الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسرع طريقة لإفقار أي بلد

محمود يوسف بكير

2013 / 1 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


تعلمنا في الاقتصاد أن أسرع طريقة لإفقار أي شعب هي ببساطة أن تخفض قيمة عملته المحلية أمام العملات الرئيسية الأخرى. تخيل أن تستيقظ صباحا لتجد أن مدخرات عمرك فقدت 10% من قيمتها على سبيل المثال وأنت نائم أي في غضون ساعات محدودة. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد ولكن المأساة تتكرر كل صباح فتجد أن مدخراتك بالعملة المحلية تنخفض بشكل شبه يومي بسبب السياسة النقدية التي ينتهجها البنك المركزي في البلد الذي تعيش فيه.
من الطبيعي أنك ستفكر في الهروب من هذه المأساة بتحويل ما تبقى من مدخراتك الى عملة مثل الدولار للحفاظ على شقاء عمرك وسندك عند العجز وإقبال خريف العمر ولكنك لا تجد أي دولارات في السوق لان الوحوش الكبيرة تخفيها في جوفها طمعا في المزيد من الارباح وهكذا تتبخر مدخراتك امام عينيك و انت لا تستطيع عمل أي شيء إلا الدعاء الى الله.

هذا بالضبط ما هو حاصل في مصر هذه الايام حيث تنخفض قيمة الجنيه المصري بمعدل شبه يومي امام كل العملات الرئيسية في العالم وهو كابوس مزعج سوف ينعكس بشكل سلبي و خطير على حياة الملايين في مصر في غضون أشهر قليلة باعتبار أن مصر بلد مستورد لنسبة كبيرة من احتياجاته من السلع الغذائية والأدوية والمواد الخام والمعدات الرأسمالية اللازمة لتشغيل المصانع حيث سيكون مطلوبا من المواطن المصري المطحون والمحاصر بالمشاكل والظروف المعيشية الصعبة أن يتعايش مع هذه المعادلة الجهنمية المتمثلة في أن يدفع أكثر لتلبية نفس احتياجاته اليومية البسيطة من مدخراته التي تتآكل بشكل شبه يومي بفعل الانهيار المتواصل لقيمة الجنيه.

نحن امام حكومة تتخبط ومحافظ بنك مركزي من بقايا نظام مبارك قرر أن يقدم استقالته والقفز من السفينة قبل أن تغرق بفعل سياساته النقدية الفاشلة منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011 ، فعلى يد المحافظ السيد فاروق العقدة وتحت ناظريه تمت أكبر عملية لنزوح النقد الاجنبي في تاريخ مصر الى اوروبا والإمارات بشكل خاص أثناء فترة تولي أحمد شفيق الهارب الى الامارات رئاسة الحكومة المصرية لعدة أشهر بعد نجاح الثورة. وغني عن القول أن هذه البلايين الهاربة هي أحد الأسباب الرئيسية للضعف الذي يعاني منه الجنيه حاليا.

وبالرغم من مطالبنا المتعددة بالتحقيق مع العقدة في كيفية سماحه بخروج هذه الاموال عن طريق الجهاز المصرفي الذي يشرف عليه دون ان يعترض أو حتى يكشف الضغوط التي تعرض لها، قام المجلس العسكري بتجديد تعيينه مرة أخرى! والأمر لا يحتاج إلى فراسة لمعرفة اسباب الابقاء عليه رغم فشله وإفلاسه. البعض قد يقول أن الرجل بريء من أي شبهات وانه لم يكن على علم بنزوح هذه البلايين، هنا تكون المصيبة أعظم لان أي بنك مركزي في العالم لابد أن يكون على علم بتحركات الأرصدة و الأصول المالية داخل الجهاز المصرفي وتصله تقارير يومية في هذا الصدد منعا لعمليات التهريب وغسيل الأموال وهذه الوظيفة تناط بإدارة تسمى بإدارة الرقابة على البنوك. ولقد تعمدت ذكر اسم هذه الإدارة تحديدا للكشف عن واقعة أعتقد أنها لم تحدث في تاريخ عالم البنوك المركزية على مستوى العالم ولكنها حدثت في مصر حيث قبل السيد محافظ البنك المركزي المصري أن يكون عضوا في مجلس إدارة أحد البنوك المصرية في فرعها بلندن! تخيل أن تكون الرئيس الأعلى للرقابة المركزية على البنوك وأنت تخدم في أحد البنوك التي من المفترض أن تقوم بالرقابة عليها، أي أنك تقوم بالرقابة على نفسك! كانت هذه الفضيحة أحد تجليات ال مبارك للسيطرة على السيد المحافظ وقد كشفنا عنها أيام المخلوع ولكن لم يجرؤ أحد على المساس بالرجل.

في بداية الثورة كان احتياطي مصر من العملات الاجنبية والذي يديره البنك المركزي يصل الى حوالى 36 بليون دولار وعند استقالة العقدة منذ اسابيع انخفض هذا الاحتياطي الى أقل من 15 بليون دولار وكان المبرر الدائم الذي يتقدم به العقدة لتفسير هذا الانخفاض السريع والمتوالي هو عدم الاستقرار الذي خلفته الثورة و رغبته في حماية قيمة الجنيه هذا بالرغم من تحذير خبراء صندوق النقد الدولي وكثير من الاقتصاديين المصريين من خطورة استنزاف الاحتياطي بهذا الشكل الخطير لحماية الجنيه بشكل مصطنع وبدون خطة محددة.
ولابد هنا ان نقر ان مسألة هبوط الجنيه كانت مسألة حتمية بسبب حالة عدم الاستقرار التي اعقبت الثورة والأموال التي تم تهريبها وضعف مرونة الجهاز الانتاجي وتدهور حركة الاستثمارات الاجنبية ومعدلات السياحة بسبب غياب الأمن والاختفاء المتعمد للأجهزة الأمنية الداخلية ومن ثم كان من الأجدى التعامل مع الاسباب الحقيقية للمشكلة دون المساس بالاحتياطي وذلك من خلال توقيع برنامج للمساعدات مع صندوق النقد الدولي لا تقل مدته عن خمس سنوات يتقدم خلالها الصندوق بمساعدات وقروض ميسرة أكبر بكثير من مبلغ الاربعة بلايين دولار التي يتم التفاوض عليها الان.بحيث يسمح في اطار هذا البرنامج الطويل الامد للجنيه أن يهبط في حدود معينة تحت السيطرة "بدلا من الهبوط الحر والحاد الحاصل الآن" هذا الهبوط المنظم يؤدي عادة إلى تشجيع حركة الصادرات والسياحة والإقلال من الواردات، وهذه السياسة من شأنها علاج العجز المزمن في الميزان التجاري المصري ودعم الاحتياطي من النقد الأجنبي. وبالمناسبة فإن هذا بالضبط ما فعلته تركيا منذ حوالى 10 سنوات حيث طلبت من الصندوق برنامجا لإصلاح ما كانت تعانيه من اختلالات نقدية ومالية وقتها. وحققت تركيا من خلال برنامج الصندوق نجاحا رائعا تجني ثماره اليوم ومن ثم فإن صندوق النقد الدولي ليس شريرا بالسليقة كما يتصور عامة الناس في مصر.
وفي المقابل فإن ما تفعله مصر مع الصندوق اليوم لا يزيد عن عملية رقعة في ثوب ممزق.

وكما يعرف كل الاقتصاديون والمصرفيون فإن من أخطر الوظائف الأخرى و المتعددة للبنك المركزي في أي دولة هي وظيفة السيطرة على معدلات التضخم عن طريق السيطرة على كمية النقد المتداول وعمليات الإئتمان التي تقوم بها البنوك التجارية وذلك لما للتضخم من أثر مباشر وسيئ على كل أصحاب الدخول الثابتة والمتقاعدين. ولا أبالغ كثيرا عندما أقول إن البنوك المركزية هنا في الخارج تولي أهمية كبرى في سياساتها النقدية لوظيفة السيطرة على التضخم وذلك حماية للأغلبية الساحقة من أبناء الطبقة المتوسطة. أما في عالمنا العربي فإن البنوك المركزية لا تبالي كثيرا بمعدلات الضخم بل انها هي السبب الرئيسي لما تعانيه معظم الدول العربية من معدلات تضخم فلكية بسبب لجؤها لما يسمى بسياسات التمويل بالعجز والإصدارات النقدية الجديدة لمساعدة الحكومات على تغطية ما لديها من عجز مزمن عن طريق توظيف مطابع البنك المركزي لطبع المزيد من النقود وإغراق الاسواق بها واشعال التضخم الذي تحول في مصر إلى نوع من التضخم الجامح الذي يصعب السيطرة عليه من قبل صناع السياسات الاقتصادية وهكذا تتحول البنوك المركزية في العالم العربي إلى اداة فعالة من أدوات إفقار الشعوب.

وعودة إلى المحافظ المستقيل وأخر ابداعاته قبل أن يرحل بعدة أيام حيث طبق سياسة عجيبة للسيطرة على ما تبقى من قيمة للجنية امام العملات الأخرى تمثلت في قيام البنك المركزي بطرح كميات صغيرة من الدولارات في شكل مزادات تتقدم اليها البنوك لتلبية احتياجات عملائها ولا أدري كيف تصور المحافظ ومساعدوه ان هذه المزادات التي لم اسمع عن مثيل لها في عالم الاقتصاد والبنوك يمكن ان توقف مسيرة الانهيار للجنيه!

والحقيقة ان ما حدث منذ تطبيق هذه السياسة خير دليل على الخيبة الكبيرة للحكومة الحالية ومحافظ البنك حيث أدت هذه المزادات إلى اشتعال المضاربات على الدولار والمزيد من الانهيار للجنيه مما دفع المحافظ وبعض مساعدوه إلى الاستقالة وخيرا فعلوا.
ومن المضحكات المبكيات في هذا الموضوع أنه فور تطبيق سياسة المزادات هذه اندفعت بعض الصحف المحلية إلى التهليل لها دون فهم حتى ان بعضهم قال ان سياسة العقدة هذه لاقت اعجاب العالم وان كبرى المدارس والجامعات الاقتصادية في العالم بدأت في تدريسها! وعندما استقال العقدة أدعت بعض الاقلام بأنه على خلاف مع الحكومة الحالية وانه استقال للحفاظ على بطولاته وانجازاته التاريخية في عالم النقود والبنوك!

ونحن هنا نتساءل هل اصبح الهروب من المسئولية نوع من البطولة؟ وأين هي الانجازات في هذا التاريخ الأسود؟ ثم أين مبدأ المحاسبة والمسئولية على ما يجري من تخريب لاقتصاد مصر؟ وأين الدور الرقابي للمجلس التشريعي الحالي؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل