قد طبعت المعركة بطابع مساواتي للنضال الطبقي الفلاحي لتقتل الى جنب رفاقها في نفس المعركة ونفس الخندق.
الثورات الفلاحية التي لم تنقطع، والتضحيات الجسيمة للفلاحين، لم تسفر عن ثورتهم الشاملة ولا عن وصولهم الى السلطة، لقد بقيت في اطار هبات عفوية بطولية، لم يتم وضع برنامج ثوري او ستراتيجية ثورية شاملة على مستوى البلاد وبالتحالف مع البروليتاريا في المدن، ان هذه مؤشرات على عدم وجود قيادة شاملة للفلاحين او تنظيم جماهيري عام، او ان القوى السياسية لم تستطع تحليل ديالكتيك حركة المجتمع وعناصره وتناسب القوى الطبقية فيه. لقد كانت العناصر الشيوعية تقدم التضحيات، وتواجه اقسى العقوبات ولكن هذا ليس الثورة وليس قيادة الحركة الثورية.
ان السلطة الاقتصادية للاقطاع والزعماء العشائريين لم تعد اليوم قائمة طبعا ولكن العشيرة كمؤسسة يديرها الشيوخ والمتنفذون تبقى احدى اهم اسس السلطة القائمة وحائل امام تطور نضال طبقي تحرري. انها مخزون جاهز بايدي اي سلطة واداة قمع طبقية ضد اي توجه اشتراكي تحرري وبالتالي فما زالت مهمة الثورة الاجتماعية لم تنجز ولم تدمر البنى الرجعية والمؤسسات الرجعية، ولكن اليوم لن تتم الاطاحة بها عن طريق ثورة مباشرة على الشيوخ، انهم رموز لمنظومة تقاليد وليسوا السلطة الفعلية اليوم. ان المطالب التحررية والطبقية تجد على الدوام من يواجهها بالقمع وبالتالي فان المؤسسات الجاهزة لادامة السلطة القائمة ستصطف، وهي تصطف بصورة ادوار تتقاسمها القوى ضد الحركات التحررية، والحال فان الزعماء العشائريين كعصارة للقيم القديمة وسند ايديولوجي لقوى الماضي المسيطرة، هم احدى اهم القوى التي ستواجه الحركة التحررية للكادحين والجماهير المتطلعة للخلاص من البنى القائمة، وهناك ستقع المواجهة ويقع الفصل، حينها لا تعود الثورة مستعصية في العراق.

5-8-2012

المصادر
1- حكمت خليل محمد ( ابو ناظم) دور الرفيق فهد والحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية في انهاض الحركة الفلاحية في العراق. دار العباد للطباعة والنشر بغداد 2009
2- بهاد الدين نوري؛ على ضفاف الهور مطبعة دار السلام – بغداد 1977
3- ابراهيم كبة. الاقطاع في العراق. مطبعة المعارف. بغداد 1957
4- فرديريك انجلس. حرب الفلاحين في المانيا. ترجمة محمد ابو خضور. دار دمشق للطباعة والنشر. دمشق.
5- د.صادق مهدي السعيد. اقتصاد العمل الزراعي في العراق. مطبعة المعارف- بغداد 1963.-
6-أنتفاضة أل أزيرج الفلاحية عام 1952 م / خالد خلف داخل. مقال.
7- انتفاضة آل ازيرج في آب . علي بدر. مقال 7-8-2009
8 – احاديث وحوارات مع فلاحين وناشطين.
1- Ilario Salucci. A people s History of Iraq. Haymarket Books, Chicago- 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من الذي خرب العراق
ياسر النواس ( 2012 / 8 / 7 - 12:31 )
لقد كان الحل البريطاني افضل الحلول لمعالجة مشكلة الاراضي وكيفية استثمارها كما هو الامر في بريطانيا نفسها ولكن الاحزاب وخاصة اليساريه منها كالحزب الشيوعي العراقي كانت تنفذ اوامر موسكو في عرقلة الجهود البريطانيه للنهوض بمقدرات العراق ولذا راحت تروج لمفاهيم خاطئه مستغله سذاجه وبساطة الفلاحين ودعوتهم للتمرد لذا كان الخراب مستمرا في العراق لان الاحزاب تنفذ الاجنده الخارجيه


2 - من الذي خرب العراق
ياسر النواس ( 2012 / 8 / 7 - 12:31 )
لقد كان الحل البريطاني افضل الحلول لمعالجة مشكلة الاراضي وكيفية استثمارها كما هو الامر في بريطانيا نفسها ولكن الاحزاب وخاصة اليساريه منها كالحزب الشيوعي العراقي كانت تنفذ اوامر موسكو في عرقلة الجهود البريطانيه للنهوض بمقدرات العراق ولذا راحت تروج لمفاهيم خاطئه مستغله سذاجه وبساطة الفلاحين ودعوتهم للتمرد لذا كان الخراب مستمرا في العراق لان الاحزاب تنفذ الاجنده الخارجيه


3 - غيلان أزيرج
الحارث العبودي ( 2012 / 8 / 7 - 14:59 )
زلمنه تخوض مي تشرين..حدر البردي تتنطر
زلمنه اتحز ظلام الليل.. تشتل ذبحة الخنجر
زلمنه الماتهاب الذبح.. تضحك ساعة المنحر
يساكي الشمس من عينك.. ابعز الشمس حُب أخضر
لون حلّت نسمة الليل.. شعرك.. تنشك العنبر
أحط الحجل للثوار.. كمره زغيره عالمعبر
وأشيّم أترف النجمات.. فوك شراعكم تسهر
سفن غيلان ازيرج تنحر الذاري
لون ودّن سفنهم يمّك اخباري...
الشاعر الكبير مظفر النواب


4 - من الذي خرب العراق ؟؟
علي الكندي ( 2012 / 8 / 8 - 17:29 )
بدءاً اود ان اشكر الاستاذ فلاح علوان على هذه الالتفاتة المهمة في عرض و تغطية مرحلة نضالية مهمة في تاريخ العراق المعاصر تصدت لاقبح انواع الاحتلال الانجلو - ساكسوني , و الذي فاق في وحشيته الاحتلال التركي البغيض .
و ردا على ( تعقيب ) ياسر النواس اقول
لا زال البعض من بقايا نظام الاقطاع الحالمين بعودة الامبراطورية المريضة الى العراق و العديد من دول المنطقة لكي يعودوا الى مناصبهم و مكتسباتهم و امتيازاتهم متجاهلين ان حركة التاريخ لا يمكن عكسها و العودة بها الى تلك الحقبة المظلمة
ان الاحزاب و القوى الوطنية و اليسارية في العراق كان لها الشرف في تبني و قيادة حركات التحرر و مجابهة الاحتلال بشتى الوسائل و ما قدمته من تضحيات جسام خير دليل على نبل قضيتها و صدقية نضالها و لن يضير الحزب الشيوعي العراقي مثل هذه التخرصات

اخر الافلام

.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.