الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين تبعثرني الأمكنة...

جواد وادي

2012 / 9 / 21
الادب والفن


تعتريني وأنا التقط هذه الصورالمذهلة دهشة المكتشف لعالم لا يوجد إلا في الخيال، إنما وآنا أتوحد مع تفاصيل اللحظة الآسرة، اشعر بأنني مخلوق جديد، هبط من عوالم قصية،إلى حيث الإعتراف بأن الغياب الجسدي كان بمثابة المحو الآدمي للوجود برمته.
أمكنة لا يمكن وصفها وتعجز عن الإتيان بتعاويذ كي تستعيد توازنك الجسدي والفكري، أين أنا من هذا التداخل المذهل مع المكان والبشر وتعدد اللغات الغائرة في سرادق التأريخ وعلى صفحات الكتب والذاكرة الخصبة، فليس من اليسير الوقوف عندها وإستشرافها حتى ولا الإقتراب منها.
هل هي القصدية بتوزيع جغرافيا البشر كما ذكر الإله، بوجود الفردوس للمؤمنين والجحيم للآبقين؟
اشعر بحيرة حتى مع قلمي لفشلي أحيانا بإلتقاط الصورة بخطاب آدمي يعيد توازني والإمساك بذاتي الكسيرة والتي أحالتها الكوارث إلى ذات مهشمة أصلا............
أمامي وجوه آسرة تتوزع على محياها الإبتسامات بألوان شفافة ومغرية وكأنني أتنسم أريج ملائكة، لا أجساد آدمية!
يحاصرك البشر الوديعون من كل جانب، لا أحد منهم يجافيك أو يرمقك بنظرات كلها استفهامات، كما عودنا الخائبون ونحن نعيش بين ظهرانيهم ليلا ونهارا ولعمر مديد، مطوقين بالأحاجي والأسئلة الماكرة، حولتنا قسرا إلى مخلوقات لا تعرف كيف تفرق بين مخلوقات الله أبشرا أم دوابا!
الذي يجمل الإحساس بوجودك كله الوجود الأنثوي الفاتن والمغاير لما ألفت من دلس وخفايا رثة وتشويه لحقيقة الإنسان المقدسة، خليفة الله وصورته الجميلة على الأرض، حتى ممن نسميهم بالجنس الناعم والمخلوقات الوديعة، وحين تقارن ما أنت فيه وما ألفته، تجد الفرق جليا وحاضرا بقوة. نساء هذا المكان مادة للخلق الحقيقي، يمنحك الإحساس بآدميتك التي كلستها علاقات شائنة ووضيعة.
المخلوقات الأنثوية التي تتجسد امامي غير مألوفة، بأجساد منحوتة حد الدهشة، ووجوه ما رأيت مثيلا لها طيلة حياتي، كانت تقودني اليهن لغة هامسة وغير مفهومة وأنا في هذا التيه الذي يحملني إلى متاهات لا أعرف منتهاها.
الوضع يعيد تشكيلك وكأنك ما عاينت أوعشت أو أحسست ما يماثله أبدا، كأنه سديم من اللذات وأنت وسط هذه الكائنات الفاتنة والحافلة بالشبق الطفولي البهي.
هو ليس بذلك العالم الذي أنتج بشرا مثلنا، ترعرعوا على أرض ليست كالتي نحن عليها الآن، لا نعرف غير الضباب والعتمات والإخفاقات ولعلعة الرصاص، يبعثر ترتيب الأشياء ببساطتها، يلاحقنا شبح الموت وتحيط بنا الكوارث ولا من يسمع استغاثتك، تطوقك لعنات السلف الممسك بكراديس الممنوعات، ولا من سبيل للفكاك من ربقة الحصار الجاثم على صدورنا.
يا لها من محنة وأنت تعيد ترتيب الأشياء بجهد جهيد في هذا الموج االمتلاطم من الأحاجي واللا مفهوم فيما يدور حولك.
ما أشاهد من حراك آدمي أمامي كأنه موجات من الخدر اللذيذ يغزوني لتتشكل من جديد وكأنك طينة خلق طيعة التكوين حتى وأنت في هذا العراك العمري مع تفاصيل الوجود برمته.
قد تذهلك التفاصيل وقد تذهب بعيدا في شكك بأنك لا تعدو كونك مخلوق تحجر تكوينه عبر دوامة الأنين اليومي منذ أمد بعيد، وما أنت فيه الآن مجرد أحلام يقظة لا أكثر.
لكن سرعان ما تشعر بالإنتشاء وانت تتلقى الترحاب من حولك وتسمع اصواتا رحيمة تفتح صدورها لتدخلك في مجساتها حبيبا ووديعا، وهذا ما يذهلك حتى وإن كان أمرا محسوسا وأنت قادم من مجاهل بعيدة ونفق سحيق وموغل في العتمة والنسيان.
كنت أرسل بين الفينة والأخرى خطابا يتيما ومرتعشا، بأنني مخلوق كسير، وأنا منكمش على نفسي دون تجاسر أو حتى محاولة الإقتراب من هذه المخلوقات الآسرة، بوجدها الفاتن خوفا من المفاجئآت غير المحسوبة العواقب والتي قد تعيدك إلى أبجديتك الأولى بكل مخاضاتها وأوجاعها المخيفة.
أرى اللحظة أمامي تفاحتان ناظرتان تشعان فتنة والقا ورغبة في الإمساك باللحظة المتاحة قبل ضياعها، كانتا تنفثان دخان سجارتيهما بطريقة تثير الاستغراب وهن غارقتان في حديث بلغة الوطن، كانت إحداهن تطيل النظر نحوي وانا غارق في تيهي ولا أعرف تفسيرا لذلك.
مثلما بدوي وضع أوزاره ليستريح من وعثاء السفر، ليعقر ناقته وسط هذا المد البشري المتلاطم بكل جميل وباهر، هكذا كنت اجد نفسي وأنا كما الخارج من شرنقة منفية في أصقاع منسية منذ زمن بعيد، ليجد نفسه فجأة وسط عالم لا يعرف كيف يتعامل معه، ليعود جزءا منه ولو لحين من الوقت!
يحاول أن يرمي ثقل أوجاعه خلف ظهره، ويتجرد من ملامح القهر البادية على محياه، ليعاقب زمنا مرا، مر به وتلظى من أوجاعه بغضاضة قد لا يفهمها أقرانه ممن تركهم يتقلبون في ذات الدمس المخيف.
هكذا اجدني وكأني امتلكت جناحي نسر كاسر، ولكنه يتهيب للإنقضاض على فريسته لركام الخوف الكامن بداخله حتى يتقئ أنفاسه الموبوءة ليستبدلها بأخرى تتنسم عبق الحياة الجديدة.
أين أنا الآن من هذا الإتساع الهائل في المكان والحركة بعد أن كانت خطواتي محسوبة بالقيراط، لا يغادرني الخوف حتى وأنا بعيد عن ماكنة المحو المرعبة بآلاف الاميال، أليس هذا نصرا حقيقيا على أفعال البشر الآبقين؟!
فقط الآن أحسست بإمتلاك آدميتي التي صادرها الطغاة لأربعين عاما، لأرى الأشياء بنظرة جديدة، بشرا ووجودا آدميا على السواء، وأنا في هذا الفردوس الآسر، الآن أجد من حولي أناسا محتشمين وهم ينتزعون من تحت جلودهم خجلهم ليدخلوا منافذ طيعة ووديعة وكأنهم نوارس تائهة وجدت للتو شواطئها التي تبحث عنها منذ وقت طويل.
يا للروعة! كم أنا الآن فائق التوحد، أتودد لذاتي لتنحو منحى آخر غير ذاك الذي جبلت عليه، لتقترب أكثر للإمساك بهذه التفاصيل الحبيبة من أرصفة ومياه وأمكنة آمنة يوثثها بشر وديعون تنتمي لصيرورتها الأولى بنقاء وبراءة تكوين آدمي حقيقي لتعود الكينونة إلى منتجع باهر للأشياء والبشر الأسوياء.
المح وجها ملائكيا يحتويني بعيون خجولة ترمقني لأرتفع أكثر لعوالم لذيذة، اتلفت حولي لأتأكد من حقيقة ما أرى، فأتبين أنه أمر حقيقي دون غشاوة في الرؤيا لينسيني نكساتي، يعتريني الإرتياب بين لحظة وأخرى لتعود للحيرة سلطة بممكنات قد تعبث في نشوتك وحسب. إنه ضمور آدمي لتفاصيل وجودك يبتزك أحيانا بالشهوات وأخرى بالخوف القاتل وأنت لا تمتلك أدوات التنفيذ.
صبية مائعة في عقدها الثاني أو أصغر بقليل، قد لا تعي أشراقاتها الفاتنة، تداعب صبيا جميلا بعمرها، فتضفي على ظهر الباخرة ألقا وحالة لذيذة من الإنتشاء، تمارس براءتها وهي تمسد شعر رفيقها فيبادلها هو بقبلات سريعة ومحتشمة كي لا يستفز فعله شبق الجائعين مثلنا وتحدث الفتنة، كما يمارسها فقهاء الظلام الشبقيون سرا، والطاهرون علنا ودون مواربة.
قد لا أجد من يفسد لحظتي سوى أؤلئك الزاحفين من غياهب التردي القيمي والأخلاقي، المدججين بفتاوى الممنوعات وهم يبحثون عن منافذ للولوج إلى عوالم الشبق والفحولة المستعرة قهرا وخوفا وزبدا ذكوريا بحجم مفاوزهم القفراء، ديدنهم أن يغيروا جلابيبهم بمسحات تبقى علامات لا يمحوها المكان وكأنهم مخلوقات تتلون كما الحرباء دونما ذرة حياء وهم يزحفون من أسرتهم الضاجة بالترف الرث والشهوات البهيمية والتي لا تعرف النكوص حتى وهم في هذه العوالم الترفة والشديدة النقاء.
ـ أدور في راحة الكلام فتهرب مني الأحجيات--
صبايا يحلمن بالغنج الطفولي، لعل بعضهن يحلمن بفرسان أكثر فحولة تشبع نهمهن لإكتشاف قدرة احتوائهن للجوع الذكوري الذي تميزه تلك العضلات المفتولة لشباب لا يذهبون بهمومهم أبعد من مغازلتهن لتسقطن في فخاخ الشبق الذي قد يفوق الحالة الآدمية السوية وهن يدركن حجم المغامرة ولكن الفعل قد يتفوق على كل الخطوط المرسومة لهن ولا من عودة عن الزلات المحفوفة المخاطر.
صبايا ونساء بأعمار متفاوتة لا فرق، يرتبن لأسرتهن الليلية فرسانا جدد بعنفوان خرافي يشبع رغباتهن الغضة، أسمع صخب بعضهن وهو يخفي إنتباه من يجد في نفسه كفاءة العطاء وقدرة التحدي، ومع ذلك ارى إنهن يبحثن عن المزيد دون ملل أو عياء.
لعل بعض الإناث الفاتنات المكتنزات الأرداف، هن بنات ليل وممن أدمن إرتياد العلب الليلية، يبدو ذلك من طريقة لباسهن وبروز صدورهن العامرة وهي ترتج كلما اهتزت لموجة عابرة دكة الباخرة التي تقلنا إلى الضفة الأخرى، ولا تبرح عن شفاههن السيجارة التي ظلت لصيقة طيلة الرحلة. احيانا تصدر منهن ضحكات بلهاء بصخب يثير التقزز، خلاف ما أراه في الجانب الآخر من إبتسامات رائقة وشفيفة لصبايا يغازلن الريح بغنج طفولي أثير.
عند هبوطنا لأرض جزر الأحلام، اول ما تواجهنا منعرجات ما ألفنا مثيلا لها، بتضاريس متنوعة الأشكال، لأمكنة هي معارج حقيقية تدفعك لإكتشافات جديدة دونما قصد، ولا تعرف كنهها ولا طبيعة تكوينها الأركيولوجي والجيولوجي، حيث تولي وجهك، مما يثير دهشتك ويجعلك أكثر قربا والتصاقا بتفاصيل المكان...
ما يدهشك لغة البشر باعدادهم الكبيرة وكأنهم يتوحدون بلغة واحدة، رغم تعدد أشكالهم والوانهم وأعراقهم، قادمين من أصقاع الدنيا ولا رابط يوحدهم سوى تلك المشاعر الشفيفة للتعلق بجغرافية الأرض الباهرة التضاريس والتكوينات، والبادية جليا على وجوههم...
تلك لم تشكل لي حيرة في التواصل مع هذه المخلوقات الوديعة، وكأنك تعيش وسط أسرتك وآل بيتك، ولا من غريب بينهم. أليس هذا الأمر مدعاة للبهجة الحقيقية حين تتوحد مع الآخر دون سابق معرفة؟
يا لها من نعمة لا يدركها إلا الآدميون الباحثون عن سر السعادة الحقيقية بعيدا عن منغصات الحياة ومغرياتها الرثة، من مال وجاه وكراسي سلطة عرجاء لا تشعرك بانتمائك للآخر، حين تفعل غشاوة الطمع والنوازع المريضة فعلها لتلوث اجمل ما في المرء، وهو الإحساس بوجوده الإنساني النقي؟
كنت شديد التحسس في تلمس طريقي أينما إتجهت قدماي، وكأنني تائه وسط مروج شاسعة وغابات لا حد لها، وأنا أحث الخطى لإكتشاف الجديد، قد تغريني للتشبث بالمكان وما أكثر الأمكنة التي تسحبك قسرا لولوجها، لتجد نفسك ضمن تفاصيلها وكأنك إبن المكان أصلا، ولدت وترعرعت فيه دونما قصد، لتتبين كم هي حبيبة إلى القلب تلك الأمكنة، رغم أنك لم تطأها ولم تتعرف عليها إلا لأيام معدودة، ولكن عبقها الضارب بقوة في نفح التأريخ، تمنحك مشاعر من الدهشة اللذيذة، كأنه خدر يغزوك لتتحول الى وداعة طفل رضيع او براءة العصافير الراقصة على أفانين العشق، لتوزع رضابها بزقزقات حبيبة، هكذا كنت أجدني وأنا في هذا المحراب الصوفي الدامع عشقا إلهيا، والذي لا يعرف المناورة بالإنشداد اللحظي إليها، لتتحول إلى مسرات تجمل لحظة وجودك برمته.
يا إلهي كم هي أسيرة هاته النساء وهن يتخاطفن أمامك كأنهن الفراشات الشفيفة لتطغى روح المرح على كل ما أرى على أجسادهن ولفتاتهن وهن يوزعن التباشير الحلوة والكركرات الوديعة لمن يرافقهن من الرجال، شبابا ويافعين، وحتى الشيوخ، أراهم شديدي التعلق بإناثهم اللائي لا يبدو أن الشيخوخة الواضحة على مسحاتهن قد قللت من تعلقهن بذكورهن بإناقتهن الواضحة جدا. فهم يرتدون جميعا نساء ورجالا، أبهى الملابس المثيرة بنظر تربيتنا المعوجة، ولكنها الزاهية بحلتها القشيبة، دون مراعاة لخراب الذوق الإنساني الذي نتسم به نحن الأعراب.
حتى خلال فترات الإستراحة والإسترخاء، تظل الصور عالقة في مخيلتك كي لا يغادرك خدر تمنيت أن يظل رفيقا لك دائما، لتشعر بنعمة الحياة الجميلة، بعيدا عن منغصات الحياة التي أدمناها دونما فكاك من أسرها المر والقاتل.
هل نحن مهمشون الى هذا الحد؟! وهل أننا تكلسنا بهذه الطريقة الفجة؟! بحيث بتنا نعيش خارج الحضارة وليس على هامشها حتى، ولزمن يقض مضاجعنا ولا نربح منه غير الخنوع والمذلات؟!
الهيئات الآدمية ذاتها والوجوه البشرية، لا تختلف كثيرا برغم ان مسحة الجمال على بعض وجوه بعضنا قد تكون الأبهى، ولكنها ليست بذات البهاء الذي يبدو على محياهم والتي تشع منها إشراقات لا نحتكم عليها وتغيب عن ملامحنا، وكأن العبوس علامة تميزنا عن غيرنا من البشر الهانئين.
ترى ما السبب لهذه الإختلافات الفيزيولوجية التي أظلمت وجودنا بالكدر الدائم؟!
يقينا أن هناك أسبابا عدة، منها البيئية والغذائية والتربوية والحركية والحياتية وحتى الدينية، وقبل هذه وتلك السياسية بغمها وظلمها وشراستها وبلاويها.
إذن نحن نتاج كل هذا الخليط العجيب، فيا له من قدر لعين أن نتواجد في هذه المساحة الكونية المبتلية بكل شائن وشاذ وردئ، لا ناقة ولا جمل لنا فيما قادتنا أقدارنا لهذه الغمة وهذا البلاء الخطير.
اللعنة على الوقت، تمنيت لو يتوقف في هذه البقعة المباركة دون أن يقترب بنا إلى نهاية هذه الملذات الفردوسية، لكن لا مناص من العودة والتي إربكت كثيرا احاسيسنا، باننا شئنا أم أبينا سنعود إلى حيث الهم اليومي المندوف بالحسرات لحظة بلحظة، بعد أن أفلتنا من ربقتها ولو لحين.

كاتب وشاعر عراقي مقيم في المغرب*
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما