الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التأثير السبينوزي على أينشتاين

محمد رتيبي

2012 / 11 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التأثير السبينوزي على أينشتاين
( قراءة في مواقف أينشتاين )
بقلم : محمد رتيبي

يعتبر أينشتاين من بين العلماء القلائل الذين خلقوا توجها نوعيا في تاريخ الفيزياء ، إذ أن صدور النظرية النسبية بشقيها الخاصة والعامة قد قلب تصورنا لمجموعة من المفاهيم . لذا يمكن القول إن النظرية النسبية كانت بمثابة ثورة ، ثورة لم تبق حبيسة المجال العلمي ، إذ أنها اكتسحت المجال الفلسفي . بل إن القارئ لنظرية أينشتاين ليجد نفسه إزاء نظرية فلسفية تستمد جذورها الميتافريقية والإبستملوجية من فلسفة سبينوزا . وهنا قد يتساءل القارئ : ما علاقة سبينوزا الذي عاش في القرن السابع عشر ، بعالم من أكبر علماء القرن العشرين ؟ بعبارة أخرى أين يتجلى حضور سبينوزا في مواقف أينشتاين ؟
إن الدارس لكتاب الإيتيقا ليجد نفسه إزاء كتاب يتخذ من المنهج الرياضي الهندسي طريقا لعرض تصوراته ، فلقد عمل سبينوزا على اقتفاء أثر إقليدس . إن هذا الأمر يوضح شغف سبينوزا بالرياضيات وبما حققته من نتائج . فلقد اتخذ الفيلسوف من المنهج الرياضي سبيلا لعرض أفكاره وتصوراته ، وذلك لأن يقين الرياضيات هو أعلى درجات اليقين . إن حقائق الرياضيات يقينية بذاتها ، فهي إن صح التعبير تفرض نفسها على العقل ، حتى أن هذا الأخير غير قادر على التشكيك في صحتها . لقد كان سبينوزا واضحا في موقفه من الرياضيات ، فالفيلسوف ينشد الحقيقة والدقة والوضوح . هذا الثالوث لا يمكن أن يتحقق بدون منهج رياضي أصيل . إن هذا الموقف السبينوزي نجده حاضرا في موقف أينشتاين من الرياضيات ، بحيث نجد هذا الأخير يتحدث عن صورة العالم قائلا " إن هذه الصورة تشترط أعلى مستويات الدقة في وصف العلاقات بما لا يتوفر تحقيقه إلا بالتزام الرياضة لغة للوصف " وتبعا لهذا القول فقد قرر أينشتاين أن الرياضيات هي القادرة على وصف العالم وصفا دقيقا ، لذا فالدقة هي سمة الرياضيات . إن موقف أينشتاين ليس بعيدا عن موقف سبينوزا . وهناك نقطة أخرى يظهر فيها تأثير الفيلسوف على اينشتاين ، وهي تلك المتعلقة بمسألة المعرفة، فمعلوم أن سبينوزا قد أكد أن المعرفة الحدسية هي أرقى أجناس المعرفة . وأينشتاين لا ينفك يؤكد نفس الأمر حين يعلن بأن سبيل العلماء لتكوين صورة صحيحة حول الكون يكمن في الكشف عن قوانينه العامة ، وهذا الأمر حسبه لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الحدس لهذا نجده يقول بصريح العبارة " إن الحدس وحده هو الذي يستطيع التوصل إليها وعليه يمكن القول أن الجذور الإبستيمولوجية لفلسفة سبينوزا حاضرة بكيفية واضحة في في موقف أينشتاين فيما يخص تصورة للمعرفة الصحيحة ، وكذلك من حيث الشغف بالرياضيات ، بما هي المنهج الأصيل للوصول إلى معرفة واضحة ويقينية .
من المسائل المهمة التي يظهر فيها التأثير السبينوزي على أينشتاين ، موقفه من الله والدين ، فمعلوم أن سبينوزا رفض ثنائية ديكارت ، ورفض أيضا التصور التقليدي عن الله ، أي التصور الذي ينسب لله صفات وأفعال بشرية ، كالغضب والرحمة والبصر ...إلخ . حمل سبينوزا على هذه الأفكار ، بحيث أصبح كلمات الله والطبيعة كلمات مترادفة . لهذا نجده يقول " الله علة محايثة لكل شيء وليس علة متعدية " فكل ما يوجد إنما يوجد في الله . وتبعا لذلك فالله هو العلة الضرورية لوجود الأشياء جميعا . وعلى العموم يمكن القول أن سبينوزا ذهب إلى توحيد الله والطبيعة . ذلك أن خوف الإنسان من الأخطار التي تداهمه باستمرار هو ما يجعله يتوهم بأن هناك إله مثله مثل الملك ، له سلطان مطلق على الطبيعة ، وأن هذا الإله يعمل على تسخير الطبيعة طبقا لرغبات الإنسان . إن هذا التصور السبينوزي نجد حاضرا عند أينشتاين في موقفه من الدين ، فالمعتقدات الدينية نشأت بفعل الخوف ، كالخوف من الوحوش مثلا أو من الألم " فالإنسان القديم لم يدرك " وجود الارتباط السببي للأشياء إلا إدراكا واهيا لذا ابتدع العقل البشري كائنات وهمية أشبه ما تكون بأنفسنا تسيطر بإرادتها على ما نرهبه من الحوادث 4" إن هذا الموقف هو موقف سبينوزي بلا شك ، فالصورة الشائعة عن الله ليست سوى أوهام بشرية . والإنسان هو الذي نسب إلى الله صفات بشرية ، وذلك لكي يروح على نفسه قليلا . ومعلوم أن سبينوزا انتقد الطقوس ، وذلك لأنها ليست هي التي تشكل ماهية الإيمان ، بل إن جوهر الإيمان يكمن في العدل والإحسان ، فالكتاب المقدس لا يلزمنا بشيء أكثر من ذلك . أما الطقوس فلا يمكن أن تؤدي إلى الخلاص بل إن لها وظيفة دنيوية . لذا يقول سبينوزا " لا شك إذن أنه لم يكن لطقوس العهد القديم صلة بالقانون الإلهي ، وأنها لا تسهم بشيء في السعادة والفضيلة ، بل تتعلق باختيار العبرانيين فحسب 5" وتبعا لذلك فالطقوس هي من صنع البشر ، لا علاقة لها بالله فما هو موقف اينشتاين إزاء هذا التصور ؟
عندما نقرأ موقف اينشتاين نجد أن هناك حضورا قويا لباروخ ، إذ إن اينشتاين لا ينفك يؤكد أن الطقوس هي من ابتكار الناس ، فالإنسان فكر في "استجلاب هذه الكائنات بأن قدم لها القرابين ، وأقام لها الشعائر والطقوس ، التي انتقلت بطريقة تقليدية من جيل إلى جيل 5" إن مثل هته الديانة تمثل الرعب وتبث الهلع في قلوب الناس . فالكنسية حسب اينشتاين استغلت هته الطقوس لصالحها بأن نصبت من نفسها وسيطا بين المؤمن و "الله" ولكن أليست هته أفكار سبينوزا ؟
لقد حارب سبينوزا الكنيسة وما تدعيه من سلطان في تفسير النصوص المقدسة ، فالمؤمن يجد نفسه إزاء طقوس يتعذر عليه فهمها لذلك سهل على رجال الدين الاستحواذ على عقول الناس بذريعة الورع الديني . رفض سبينوزا الطقوس ، نظر لأنها تقسم المجتمع شيعا متناحرة ، إذ أن كل طائفة تدعي أن لها الفهم الصحيح للدين ومن ثم فذبح المخالف واجب يفرضه الله على عباده الصالحين . لذلك يمكن القول أن ألبرت كان شغوفا بما بالنقد الذي وجهه سبينوزا للدين . وهناك نقطة أخرى لا يمكن تجاهلها وهي توضح مدى تشابه الفيلسوفين في نظرتهما للطبيعة ، فلقد أكد سبينوزا أن الطبيعة تسير بقوانين صارمة ، هذه القوانين لا يمكن أن تخرق . فالطبيعة تسير بمقتضى قانون العلل والأسباب . لذلك لا يمكن القول بأن ظاهرة ما تحدث بطريقة عشوائية. يؤكد أينشتاين نفس الموقف بقوله " إن الفرد يحس من ناحية بعبث رغبات البشر ، ومن ناحية أخرى بالسمو والانتظام الرائع اللذين يتجليان في الطبيعة والفكر 6" إن غرضنا من هذه القراءة ليس الطعن في مواقف اينشتاين ، وإنما إبراز مدى تأثير سبينوزا على كبار المفكرين ، وذلك حتى نبرز خصوصية الفلسفة السبينوزية وأصالتها . وليس غرضنا أن نعطي تأويلات قسرية لنصوص أينشتاين ، بل إن هدفنا هو محاولة إيجاد الخيط الرابط بين هذين العملاقين .
إن المرء الذي يقتنع بأن الطبيعة تسير وفق قوانين ثابتة ، لا يمكن أن يذهب إلى الاعتقاد بأن الله يتدخل في الطبيعة لذا يذهب أينشتاين إلى أن " المرء الذي اقتنع اقتناعا تاما بأن قانون السببية يحكم جميع الحوادث الكونية ، لا يمكن أبدا أن يقبل فكرة كائن يتدخل في مجرى الحوادث 7" . ثم إن المرء حسب اينشتاين ليحس بنشوة عارمة حينما يدرك بأن كل ما في الكون إنما خاضع لعلل ضرورية ، إن هته اللذة لا يبلغها إلا من كان ذو تفكير عميق . ويستمر أينشتاين في تأكيد موقفه بوصفه لشعور العالم حينما يفهم تلك القوانين بقوله " ما أروع الإيمان بمعقولية الكون 8" . ولقد ذكر أيشنتاين سبينوزا بصريح العبارة ، إذ اعتبر أن هذا الأخير قد وصل إلى ذروة الشعور الديني ، وهذا السبب هو ما جعل الناس يتهمون سبينوزا بالهرطقة والإلحاد 9. إن القارئ لأينشتاين ليجد أن تصوراته الفلسفية إنما هي تعبير عن استيعابه لفلسفة سبينوزا وشغفه بهته الفلسفة ، التي هي فلسفة ذات طابع علمي .
من بين المسائل التي تبرز حضور ميتافزيقا سبينوزا في فيزياء أينشتاين هي مسألة الحتمية ، فلقد أكد سبينوزا أن كل ما يحدث في الطبيعة خاضع للضرورة ، وذلك لأن "الله هو علة لجميع الأشياء بشكل مطلق10" فكل شيء ينتج عن قدرة الله اللامتناهية منذ الأزل وإلى الأبد . وتبعا لذلك فحتى المستقبل محكوم بالضرورة ، لأن قدرة الله سرمدية . هذا التصور الحتمي نجده جليا في تصورات أينشتاين ، لأن العالم محكوم بالعلل والأسباب وعليه " فالمستقبل للعالم في جميع دقائقه محدد وحتمي مثل الماضي تماما 11" إن تمسك أينشتاين بموقف سبينوزا القائل بالحتمية هو ما يفسر رفضه لمبدأ عدم اليقين الذي تقدم به العالم الألماني هايزنبيرغ ، ذلك أن تصور هذا الأخير يرفض مبدأ الحتمية ، ويقول باللايقين . ومن ثم لا سبيل إلى القول بأن الوجود خاضع لقوانين حتمية . لقد ضل أينشتاين رافضا لهذا المبدأ ولعل قولته الساخرة "إن الله لا يلعب النرد في الكون" هي أبرز دليل على ذلك . وقبل أن نختم نود الإشارة لنقطة أخيرة . هته النقطة هي مسألة العلاقة بين اللاهوت ، والعلم . فمعلوم أن سبينوزا تطرق لهذه الإشكالية التي شغلت الفلاسفة ردحا طويلا من الزمن . وقد قرر الفيسلوف فصل اللاهوت عن العقل ، لأن كل واحد منهما يهدف إلى غاية مختلفة عن الآخر . فغاية الدين هي التقوى بينما غاية العقل ( عندما نتحدث عن العلم والفلسفة فنحن نتحدث عن شيء واحد ، وذلك لأن عصر سبينوزا لم يشهد بعد انفصال العلوم عن الفلسفة . وعلى العموم فعندما يتحدث سبينوزا عن الفلسفة فهو يقصد العلم والعكس صحيح ) هي الحقيقة . لذا انتهى سبينوزا إلى ضرورة الفصل بينها ، بحيث لا يتدخل إحداهما في الآخر . وعليه فالسؤال المطروح : هل يمكن أن نجد صدى لهذا الموقف عند أينشتاين ؟
يذهب أينشتاين إلى أن الإيمان ضروري للعامة ، لأنه يحث الناس على الفضيلة والتقوى أما العلم فإن غايته هي فهم الظواهر الطبيعية وإيجاد العلاقات بينها ، فلا يجوز للاهوت أن يتدخل في العلم ، لأنه في هذه الحالة ينصب نفسه خصما له . إن تدخل الدين في العلم من شأنه أن يعرقل مسيرة هذا الأخير ، ولعل ما فعلته الكنيسة ما جاليليو يؤكد صدق قولنا . لا تصادم بين الدين والعلم ، لأن هذا التصادم ينشأ عندما ينتهك أحدهما مجال الآخر وفي هذا السياق يذهب اينشتاين إلى أن " الاختلاف بين الدين والعلم ينشب عندما تصر جماعة دينية على أن كل ما ذكر في التوراة صدق مطلق ، وهذا يعني تدخلا من جانب الدين في دائرة العلم 12" وتبعا لذلك يمكن القول بأن أينشتاين قد شكل توجها علميا وفلسفيا يستمد جذورة الإبستمولوجية والميتافزيقية من فلسفة سبينوزا .






المراجع
1 : ألبرت ، أينشتاين ، أفكار وآراء ، ترجمة : د : رمسيس شحاته ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ص ، 9 .
2 : نفس المرجع ، ص 10
3 : د : أحمد العلمي ، سبينوزا ، في الفلسفة والسياسة والإيتيقا ، أفريقيا الشرق ، ص 37
4 : ألبرت ، اينشتاين ، أفكار وآراء ، ص 243 .
5 : باروخ ، سبينوزا ، رسالة في اللاهوت والسياسة ، ترجمة حسن حنفي ، دار الطليعة ، بيروت ، ص 205 .
6 ، 7 ، 8 ، 9 : ألبرت أينشتاين ، أفكار وآراء صص 244 ، 245 .
10 : أحمد العلمي ، سبينوزا ، في الفلسفة والإتيقا والسياسة ، ص 36 .
11 ، 12 : ألبرت ، أينشتاين ، أفكار وآراء ، صص 245 ، 249 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل دعا نتنياهو إلى إعادة استيطان غزة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. روسيا تكثف الضغط على الجبهات الأوكرانية | #غرفة_الأخبار




.. إيران تهدد.. سنمحو إسرائيل إذا هاجمت أراضينا | #غرفة_الأخبار


.. 200 يوم من الحرب.. حربٌ استغلَّها الاحتلالِ للتصعيدِ بالضفةِ




.. الرئيس أردوغان يشارك في تشييع زعيم طائفة إسماعيل آغا بإسطنبو