الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع الباحث ثامرعباس

سعدون هليل

2012 / 11 / 11
مقابلات و حوارات


حوار مع الباحث ثامرعباس:
حاوره: سعدون هليل

ثامر عباس مفكر نهضوي يتمتع برؤية خاصة تتطابق مع واقعنا ويترك بصماته للأجيال القادمة لما له من بواطن معرفية ، ذات تشخيصات لحقب التاريخ العراقي من تغييرات سياسية وثقافية واجتماعية وانزياحات قيمية . تثير كتابات الباحث على الدوام جدالات ساخنة بسبب فهمه للواقع العربي والعراقي خاصة . احتوت كتاباته على الهوية العراقية وطبيعتها ومهمة المثقف العراقي واتجاهاتها ، وبهذا الخصوص أصدر كتباً كثيرة منها ( الهوية الملتبسة، الشخصية العراقية واشكالية الوعي بالذات) ( الوعي الديمقراطي دروس أولية ) ( أقنعة وأساطير مقاربات في السوسيولوجية العراقية ) ( تقديس الزعامة في ظاهرة الكارزما السياسية ) أغلب ماطرحه في هذه الكتب تسلط الضوء حول اشكالية الديمقراطية والمساوات والحرية والتسامح.

*ماخصائص الثقافة العراقية وتجربة التثقيف الذاتي فيها ؟
_على قدر ما أشيع عن العراق بصدد كينونته ؛ موطن الحضارة بلا منافس ، وموئل التاريخ بلا منازع ، ومبدع الثقافة بلا سابق ، للحدّ الذي كتبت عنه وحوله العديد من البحوث والدراسات ، التي أضحت في مضمار أدب الاستشراق العالمي مصادر كلاسيكية ، لا يمكن لباحث جاد أن يلج هذا الحقل المعرفي المتنوع ، دون المرور بها والاعتماد عليها والشروع منها والإياب إليها . بيد إن هذه الحقيقة التاريخية لا ينبغي لها أن تحجب عنا حقيقة أخرى ، لا تقل عنها أهمية في ميدان التحري السوسيوتاريخي . إذ ليس من الموضوعية العلمية في شيء الإشاحة عنها والتعتيم عليها مفادها ؛ إن أشكال الثقافة وأنماط المعرفة التي نمت وتطورت في أصقاع أخرى من العالم ، وفقا"لسيرورات جدلية من التراكم والتناضد ، لم تكن تشكل بالنسبة للمجتمع العراقي سوى واحات صغيرة وجزر متباعدة ، تعوم فوق بحور من مظاهر اليباب الفكري والجدب المعرفي والخراب الثقافي . ولذلك فقد اتسمت هذه الأنشطة الروحية – على قلتها وندرتها – بطابع كونها نتاج إبداعات الخاصة لا مكابدات العامة ، وحصيلة إرهاصات النخب لا مخاضات الشعب . وبصرف النظر عما شهدته حقب التاريخ العراقي من تغييرات سياسية وتحولات اجتماعية وانزياحات قيمية ، إلاّ إن هذه الحالة / الوضعية استمرت تراوح في مكانها مثلما كانت في السابق ، دون أن ينالها شيء من التغيير أو يطالها نوع من التطور ، لا في مجال اختراق نمط التقسيم العمودي / الطبقي للمجتمع ولا في إطار تخطي التوزيع الأفقي / القطاعي لمكوناته . ولكن مع بدايات تعرض بلدان العالم الثالث إلى مدّ الظاهرة الكولونيالية ، حيث الصراع الكوني شرع لتوه يتخطى أطره الوطنية ويتجاوز حدوده القومية ، باتجاه قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ،على خلفية تعاظم القدرات وتصادم الإرادات وتنافس السياسات ؛ للسيطرة على مصائر شعوب المستعمرات السابقة ، والهيمنة على مواردها البشرية والطبيعية ، والاستحواذ على مجالاتها الجغرافية والجيوبولتيكية ، حيث كان نصيب المجتمع العراقي من تلك المصائب والنوائب باذخا"وسخيا"لحد التخمة . ولكي تهيء الأوضاع السياسية لغزوها ، وتمهد الظروف الاجتماعية لاحتلالها ، فقد عمدت سلطات الاحتلال البريطاني – ما أشبه اليوم بالبارحة – إلى تضمين سياساتها وتطعيم ممارساتها ، بطائفة من قيم الإيديولوجية الليبرالية ، التي كان من أبرز خصائصها ؛ تمجيد المبادرات الفردية وتجميد نظيرها الجماعية ، وتشجيع المشاريع الخاصة ومناهضة نظيرها العامة ، والحضّ على أن تكون المعارف الإنسانية والمهارات العلمية من نصيب علية القوم دون أسافلهم . مما يتيح لها خلق (نخبة) على مقاسها ؛ تأتمر بأمرها وتنصاع لإرادتها وتجتاف قيمها وتتماهى معها ، وتمارس - بالنيابة عنها – تدوير عمليات إنتاج التخلف الاجتماعي بكل أنواعه وأشكاله ، عبر مظاهر تعهر السياسة وتبربر الثقافة وتحجر الوعي وتذرر الاجتماع من جهة ، وترك عامة الشعب ، من جهة أخرى ، تجتر أوهامها عن ماضيها ، وتلوك خرافاتها عن حاضرها ، وتزدري أباطيلها عن مستقبلها . وهو الأمر الذي وسم الثقافة العراقية منذ ذلك الحين ولحد الآن ، بميسم التعالي النخبوي والتماهي السلطوي . أي انه بقدر ما ترتفع مكانة (المثقف) في سلم التراتب الاجتماعي ، ويزداد اعتباره في ميزان التوقير الثقافي ، ويعلو مقامه في مدارج التقييم المعرفي ، بقدر ما تستدرجه السلطات الملكية والجمهورية والإسلامية لولوج عرينها ، وتستقطبه الأنظمة الدكتاتورية والتوتاليتارية للاندغام بإيديولوجياتها الليبرالية والاشتراكية والدينية . لدرجة إن الحديث عن (طبيعة الثقافة) – من حيث لا وجود لثقافة وطنية عليا جامعة ، وإنما ثقافات فرعية وتحتية وهامشية – و(خاصية المثقفين) – من حيث لا وجود لشريحة منظمة ومستقلة (انتللجنسيا) وإنما أفراد مقسمين الانتماءات وموزعين الولاءات – لا تكتمل شروطه ولا تستقيم مقوماته ، دون توصيف مواز – إن لم يكن مسبق – يفصح عن خلفيات الأولى لجهة تحزبها ، ويشي عن علاقات الثانية لجهة استتباعها .
*كيف ترى تأثير الاحتكاك الإيديولوجي على الحراك الثقافي ؟
_ما إن خرجت روسيا من حلف الضواري ، اثر اندلاع ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 ، حتى تغيرت خارطة الصراع الإيديولوجي وتبدلت تضاريس الحراك الثقافي ، لا في المجتمعات الغافية على أمجاد تاريخها المعتق بالأساطير والمخترق بالخرافات فحسب ، وإنما في سائر المجتمعات الأخرى بما فيها الصناعية والمتقدمة بمقاييس تلك الفترة . وذلك بعد أن بادر قادة الثورة المذكورة إلى فضح كل الاتفاقيات السرية وتعرية جميع الصفقات المخفية ، التي سبق وان أبرمت بين أقطاب العالم الرأسمالي ، لتقسيم جغرافيات بلدان العالم الثالث إلى كيانات هزيلة ، لا تقوى على النهوض بغير مساعدة خارجية ودعم مشروط ، كما وعمدت إلى تفتيت ديموغرافيات شعوبها إلى أقوام لاستغلال نزاعاتها ، وطوائف لتوظيف صراعاتها ، وقبائل لاستثمار نعراتها ، لكي تبقى خاضعة سياسيا"وعليلة اجتماعيا"وكسيحة حضاريا"، يسهل بالتالي ترويض إرادتها ونهب ثرواتها وتوزيع أسلابها ، بين قوى الغرب الرأسمالي الطامحة إلى نشر سيطرتها العسكرية وفرض إرادتها السياسية وتعميم خياراتها الإستراتيجية . وهكذا فقد استتبعت هذه المعطيات انشطار العالم إلى معسكرين سياسيين مختلفين في كل شيء ، ومجالين حضاريين متعارضين على مختلف الصعد والمجالات ، باستثناء كونهما يسعيان باتجاه هدف واحد لا يحيدان عنه ؛ هو تحقيق السيطرة الجيوبولتيكية وبسط الهيمنة الإستراتيجية وضمان السيادة العالمية ، وذلك عبر شتى الأساليب الإيديولوجية والنفسية والإعلامية والثقافية والفنية . ومن منطلق طبيعتها الطبقية فقد استهدفت الإيديولوجية الليبرالية عقلية وسيكولوجية الطبقات الوسطى والميسورة ، لاستدراجها واستمالتها صوب الفلك الرأسمالي ، باعتبار ان هذه الأخيرة من أنصار الملكية الخاصة ودعاة القيم الفردية . هذا في حين اتجهت محاولات الإيديولوجية الشيوعية نحو ذهنية وسيكولوجية الطبقات الفقيرة والشرائح المعدمة ، والتي اعتبرت للمرة الأولى خالقة قيم وصانعة تاريخ وقائدة مجتمع ، بعد أن أبصرت نور الفكر العلمي واستضاءة بشعاع الثقافة الإنسانية . وعلى ذلك يمكن اعتبار فترة تكوين الأحزاب الاشتراكية والشيوعية في بلدان العالم الثالث ، بمثابة الباكورة التي دللت على طبيعة الحراك الثقافي الذي طال المجتمعات ، ونمط التحول المعرفي الذي شمل بنية الوعي لمكوناتها . حيث بينت النظرية الماركسية أن على الطبقة العاملة تقع مهام تاريخية وتحديات مصيرية ، يتعذر امتلاك شروطها وحيازة مقوماتها ناهيك عن تحمل أعبائها وانجاز رسالتها ، ما لم تتمكن من اجتياز اختبار الانتقال من طور الوعي للذات إلى طور الوعي بالذات ، وذلك من خلال تثوير الواقع السياسي ، وتطهير القاع النفسي ، وتحرير النزوع الإنساني ، وتنوير العقل الجمعي . صحيح إن بعض بلدان العالم العربي قد شهدت موجة من حركات الإصلاح السياسي والديني ، التي قاد لوائها ثلة من رجال الدين وعلمائه المصلحين ،على خلفية تأثرهم بنتاجات وإبداعات عصر الأنوار الأوروبي - حينما اجتهدوا لمقاربة الفكر الليبرالي من منظور إسلامي - فضلا"عن محاولاتهم الاقتداء بدور فلاسفته ومفكريه ، ممن أسهموا بالاجهاز على مخلفات القرون الوسطى واجتثوا زؤان خرافاته ، وبالتالي وضعوا الشعوب الأوروبية على طريق الحداثة ، التي لا زالت تقطف ثمارها وتتمتع بانجازاتها لحد الآن . إلاّ انه بالرغم من صدق النوايا وجدية المساعي التي كانوا يضمرونها حيال أوطانهم وشعوبهم ، لاسيما بخصوص انتشالها من وهاد التخلف وإقالتها من عثرات التأخر ، التي خلفتها قرون من التسلط العثماني . نقول بالرغم من كل ذلك فإنها لبثت تعاني أوزار طابعها النخبوي وآثار جلبابها الديني ، وهو الأمر الذي أفضى بها لاحقا"إلى الانحسار كأفكار والاندثار كمشاريع ، لاسيما بعد غياب أصحابها المصلحين وتلاشي خطاباتهم المؤمثلة .
كيف ترى دور الماركسية في المرحلة الراهنة ؟
لعلي قرأت ذات مرة – لا تسعفني الذاكرة لتحديد المصدر للأسف – رأيا"لرائد الانثروبولوجيا البنيوية المفكر (كلود ليفي ستروس) يفصح من خلاله انه (( لا يمكن للمرء أن يصبح مثقفا"حقيقيا" ما لم يقرأ الماركسية )) . والحال إن جلّ الفلاسفة والمفكرين الكبار ، الذين شغلت أعمالهم الإبداعية حقول المعرفة على امتداد عقود القرن المنصرم ، ممن استهوتهم ، بل قل استقطبتهم ، الماركسية إلى فلكها ؛ لا كعقيدة جامدة أو كمذهب مغلق ، كما جعل منها أشياعها وأتباعها ومريدوها ممن يجهلون ألف بائها – الذين سخر منهم لينين بسبب مسخهم إياها إلى صيغ وقوالب كاريكاتورية – وإنما كمنهج تحليلي / جدلي وتصور تاريخي / نقدي ، أسهم ولا يزال في إثراء الفكر البشري واغناء الثقافة الإنسانية . يضاف إلى ذلك إن الماركسية وبالرغم من طابعها الفلسفي الكثيف ، فقد أولت مهام تحويل العالم وتغيير نظام الأشياء والعلاقات والتصورات ، إلى أكثر الفئات والشرائح الاجتماعية فقرا"والأشد حرمانا"، بحيث زجتها في أتون تلاقح فكري وتثاقف حضاري وتواصل إنساني ، قلما شهده تاريخها الاجتماعي من قبل ، للحدّ الذي ساعدها على اكتشاف ذاتها كصانعة للتاريخ لا كحلقة في سلسلة سيرورته ، وكخالقة قيم لا كمستهلك في أسواق بضائعيتها . وهو الأمر الذي أضفى عليها ( = الماركسية) جاذبية فكرية وثقافية ، جعلت منها النظرية الأكثر رواجا"وشعبية في تاريخ النظريات والأفكار التي ابتدعها وعي الإنسان ، باستثناء ما حظت به الأديان من تعال واتشحت به من قداسة بالطبع . ولعل تلك العوامل وسواها من الخصائص الأخرى ، التي كانت محط إعجاب وتوقير الكثيرين ، ممن ولجوا لتوهم رحاب الثقافة الواسع ، وتلمسوا وقع خطواتهم الأولى في أروقة الفكر المتعرجة ، هي ما اجتذبنا لسحر تلك النظرية – ينبغي الاعتراف بأني مدين لها ، ولا أفتأ أنهل من معينها - لاسيما وان طريقة صياغتها وأسلوب عرضها وعلمية منهجها وواقعية خطابها ، كانت من النجاعة التحليلية لجدليات الواقع ، والقدرة التأملية لديناميات المجتمع ، والصرامة النقدية لمنظومات الايديولوجيا ، بحيث لم يعد هناك – من وجهة نظري في حينها – ما يمكن أن يضاهيها من أفكار ويضارعها من نظريات ، لا في التعبير عن تطلعات الإنسان ولواعج ذاته وإرهاصات كينونته فحسب ، وإنما في توجهات الإعلاء من ِشأنه وخيارات الارتقاء في قيمته ومنطلقات البناء في شخصيته . ألم يسجل للماركسية سابقة القول بأن (( الإنسان أثمن شيء في الوجود )) ؟! . وكأي مبتدئ حين يجد صدى تأملاته البكر وقد انداح بين أروقة نظرية شهد لها الخصوم قبل المريدين والأعداء قبل الأصدقاء ، بواقعيتها في تبني قضايا المجتمع وإنسانيتها باحتضان تطلعاته ، بحيث وجدت فيها ضالتي ومقصد رجائي . ولأن الأسئلة الوجودية التي تثيرها شاملة ، والإجابات التي تطرحها واقعية ، فقد تملكني هوس الدفاع عن نقائها من أي تلوث (برجوازي) قد يطالها بالنقد أو بالمخالفة أو حتى بالتجاهل . للحد الذي استبعدت معه كل نص لا يعلن صراحة انتماءه للفكر الماركسي أو لا يشرع بالبحث من منطلقاتها الفلسفية ، لاسيما وان الفترة التي بدأت أميل من خلالها للتعرف على أسباب الاستقطابات الفكرية والصراعات الإيديولوجية ، سجلت بداية أفول الأفكار الليبرالية وانحسار مدّ الممارسات العلمانية ، على اثر تسلل العسكر إلى رواق السلطة المترفة من جهة ، ودخول الأحزاب القومية المتعصبة والإسلامية المتطرفة إلى مضمار السياسة المتطيفة من جهة أخرى . وهو الأمر الذي أدركت لاحقا"انه كلفني ثمنا"باهظا"، لم أبرح أعاني فداحته وجسامته لحد هذه اللحظة ، وخصوصا"على صعيد توسيع مداركي وتعميق معارفي وتنويع ثقافتي وإنضاج وعيي ، لاسيما وان كل المصادر السوسيولوجية والمراجع الفكرية والمنطلقات الإيديولوجية ذات النزعة المتمركسة ، غالبا"ما كانت تقلل من شأن الدراسات والبحوث التي لا تتعاطف مع الطرح الماركسي الأصولي ، سواء أكان خلافها لأسباب سياسية / إيديولوجية ، كما شهدته فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والاتحاد السوفيتي السابق وأنصاره من جهة أخرى ، أو كان لدواع علمية / معرفية صرفة كما عرفته الصراعات الفلسفية / المنهجية . ولعل الأحزاب الشيوعية العربية تتحمل الجزء الأعظم من المسؤولية التاريخية والفكرية حيال هذا الموقف الإشكالي ، بعد أن كانت (تبصم بالعشرة) على كل ما كان يقال لها أو يرد إليها من توجيهات مركزية وتوصيات ملزمة ، كان لها الأثر السيء على تطور تلك الأحزاب ونجاح تجاربها الوطنية .
*ما الأسباب التي تكمن وراء الأزمة الماركسية العربية وظهور أشكال جديدة من البرجوازية الطفيلية؟
_سبق لماركس أو انجلس (الأمر سيان) أن شبّه الحركة الشيوعية (بالشبح) الذي يجوب القارة الأوروبية ، ليرعب الطبقات البرجوازية ويقضّ مضاجعها السياسية والاقتصادية . إلاّ إن أحدا"منهما لم يكن ليدور بخلده أو يخطر له على بال في يوم من الأيام ، أن تتحقق فكرة تبادل الأدوار وتناقل المواقع ، بحيث يستحيل – من وجهة نظر الشيوعية العربية – كل ما له علاقة / صلة بالطبقة البرجوازية ؛ من فكريات وتصورات وعلاقات إلى أشباح شيطانية برؤوس أفاع كما للميدوزا في أساطير اليونان القديمة . إذ بالرغم من احتكام تلك الأحزاب إلى ترسانة فكرية مدججة بشتى ضروب الحجج الفلسفية والبراهين المنطقية والأدلة المنهجية ، فضلا"عن ادعائها (= الأحزاب) استيعاب وتمثل ذروة ما أنتجه الفكر الإنساني من معارف علمية ومنهجيات تحليلية . بيد أنها استمرت بلا مسوغات معرفية ولا مبررات فكرية ، تحاذر الاقتراب من أية فكرة أو نظرية أو مقولة لا تتوافق مع طروحات العقيدة الماركسية واستنتاجاتها ، حتى وان ادعت لنفسها تلك الفكريات والنظريات التزام جانب الحياد عن كل تحزب فلسفي / سياسي ، أو أعلنت وقوفها من جميع الإيديولوجيات المتصارعة على مسافة واحدة . والأنكى من ذلك إن أدبيات التثقيف السياسي / الحزبي ، لم تفتأ تحذر أنصارها ومريديها من مغبة الوقوع في حبائل الإيديولوجية البرجوازية ، التي من خصائصها إتقان فن الغش النظري والتمويه المنهجي ، بحيث لا عاصم من ذاك الشطط سوى الالتزام بالأفكار والطروحات والمقولات الأصلية الصادرة عن المراكز الإيديولوجية المعتمدة . ولهذا فقد استمر اعتبار النص الماركسي (الارثذوكسي) هو المصدر الشرعي والوحيد ، لكل من يروم الحصول على الاعتراف بشرعية انتمائه لهذا الفكر ، أو يسعى للانخراط بتنظيمات تلك الأحزاب . وهكذا فقد استبعدت وبإصرار غريب كل المصادر المعرفية الأخرى ، التي لا تحمل ختم المنظرين السوفييت من قائمة التثقيف الذاتي ، دون أن يفطن المعنيون بالأمر إلى حقيقية إن جبروت الماركسية ذاتها يمتح من معين فكر (برجوازي) يمتد تراثه إلى ما قبل الميلاد ، بعد أن شذبت أصوله وهذبت نوازعه وعقلنت مضامينه وانسنت تطلعاته . وفي هذا الإطار فقد سأل (لينين) ذات مرة مجموعة من شباب الكومونات قائلا"(( ماذا تقرأون ؟ هل تقرأون بوشكين ؟ )) . صاح أحدهم : (( كلا ، كان برجوازيا". نحن نقرأ مايكوفسكي )) . فرد لينين مبتسما"(( برأيي إن بوشكين أفضل )) . والغريب إن كل الذين اجتهدوا لإخراج النص الماركسي من دائرة التابوات الإيديولوجية والمحرمات الحزبية ، والشروع من ثم بإعادة قراءته من منظور جدلي تاريخي مغاير للتصورات التي تحاول أن تسبغ عليه مظاهر العصمة وإلباسه جلباب القداسة ، التي سبق لماركس ذاته أن مزقها شرّ ممزق ، حين أطلق بوجه تلامذته الأدعياء ومشايعيه الاردياء ، ممن حاولوا تحنيط أفكاره وتنميط منهجه ، جملته المشهورة التي ذهبت مذهب المثل (( أنا لست بماركسي ! )) . نقول إن كل من سلك ذلك الاتجاه المنطقي معرفيا"ومنهجيا"، وصم بالردّة والانتكاس نحو الأفكار البرجوازية والرأسمالية تارة ، والتحريفية المثالية والميتافيزيقية تارة أخرى . ولعل هذا الأمر يفسّر لنا جزئيا"ظاهرة الانشقاقات والتصدعات التي تعرضت لها الحركة الشيوعية العربية ، وخصوصا"في نسختها العراقية ، تعبيرا"عن الاختلاف في فهم العقيدة الماركسية والتباين في إدراك مقاصدها والتغاير في اكتناه طبيعتها . وإذا كان التقوقع الإيديولوجي والتخندق الدوغمائي ، قد حرم الشيوعية العربية من إنتاج فلاسفة ومفكرين يمتلكون القدرة المعرفية والمرونة المنهجية ، لتخطي حواجز الممنوعات الموضوعية والتغلب على عوائق الممانعات الذاتية ، والوصول من ثم إلى لب الماركسية واكتناه جوهرها ، بحيث شجع هذا الأمر تنامي وتوطن ظواهر الكسل الفكري والعطالة المعرفية ، التي أبقت الفلسفة الماركسية بعيدة عن صخب تيارات التحديث في العلوم الاجتماعية والتطوير في المنهجيات النقدية . فان ذلك لا يعني إن وجودها ، ضمن أوساط الحركة الشيوعية الأوروبية ، معدوم أو إن قدرتها على التأثير ضئيلة . وهكذا فان قائمة التأثيم والتحريم والتجريم تمتد لتشمل أسماء لامعة من الفلاسفة والمفكرين لا تبدأ مع (بليخانوف) وأضاربه ولا تنتهي (بغارودي) وأمثاله ، مرورا"(بتروتسكي) و (التوسير) وسواهم – لسنا معنيين هنا بتقديم جردة بأسمائهم ومواقفهم - . فحين اهتدى الأول إلى رؤية الماركسية من منظور واقع روسيا بداية القرن العشرين وصم بكونه (منشفي) ، وأجبر على الخروج باكرا"من المشهد السياسي والفكري . أما حين توصل الثاني إلى قراءة الفلسفة الماركسية ، من منظور النسبية التاريخية والموضوعية المعرفية حكم عليه (بالتحريفية) ، واستحق على ذلك الطرد من الحزب الشيوعي الفرنسي . وحين أعلن الثالث تصوره المغاير عن (الثورة الدائمة) ، لما كان يعتقد انه التصور الماركسي / الستاليني القويم (الاشتراكية في بلد واحد) أدين بتهمة (الخيانة) ، وصدر بحقه حكم الموت وهو بالمنفى . أما حين اتجه الرابع إلى قراءة النص الماركسي قراءة بنيوية موازية للمنهجية الجدلية ، ناله ما نال مواطنه الثاني من عقوبة الطرد من الحزب المذكور .
*هناك بعض المفاهيم البنيوية تشير الى مصطلحات عدة منها مايسمى بالانقطاع المعرفي والانخلاع الحداثي. كيف تنظرون الى مثل هذه المفاهيم الفلسفية والمصطلحات الفكرية الحداثوية ؟
_لا يظنن القارئ إن استخدام عبارة (الانقطاع) المعرفي ضمن هذا الفاصل ، بدلا"من نظيرها (القطيعة) المعرفية كما هو شائع ، جاء من باب التلاعب الاعتباطي بالألفاظ أو حصل كاستجابة للصيغة المعروفة التي مؤداها ؛ خالف لكي تعرف . إنما تعمدنا ذلك وتقصدناه استنادا"إلى حدود فهمنا لمدلول كلا العبارتين ، في سياق الحديث عن مظاهر الركود الثقافي والجمود الفكري ، التي قد يعاني وطأتها الأفراد والجماعات مثلما قد تقع ضحيتها الشعوب والمجتمعات . إذ إن اللجوء إلى مفهوم (القطيعة) لتوصيف تلك الحالات والمعطيات ، يعد من وجهة نظر المنهجية الجدلية خطأ سوسيولوجياً بقدر ما هو قصور ابستمولوجي ، ينطوي على جهل وسوء فهم بمضامين المفاهيم والمقولات ، التي غالبا"ما تعكس مستوى الوعي لطبيعة الظاهرة ونمط التفكير بخصائصها وعلاقاتها . ذلك لأن عملية (القطيعة) لا تحدث في الفراغ ولا تأتي من العدم ، إنما هي بالتعريف تعبير عن تحول نوعي / ارتقائي في سيرورات ؛ كيان اجتماعي استنفد طاقاته على التقدم ، وسياق تاريخي استهلك دينامياته على التطور ، ونظام رمزي فقد دوافعه على الإبداع . للحدّ الذي يغدو من الضرورة بمكان إحداث صدمات بنيوية عميقة وشاملة ، لا في أنماط العلاقات والسلوكيات والتواضعات والمسلمات فحسب ، بل وفي سساتيم الذهنيات والتصورات والفكريات والاعتقادات أيضا". والانتقال بالتالي من طور ثقافي / فكري معين إلى طور آخر أرفع مكانة وأرقى مستوى ، يبني على أسس مدماك الأول ويحتوي انجازاته ويتمثل قيمه ويتخطى حدوده ويتجاوز تخومه . وهو الأمر الذي حفز عقول العديد من الفلاسفة والمفكرين والعلماء ، للشروع بانجاز تلك المهام النبيلة والتطلعات الجسورة ؛ لا في إطار عرض وتحليل السرديات والإيديولوجيات الحداثية التي أنجبها عصر الأنوار فحسب – والتي لا تزال مجتمعاتنا المخصية تجهل طبيعتها الإنسانية وتتجاهل قيمتها الإنسانية لحد الآن – وإنما في مجال توالد الفكريات والنظريات وتناسل البراديغمات والمنهجيات لما بعد الحداثة أيضا". هذا في حين تلخص ظاهرة (الانقطاع) شتى ضروب المساعي المقصودة والمحاولات المتعمدة ، التي مارستها وتمارسها أنظمة الحكم السلطانية ؛ لإيقاف مسارات التطور التاريخي ، وإعاقة أوليات التقدم الثقافي ، وتعطيل ديناميات الارتقاء الحضاري ، وكبح تطلعات التواصل الإنساني ، تلك التي تستحيل من دونها المجتمعات إلى مجرد أقوام متنازعة لحد الاستئصال المتقابل ، وقبائل متناحرة لحد الإبادة المتبادلة ، وطوائف متذابحة لحد الفناء المشترك . بحيث يتسنى لتلك الأنظمة تمرير وتبرير سياسات التجهيل السياسي والتضليل الفكري والتهويل الإيديولوجي والتخبيل النفسي . بمعنى آخر ليس فقط توفرها على إمكانيات إجبار الشعوب المعنية على قبول حالة العزلة الإنسانية والرضوخ لوضعية الدونية الآدمية ، عبر إحاطتها بستار حديدي من الممنوعات والمحرمات والمقدسات فحسب ، وإنما سوقها بالإيحاء تارة وبالرياء تارة أخرى ، للتماهي الطوعي مع كل ما يعزز حالة العبودية التي تتمرغ بمهانتها وتتعفر بذلها ، من خلال مسخ شخصيتها ونسخ هويتها وتسطيح وعيها وتشويه تاريخها وأسطرة ذاكرتها . هذا بالإضافة إلى إغرائها بالحيلة تارة وبالخديعة تارة أخرى ، لاجتياح نوازع التعصب القومي والتطرف الديني والتفرد التاريخي والتعالي الحضاري والتميّز الأخلاقي ، على حساب قيم التآخي والتعايش والتلاقح والتثاقف والتفاعل والتواصل . وعلى هذا المنوال فقد خضع المجتمع العراقي – أفرادا"وجماعات – لأنظمة سياسية طفيلية متعاقبة ، فرضت عليه سلسلة طويلة من الانقطاعات والانخلاعات شملت بنى الوعي بكل مستوياته ، وطالت أنساق الثقافة بمختلف أنساقها ، ونالت أنماط المعرفة بشتى مستوياتها ، بحيث أفضت به هذه الحالة / الوضعية ، ليس فقط إلى النأي عن كل ما هو جديد في مضامير الفكريات ، والابتعاد عن كل ما هو حديث في حقول المنهجيات فحسب ، بل والوقوع في دائرة ما أسميه (بالانخلاع) الحداثي الذي من سماته الخروج باكرا"عن مسارات التطوير في حقول السياسات ، والتخلي عن محاولات التعمير في هياكل الاقتصاديات ، والانحراف عن منطلقات التنوير في بنى الثقافات ، والانفصال عن اتجاهات التغيير في أطر الاجتماعيات ، والنكوص عن تطلعات التثوير في أنماط المعرفيات . ولعل هذه المعطيات الارتدادية تفسّر لنا على نحو واضح ، سرّ عجزنا المزمن عن تخطي أطوار الاجترار السطحي للأفكار ، والتكرار الساذج للنظريات ، والترديد الببغائي للمنهجيات ؛ لا في طبعتها المعاصرة التي غيرت الموازين وقلبت المعايير وأزاحت المقاييس فحسب ، وإنما في صيغتها الكلاسيكية حيث شهدت مراحل أفول مجدها وتلاشي بريقها في بيئة إنتاجها ومحيط ولادتها . وهكذا ففيما كنا نرطن بالماركسية والليبرالية والبرغماتية والوضعية والبنيوية والوظيفية وسواها من الإيديولوجيات والسرديات ، فإذا بالعقود الأخيرة من القرن الماضي ، لاسيما بعد أحداث سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق ، تفاجئنا بحقيقة إن تجربة الحداثة التي لا نزال نتراشق التهم حيال كونها مناسبة أو غير مناسبة لطبيعة مجتمعاتنا ، مثلما إزاء صلاحية قيمها من عدمها لحرمة موروثنا التاريخي وقداسة مخيالنا الديني والأخلاقي . هي الآن على وشك أن تطوي صفحتها المليئة بالانجازات المذهلة والاكتشافات المدوية ، كما وتغادر مسرحها الذي ملأته بضجيج صراعاتها الناعمة / الباردة وصراخ حروبها الخشنة / الساخنة . بحيث إن مواطن (جمع موطن) الحداثة ذاتها تعيش الآن عصر تحولات ما بعد الحداثة ؛ ليس فقط على صعيد المؤسسات والعلاقات والممارسات فحسب ، وبل وعلى مستوى الفكريات والاعتقادات والمنهجيات أيضا". للحدّ الذي ألزم الفلاسفة والمفكرين والعلماء للانخراط - منذ عقد ستينات القرن المنصرم ولحد الآن – بحملات إعادة قراءات وتصفية حسابات لكل ما أنتجه العقل الغربي من أنظمة معرفية وسساتيم فكرية وبراديغمات منهجية . وهكذا فقد غمرتنا على حين غرة (منذ عقد التسعينات) موجات ؛ التفكيكية والجينالوجية والهرمينوطيقية وغيرها من الصرعات الفكرية والمنهجية ، التي اكتسحت مختلف أنواع العلوم الإنسانية والاجتماعية ، واضعة بذلك حدا"للمسلمات الراسخة في حقل الأديان ، والبديهيات القارة في مضمار الحضارات ، والتواضعات الثابتة في ميدان التصورات . وهو الأمر الذي وجد صداه ليس فقط في هزال ثقافتنا واضمحلال معارفنا وابتذال وعينا فحسب ، وإنما في محنة تخبطنا في السياسة ولعنة تأخرنا في الاجتماع .
*مر العراق بتغييرات عدة على المستوى السياسي والثقافي ، كذلك على مستوى البنى التحتية والفوقية ، كيف تعلل ذلك ؟
_يكاد المجتمع العراقي ينفرد دون سائر أقرانه من المجتمعات المجاورة والتي تقع ضمن محيطه الجغرافي ، لجهة خوضه تجارب عديدة واجتراحه ممارسات متنوعة تمخضت عن ؛ تواتر الانقلابات العسكرية البيضاء والحمراء ، وتوالي البرامج الحزبية اليسارية واليمينية ، وتعاقب الأنظمة السياسية الرأسمالية والاشتراكية ، للحدّ الذي جعل من سقوف توقعاتها تبدو حبلى بالوعود السخية والآمال العريضة . غير إن شيئا"من التحول النوعي والتبدل الكيفي لم يطرأ على نمط الإدراك الفردي وبنية الوعي الجمعي ، بما يحفزها لتحايث التغييرات السياسية وتواكب التطورات الاجتماعية ، وتستجيب ، من ثم ، لانثيال التداعيات التاريخية والتحديات الحضارية . إذ لم تفتأ الثقافة – بما هي بوصلة معرفية تعقلن التصورات وتشرعن الخيارات وتأنسن العلاقات وتحضرن السلوكيات – تعاني الانحباس بين قيود ؛ الإيديولوجيات الراديكالية ، والسرديات الأسطورية ، والذهنيات الأصولية ، والانتماءات الفرعية ، والولاءات التحتية ، والعلاقات الاستزلامية . وهو الأمر الذي أفضى بها إلى الانخراط بتيارات الاستقطاب القومي / العنصري ، والتخندق الديني / الطائفي ، والتمترس القبلي / العشائري ، والتحصن الجهوي / المناطقي . بدلا"من أن تربأ بنفسها عن كل ما من شأنه ؛ تعميق الانقسامات السيكولوجية بين الأقوام ، ومضاعفة التشظيات الإيديولوجية بين الأحزاب ، وتأجيج الخلافات التاريخية بين الطوائف . وتؤبد بالتالي مظاهر التخلف الاجتماعي ، وتخلد ظواهر العنف السياسي ، وتسيد علاقات التطرف العصيوي . وهكذا ففي الوقت الذي تتجه فيه منظومات الثقافة وسساتيم الفكر ، لدى المجتمعات المتحضرة إلى نبذ كل ما من ؛ حشر عناصر الوعي الجمعي ضمن أطر قوموية / سلالية ضيقة ، وحبس مقومات الإدراك الفردي ضمن تصنيفات سيكولوجية مغلقة ، وتقنين الذاكرات التاريخية ضمن مركزيات حضارية متقاطعة . بحيث تتبدى لها ماهية الإنسان عبارة عن صيرورات مستمرة من ؛ التحولات البيولوجية ، والتطورات الاجتماعية ، والتراكمات المعرفية . وتضحى أمامها طبيعة المجتمع بمثابة سيرورات دائمة من ؛ التفاعلات الجدلية ، والترابطات الوظيفية ، والتواصلات الإنسانية . وتستحيل لديها خاصية التاريخ إلى ما يشبه الشبكة الحية التي تتلابس في نسيجها وتتداخل في تشكيلاتها ، شتى ظروب الممارسات الواقعية والفعاليات الرمزية . نقول في الوقت الذي تتجه فيه إرهاصات الثقافة والفكر على هذه الشاكلة التطورية / الارتقائية هناك ، فإنها استحالت هنا – لدى الشعوب المتحجرة والمتبربرة – إلى انساق مغلقة تتجنب الانفتاح على الآخر ، ومنظومات متكلسة تخاف المرونة في التعامل مع المختلف ، ونصوص جامدة تخشى التعاطي مع التأويل المغاير ، وتصورات منمطة تتحاشى التثاقف مع الرأي المفارق . وعلى وفق هذه الانكسارات والارتكاسات نلاحظ ؛ انه بقدر ما ينحسر ، في المجتمعات الأولى ، مدّ التيارات الإيديولوجية ويبهت بريق السرديات العقائدية ، لاسيما في إطار رؤيتها لطبيعة الواقع وقوانين حراكه ، وتصورها لأنماط المجتمع وأوليات تغيره ، وتفسيرها لبنى الوعي وديناميات تطوره . بقدر ما يتعاظم زخم الموجات المنهجية (التاريخية والنقدية والتفكيكية والتأويلية ، الخ ) ، التي لا يوجد في عالم المعاش والملموس والعيني ، مثلما الافتراضي والمجرد والمؤمثل ، ما لا يخضع لاشتراطاتها المفضية إلى الغوص في الأعماق الانثروبولوجية ، الحفر في الطبقات السوسيولوجية ، والتنقيب في الرواسب السيكولوجية ، والبحث في الطمى المخيالية ، والتعرية للتمثلات الأسطورية ، والمسالة للمعتقدات الدينية . وهو الأمر الذي يحمل بنى الوعي وانساق المعرفة ومنظومات الثقافة على ترك تخومها مشرعة وآفاقها مفتوحة ، ليس فقط لاستقبال كل ما هو جديد في مضامير الفكريات والثقافات والحضارات والديانات والهويات فحسب ، وإنما لاستدخال كل ما هو مستحدث في حقول المؤسسات والممارسات والعلاقات والتشريعات أيضا". أي بمعنى تحرير (الوعي الثقافي) من كل تصور دوغمائي يعيق تفتحه وتلاقحه بما يجعله خصباً ومنتجاً ، وانتشاله من كل وصاية مسبقة تمنع تطوره وارتقاءه نحو فضاءات أغنى وأرحب . وهكذا فقد تمخضت جهود الفلاسفة ومحاولات المفكرين عن انبثاق قراءات مغايرة للسيرورات التاريخية (راجع كتاب ؛ التاريخ الجديد ، لمؤلفه جاك لوغوف وجماعته ) ، واجتراح مقاربات مختلفة للبراديغمات الفكرية ( راجع كتاب ؛ براديغما جديدة لفهم عالم اليوم ، لمؤلفه آلان تورين ) ، وطرح تصورات مباينة للمنظومات الفلسفية ( راجع كتاب ؛ ما هي الفلسفة ؟ لمؤلفيه جيل دولوز وفيلكس غتاري ) ، وابتكار طروحات مفارقة للمقاربات التأويلية ( راجع كتاب ؛ الحقيقة والمنهج لمؤلفه هانز جورج غادامير ، وكتاب ؛ صراع التأويلات ، لمؤلفه بول ريكور ) . هذا في حين استمرت – رغم كل الثورات المعرفية والانقلابات المنهجية التي عصفت بالفكر الاجتماعي طيلة العقود الخمسة أو الستة الماضية - عناصر الثقافة في المجتمعات الثانية ، تعاني ليس فقط من هزال إنتاجها وتردي حيويتها الإبداعية فحسب ، بل وتشكو من اضمحلال قدرتها على التلاقح والتثاقف ، ناهيك عن ضعف مقاومتها إزاء الغريب من القيم والعجيب من الممارسات . ومع ذلك وبرغم كل المحرمات والممنوعات التي أعاقت حركة الثقافة العربية عامة والعراقية خاصة ، وحالت من ثم دون تطورها واسترداد عافيتها ، لاسيما لجهة التخلص من الاستقطابات السياسية ، والنأي عن الاستتباعات الإيديولوجية ، والتحرر من الاملاءات الأصولية . فان هناك من حاول رفع قيود الحصار عنها ، وإزالة طوق الوصاية المفروض عليها ، عبر مساهمات رصينة ومحاولات جادة وان بدت متباعدة زمنيا"ومتفرقة مكانيا"، إلاّ أنها كانت بمثابة الحجر الذي ألقي في بركة راكدة . حيث طبعت بصماتها وتركت آثارها بين طيات الوعي و أخاديد الفكر . وهكذا فقد انبرى جيل نابه من المفكرين والكتاب العرب والعراقيين ، ممن احتك بحضارة الغرب وتذوق منتجات حداثته ، سواء في مجال الفكريات والنظريات والمنهجيات ، أو في مضمار المؤسسات والسلوكيات والعلاقات ، بحيث لم يكتف فقط بمقاضاة مظاهر الركود الثقافي والجمود الفكري فحسب ، وإنما بادر – بعد أن استوعب زبدة الأفكار وتمثل خلاصة القيم ، التي أسهمت بنقل المجتمعات الغربية من طور السجالات الإيديولوجية والمماحكات السردية ، إلى طور الحوارات الفكرية والإبداعات المنهجية – بمحاكاتها في مجال التحليل للظواهر السوسيولوجية ، والنسج على منوالها في مضمار التأويل للنصوص الابستمولوجية ، والحذو حذوها في إطار التفكيك للسرديات التاريخية . وهكذا فقد بزغت أسماء لامعة وشخصيات متألقة في مجال مفهوم التاريخ والثقافة والاجتماع واللغة والدين أمثال ؛ خليل عبد الكريم والسيد القمني وعبد الله العروي وجورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري وعلي حرب ومحمد أركون وعبد الله الغذامي وسواهم - ممن لا يسع مجال الموضوع ذكر أسمائهم جميعا"- حيث استطاعوا أن يسهموا كل في مجال اختصاصه العلمي ، وحسب إمكانياته الثقافية ، وقدراته المعرفية ، واجتهاداته المنهجية ، في خلخلة اليقينيات الإيديولوجية المتأصنمة ، وحلحلة القناعات الفكرية ، التي كانت وراء استشراء ظواهر ؛ تعليب الوعي وتنميط الفكر وتحنيط الثقافة وأسطرة التاريخ ، وتعيق من ثم فئات النخب مثلما طبقات الشعب ، من الاهتداء إلى حقيقة سوسيولوجية وايستمولوجية ، طالما حجبها تعهر الأحزاب الراديكالية ، وتحجر الحركات الأصولية ، وتهور الخطابات الطوباوية مؤداها ؛ إن لمدماك الفكر أكثر من باب وان لمعمار الثقافة أكثر من سبيل . فلماذا إذن يا ترى ، والحالة هذه ، نستهلك طاقاتنا في تشويه الأفكار العقلانية ، ونستنفد قدراتنا في مسخ الثقافات الإنسانية ، وذلك من خلال سحبها ومطها إلى أبعاد كونية مطلقة الزمان والمكان ، في حين نجهل ونتجاهل أنها تنتمي لحقول شتى من النسبية الاجتماعية والمعرفية والنفسية والتاريخية والحضارية ؟! .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس وإيطاليا توقعان 3 اتفاقيات للدعم المالي والتعليم والبحث


.. #إندونيسيا تطلق أعلى مستوى من الإنذار بسبب ثوران بركان -روان




.. الجزيرة ترصد آثار الدمار التي خلفها الاحتلال بعد انسحابه من


.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش صفقة التبادل والرد الإسرائيلي عل




.. شبكات تنشط في أوروبا كالأخطبوط تروّج للرواية الروسية