الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقب فى العباءة السوداء

محيي الدين غريب
كاتب ومهندس

(Mohey Eldin Gharib)

2012 / 12 / 28
الادب والفن


صباح هادئ جميل ليوم عادي من هذا الوقت من العام ، ونسمات باردة محببة تلطف المكان الذى يمتلأ بالحدائق الخضراء ، نسمات تحمل معها ندى الأزهار والورود.
كما تعودت كل صباح جلست فى شرفة منزلى لأستمتع بالجو والمكان بصحبة كتاب وقلم وورق للكتابة مستسلما لما تمليه الأقدار. أحيانا أقرأ بعض الصفحات ثم أكتب بعض السطور وأنا أستمع لبعض الموسيقى ، وأحيانا أخرى أهيم سارحا مفكرا فى أمور الحياة ، وبين هذا وذاك كنت أستسلم للنعاس ولو لبعض لحظات.
هكذا كان نمط حياتى منذ أن اعتزلت الحياة العملية بعد سن التقاعد ، وهو نمط أردته ووجدته مناسبا وأنا فى أواخر العقد السابع من عمرى.
كنت أجلس الساعات أفكر وأتأمل وأنا على يقين أن هذه الساعات تمر من العمر بغير رجعة ، ومع ذلك كنت أستمتع بها وهى تنساب متسربة.
اليوم لفت نظرى هاتان الشاباتان المحجبتان خلف عباءات كثيفة السواد وهما تجلسان مع بعض الصغار وسط الحديقة الأنيقة على مرمى النظر من شرفتى فى الدور الاول. تعودت هذا المنظر كل يوم تقريبا ، فعائلات هذه المنطقة عادة ما يتركون أطفالهم لمربيات من مختلف الأشكال والاجناس.
كنت أتمتع برؤية الصغار وهم يلعبون ويلهون ببراءة فى مرح وسعادة وسط الزهور والعصافير ، وكأنهم جزء من هذه الحديقة المنسقة ، جاءوا ليضيفوا لها الكثير من الحياة.
تحركت إحدى الشاباتان واقفة وهى فارهة القوام وهمت لتصور من معها من أطفال بالفديو ، وانساقت بعفوائية للحظات قليلة لتلعب وتلهو مندمجة معهم ، ولكن خطواتها كانت فى حركة محسوبة وفى كبرياء واضح. تحركت وهى تتمتم ببعض الكلمات لهم فى لهجة مسالمة ، ليست آمرة وليست حازمة ، وبالقطع ليست متحدية ليستجيب لها الأطفال طوعا.
لفت نظرى كل هذا ليزيد من فضول متابعتى لها من بين فتحات سور الشرفة وأنا فى حيرة فيما أرى. وأيقنت على الفور أنها لابد أن تكون أما لبعض هؤلاء الأطفال وليست واحدة من المربيات.
خطواتها المحسوبة فضحت تفاصيل قوامها الممشوق ولهجة كلامها فضحت أنوثتها المتوارية خلف العباءة ، وللحظات قليلة أسقط عنها حجابها الذى كان يخفى منها كل شيئ عدا وجهها الصغير الجميل.
ويبدو أن هذا ماكانت تخشاه فلقد سارعت لتعود للجلوس أرضا على النجيلة الخضراء محاولة أن تلملم عباءتها وكأنها تود أن تختفى أكثر بداخلها. بدت لى غير سعيدة كاسفة البال وكأنها وردة أبت أن تتفتح ، وكأنها خجلت من جمالها ، بل وكأنها تود أن تعاقب نفسها.
ولأنها لم تتعود الجلوس أرضا كانت كثيرة الململة ما أضاف إليها جمال الحركة الناعمة.
كنت أخشى ما أخشاه أن تكون متابعتى لها عبأ عليها قد يزيد من قلقها ويضيق من حريتها.
فى داخلى كنت أود لو أستطيع أن أحمل عنها هذا القلق وأن اخفف عنها هذا العبأ وأؤكد لها أننى ما قصدت احراجها ، فخطواتها هى التى فضحتها ، ولهجة كلامها هى التى خلعت عنها العباءة وكشفت عن جمالها لتصبح عباءتها شفافة كالهواء ولتصبح عيناها أكثر بريقا.
لست متأكدا ما إذا كانت هى أيضا قرأت وفضحت ما يدور بعقلى وهى على هذا البعد. ولما لا فالمرأة لها هذه الحاسة بغريزتها الفطرية غير العادية.
وبينما أنا فى هذه الحيرة إذا بها تلتفت ناحيتى وترمقنى بنظرة متمهلة ، نظرة تحمل الوفاق والموافقة وقبول أن أخفف من عليها ، وربما بالسماح بالمزيد من إختلاس النظرات إليها ، أو هكذا هيئ لى ، وكأنها تقول لى أنت أيضا قد فضحتك نظراتك.

لماذا أسرها المجتمع وأصر عليها ألا تتفتح ، لماذا أنكر عليها المجتمع جمالها الذى أنعمت الحياة به عليها كما أنعمت على كل هذه الورود والزهور حولها أن تتفتح وأن تتمتع بحريتها.
مجتمع غامض متناقض مغلق وغيرمقنع أعيد فيه مفهوم الهوية الإنسانية إلى مفهوم مغاير ، هكذا رأيته من بعيد وهكذا أراه الآن من قريب ، مجتمع حزنت عليه أحيانا كما هو حالى الآن ولكنى بكيت عليه أحيانا كثيرة.
****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أشرف زكي: أشرف عبد الغفور كان من رموز الفن في مصر والعالم ا


.. المخرج خالد جلال: الفنان أشرف عبد الغفور كان واحدا من أفضل ا




.. شريف منير يروج لشخصيته في فيلم السرب قبل عرضه 1 مايو


.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح




.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار