الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية لنظام حكم يصلح للعالم الإسلامي

محمود يوسف بكير

2013 / 1 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


منذ أكثر من قرن نادى المفكر الفرنسي فرنسوا جيزو بالحرية والديمقراطية لكل الشعوب ولكنه لم يتحمس قط لفكرة الديمقراطية الشعبية وعوضا عن استعمال مصطلح سيادة الشعب استعمل مصطلح سيادة العقل. ولأنه كان يكتب إبان احتدام الصراع بين الارستقراطية القديمة التي سيطرت على فرنسا قبل الثورة الفرنسية وبين الطبقات الثورية الشعبية فقد لاحظ أن الدولة العميقة أو من نسميهم اليوم في عصر الربيع العربي بالفلول أو الثورة المضادة يميلون دائما إلى تحميل الشعب المسؤولية عند حدوث أي أخطاء في حركة المجتمع بعد الثورة بدعوى أن السيادة اصبحت للشعب. ولذلك أهتدى جيزو إلى فكرة رائعة وهي أن البديل عن سيادة النظام الارستقراطي القديم لا ينبغي أن يكون منح السيادة كاملة للطبقات الثورية الشعبية أو الطبقات العمالية كما نادى ماركس ولكن لا بد أن تمنح السيادة والشرعية للعقل والكفاءة ودولة القانون.

من ناحية أخرى وفي محاولاته القيمة لتقديم نوع من الاصلاح الديني على غرار ما حدث في أوروبا، رأي الإمام محمد عبده الذي تأثر كثيرا بفكر جيزو بعد دراسته في فرنسا رأى أنه لا ينبغي إقحام الدين في لعبة السياسة بكل اكاذيبها وألاعيبها وإنما يكون دور الدين هو الحارس للقيم في المجتمع بحيث يمثل نوعاً من السلطة الأخلاقية التي تراقب الدولة والحاكم لمنعه من الاستبداد والتسلط على العباد أو استغلال نفوذه لتحقيق منافع شخصية له ولمن حوله .

لو ان افكار كل من جيزو و محمد عبده لنظام الحكم الرشيد يمكن تصورها في شكل دائرة فإننا نعتقد أن نصف هذه الدائرة سوف يمثل كل مؤسسات الدولة التنفيذية، بينما يمثل التشريع والقانون والمؤسسات الثقافية المستقلة ربع دائرة ويكون ربع الدائرة الأخير للدين أو المكون الضميري للأمة. وللعلم فإن هذا النموذج الذي نقترحه للحكم موجود بالفعل في الغرب حيث أن مكان الدين هو الكنيسة التي لا تتدخل في السياسة أو الحكم ولكنها تعبر عن رأي الدين في المسائل السياسية التي تمس حياة الناس بشكل مباشر بما يضمن حماية مصالح الافراد ويضمن عدم تغول نظام الحكم. ورأي الكنيسة غير ملزم للحكومة إلا عندما يقتنع الناس به ويجبرونها على الاخذ به والفاتيكان خير مثال على هذا.

وبذلك يلعب الدين دورا بناءاً في ارساء دعائم الدولة الحديثة ودعم مفهوم المواطنة بدلاً من ان يكون مشروع دولة في حد ذاته ونبتعد عن نظام الدولة الدينية التي يحتكر فيها حزب واحد أو طائفة معينة الحديث باسم الله ويتحول الدين الى أداة لرجال الدين للقمع والاستبداد ومنع أفراد المجتمع من حق التفكير وحرية التعبير مثلما هو الحال في إيران التي يتسلط فيها نظام ولاية الفقيه على الشعب وعلى كل أجهزة الدولة باسم الله.

ولو اننا اسقطنا الافكار والمفاهيم السابقة على الواقع السياسي السائد في مصر الآن كحالة تطبيقية سنرى مشهداَ مليئاً بالمتناقضات والصراعات التي يدعي فيها كل طرف أنه على صواب وان ما عداه خطأ والحقيقة ان لا أحدا برئ مائة في المائة ، حيث يتصور الليبراليون أنه يمكن استبعاد الدين بالكامل من منظومة الحكم وهذا شيء يصعب تصوره في منطقة الشرق الاوسط حيث يمثل الدين شئنا ام ابينا مكونا روحيا هاماً في حياة الغالبية .
أما الاخوان المسلمين والسلفيين فإنهم يتصورون ان الدين وحده يمكن ان يقيم دولة حديثة وهذا تصور ايضاً يصعب تنفيذه لأن الدين موروث ضخم ومؤسساته تعاني من الجمود وصعوبة التفاعل والاستجابة السريعة للتطورات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية المتلاحقة في ظل العولمة ، نعم الدين مكون روحي هام لغالبية شعوب الشرق الاوسط كما أسلفنا ولكنه مكبل بالقيود التي اسس لها الفقهاء منذ مئات السنين ولا يمكن في ظل هذه الظروف والمعطيات التاريخية ان ينجح مشروع الدولة الدينية والدليل ما حدث في تجارب الدول الدينية التي سبقتنا مثل افغانستان والباكستان والسودان والصومال وغيرها ، ومرة اخرى فإننا نؤيد رأي جيزو في أهمية منح السيادة للكفاءة والعقل .

هنا سوف يبادر البعض بالقول بأن مسألة تحكيم العقل مسألة نسبية فكيف سنحدد ما هو عقلاني وما هو غير عقلاني ؟
والإجابة أن هناك دائما مقياساَ معياراَ وموضوعيا لا يحتمل الجدل ولا تختلف العقول حوله كما نعتقد. وللتوضيح فإنني استسمح القارئ في ضرب مثل طريف يحدث مع كل منا، فعندما نمشي كمجموعة من الاصدقاء في الشارع ونرى امرأة معينة فقد يرى بعضنا انها امرأة جميلة ولكن بعضنا الآخر قد يراها غير ذلك ، فالجمال مسألة نسبية بالفعل ولكن عندما نلتقي امرأة مثل مارلين مونرو فإنه لا ينبغي أن نختلف على انها امرأة جميلة. والمعنى ان هناك مساحة للعقل لا يمكن ان نختلف فيها وتتلاشى عندها مسألة النسبية ،كما أن كل ما هو عقلاني يستند الى المنطق دائماَ والحس السليم ويسهل تدعيمه بالبراهين .

وبعد فكلما تذكرت اراء جيزو في الديمقراطية أتفلسف أحيانا وأسأل نفسي: إذا كانت الديمقراطية هي حكم الأغلبية فهل الأغلبية دائماَ على حق ؟ أنا لا اعتقد هذا والسبب واضح أمامنا جميعاً من خلال النظر بعمق إلى تركيبة اي مجتمع بشري عندها سوف ترى أغلبية كاسحة تقع في منتصف ما نسميه في الاقتصاد بمنحنى التوزيع الطبيعي وعلى أحد طرفي المنحنى تقع نسبة بسيطة تمثل اناس متخلفين وغير مفيدين للمجتمع وعلى الطرف الآخر سوف تجد أقلية متميزة هي صفوة المجتمع في كل المجالات العلمية والفكرية والفنية والثقافية والرياضية ، وللتوضيح أكثر فإن في العالم العربي آلاف الشعراء وآلاف الفنانين وآلاف الأطباء ولكن ليس هناك سوى نزار قباني واحد وأم كلثوم واحدة وفيروز واحدة وعبد الوهاب واحد ومجدي يعقوب واحد وهكذا .
إذاً النبوغ والعبقرية لا يكون للغالبية ولكن للصفوة فكيف إذن يكون الحكم للأغلبية؟! وهذا ما كان جيزو يراه كما نعتقد عندما نادى بأن السيادة ينبغي أن تكون للعقل.

أعتقد أن مثل هذه الافكار لن تروق لمن بيدهم مقاليد الأمور الآن ليس في مصر وحدها ولكن في معظم أنحاء العالم العربي.

والخلاصة أننا في مصر قد وصلنا إلى حالة مخيفة وغير مسبوقة من الانقسام وغياب العقلانية والعنف تجاه الاخر والذي يصل إلى حد القتل وهي أجواء يصعب فيها إجراء أي حوار بناء أو ذي معنى من أجل انقاذ ما تبقي من مصر بعد تعرضها لأكبر عملية سطو ونهب من آل مبارك وعصابته طوال ثلاثين عاما وهي تتجه اليوم إلى ما يشبه الانتحار الجماعي. وكالعادة فإن الأغلبية الصامتة هي التي ستدفع الثمن.

إن أشد أعداء مصر الآن هم ابناءها للأسف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هل الديمقراطية تجدى دوما عزيزى يوسف بكير
سامى لبيب ( 2013 / 1 / 4 - 00:32 )
تصور صديقى العزيز يوسف بكير اننى تبادر لذهنى اشكاليات بالنسبة للديمقراطية رغبت ان انشرها فى مقال كقضية للمناقشة وإبداء الأراء فيها فها أنت تطرحها بذكاء فى ثنايا مقالك
أسأل هل الديمقراطية لكل البشر بلا أى إستثناء تكون عادلة ومنصفة بمعنى أن ادلى بصوتى على الدستور بعد أن قرأته ومحصته وكونت رؤية ناقدة متمكنة عنه ليستوى صوتى مع مواطن ذهب ليضع موافقة على الدستور دون ان يقرأه لمجرد انهم قالوا له ذلك او اخذ الأمور بمزاج وهوى!
هل يستوى صوتى فى الإنتخابات بعد ان اصبحت لى قناعات ورؤى واعية مع صوت مواطن ذهب لينصر هذا على ذاك لأن مزاجه وإرتياحيته هكذا!
فى المقابل هل لنا ان نصنف البشر-وهل الديمقراطية تكون جيدة مع تفاوت مستوى الوعى والإدراك-وهل علىّ ان اتقبل نتيجة أغلبية الدهماء-وهل علىّ أن أحترم من لا يحترم الحريات-وهل أقبل بنتيجة صندوق الإنتخابات إذا جاء الفائز نتيجة اعتماده على العزوة او القبيلة او التلاعب على مشاعر البسطاء بالدين ولن أقول بزجاجة زيت وكيس سكر أو بالتزوير!
ما رأيك ياعزيزى هل الديمقراطية تجدى فى مجتمع من الجهل والزيف والفقر ام علينا ان نتحلى بها لعل البشر يمتلكوها
تحياتى ومودتى


2 - إلى الصديق سامي لبيب
محمود يوسف بكير- مستشار إقتصادي ( 2013 / 1 / 4 - 10:33 )
أشكرك على مساهمتك الممتازة بالنسبة لإشكاليات الديموقراطية التي لا يمكن لعاقل أن يختلف معك عليها .وقد المحت في مقالي كما سوف تلاحظ الى أن الديمقراطية الشعبية لا تصلح مع شعوبنا في هذ المرحلة من تاريخنا ولكننا في نفس الوقت لن نستطيع إنكارها على شعوبنا لان مزاياها على المدى الطويل أكثر من مساوئها . والخطوة الأولى في رأيي لن تبدأ قبل تقليص دور الدين في السياسة وهذه هي الفكرة الأساسية من وراء المقال
مع تحياتي.


3 - يا شغيلة اليد والفكر وكومونيوا العالم اتحدوا
فؤاد محمد محمود ( 2013 / 1 / 4 - 17:07 )
الاستاذ محمود
شكرا لهذا الجهد
الخليفة علي قال لاحد اصحابة لا تجادل بالدين فالدين ذو اوجه بل جادلهم بالعقل والمنطق والحجة
تحياتي

اخر الافلام

.. لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في


.. التوتر يطال عددا من الجامعات الأمريكية على خلفية التضامن مع




.. لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريبات للبحرية


.. اليوم 200 من حرب غزة.. حصيلة القتلى ترتفع وقصف يطال مناطق مت




.. سوناك يعتزم تقديم أكبر حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا| #الظهي