الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصائد السياب تُلهِبُ مَشاعر الفرنسيين

رابحة مجيد الناشئ

2012 / 12 / 30
الادب والفن


قصائد السياب تُلهِبُ مَشاعر الفرنسيين

رابحة مجيد سبهان الناشئ

منذ بدايات انفتاحي على عوالم الأدب والشعر، كنت توّاقة للبحث في جماليات الشعر وَمكنوناته، وكانت قصائد السياب زادي وبوابتي الأثيرة إلى عالم سحري مملوء بأسرار الحب والحنين وَما يشبه الوحي في فرادة المعاني وغنائياتها. حملت معي تلك القصائد حيثما حللت في ديار الاغتراب كرفيق درب وكَشاهِد، وكلما أعدت قراءتها وَجدتها تزداد جمالاً وَعمقاً وَتأثيراً، مازجة الحاضر بالماضي وكأن السياب ما زالَ حاضِراً بيننا. وَبما أني من ضمن أعضاء الهيئة المؤسسة لبيت الشعر في مدينة ﭘواتيه –La maison de la poésie de Poitiers ، وأعمل ضمن مجموعة تتذوّق روائع الأدب، أينما تدفقت أنهاره، فقد آثرت أن أقدم بعض زادي من شعر السياب إلى نخبة من المهتمين بهذا المجال، وهكذا قمت بالإعداد لأمسية عنه، ليتعرف جمهور ’’ بيت الشعر ‘‘ في مدينة ﭘواتيه الفرنسية إلى تجربته الشعرية المتميزة، فكنا جميعاً على موعد في مكتبة -جيبرت – المشهورة.

ثلاثة أبيات من غزل السياب، كانت وسيلتنا للإعلان عن أمسيتنا فتلقفها محبو الشعر وَسعوا إلينا:

على مُقلتيكِ ارتشفت النجوم وعانقت آمالي الآيبة
وَسابقتُ حتى جَناح الخيال بروحي إلى روحكِ الواثبة
أطلت فكانت سَناً ذائباً بعينيكِ في بسمةٍ ذائبة

Dans tes yeux, j’ai savouré les étoiles, étreint mes espérance perdues.
Et dépassé même l’aile de l’imagination, de mon âme au ton âme impétueux.
Apparut comme une clarté fondue dans tes yeux, dans un sourire évanoui.

ولد شاعر الحداثة الكبير بدر شاكر السياب في عام 1926 في قرية جيكور من محافظة البصرة، وكثيراً ما ذكر السياب جيكور ونهرها الصغير بويب في أشعاره.
توفيت أمه، وكان عمره 6 سنوات، فعاش طفولة حزينة، حيث يذكر في أغلب أشعاره التمزق الذي أحدثه هذا الافتراق عن أمه في حياته.

بدأ السياب يكتب الشعر منذ سنة 1941 ،أي في عمر 15 سنة، شعراً رومانسياً مستوحى من وفيقة، إحدى قريباته، ومن ريف جيكور. وكان قد تأثر في بداياته بالأدب العربي الكلاسيكي والأدب الإنكليزي، وبشكل خاص ﺑ ِ ت.س.اليوت وشكسبير وكيتس وأديت ستويل... وكذلك بالأدب الفرنسي وخاصة بِشارل بودلير في مؤلفه ( أزهار الألم ) والتي عمل على غرارها ( أزهار ذابلة ) ، كما تأثر ﺑ ِ لامارتين و آراﮔون الذي ترجم عنه ’’ عيون ألزا ‘‘ وبغيرهم.

رومانسية السياب لم تمنعه من أن يكون كذلك واقعياً وشاعراً بمعاناة الناس وهمومهم، وخير مثال على ذلك رائعته الخالدة ‹‹ أنشودة المطر ›› التي بلغ فيها الذروة، في التزامه السياسي والاجتماعي.
في هذه القصيدة نرى السياب يمزج بين صورة الوطن و صورة الحبيبة...فهما بالنسبة له العراق، وهو يصور المطر كقوة ليس للخلاص والانعتاق فحسب، بل أَيضاً للخلق والإبداع والتغيير.

السياب يُنادي الخليج، إِلا أنه لا يسمع غير الصدى:

أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع،
عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين:
مطر...
مطر...
مطر...
أصيح بالخليج : " يا خليج ..
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والردى"!
فيرجع الصدى
كأنَّه النشيج :
" يا خليج
يا واهب المحار والردى ".
وينثر الخليج من هِباته الكثارْ ،
على الرمال ، : رغوه الأُجاجَ ، والمحار
وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لجَّة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى .
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليج
مطر...
مطر...
مطر..........

إن هذه القصيدة تذكرني بصرخات امرأة عراقية في إحدى غابات الجزائر حيث أجبرها النظام الدكتاتوري في العراق على التغرب سنة 1978 تاركةً أحبتها هناك، فكانت تصرخ باسم العراق وبأسماء الأحبة والأصدقاء ولا تسمع غير الصدى.

ارتبط إسم السياب بقوة مع ولادة الشعر العربي الحديث ( شكلاً و مضموناً )، بالاشتراك مع شعراء آخرين كالشاعرة الكبيرة نازك الملائكة والشاعر عبد الوهاب البياتي وآخرين.

لقد أراد السياب بطريقتهِ الجديدة في الشعر، تحليل أحداث العراق والعالم بشكلٍ آخر، حيث شَعَرَ بضرورة الانفتاح على الحداثة من أجل خلق شعر عربي حديث يتلاءم مع متطلبات العصر، حيث كان يرى بأن الشعر القديم لا يتماشى مع المرحلة الجديدة، بسبب ما كان يعيشه المجتمع العربي من متغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية...بسبب الاستعمار المهيمن والأمية والفقر.

أدخل السياب إلى الشعر العربي الرموز والأساطير ذات الأصول الميثولوجية الإغريقية والبابلية والمصرية والرومانية وغيرها، وذلك انطلاقا من سنة 1950، وبذلك أدخل تكنيكاً جديداً في الشعر العربي بدمجهِ بين الحقيقة والأسطورة، حيث جعلَ من هذا الاندماج وسيلة جديدة للتعبير. وبهذا أعطى غنىً جديداً لتجربتهِ الشعرية الرائعة وأوجدَ لغة شعرية رقيقة ومباشرة قريبة من لغة الناس ومرتبطة بهم. وتعكس أشعارهُ امتزاج عذاباتِه ومعاناته في الحياة مع عذابات ومُعاناة المجتمع الذي يعيش فيه.

أما المرأة فلها مكانة متميزة في شعر السياب، حيث نجد المرأة الحبيبة في أشعاره ممتزجة بحبه للوطن. وقد أحب السياب الكثير من النساء، وكان صادقاً في حبه لهن، كما كان صادقاً بحبه للعراق وجيكور ونهرهِ بويب. السياب يتحدث بشعرهِ عن المرأة الفلاحة والمرأة راعية الأغنام، وعن الغنية والفقيرة، والمناضلة والشهيدة والفنانة وعن الخادمة وعن الأم والجدَّة والزوجة وحتى عن المرأة البغي. وبكلمة أخرى يتحدث السياب عن المرأة كرمز وكدلالة. وكان في قصائده ثائراً على المجتمع وعاداته وتقاليده التي تقلص دور ومكانة المرأة وتجعل منها مخلوقة ضعيفة ويجب أن تبقى كذلك ولا يرى فيها إنساناً يمتلك دوراً مهماً يلعبه في المجتمع. أما هو فكان يأمل للمرأة تحرراً حقيقياً كاملاً.

تحدث السياب في قصائدهِ عن ضحايا المجتمع الغير عادل، وإحدى هذه الضحايا هي المرأة، وخير مثال على ذلك قصيدته ’’ المومس العمياء ‘‘ والتي أراد بها السياب أن يقول بأن البراءة والشرف ليست وراثية، والبغاء ليس اختياراً، وإنما هو نتيجة للظلم وللفساد الاجتماعي والاقتصادي والخلقي للمجتمع الذي يجعل من فتاة بريئة فقيرة يتيمة بغياً بعد أن قَتلَ الإقطاعي أباها ثم اغتصبها جنود الاحتلال الإنكليزي.

ومن أول ديوان للسياب إلى آخر دواوينه، نجد أن الحب هو الموضوع المركزي الذي ينطلق منه الشاعر كمدخل للانشغالات الاجتماعية والسياسية، وكان في قصائدهِ يدعو الى إدانة كل قوة تمنع الحب مهما كان مصدرها، داعياً إلى مواجهة كل هذه القوى بكل الوسائل ومن ضمنها الشعر.

يُخاطب السياب الحبيبة برقةٍ وبعذوبةٍ متناهية:

‹‹ سأَهواكِ حتى تجف الأدمع في عيني وتنهارُ أضلعي الواهية ››

وفي قصيدته” نهاية “ يقول لها:

‹‹ سأهواك حتى نداء بعيد
تلاشت على قهقهات الزمان
بقاياه في ظلمة في مكان
و ظل الصدى في خيالي يعيد
سأهواك حتى سأهوى نواح
كما أعولت في الظلام الرياح
سأهواك حتى سـ.... يا للصدى
أصيخي إلى الساعة النائية
سأهواك حتى بقايا رنين
تحدين دقاتها العاتية
تحدين حتى الغدا
سأهواك ما أكذب العاشقين !
سأهوا نعم تصدقين ››.

عَرَفَ السياب الفقر والمرض والسجن والاضطهاد والتغرُّب السياسي إلا أن كل ذلك لم يحد من عبقريته الشعرية وعطائه الكثير كماً ونوعاً، وما جاء به من تجديد هو انعطافة مهمة في الشعر العربي الحديث بالرغم من حياته القصيرة.

في هذهِ الأمسية قرأتُ مجموعة من قصائد السياب باللغة العربية, كما دَعوتُ شعراء فرنسيين لإلقاء نفس القصائد باللغة الفرنسية( المترجمة من قبلي).... ابتدأتُ بإلقاء قصيدة السياب ( غريب على الخليج ) التي تصِّور مُعاناة وآلام كُل المغتربين وحنينهم في كل لحظة من حياتهم إلى بَلدِهم، وإلى الأحبة فيه، وقد صاحبتني في الإلقاء باللغة الفرنسية
الشاعرة Christine SERGENT

الريح تصرخ بي : عراق ،
والموج يُعوٍل بي : عراق ، عراق ، ليس سوى عراق !
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما تكون
و البحر دونك يا عراق .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الشمس أجمل في بلادي من سواها ،والظلامْ
حتى الظلام- هناك أجملُ، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه ، متى أنامْ
فأحسّ أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلاَّ فيه عطرُك يا عراق ؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
بين القرى المتهيِّباتِ خطاي و المدنِ الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة،
وحملتُها فأنا المسيحُ يجرُّ في المنفى صليبه ،
فسمعتُ وقع خطى الجياع تسيرُ ، تدمي من عُثار
فتذرُّ في عينيَّ ، منكَ ومن مناسمها ، غُبار
ما زلتُ أضرب مُترِبَ القدمين أشعث ، في الدروب
تحت الشموس الأجنبيَّه ،
متخافقَ الأطمار ، أبسط بالسؤال يداً نديّه
صفراءَ من ذلٍّ و حُمّى : ذلِّ شحاذٍ غريبِ
بين العيون الأجنبيه،
بين احتقارٍ ، و انتهارٍ ، و ازورارٍ .. أو خطيّه
والموت أهون من خطيه،
من ذلك الإشفاق تعصره العيونُ الأجنبيه
قطرات ماءٍ ..معدنيّه !

أبيات تتنافس في قدرتها على التعبير كأنها نبوءة، فالظلام قد احتضن العراق بقوة ومع ذلك، شاعرنا يجده جميلاً كما الطفل بين ذراعي أمه تهدهده وتناغيه في الليالي، والشمس أجمل في بلادي لأنها تشع على الأحبة .... وبعد تلك الشذرات، انتقلت إلى لون آخر من شعر السياب، إلى قصيدة ″ هل كان حُباً ″ وذلك لإيجاد المناسبة الملائمة للتحدث عن أول محاولة للسياب للخروج عن قاعدة الخليل بن أحمد في الشعر. حيث حاول السياب ابتداءً من قصيدته هذه في سنة 1946، التخلص من التزام قافية واحدة والانتقال من تفعيلتين إلى ثلاث فأربع.... ثم قرأتُ بعض الأبيات التي أهداها إلى حبيبته راعية الأغنام هالة، وقرأَتها معي باللغة الفرنسية الشاعرة Christine SERGENTوهي قصيدة جميلة جداً تصف حُباً بريئاً مملوءً بالمواقف العاطفية الجميلة، يصف الشاعر فيها كيف رأى هذه المحبوبة تُغني وراء القطيع وكيف كان هو يُشبع خِرافها بالقُبل.

الشاعرة Elisabeth PELLOQUIN صاحبتني بقراءة قصيدة ‹‹ المومس العمياء ›› .ثم جاء دور الممثل والشاعر ورئيس بيت الشعر
Jean-Claude MARTIN ليقرأ معي القصيدة التي أهداها السياب للشاعر والمسرحي الإسباني ‹‹ فردريكو غارسيا لوركا ›› الذي أعدمه جنود فرانكو سنة 1936
بسبب دِفاعِه عن الحريات وعن الفقراء والجياع:

في قلبه تنورْ
النارُ فيه تُطعمُ الجياعْ
والماءُ من جحيمهِ يفورْ :
طوفانهُ يُطهّرُ الأرضَ من الشرورْ
ومقلتاهُ تنسجانِ من لظىً شراع
تجمعان من مغازل المطرْ
خيوطه، ومن عيونٍ تقدحُ الشررْ
ومن ثُديِّ الأمهاتِ ساعةَ الرضاعْ
ومن مُدىً تسيلُ منها لذّةُ الثمرْ
ومن مُدىً للقابلاتِ تقطعُ السُرَرْ ...

ثم عادت الشاعرة Christine لتقرأ معي قصيدة ‹‹ وَغداً سَألقاها ›› التي كتبها السياب في سنة 1963 وقد كان عليلاً ويُعالج في لندن، والطريف هنا أن الشاعرة أُعجِبت
جداً بهذه القصيدة فحفظتها غيباً لكي تُلقيها دون أن تنظر إلى الورق.

عندما كان السياب في الجامعة، كانت الطالبات يستعرنَ منه دواوينه المملوءة بالعواطف والحب والغزل، وقيل له بأن المستعيرات يضعن قصائده الغزلية على صدورهنَ، فكتب قصيدته ‹‹ ديوان شعر ›› في سنة 1944، وأهداها إلى مُستَعيرات شِعرهِ :

ديــوان شــعرٍ ملؤهُ غـزلُ بيــن العــذارى بــاتَ ينتقــلُ
يــا ليتنــي أصبحـت ديـواني لأفــرَّ مــن صــدرٍ إلـى ثـانِ
قــد بــتُ من حسـدٍ أقـول لـهُ: يــا ليــتَ مـن تَهـواكَ تهـواني.

وقد قرأ هذه القصيدة معي الشاعر جان كلود مارتا- J.C.MARTINوالذي استمر معي لنختمَ الأمسية معاً بقصيدة السياب ‹‹ لأني غريب ›› :

لأني غريب،
لأن العراق الحَبيب،
بَعيدٌ، وَأني هنا في اشتياق
إليهِ، إليها ... أُنادي: عِراق ..

ويبقى السياب شاعر الحب والمرأة والتجديد الشعري والالتزام الاجتماعي والأخلاقي، ليس على المستوى العراقي والعربي فحسب، بل على المستوى العالمي...... السياب أكبر بكثير من التحدث عنه .

توفي السياب في يوم 24 كانون الأول 1964 في الكويت وفي يوم ممطر، وكأنَه أراد حتى بعد وفاته الاستمرار بالحديث عن المطر، أو ربما أراد لهذا المطر أن يستمر وأن ينهمِر ليغسِلَ العراق من عدم العدالة وعدم المساواة ويجلب البسمة والسعادة للعراقيين وأطفالهم في مجتمعٍ خالٍ من العنف والفقر ومملوء بالمحبة.

حضر هذه الأمسية الشعرية، العديد من الشعراء والفنانين ومحبي الشعر من جنسيات مختلفة. وقد تفاعل الجمهور تفاعلاً كبيراً مع مضامين هذهِ الأمسية، وأصبح السياب محبوباً من قبلهم، حتى أن البعض منهم قررَ الذهاب إلى البصرة مسقط رأس السياب لكي يرى الشناشيل وجيكور وبويب.

ستبقى أيها السياب بدراً....رمزاً.....بصمةً في العقول وفي القلوب لا تمحيها يد الزمن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق


.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع




.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر