الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في الثورة العربية المعاصرة

عمر أبو رصاع

2012 / 11 / 16
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


ظهرت في الآونة الاخيرة مجموعة متنوعة من المقالات وملصقات المواقع الالكلترونية والافكار المرتجلة والنقدية، التي تصب جام نقضها على الحراك الشعبي الثوري الذي اكتسح انظمة الاستبداد في العالم العربي، ولعل أبرز مأخذ لمحته مشتركاً بين تلك القراءات كان ما وصف بأنه عجز هذا الحراك الثوري عن التوسع الافقي والانكماش العامودي، وأياً كانت صيغ التعبير عن هذا المأخذ فإنها جميعاً تشترك في مؤداه النهائي، وتتفاوت في درجة تحميل المسؤولية عنه لاطراف المعادلة السياسية وبشكل خاص للحراكيين الثوريين انفسهم.

ولعل المدخل المنطقي لتحليل بنية هذه الفكرة في أساسها هو القياس التاريخي، لتحديد ما إذا كان الفعل الثوري المتسق مع الثورة العربية المعاصرة يأخذ فعلاً هذه الطبيعة في الاستطالة الكمية والنوعية، أم أن له انحناءات أخرى، وربما انحناءاته الخاصة به وفق طبيعته وبنيته وبيئته؟
وإذا ما كان الأمر على ذلك النحو الذي قرره ذلك النقد – النقض، فيصح بناء عليه الحكم ببؤس الحراك الثوري، أم أنه على نحو معاكس تماماً لذلك، فيتقرر بؤس تلك القراءة لا بؤس الحراك الثوري؟

الحقيقة التي لا مراء فيها أن ثورات الشعوب التي اطاحت بالاستبداد السياسي لتؤسس نظماً ديمقراطية تحمل بين ثناياها سمات النظام التعددي، جميعها لم تكن تحت قيادة طليعة واحدة منسجمة ايديولوجياً، بل على نقيض ذلك فإن القيادة الايديولوجية الموحدة للثورة لم تنتج أبداً وعلى الاطلاق إلا نُظماً مستبدة بالضرورة.

وأياً كانت الوسائل الثورية المتبعة وحجم التضحيات المبذولة في الثورة ذات القيادة الايديولوجية الواحدة، فإنها ابداً لم تذهب إلى ديمقراطية تعددية وليس من شان بنيتها أن تفعل، فإلى أي مدى يمكن لاصحاب تلك القراءات أن يفصلوا انفسهم عن تصورات الايديولوجيات الشمولية للثورة؟ ذلك سؤال نضعه بين أيديهم برسم الاجابة لعله يساعد على نقدهم هم لانفسهم ووعيهم لذاتهم بشكل أفضل.

المطلوب بداية أن نعي إن كنا بصدد كفاح من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي والتحرر الوطني، أم أننا بصدد ثورة ايديولوجية؟

لأن الاجابة عن هذا السؤال هي التي ستحدد لنا النموذج التاريخي القياسي، فإذا كنا ازاء تجربة ثورية ايديولوجية تكون التصورات النقدية التي تقدمها تلك القراءات معقولة تماماً، وعندها نعم يجب أن يكون هناك انكماش عمودي نوعي، وتكريس لقيادة الحزب أو الطليعة الواحدة، من عينة ما حصل في روسيا أو الصين، أما إذا كان الحديث عن حركات التحرر الوطني من الاستعمار وحراكات النضال من اجل الانتقال إلى الديمقراطية وازاحة الحكم الديكتاتور المستبد، فالأمر على النقيض تماماً، والسبب بالضرورة بنيوي، بمعنى أن بنية القيادة الثورية تتشكل عملياً تحت ضغط طبيعة الهدف الثوري، وبالتالي فإن الثورات التي تتبلور باتجاه رؤية ايديولوجية معينة بالضرورة ستنتج قيادة ايديولوجية، وستذهب هذه بالضرورة أيضاً إلى نموذج مستبد بديل، هذا ما حصل في روسيا وفي الصين وفي ايران، وهذا النوع من القيادة لا يمكن بحال إلا أن يقود إلى نظم شمولية مستبدة، مشروعها أبعد ما يكون عن مشروع حراك ثوري لتحقيق ديمقراطية تعددية.

ببساطة لأن الديمقراطية التعددية كهدف، لا بد أن يخلق حوله قاعدة من التوافق الوطني بين مختلف مكونات المجتمع السياسي، ونحن هنا لا نتكلم عن اجماع سياسي، إنما نتكلم عن بنية حراكية نضالية قادرة في تركيبها على حمل ممثلين من مختلف تلونات وتكوينات المجتمع، ذلك أن فكرة النضال من أجل التحرر الوطني ومن أجل الديمقراطية التعددية تغري جميع المكونات بلا استثناء، ومن السذاجة المطلقة ان نطالبها بأن تتحول إلى حزب سياسي أو ما يشبه الحزب السياسي، وهي في أقصى مدى لتطورها النوعي يمكن ان تنتج عمل جبهوي لتنجز هدفها تحت مظلته كما حصل في الهند والجزائر مثلاً، أو حتى ان تحقق هدفها دون أن تنتج تلك الجبهة كما حصل في اسبانيا.

يبقى أنه في الحالات التي سعت إلى تحقيق ذات أهداف الحراك الثوري العربي، لا يمكن اعتماد نموذج قياسي جاهز، والتعامل مع فكرة النضال التحرري والديمقراطية بمنطق الخضوع بالضرورة إلى القوالب الجاهزة، ولعل أكبر مصيبة مني بها المفكر العربي المعاصر على امتداد القرن العشرين، هي توهمه المتعالي والخطير بوجوب الخضوع للقالب الجاهز المثالي الذي تشربه عبر عملية مثاقفته للنماذج الحضارية التي تقدمت التجربة العربية المعاصرة.

ولما كان هكذا قد سقط أسير بريق القالب الجاهز والبنية الكلية التي يصبوا إلى تحقيقها وتمثلها مهما كلف الثمن، اصطدم عملياً باستعصاء الواقع وعدم استجابة البنى الاجتماعية الاقتصادية وما يتماهى معها من بنى فكرية وثقافية وقيمية، هكذا صار لزاماً في رأيه أن يخضع المجتمع لرؤيته بأي وسيلة، وتسرب بذلك تبرير المشروع اللا مشروع، وصارت الغاية تبرر الوسيلة.
إن تركيب وفهم الاشكالية على النحو الذي انتصر له الافغاني، هو تماماً الذي جعل العقلانية العربية في رؤيتها لمشروع النهضة تستسلم لفكرة الاستبداد بل وتبرر لها، تحت إلحاح بريق فكرة المستبد العادل، فالتوق الرهيب لاحداث نهضة بطريقة القفزة العملاقة لم يكن ليترك حيزاً حقيقياً لهؤلاء الرواد، يدركوا من خلاله أهمية الاشتباك الجزئي مع واقعهم المباشر، فاندفع الافغاني بعد فشل حركة عرابي باتجاه تبرير الاستبداد بوصفه ضرورة لتحقيق العدل والاستنارة والنهضة، فيما كان محمد عبده أكثر واقعية واشتبك جزئياً مع الواقع في حدود اجتهاده المتمثل في انتاج جيل من الرواد وتوسعة قاعدة التنوير والتثوير، فكان قاسم أمين وسعد زغلول من أبلغ الامثلة على نتاج تجربته.

إلا أن الحسم كان عملياً للمستبد العادل، هذا التركيب المتناقض أصلاً في بنيته، استطاع أن يستمد تبريره لدى القواعد التي ثاقفت باحتراف تجارب المجتمعات المتقدمة، من خلال فخ الحكم بعجز القيم الديمقراطية التعددية عن انجاز مهمة النهضة، بل وباعتبارها هي نفسها قيد على النهضة يحول دون تحقيقها.

وبعيداً عن الرأي في مدى صدقية هذا الحكم، بات من المسلم فيه مع نهاية النصف الثاني من القرن العشرين، أن العقول الناهضة فقط هي وحدها التي تستطيع أن تنجز النهضة، وكان لا بد من عقل ناهض إذن يستولي على السلطة ويحكم كمستبد عادل يحقق القفزات النوعية المرجوة، هذا على الاقل في مستوى التنظير الثقافي لما حدث فعلاً هو ما جعلنا ضحية حقيقية للاستبداد الذي لا علاقة له بالعدل ولا يمكن أن ينتجه.

إن حركة الشعوب والعمل السياسي عامة ليس علماً تجريبياً مخبرياً، فالشعوب ليست مختبرات والانسان ليس كفأر التجربة، وبالتالي فإن كل تجربة ثورية هي بحد ذاتها صاحبة سياق موضوعي تاريخي خاص، ولها من الفرادة والمقومات ما يميزها بالضرورة عن غيرها، وإن كنا قادرين على الدخول بتبريرية تاريخية لظهور حراكات العشائر والمناطق والاحياء، قياساً مثلاً على التجربة الاسبانية، إلا أننا نؤثر أن نعتد أكثر بطبيعة بنية وتطور الحراك الثوري الشعبي من خلال فهمه من داخله هو، والاعتماد أكثر على الانتقال في الفهم والتحليل من ما هو جزئي "Micro" إلى ما هو كلي "Macro"، فالوصول إلى القالب الخاص والقدرة على التنبؤ له والتصور لمستقبله وخدمة شكله وتطويره، لن تتأتى لنا من خلال اسقاطه في قوالبنا الجاهزة التي تعلمنا عليها، بل من خلال الاشتباك المباشر مع النموذج الخاص في مكوناته وتفاصيله الجزئية.

لا ندري مثلاً على أي أساس يقرر أصحاب تلك القراءات أن تعدد الحراكات والائتلافات والمنظمات الثورية وكثرة عددها نمو عمودي؟! بينما يدرك تماماً من يعمل على الأرض أنها كانت ولا زالت ضرورة وشكل من اشكال التوسع الافقي، الذي اقتضته دائماً نتائج سياسات النظم المستبدة في تقطيع اوصال البلاد عرضاً وطولاً، وتهشيم البنى المجتمعية وتحويلها إلى جزر معزولة بعضها عن البعض الآخر، فيما يمثل التطور في خطاب تلك الحركات عبر عامين انصرفا مؤشراً في منتهى الأهمية والدلالة العميقة لمن يحسن القراءة.

وبشكل واضح وحاسم لم يستطع الخطاب المنصبغ بالرؤى الاقليمية والضيقة، أن يستمر داخل بنية الحراك، وراح رويداً رويداً يرتمي في احضان النظم السياسي المستبدة بعد أن لفظه الجسم الحراكي الثوري، ولم تصلح تبريريته وتمويهاته الايديولوجية عبر محاولة التشكيك في مكونات الحراك وشركائه في تمزيق نسيج اللحمة الحراكية، لأن المعركة باتت واضحة كل الوضوح في ذهن الحراكات الشعبية وجذرها المشروع الديمقراطي التعددي والدولة المدنية الدستورية التي قاعدة وجود الفرد فيها هي المواطنة، هكذا فإن الثائر الحراكي اليوم لا يعرف الحراكي من خلال رؤيته الاقتصادية السياسية الايديولوجية أبداً، وليس يعنيه إن كان رفيقه في الحراك شيوعياً أو اسلامياً أو قومياً، بل ما يعنيه أن يكون حراكياً حسم علاقته مع النظام المستبد القائم الذي تستعصي بنيته الفاسدة على الاصلاح، يعنيه الاشتراك في النضال من أجل استرداد الشعب لدولته سلطة وموارداً وانشاء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية التي قاعدتها المواطنة.
هناك ايضاً جهود حثيثة داخل الحراك الثوري الشعبي للتطور تنظيمياً، وهذا التطور النوعي المشروع، سيمثل رافداً ايجابياً بل ورافعة مطلوبة، شريطة أن يتخلى أصحابه عن وهم توحيد الحراك الثوري في تنظيم واحد، ومن وحي التجربة أقول إن قاعدة التوافق الحراكي على هدفها الواضح أوسع بكثير من القاعدة التي يمكن أن يلتقي عليها أعضاء تنظيم سياسي مهما بلغت رحابة قاعدته النظرية والتنظيمية، وليس معنى هذا أن العمل التنظيمي خطأ بل هو ضرورة وشكل من اشكال التطور النوعي، إنما معناه الانطلاق من فكرة أن الحراك الثوري حاضنة عامة يفيدها أن تتطور التنظيمات داخلها، ويضرها أن يحاول أياً منها الاستيلاء عليها واختصرها بنفسه.

دائماً كانت هناك ادارة غير مركزية لهذا الحراك الثوري، ومن لا يلمس ذلك ويعيه لا نعتقد بأنه مطلع فعلاً على طبيعة ذلك الحراك وطريقة عمله، وقد ساهمت التكنولوجيا في تسهيل ذلك إلى درجة كبيرة، وهذه الادارة ليست مجلساً من أي نوع، ولا هي هيئة سياسية أو حزب طليعي، بل هي عقلانية مرنة قادرة على التواصل والتلاقح الفكري والعملي، استطاعت عبر سنتين أن تحقق نقلات نوعية كبيرة جداً في مستوى وعي الثوار، وإن كان البعض يقيس المشهد باعداد المتظاهرين، فنحن ننظر إلى الجالسين في بيوتهم بعد، وندرك أن تغيراً كبيراً قد تم انجازه في مستوى الوعي وفي اتجاه المزاج العام للناس، وهو ما نعتقد أن عليه الرهان الرئيس، لأنها الكتلة الحرجة التي تملك فعلاً مفتاح الحسم النهائي، أما متى ستتخذ ذلك القرار فأمر مرهون بمعطيات المعركة وظروفها المحيطة اقليمياً ودولياً، وسواء تم انجاز النقلة الأولى باسقاط النظم المستبدة أم ليس بعد، فإن الكتلة الشعبية الحرجة هذه تظل هي وحدها القادرة على انجاز الانتقالات الكبرى في أشكال الانظمة.
صحيح أن الطلائع الثورية التي خاضت مشروع الثورة على الانظمة المستبدة لم تستطع فور انجازها لما انجزت واسقاطها لرؤوس الاستبداد، أن تنجز هياكلها التنظيمية وتخوض الانتخابات وتكسبها، إلا أن هذا لا يعني تلقي ذلك بصفته فشلاً، ولسنا نعتقد أن ما حققته الحركة الاسلامية من مكاسب انتخابية قابل للتكرار، ليس فقط لأن خطابها الايديولوجي المفارق للواقعية السياسية اصطدم بالواقع ولم يعد بالامكان تسويقه مشاعرياً كما كان الحال عليه قبلاً، بل كذلك لأن الطلائع الثورية وبشكل حاسم تمكنت فيما نرى من الشروع بتقديم هياكلها التنظيمية وفق رؤاها المختلفة، وهنا سيكون لزاماً عليها أن تواصل انجازها لأهداف الثورة "خبز، حرية، عدالة اجتماعية" من داخل العملية الديمقراطية والاجتهاد والنضال بأدواتها.
وفيما نرى أن الثورة قد وجهت ضربة قاضية للهياكل اليسارية والقومية التقليدية التي يصعب فصلها عن السياق التاريخي لمنظومة الاستبداد سواء عارضته او اتسقت معه، نرى أيضاً يساراً جديداً آخذ بالتشكل، يسار لا ولن تحتويه دكاكين الثورة وخطابها الخشبي المتداعي والمتمترس خلف قوالبه الايديولوجية التي عفا عليها الزمن، وأثبت فشل حتميات التحول وفق التصورات الكلاسيكية في الايديولوجية الماركسية، هو يسار عملي نابع بكل تجلياته من قلب ونبض الشارع، وبأيدي وعقول طلائعه المناضلة، وسيكون هو وهو بالذات القادر على حمل لواء العدل الاجتماعي وتحقيق أشكاله الجديدة، من داخل منظومة قيمية أوسع تتمثل بعمق قيم الديمقراطية والحرية الفردية والتعددية السياسية وتناضل من أجلها، تماماً كما تناضل من أجل العدل الاجتماعي الذي سينفتح مفهومه بالضرورة ويعاد انتاجه جدلياً، بشكل يجعله داخل الدائرة النضالية لحركة اليسار الاجتماعي المعاصر، والحركة التي لا زالت مطالبة بتقديم خطاب أكثر حيوية وعملية وقدرة على التصدي لبنية الاستغلال والتبعية للرأسمالية ما بعد الهوية القومية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ


.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب




.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام


.. لطخوا وجوههم بالأحمر.. وقفة احتجاجية لعائلات الرهائن الإسرائ




.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا