الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أحاديث الثورة السورية(1) طبيعة الثورة– العسكرة والاسلام- محنة اليسار

مروان عبد الرزاق
كاتب

(Marwan)

2012 / 12 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


تقترب الذكرى السنوية الثانية لانطلاقة الثورة السورية, ومازال الشعب السوري يقدم المزيد من الشهداء والضحايا, في سبيل حريته وكرامته, وبتصميم وعزيمة لا مثيل لهما, رافضا كل من يحاول أن يعيده إلى الوراء. ليتوضح يوما بعد يوم أن الشعب لن ينهزم, إذا نهض وأراد الحياة الكريمة التي لا يمكن أن تكون بدون الحرية.
منذ انطلاقة الانتفاضة السلمية في منتصف آذار من العام الماضي, أرعبت التظاهرات السلمية النظام, وخاصة عندما انتشرت بسرعة في كل أنحاء سوريا, واحتلالها للساحات العامة كما حصل في حماه وحمص. ولأنه لا يملك إلا الحل العسكري, لجأ منذ البداية إلى قتل المتظاهرين في الشوارع بالرصاص الحي. وعمل على تقسيم المدن بالحواجز العسكرية إلى شوارع منفصلة, بحيث لا يمكن للشعب أن يتجمع في مظاهرة كبيرة واحدة, يمكن أن تشكل تهديدا جديا للنظام, كما حصل في مدينة حماه, وكذلك عمل النظام على حصر التظاهرات في الجوامع فقط, ووضع لهم الاسلحة, في محاولة لوصف الانتفاضة بأنها:(عصابات سلفية مسلحة مرتبطة بالخارج), حتى يُقدم للراي العام مبررا من أجل سحقها في مهدها. وهي اللازمة الذي مازال الاعلام الرسمي يرددها حتى الآن.
فإلى أي حد تقدمت الثورة في مشوارها الطويل, وإلى أي حد نجح النظام في صراعه مع الثورة؟
1- طبيعة الثورة
منذ اندلاع الثورة أصبح الحديث الرئيسي للشعب السوري بكل فئاته حول الذي يجري: المظاهرات سلمية ام لا, وكيف يتجرأ الشباب للخروج بمظاهرة ضد النظام, ومن هم هؤلاء, هل هي ثورة, ام عصابات كما يقول النظام...؟ وكانت كل الأحاديث –وحتى الآن- تبحث عن أجوبة للسؤال الرئيسي : هل هذه ثورة أم عصابات, واية حرية وكرامة يريدون, وماهي طبيعة هذه الثورة؟ ولأن الثورة لم تنتصر بسرعة كما حدث في مصر وتونس وليبيا, فإن الصراع المفتوح بين الثورة والشعب, بدأ يفرز عوامل جديدة في كل مرحلة, وأسئلة جديدة, ترتد في أغلبها إلى طبيعة هذه الثورة وتطوراتها.
وسنتناول بعض الاحاديث الأكثر رواجا بين أفراد الشعب, وبين المثقفين والسياسيين واشباههم من المعارضة القديمة, في المقاهي العامة, والبيوت المغلقة, حيث اصبح الحديث السياسي عن الثورة هو الحديث الوحيد, منذ اندلاع شرارتها في درعا, آذار 2011. وهذه الأحاديث أو الأسئلة مترابطة فيما بينها, ويحكمها جذر واحد هو: الموقف من الثورة.
منذ البداية بدا الانقسام واضحا بين مكونات الشعب وطبقاته المختلفة, وكذلك بين المثقفين والأحزاب السياسية بين مؤيد لها, وضائع في منتصف الطريق بين النظام والثورة, وأقلية ثالثة بقيت تساند المستبد حتى لحظاته الأخيرة.
في الأشهر الستة الأولى كان السؤال الأكثر اتساعا, والذي لم يُحسم حتى الآن هو: ما الذي يجري, هل هذه ثورة ام ماذا؟
وتبين بالملموس أن اتحاد الكتاب والصحفيين والاعلاميين, لا يختلفون عن أية نقابة اخرى كالمهندسين أو الأطباء أو العمال, أو أية مؤسسة حكومية تحكمها الأجهزة الأمنية. وللأسف فإن موقف أغلبية المثقفين السوريين في هذه النقابات كان وما يزال ضد الثورة بشكل واضح.
وقد اتخذ المثقفون الذين يؤيدون فعليا الثورة, أو الذين يدعون ذلك, موقف المنظر المندهش دون أن يخطر ببالهم ضرورة الانضمام لشباب الثورة. رغم أن الكثير منهم دفع ثمنا غاليا من حياته في سجون النظام دفاعا عن الحرية والكرامة.
ومازال العديد من المثقفين الذين يدَعون تأييدهم للثورة في سوريا, يرفضون تسميتها بالثورة. إنما يصفونها, بالأزمة, أو الحراك الشعبي, أو حركات احتجاج, وفي أحسن الأحوال يصفونها بالانتفاضة. الخ. وكأن تسمية ثورة شعبية أكبر مما يحصل. ويحسبها بعض المثقفين والأحزاب ,منة, أو مكرمة, يرفضون تقديمها للشعب.
حيث أنجزت هذه النخب ثورتها بكل تلاوينها وبقايا أحزابها واتجاهاتها, بأن كتبت برامجها على الورق التي تدعو إلى دولة مدنية ديمقراطية, وأودعتها الأدراج وأغلقت عليها الأبواب, دون أن تدرك كيف يمكن تحقيق هذه البرامج المنسقة على الورق, وماهي الوسائل والآليات اللازمة لذلك. سوى المراهنة على النظام حتى يقود عملية الاصلاح وينقل البلاد نحو الحرية والديمقراطية. وخاصة منذ بداية القرن الجديد مع عهد الرئيس الابن, باعتباره القوة الوحيدة في الساحة. أما الشعب فهو مُغيب نهائيا عن ساحة الفعل, سواء من السلطة أو المعارضة.
وعندما نهض الشعب ليحول هذه البرامج, من الورق إلى واقع على الأرض, مطالبا بالحرية والكرامة, والانتقال من الاستبداد إلى الدولة المدنية الوطنية الديمقراطية, عن طريق الانتفاضة الشعبية السلمية, صرخ الجميع: هذه ليست ثورتنا. وسارع الكل إلى دعم صراخه ببعض المبررات والحجج مثل:
- عدم وضوح برامجها وأهدافها, وأنها بدون أحزاب سياسية قائدة مسبقة الصنع, بحيث يمكن ادراجها ضمن الايديولوجيات السائدة: الإسلامية, والاشتراكية, واليسارية, والقومية, والليبرالية.
- عدم وجود قيادة معروفة, وبرنامج واضح.
- أو أنه يغلب عليها الطابع الاسلامي السلفي, أو الطابع الفلاحي المتخلف, وهذا يؤدي الى استبدال الاستبداد الراهن باستبداد أكثر تخلفا وبطشا.
و هذا ينطبق على العديد من المثقفين من أدونيس, وحتى ميشيل كيلو, و على بعض الأحزاب والهيئات, مثل هيئة التنسيق, مرورا بالتجمعات الصغيرة, التي رفضت الانضمام للمجلس الوطني, أو هيئة التنسيق. ويشترك الجميع, ليس في توصيف الثورة فقط, باعتبارها ليست ثورة, إنما يشتركون أيضا, بالأساس في عدم توصلهم لشعار "اسقاط النظام", كمدخل وحيد لبناء دولة الحرية والديمقراطية. واستمرار مراهنتهم على النظام ولو يشكل موارب.
والجميع يختبئ خلف شعارات براقة, مثل: لا للعنف, لا للتدخل الخارجي, لا لتدمير المدن ومؤسسات الدولة. لا.. لا.. الخ. وهذا كله يندرج ضمن خلق مناخ مشوش, هو بمثابة التعمية, على عدم اقتناعهم بسقوط النظام, كما يريد الشعب. انهم يبحثون عن شعب له مواصفات محددة, وينجز الثورة "الملائكية", أو الثورة المسبقة الصنع. التي لم توجد في التاريخ البشري كله.
ويعود هذا التعالي الأجوف, لهذه النخب التي تقوقعت على نفسها, ضمن أبراجها الكرتونية المظلمة, إلى عدم إيمانها بالشعب وحاجاته وقدراته, بعد عقود من الصمت المطلق.
وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى أن هذه الايديولوجيات لم تُدرج مفهوم الحرية كهدف رئيسي من أهدافها, سواء الحريات العامة للأفراد والمجتمع, وحقوق الانسان, او الحريات السياسية. إنما تم إدراج الحرية كهدف ثانوي تحت الأهداف الايديولوجية الكبرى. ولكل ايديولوجية حريتها الخاصة. وتحقق هذه الحرية مرهون بتحقق الهدف الأيديولوجي: الاشتراكية, أو الدولة الاسلامية, أو الوحدة القومية. والبحث عن ثورة "ملائكية" أو انتقاد الثورة بحجة تقويمها وعدم انحرافها, هو نوع من التعويض عن الشعور بالعجز عن تقديم ما هو مطلوب منهم باعتبارهم ينتمون -أو يدعون ذلك- للمعارضة منذ عقود.
وعندما بدأت النخب السياسية العمل على ضرورة الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية, بعيدا عن الايديولوجيات, واحياء المجتمع المدني والسياسي, منذ بداية الالفية الثانية, فيما سمي بربيع دمشق, كان المقصود اصلاح النظام وليس اسقاطه. ولم يكن يخطر في بال أحد الدعوة لإسقاط النظام, سوى بعض الأفراد الذين وُصفوا في حينها بالمتهورين.
وبالتالي شكلت الثورة السورية-(وعموما ثورات الربيع العربي)- التي تهدف لإسقاط النظام من اجل الحرية والكرامة, صدمة كبرى ليس للأنظمة فقط, إنما لأحزاب المعارضة ورموزها من السياسيين والمثقفين.
و للإجابة على السؤال: هل هذه ثورة أم لا؟ وماهي طبيعة هذه الثورة؟ ببساطة يتطلب الإجابة على مجموعة من الأسئلة: ماهي بنية النظام السائد, وماهي أهداف الثوار, و ما هو الحامل الاجتماعي لهذه الثورة؟
فالنظام الراهن هو وريث السلطة الاستبدادية الشمولية, التي اعتمدت على بناء رأسمالية الدولة باسم الاشتراكية على طريقة اوروبا الشرقية, منذ (1963), والذي انتقل إلى الليبرالية الاقتصادية من تسعينات القرن الماضي, وأفرزت ليبرالية جديدة راكمت ثرواتها من نهب ثروات الوطن عبر شبكة فساد شاملة, ليسيطروا على اقتصاد الوطن. دون أن يرافق ذلك أية اصلاحات سياسية. بل بالعكس, تم توريث السلطة على طريقة الامويين والعباسيين, وتجسيد سلطة العائلة, محتمية بأجهزة امنية أخطبوطية تمتد أذرعها لتكمم أنفاس كل المجتمع الذي حولته إلى رعايا. كما تم تركيب هذه الأجهزة بحيث يكون اصحاب القرار بيد العائلة. وهذا التركيب الخاص هو الذي يفسر عدم انشقاق ألوية أو فرق كبيرة من الجيش الذي تم دفعه لقمع المظاهرات بشراسة لا تُوصف.
ببساطة انعدام وجود الحريات العامة والخاصة, والتمايزات التي تحصل في دوائر الدولة الأمنية والمدنية, هي التي دفعت بشرائح عديدة من الشعب السوري, للنضال ضد هذا النظام المستبد منذ سبعينات القرن الماضي, والتي ضمت كل الاتجاهات من اليمين واليسار والقومي والاسلامي. لكن الجميع وكل المعارضة, قبل اندلاع الانتفاضة, لم تكن تعرف كيف تصل الى تحقيق برامجها. ومن رفع شعار اسقاط النظام, لم يكن يعرف كيف سيسقط هذا النظام. عدا الاخوان المسلمين الذين لجؤوا للعنف في الثمانينات, وكانت العواقب وخيمة عليهم وعلى الشعب كله.
لقد أنجز الثوار خلال الشهور الأولى التنسيقيات السياسية, والهيئة العامة للثورة, التي عملت على تنظيم العمل النضالي الثوري, واعلان أهداف الثورة, والذي يمكن إيجازه بإسقاط النظام واقامة الدولة المدنية الديمقراطية لكل الشعب السوري. وهذا هو نفسه برنامج المعارضة التاريخي. إلا أن هذا لم يكن مقنعا لأغلب المثقفين والسياسيين, لأن الثورة لم تضعهم في المقدمة. دون ان يدرون لماذا هم عاجزون عن اللحاق بسفينة الثوار على الأرض, ولماذا لم يتخلصوا من خوفهم ومراهنتهم على النظام في التحول الى دولة مدنية ديمقراطية.
والحامل الاجتماعي للثورة هو أغلبية الشعب. وكان المثقف (الناقد-الموارب) ينظر الى المظاهرات الجزئية والتي وصل عددها الى مئات المناطق في وقت واحد, بعيون متشككة, ومرددا اسطوانة النظام: انهم بعض الأفراد وليس هذا هو الشعب!. متناسيا أن النظام عزل الشوارع عن بعضها ومنع بقوة الرصاص تشكل مظاهرة مدنية كبرى كما جرى في حمص وحماه. وكي نرى الواقع كما هو, وليس كما نتمنى, فالنظام نجح جزئيا في إبعاد الأقليات الدينية بإيهامهم بانه هو الذي يدافع عنهم. وبالعنف أيضا, حيث تم ملاحقة المعارضين وتخوينهم وحرق بيوتهم لانهم وقفوا ضد النظام. أما الأكراد فهم منقسمون بين مشارك أو صامت باستثناء حزب العمال الديمقراطي الذي استخدمه النظام كورقة سياسية, وليست عسكرية. كما نجح بالعنف عدم نهوض المدن الكبرى(حلب ودمشق) بشكل كلي, مستعينا برجال الدين, ورجال الاعمال الذين يدعمون النظام بالشبيحة والأموال.
ونجاح النظام في حصر الثورة في الجوامع, لوصفها بانها سلفية, وانزياحها نحو الريف والمدن الصغيرة والمتوسطة, حيث المناخ الاجتماعي مثالي بالنسبة لها. وكذلك تقطيع المدن بالحواجز بحيث اصبح عدد المتظاهرين قليلا, وعدم قدرتهم على احتلال الساحات العامة, كما حصل في مصر واليمن. وكذلك نجاح النظام فيما بعد بالعمل على انقسام المجتمع طائفيا, ودينيا, والعمل على بث الفتن الطائفية, بحيث عبرت بعض الأقليات عن عدائها للثوار, وآخرين اخذوا موقع الحياد.. كل هذا لا يعني الانتقاص من اهمية الثورة السورية وتصنيفها, كثورة الحرية بامتياز.
لقد نجح النظام جزئيا في تحوير مسارات الثورة السلمية, التي اشترك فيها كل فئات الشعب ومكوناته الاجتماعية والاقتصادية المختلفة, لكنه فشل بشكل نهائي بتحويلها إلى عصابات, لأن الشعب لا يمكن تقزيمه الى عصابة.
وهنا نجد الفرق بين الثورة الراهنة, والصراع بين الاخوان والنظام على السلطة في الثمانينات, والذي لم يرتق الى ثورة شعبية, لأن الاهداف لم تكن بناء دولة ديمقراطية, على أنقاض الاستبداد, انما دولة دينية. ولم يكن الشعب هو الحامل الاجتماعي لأهداف الاخوان, انما بقيت الحركة محصورة في الاخوان المسلمين وحدهم. وهو السبب في هزيمتهم.
لكن ماهي طبيعة الثورة السورية؟
نعم هدف الثورة الأساسي هو هدم بنيان الاستبداد الذي تقوم عليه السلطة الراهنة, واعادة بناء دولة المواطنة, دولة مدنية ديمقراطية. والتفاصيل موجودة في كل ادبيات الثورة. نعم انها ثورة الحرية والكرامة. مع أن مفهوم الدولة المدنية ملتبس. فهي ليست دولة دينية, كما أنها ليست علمانية. ولا تستقيم الديمقراطية بدون العلمانية؟ رغم حاجة سوريا الى دولة علمانية, دولة مواطنة, وليس دولة مدنية ملتبسة, لأنها تضم فسيفساء دينية وقومية متعددة, ولا يمكن الحفاظ على وحدة هذه الفسيفساء الا بدولة ديمقراطية علمانية تمثل إرادة الجميع, دولة- الامة, دولة المواطنة.
لكن الثورة السورية لن تنتج دولة علمانية مباشرة بعد سقوط النظام, لأسباب عديدة من أهمها: سيطرة التيارات الاسلامية على الأرض. لكن هذا لن يخيف العلمانيين, الذين تحرروا من عقدة الاسلاميين التي زرعها النظام في عقولهم. فليأخذ الاسلاميون حقهم في الحياة الديمقراطية مثل سائر التيارات السياسية, طالما يوافقون الجميع على الانتخابات والتداول السلمي للسلطة...الخ. ولتكن الدولة المدنية الديمقراطية, حلقة وسيطة بين الاستبداد والدولة العلمانية التي تعبر عن ارادة الجميع.
ويزودنا التاريخ الاوروبي, سواء الثورات العنيفة مثل فرنسا منذ(1789), أو الثورات السلمية مثل بريطانيا منذ(1688), بحقيقة بسيطة: ان هذه المجتمعات التي رفعت لواء الحرية في ثوراتها لم تصل الى الحرية والديمقراطية والعلمانية دفعة واحدة. وكلها احتاجت مئات الاعوام حتى بدأت ترسيخ دولة المواطنة العلمانية, وتتعمم قافة المواطنة, بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا لا يعني اننا سنحتاج لفترة طويلة كهذه حتى نصل الى الدولة المنشودة, ولا يعني أيضا أن صيرورة تطور ديموقراطيتنا, ستكون متشابهة, لاختلافات عديدة, في التاريخ والثقافة, وطبيعة الازمات والتحديات التي تواجه مجتمعاتنا, حيث أننا مجتمعات متخلفة-اقتصاديا وثقافيا وعلميا وسياسيا- مازالت مرهونة للغرب المتقدم حضاريا, واقتصاديا, والذي لم يتخلص بعد من عقليته الاستعمارية. الخ.
لكن الملاحظ عدم وجود برنامج اقتصادي للثورة. حتى أن موضوع العدالة الاقتصادية غير وارد في ادبيات الثورة ومطالبها, الا كشعارات لا أهمية لها إن لم تكن نابعة من برنامج اقتصادي محدد يحقق التنمية وتوزيع الثروة. وهذا يعود لأن الثورة السورية ليست ثورة الفقراء ضد الأغنياء, رغم أن الفقراء وكل الكادحين هم وقود الثورة كما هو الحال في كل الثورات وكل الحروب. كما أنها ليست ثورة تهدف إلى الانتقال بسوريا من نمط انتاجي إلى نمط انتاجي آخر, كما هو الحال في الثورة الفرنسية أو البلشفية.
وهذا لا ينقص من قيمة الثورة باعتبارها ثورة سياسية أولا تسعى إلى هدم جذور الاستبداد السياسي وتوفير حياة سياسية حرة قائمة على التداول السلمي للسلطة, ودولة تحمي الحريات العامة والخاصة. وهي ثورة اجتماعية وثقافية وعلمية, وتؤسس لنهوض المجتمع المدني والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع على اساس حر وليس بالإكراه كما هو الآن. هي ثورة تفتح الباب أمام ترسيخ قيم وطنية, ترفع عاليا الولاء للوطن, وليس للحاكم واجهزته, أو للطائفة.الخ. وكذلك هي ثورة اقتصادية تضع اقتصاد الوطن على سكة التنمية الحقيقية. كما تفتح الباب أمام العمال والكادحين في صراع طبقي سلمي واضح يمكن من خلاله أن يحصل الكادحون على حقوقهم المشروعة, وبالتالي عبر الصيرورة المستمرة يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية بشكل نسبي, لأن تحقق العدالة الكاملة في ظل نظام برجوازي مستحيلة, لأنها مخالفة لبنية النظام ذاته. رغم أن التوقعات بأن الثورة لن تفرز العدالة الاجتماعية مباشرة كما هو حال الدولة العلمانية. لكن لا يمكن تحقيق العدالة والعلمانية الا بفتح بوابة الحرية على مصراعيها, وليس بإصلاح النظام القائم, لأنه غير قابل للإصلاح.
بمعنى آخر, الثورة السورية بعد اسقاط النظام تكون قد فتحت الابواب أمام انجاز البرنامج السياسي للبرجوازية الديمقراطية. وهذا ليس مخالفا للتطور التاريخي. فالليبرالية تاريخيا منذ أن فجرت ثورتها الفرنسية في (1789) لم يكن يهمها من الحرية الا الحرية الاقتصادية, ومزيد من الحرية في نهب فائض القيمة. وكانت تحارب منذ نشأتها كل التيارات السياسية التي تدعو الى الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية. وتاريخ الصراع الطويل بين الشعب والرأسمالية, هو الذي أفرز في نهاية المطاف (دولة الرفاه) الاوروبية بعد الحرب العالمية الثانية, والتي يراها المؤرخون كمصالحة تاريخية بين العمل والرأسمال. حيث تنازلت الأحزاب الشيوعية والاشتراكية واليسار عموما عن اسقاط النظام البرجوازي, وتنازلت البرجوازية عن حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية للعمال والكادحين. بمعنى أن البرجوازية لم تقدم للشعب الحرية والعدالة الجزئية, كمنحة أم عطاء, انما تم انتزاع الحرية بفضل نضال كل مكونات الشعب وتنظيماته السياسية وخاصة اليسارية عموما, والشيوعية والاشتراكية خصوصا.
وحال البرجوازية السورية لا تختلف من حيث البنية عن اية برجوازية اخرى, سوى انها ضعيفة وفي بلد متخلف. وهذا الضعف مع مجموعة من العوامل الاجتماعية والاقليمية, في خمسينات القزن الماضي, هو الذي يفسر نجاح حزب البعث بالسيطرة على السلطة عام(1963), وابعاد البرجوازية وتعبيراتها السياسية عن السلطة. وموقف البرجوازية السورية الآن ضد الثورة, ودعمها للنظام, ليس خوفا من ان الثورة ستلغي نمط النتاج الرأسمالي وتصادر املاك الرأسماليين, بل لان الثورة ستخلق مناخا للحرية يمكن من خلاله ان يعمل العمال وعموم الكادحين, على الحد من شراسة الاستغلال الاقتصادي ونهب فائض القيمة, والمطالبة بحقوقهم المشروعة. وكذلك تخشى افتقارها الى مناخ الفساد الذي وفره لها هذا النظام والذي من خلاله تحقق الارباح الطائلة.
إن الشعب السوري يريد أن يشعر ويعيش بحريته كإنسان, وأن يكون خبزه غير ملوث بالقهر والكرامة المهدورة. إنها ثورة الحرية والكرامة الإنسانية, التي يفتقر إليها شعبنا عبر تاريخه كله. فالاستبداد يمنع أي تطور, والحرية هي البوابة الوحيدة لأي تطور حقيقي على كل الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية.الخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تضرب إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟ • فرانس 24


.. إدانات دولية للهجوم الإيراني على إسرائيل ودعوات لضبط النفس




.. -إسرائيل تُحضر ردها والمنطقة تحبس أنفاسها- • فرانس 24 / FRAN


.. النيويورك تايمز: زمن الاعتقاد السائد في إسرائيل أن إيران لن




.. تجدد القصف الإسرائيلي على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة