الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سعيد بن جبير يموت بمغازلة القمر

محمد اسماعيل

2012 / 8 / 20
الادب والفن


قصة قصيرة
سعيد بن جبير
يموت بمغازلة القمر
محمد إسماعيل
منذ طفولتي احلم بكف الله، تمر على بيتنا، تطهره، فيسقط الشيطان من المروحة.. وامي .. تتفاخر بكونها امية، والنبي محمد امي ايضا، وان عيسى يمشي على الماء، وموسى شقه بعصاه.
مذ مات ابي، تاركا سريرها اليافع، خاليا، الا من بذرتي، في رحمها، وابن الجيران يبيت الليالي، في دارنا تجره من ياقته كما لو تجر تيسا، من قرنيه، الى غرفتها، باكتاف مدورة كالحليب (!؟) توصد الباب؛ فاظل اصطلي بالعطور.. سومرية وبابلية واكدية وفرعونية وعيلامية ويونانية ورومانية واسلامية. احيانا يضج البيت، من حولي، بعطر همجي مما قبل التاريخ.
تزكم سمعي، صورة زنجي افطس، يداهمني.
اجبر جارنا ابنه، يوما، على المبيت، في منزلهم؛ ردما لوهدة الفضائح، المفغورة فاها، بحجم الحي كله، من اقصى شبابه، في الاركان، الى اقصى العذارى، في المخادع، يتغنجن بحياء خجول.
حين استيقظ، منتصف الليل، ووجد نفسه، في دار اهله، بعيدا عن امي، ظل يصرخ، حتى مطلع الفجر: قتلى.. شيوخ قتلى وشباب، يتفيأون ظلي، اينما حللت.
جيء بأمي، له، ضحى.. على رؤوس الاشهاد؛ فبكى لمرآها، وبكت. بكينا جميعا. انا بكيت على ما فات من طفولتي، وما سيجيء، في قصة: (سعيد بن جبير.. يموت بمغازلة القمر). وتهدج ابوه بعبرة نادمة، حين انسل سرب سائب من القتلى، شيوخا وشبابا، من ظل ابنه، للشمس فعلا.
لاطفته امي، امام حشد الجيران، المتجمهرين، وقصت عليه حكاية عجوز الهور، المكرورة، التي يصغي لها، بشغف، في كل مرة.
سمعت صوتا، يستدير، ذائبا في المغادرة:
- اوي فدوة
***
منزلنا ينتصب قبالة شروق الشمس، عند نهاية طرف النصف الاول، من الحي.. يجاورنا من اليمين شحاذان، اعمى وكسيح، ويحاددنا رصيف الشارع الفرعي، يسارا.
***
غرقت عجوز في هور الصحين، فانطبعت صورتها على القاع، تتلألأ، كأنها في حوض زجاجي نظيف.
جيء بغواص لانتشالها، فاخرج حزمة اعشاب برية، من الماء، وصديري فتاة يافعة، وحذاء مناجم ثقيل، بينما ظلت صورة العجوز مطبوعة على قاع الهور، الى ان ردم، وصار برا على مد البصر، فلم تنطبع الصورة عليه؛ لنقص ببعض الاحماض الفوتوغرافية في القصة.
ايقظني زحف الاعمى والكسيح، على الظلام، ليلا، يصغيان للقبل:
- احبك اكثر من امي
عندما شعرا باصغائنا.. ثلاثتنا.. توقفا بلا مبالاة، عائدين للنوم؛ فغادر الاعمى، الجدار، يتكئ على الظلام صوب نومه، وكنس الكسيح الحوش، يزحف، متقهقرا.. بينما رائحة التمن الهابة من الشيراتون تزكم جوعي…
***
كان خميسا فجا، بثقل السبت، عند مطلع الاسبوع. ذلك المساء الذي تأخر خلاله، عن المجيء، ساهرا بين جمع من اصدقائه.
حينها تثاءب نهر من الانتظار، بين الغروب وباب غرفتها.
لم تتعش، ولم تعد لي عشاء، بل اكتفت بتكسير بعض الصحون، ونامت، بعد ان بصقت مرة باتجاه النجف والحجاز، ومرة باتجاه تل ابيب.
كانت تنوي البصاق صوب قم والفاتيكان، الا ان الحرب انتهت، وداهمها النعاس.
بعد انقضاء وطر من الليل، فوجئت به يغفو الى جانبي، في السرير، مستلقيا، كما لو كان يغفو هكذا منذ الازل.
نمنا حتى الصباح، نوما هانئا، لم يحدث ما يلفت الانتباه، سوى شزرات امي، على مائدة الافطار:
- آخر دنيا، الولد ضرة لأمه، اعوذ بالله، ستنقلب الدنيا.
بقيت طوال ذاك النهار، الوب، كلما دنوت من السرير، اشتهي الاستلقاء عليه، بغنج، كأنني عذراء، قاب قوسين من خاطر القمر، مبهورة ببواكير انوثتها، تلتاث بأول حب يخطر؛ فيشيب قلبها من شدة الخجل.
ايقظتني صورة العجوز، منتصف الليل، وادعت انها حلم يطوف في نومي:
- امك مسكينة.
ثم استدارت محلقة قرب البلاط، توهمني بأنها تمشي. كانت تلك هي الليلة الثانية، التي ينام خلالها الى جواري؛ فتركته وحيدا، في السرير، وايقظت امي:
- روحي له.
جرت ملهوفة، تدك جبالا من رجم النعاس، واندست معه في فراشي.
لا يعنيني من هذا القلق، كله، سوى العودة للاستغراق، في لذاذة النوم، من جديد، وحين اقبلت على فراشها، حانقا لأنام، وجدته قد سبقني اليه:
- انت لذيذ لن افارقك.
***
ابي الذي مات بين الجبال، بين الجبال بكى، وعجوز الهور المطبوعة صورتها على قاع الحكاية، على قاع الصحين بكت، وامي وابن الجيران تلاشيا، مخلفين صدى قبلات باهتة، يتواصل في الخفاء، لا ادركه، الا في حالات الوجد الشديد، عندما يهيج بي الشوق.
***
ابي مات بين الجبال، عندما كان في سفر، برفقة جارنا.. هذا .. ذاته، ذاهبان لارتشاف السراب، حيث قيل لهما: ان من يرتشف السراب، يشفى من سبعين علة، ايسرها الجرب والفالج والثغاء كالحملان. وحالما خاضا في اوحاله، مات ابي، وهو يشقى بسبعين علة، انبثقت فجأة، من بين يديه، ومن خلفه، ومن حيث لا يعلمان. "فحفرت له قبرا، وواريته السراب" ليعود جارنا بمفرده، يصوغ الحكاية، كيفما يشاء.
***
صارت افكاري تشبه العذراوات، بما في ذلك الدورة الشهرية، ونتوءان، توهمتهما على صدري، تحت القميص، اعجز عن اخفائهما، ورقة الاطراف. بعد ليلتين، نامهما ابن الجيران، معي، في الفراش.
***
و… جعلنا لكم من اجسادكم، زنزانات، تسجنوا فيها، حتى ارذل العمر، ومنكم من نقصفه لدغا، فينطمر في الطمى الرسوبي، للسراب، قبل بلوغ الوطر، اننا ما نزال بكم حائرين..
نزق قرآني
***
كنت الوحيد الذي لم يفارق الحي، هاربا؛ عندما انبلجت امي من الفراغ، حبلى، بجنين يرفس في رحمها…
… اناي التوأم
… هادئ اول الامر، ثم اشتدت رفساته، وانتفض، باقرا بطنها، لينتشر، ازرق مثل جرف السماء:
- اين الناس؟
- ويل للعالم من عثراته!
- الدكتور 305.
ثم استلقى يستريح من عناء المخاض، بعد ان انوجد، وامحقت امي، شظى متلاشيا.
تستكين جبال ووديان ملامحه الشاسعة، مثل تضاريس الهندسة الكيميائية في جمال قند، وداعة طفولية، تشبه اوصاف ابي، الذي لم اره.
خلا الحي من السكان؛ اذ هربوا؛ نجاءً بارواحهم، تاركين الدين والدنيا، فهذا يترك قاصة امواله مفتوحة، وذاك يبقي الحمد في منتصف الصلاة دائرة ....
… القداسات تذبل.. رماد ترانيم، تذروه الريح، في الكنائس الخاوية.. ظلماء.. على عروشها.
ليس سوى بضعة اولاد، نسيهم اهلهم يلعبون؛ ظنا منهم انها القيامة ".. تذهل كل مرضعة عما ارضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى.."
تخفى الاولاد وراء سياج المقبرة، يتلصصون على الكسيح، وهو يمتطي كتفي الاعمى، سائرين، وسط القبور الوارفة ضحى.
تلفت الكسيح حوله، يتأكد من خلو المكان، ثم طلب من الاعمى، انزاله، فانزله، كما الدمية.
ولما استوى على الارض، زاحفا، وضع بيد الاعمى، عثق تمر، وراح ينبش في التراب، يستخرج جثثا متآكلة، وهياكل عظمية منهارة.
يكرز الكسيح العظام بتلذذ؛ فتنتعش نبضات قلبه مثل باقة قمر الدين (!؟) متخيلا نفسه، يحتذي جناحين، يحلقان به، فوق سحاب الجنة العاطر، وهو يمطر عفاريت لاهبة؛ فيوقظ صوت التمر، ممضوغا، بين فكي الاعمى، وهو يتذوقه، بتوجس، اول الامر، ولما يجده تمرا الى اقصى مديات الخيال، يوغل في الاكل، كما لو كان يكحل حسناء من اجمل حوريات الحي، ليلة زفافها.
تعبت انا من الكتابة، واتعبني التفكير بميديا فخر الدين، وتعـــب الاولاد من التلصص، والكسيح من الموتى، وتعب الاعمى من لذاذة التمر الشبيه بكحل البنات.
للعظام التي ابلاها الموت، وعتقها الثرى، طعم اغبر، تحت اسنان الكسيح، يمضغه سعيدا.
امتلأ الحي، بركام الوحشة، التي فارت من ساعة الحائط، المعلقة في غرفتي؛ مثلما فار الماء من التنور.
ظل الهولة الوليد…
… شقيق روحي…
… يتنامى، مربكا الكواكب والنجوم، في افلاكها، وهي ترتطم بجسامة جرم جثمانه العظيم.. تشجه.. وظل يتضخم حتى تلاشى، اثيرا في الفضاء.
وبقيت وحدي، استوحش ليلتين، هانئتين، في السرير، تضرج خلالهما نومي، بالقبلات السمر مثل عذراء يافعة، قاب قوسين، من خاطر القمر، مبهورة ببواكير انوثتها، تلتاث بأول حب يخطر، فيشيب قلبها، من شدة الخجل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با