الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين سنوات الجمر ونابليون بونابرت

عدنان اللبان

2012 / 12 / 5
الادب والفن



وسط صمت مطبق , تم عرض فيلم المخرج السينمائي علي رفيق " سنوات الجمر والرماد " , الذي سرد تاريخ حركة الانصار الشيوعيين بعد هجمة النظام البعثي على الحزب الشيوعي عام 1978 . ومنذ بداية الفلم تم توضيح كون الحركة لم يتم التخطيط لها من قبل قيادة الحزب , بل جاءت كضرورة شعر بها اغلب الرفاق لحماية الوجود الشيوعي , والحفاظ على سلامة من سلم من الهجمة الفاشية , وليست خيار استراتيجي تمت دراسة افضليته واختيارها .

كان الصمت الذي سيطر على المشاهدين طيلة الساعة والربع التي استغرقها عرض الفلم , يوحي بالاستجابة العميقة للحاضرين , خاصة وان الجمهور اغلبه من الانصار والنصيرات او من عوائلهم والقريبين منهم . الا ان الذي يعرف الانصار جيدا يدرك ان وراء هذا الصمت تتدفق الكثير من الاسئلة , والاستفسارات , وعن امور تفصيلية دقيقة , التي لو كتب لها التسجيل في الفلم لكان يمكن الدخول به لمهرجانات عالمية .

الجميع حريصون , ولشعورهم بكون الفلم فلمهم تفتحت قرائحهم وجعلهم يطلبون الكثير , والفلم الذي انتج بجهود فردية, وصناعة يدوية , اكثر مما هي صناعة سينمائية متطورة تحتاج الكثير من المال والدعم المؤسساتي , استعرض حياة الانصار تحت عناوين مكتوبة على لوحات من مادة الفلم , وحشد المخرج كل ما يمتلك من وسائل فنية ومؤثرات صوتية للمادة التي بين يديه , وهي تفتقر الى اهم مستلزمات صناعة السينما وهي الحركة . كانت مجموعة مقابلات مع انصار ورفاق ابتعدوا عن التجربة لأكثر من عشرين عاما , وأصغرهم تعدى الخامسة والخمسين , يتحدثون فيها عن احداث مروا بها , او مشاعر واكبت تلك الاحداث , او تقديرات سياسية جرى اكثرها على لسان السكرتير السابق للحزب الرفيق عزيز محمد او الرفيق كريم احمد , وهو ما منح الفلم توازن في المعالجة السياسية , بين الرؤيا القيادية التي اتهمت من قبل البعض من الرفاق : بأنها وراء تتالي جميع انتكاساتنا ( الانصارية ) , تاركين جانبا مجمل الصعوبات التي احاطت بحركة الانصار الشيوعيين , ومنها جبروت وبطش النظام البعثي , واستمرار صعوبات حياتهم اليومية , والعداء لها من قبل دول الجوار , والاهم الصراع الداخلي الكردي , الذي شتت عمل فصائل الحركة المسلحة ووحدة هدفها في محاربة النظام الفاشي .

كان من بين الوسائل التي عمل عليها المخرج , وأثارت لواعج الشوق لرفاق كانوا هم الاهل والأصدقاء والأحبة , عشرات الصور الفوتوغرافية التي حال لونها الى الجوزي نتيجة القدم , رفاق استشهدوا في مواجهات كبيرة , وآخرين غدر بهم لكونهم عرب اسرى , كان لاستعراض المحطات المهمة ومن بينها بشتاشان والكيماوي ما ذكّر باستشهاد هؤلاء الابطال الذين لم ترمش لهم عين في اللحظة الاخيرة , وهم الذين من عشقوا الحياة وتحملوا كل هذا من اجلها .
كانت مشاعر المخرج التي تدفقت مع تتابع الصور , وتتالي المواقع الجغرافية التي احتضنت تلك الاحداث , هي الرافعة التي نهضت بخلق اللحظات الدرامية في شد المشاهدين , وكانت المشاعر هي الطاغية على باقي تكوينات الفلم الجمالية , ومن بينها القصة والتصوير والإنارة التي اعتمدت على الضوء الطبيعي فقط , وكان الاقرب لهذه المشاعر الموسيقى والمؤثرات الصوتية . واعتقد ان لا يكون لها هذا التأثير لو كان جمهورا آخر لا علاقة له بالأنصار .

الاسئلة التي وجهت الى المخرج بعد انتهاء العرض , اكدت الاهتمام بالفلم وأحداثه فقط , رغم ان الفلم يتحدث عن تجربة سياسية في الاساس , و هو ما جعل الاسئلة تبتعد كثيرا عن المنغصات التي ترافق الندوات السياسية مثل التثاقف او ادعاء البطولات الفارغة والتظاهر بالمتابعة الدقيقة للحركات الثورية , وكما ابدل احدهم نمور التاميل الى تمور الناميل, وبدل سريلانكة قال سريلنده , واخذ يتفحص وجوه الآخرين علها منبهرة . كانت الاسئلة مشبعة بالحرمانات , والتمنيات لان تكون مشاركة المرأة اوضح , وجود العوائل والاطفال , الوضع الصحي والمستشفيات , الحركة الثقافية والفنية والدورات الحزبية , او الاشارة للإمكانيات الكبيرة للسلطة واختراقها للحركة بالمندسين . وسؤال اثار به اهتمام الجميع , ويبدو انه من رفاق الداخل , حول الاشارة لعدم ايجاد الصلة مع حركات الاهوار والرافضين للحرب التي عانت منها حركة الانصار , وغيرها الكثير على هذه النوعية من الاسئلة .

علي رفيق بما عرف عنه من دماثة وهدوء وتمكن من حرفته , ومعرفته بتفاصيل ما يحتاجه فلم يحكي قصة الانصار , وسواء ما واجهه من اسئلة في عروضه السابقة , ام بمواكبته للحركة كنصير منذ سنواتها الاولى , وضح ان الفلم هو البداية , وأمله ومشروعه المستقبلي هو تقديم كل العناوين التي ظهرت في الفلم كأفلام مستقلة , ومستفيدا كما اكد من اغلب هذه الملاحظات . الا ان هكذا مشروع , وبهذه الامكانيات , يحتاج الى فترة لا تقل عن الالفية الرابعة , ورغم تمنياتي بالصحة والعمر المديد للفنان علي رفيق , لا اعتقد ان علي سيصدق البقاء لربع هذه الفترة رغم كل دعائنا له , وأنا الذي اعرفه لأكثر من اربعين عاما . كانت حتى اسئلة الذين لا علاقة لهم بالأنصار تشي بالحرص والضرورات الفنية لإضفاء التكامل الفني في تغطية التجربة الانصارية .

كانت متطلبات اغلب الاسئلة الرغبة في ذكر حادثة او تجربة معينة , وهي تحتاج الى فلم كامل آخر. كان وراء متابعة حياة بعض الابطال الاستثنائيين , والعمليات التي حدثت في عمق المدن والمحافظات الكردستانية , مثل السيطرة عل جامعة صلاح الدين وأقسامها الداخلية على سبيل المثال , ما يكون موضحا لطبيعة الاهداف التي توخاها الشيوعيين الانصار , وكيفية تعاملهم مع الجنود العاديين وباقي افراد المؤسسات الامنية للسلطة . الشيوعيون لم يمارسوا السلطة حتى في المناطق التي تحت سيطرتهم مثل باقي الاحزاب القومية , وهذه وحدها تحتاج الى فلم يستعرض عشرات بل مئات الوضعيات الاجتماعية والأخلاقية للأنصار الشيوعيين .

استمرت تداعيات الفلم في سهرة جميلة طالت الى ما بعد منتصف الليل في قاعة الجمعية الثقافية في مالمو . ومن بينها تداعت جلستنا معه انا وابو عليوي على جلسة شرب , كان صامتا على غير عادته , ويبدو انه منشغل وبعيدا عنا , نظرت الى ابو عليوي باستفسار . ابو عليوي شقيق عبد الرزاق وهادي احمد لاعبي منتخب العراق لكرة القدم , وابو عليوي معروف لكل الرفاق والأنصار بقدراته الدبلوماسية العالية , وقد رشحه الحزب في بداية التغيير للعمل كمستشار تشريفات في وزارة الخارجية , ولكنه اعتذر لأسباب شربية .
سأله ابو عليوي : شبيك ؟! ساكت وبس تنافخ شعندك ؟! سويت الكَعده عزه .
كنا نعرف انه يعاني من عدم حصولهم على طفل رغم مرور اكثر من خمسة عشر عاما على زواجهما , تزوجا عندما كانا نصيرين معنا في كردستان , كانت زوجته تمتلك من القوة الجسدية والنشاط ما يحسدها عليها الجميع , وعند عبورها الزاب في منطقة زيوة وهي تحمل على ظهرها جهاز اللاسلكي الذي كانت تعمل عليه , ورغم ان الماء لم يكن يصل الى الركبة , الا انها انزلقت من الصخرة التي ارتكزت عليها في وسط النهر , وأخذها التيار السريع لعدة امتار قبل ان تسيطر على نفسها , وتشبثت في احدى الصخور , وسارع اليها الرفيقان اللذان كانا معها لسحبها واخذ الجهاز منها , الا انهما سقطا ايضا وابتلت ملابسهما بالكامل . الثلاثة يرتجفون , اشعلت النار , واستطاع الرفيقان نزع بدلتيهما وتجفيفها , وهي قد جفت ملابسها عليها .

بعد سنوات طويلة فحصت في السويد بعد ان طال انتظارهم للطفل , وظهر انها تعرضت لتليف في المبايض نتيجة لعبورها الزاب في تلك الظروف الباردة , وبسبب عدم علاجها المبكر للتليف , فقدت قدرة الانجاب . كانت من ديانة ثانية , وزواجها من مسلم سيعرضها لغضب اهلها , وربما ستنبذ من الطائفة , الا ان اخلاص زوجها لها , والعلاقة المتكافئة بينهما , خلقت عندها حصانة تلوذ بها لتجاوز ما ستواجهه من اهلها ( بعد ازاحة صدام ) .
اعاد السؤال ابو عليوي : شبيك ؟ ما كَلت .
اجابه وقد ارتخت نظرته الشاردة, وحدق في وجه ابو عليوي : هذا الحصار صار غضب علينه , قبل ما كو اتصال وياهم ومخلصين .
ابو عليوي : قابل بس انت تساعد اهلك ؟ الكل هالشكل .
اجابه : مو مسألة المساعدة , هذا ابويه اكل راسي , يومية بالتلفون ليش ما صار عندك طفل ؟ لا زم تسوي طفل .
ابو عليوي : مو مشكلة اتبنوا طفل , ثنينكم تشتغلون , يعني السويديين يوافقون على التبني .
اجابه بعصبية : ما يقبل , يكَول اريده من صلبك .
ابو عليوي : وشنو انت نابليون ؟! الا من صلبك .

بعد فترة قصيرة انتقلا الى مدينة اخرى , وبعد اقل من سنة سمعنا ان نابليون تزوج مرة اخرى , ورزق بولدين .
ابو عليوي يسمي الكبير هولاكو , والصغير جمشيد .
سألته : الاب كان نابليون للمحافظة على نقاء الدم افتهمنا , بس ذوله ليش هولاكو وجمشيد ؟!
لا يجيبني ويبتسم , مثلما لا يجيب كل من يطلب ان تذكر مثل هكذا قصص في الفلم , وكل قصة هي تحتاج الى فلم لوحدها . تحية للعزيز ابو ليث ولكل من عمل معه في هذا الجهد الكبير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في