الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات لها رائحة الورد( يحيى عزيز الحميدي )

عدنان اللبان

2013 / 2 / 7
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية



يحيى عزيز الحميدي ( ابو سالار ) تعرفت عليه وقد تجاوز الاربعين , وفي حياة الانصار الفقيرة تكون احدى التسليات محاولة تصغير العمر فيقول انه لم يتجاوز الاربعين الا قليلا . وبالنسبة للنصيرات لم تتجاوز اية واحدة منهن التاسعة والعشرين عاما حتى وهي تتحدث عن مشاركتها في ثورة العشرين . كانت مفارز الشيوعيين هي الوحيدة التي تضم بين صفوفها نصيرات , وكن موضع اعجاب وترحيب وبعض الاحيان اندهاش من العوائل الكردية . وتصادف ان تكون مع المفرزة رفيقة واحدة , وعندما تستضيفنا بيوت القرية كانت العوائل تريد ان تكون النصيرة ومن معها عندهم , وكنا نتسابق ان نكون مع احدى النصيرات , وهذا يعني ليس الترحيب الجيد فقط , بل ووجبة طعام جيدة ايضا .
انشغلت الرفيقة مع ابناء البيت , وبعض النساء والأطفال من بيوت اخرى جاءوا يرحبون بها , ويتمتعون بقربها وقد وضعت الكلاشنكوف بقربها , وهي تحدثهم عن الثورة والحزب وضرورة الوقوف بوجه النظام البعثي الفاشي , ومن الملفت للنظر ان اغلب الرفيقات تحدثن الكردية بسرعة كبيرة . اخذت تنصحهم ببعض الملاحظات الطبية , وتقدم لهم بعض الادوية المتوفرة في ( عليجتها ) لمساعدة بعض المرضى . في هذه الفسحة التي منحتها لنا انشغالات الرفيقة , سألني ابو سالار عن قصيدة لأحد الرفاق سمعّنا اياها في الليلة السابقة , وأجبته : لا يوجد فيها اكثر من بيت شعري واحد , وقد نظم قبله عدة ابيات وبعده عدة ابيات وسماها قصيدة . وهو يعتقد انه ما دام نصيرا يمكن ان تكون جميع اعماله جيدة , ويعتقد ان الروايات التي تتحدث عن عظمة الانصار والتي قاومت الفاشية في الحرب الثانية هي كل ما كتب عنهم , وليس هناك الكثير من الكتابات الفاشلة , او التي اريد لها ان تفشل .
كان يتهيب ملاحظاتي حول الشعر , وبعد الظهر عند عودتنا من سهل شهرزور الى المقر الذي يبعد ثمان ساعات سيرا على الاقدام , وانتظارنا لعبور احد الشوارع الرئيسية ويكون عبورنا في فترة الغروب او بعده لعدم تمكن مفارز السلطة من مراقبة الطريق بعد الساعة الرابعة عصرا , وجدته متريثا في رغبته اسماعي احدى قصائده – كان شاعرا شعبيا -, واخذ يشرح لي القصيدة قبل ان يسمعني اياها . ابو سالار امين وصادق لا يعرف الكذب , وحتى في بعض الحالات التي يريد بها ان يطمئن صديق او رفيق ب( كذب ابيض ) سرعان ما ينكشف . انعكست هذه الصفات في شعره , كان يمتلك تلقائية في توارد الصور الشعرية تطغي على باقي المكونات الاخرى للقصيدة , وتكون قصيدته متعثرة لو حاول ان يكملها بعد التدفق الاول , الذي يأتي في هبّة تمنح القصيدة خصوصيتها وجمالها , وهو اهم ما يمتلكه في قدرته الشعرية . وعليه ان ينمو في داخل هذه البراءة , ويبتعد عن تحميل القصيدة ما يشي بثقافته , لأنها ستكون اشبه ب(الكذب الابيض ) .
في البيشمركَة تقليد , وهو عندما نأتي الى المقر نأخذ استراحة من الواجبات لمدة ثلاثة ايام , الا اننا في اليوم الثاني كلفنا معا بنقطة حراسة تقع فوق ( هزار ستون ) وهو اسم المقر , وهي قمة متوسطة من بين عدة قمم تلي مباشرة سلسلة الجبال التي تشكل الحدود بين ايران والعراق وبين امتداد سهل شهرزور . " هزار ستون " تعني بالكردية الف عمود , وهو شكوت ( مغارة ) ترتفع لما يقرب عشرين مترا , وفيها عدة اعمدة , وتمتد الى نهايات متعرجة , يتحول بعضها الى دهاليز دائرية قاسية لا تعرف نهاياتها . كانت المغارة باردة في الصيف وفي الشتاء تتمتع بدفئ نسبي , كانت مستوطنة للعضايات والأفاعي , وآلاف الخفافيش التي تتدلى بسيقانها عند الغروب من سقف الشكوت بانتظار حلول الظلام لتنطلق . كان على جانب المغارة الكبيرة مغارات الصغيرة , استخدمت احداها كمخبز ووضع فيها التنور , والأخريات سكنت فيها بعض عوائل الرفاق كشقق كنا نحسدهم عليها .
كانت واجهة المغارة باتجاه الجنوب الشرقي , وهذا ما حرم الجيش العراقي من اصابتها بالمدفعية , ويفصلها عن الجبل الذي يقابلها وادي حاد الانحدار يضيق عند المدخل ليصل الى عشرين مترا , كنا نأخذ الماء من العين في الجبل المقابل بعد ان وضعنا " صوندة " على حبل يربط بين الجانبين . كان عرض العمود الوسطي في واجهة الشكوت ( المقر ) مترا ونصف المتر , ويكاد ان يكون مستويا , تمكن ابو سالار وهو رسام ايضا من صنع سلم بدائي ورسم شعار المنجل والجاكوج في منتصفه , اي على ارتفاع عشرة امتار . وعندما استولى الجيش العراقي على المقر , وضع صورة الخميني تحت المنجل والجاكوج وعرضها في التلفزيون العراقي كدليل على عمالة الحزب الشيوعي العراقي للنظام الايراني .

الحراسة في البيشمركَة ساعة واحدة , والساعتان الاوليتان بعد الغروب التي قضيناها سوية انا وابو سالار في النقطة التي فوق المقر حدثني فيها عن صعوبات خزن المواد , كان اداري فصيل هزار ستون , والفصيل لا يعرف عدد محدود من الانصار ولكنه لا يقل عن عشرة رفاق , كان ابو سالار حريصا في توزيعه للمواد الغذائية وفي كيفية الحصول عليها , وايجاد الطرق الصحيحة لخزنها وإنقاذها من التلف . حدثني عن ضرورة خزن الرز في اكياس تكون مرتفعة اكثر عن باقي المواد مثل العدس والحمص لتحاشي اكله من قبل الفئران .
سألته : وكيف عرفت ان الفئران تحب الرز ؟!
اجاب : من الضروك , لان لونها ابيض وفيها رائحة عنبر .
اجبرنا في احدى المرات ان نعمل اربعة مستطيلات صغيرة مستوية في انحدار الوادي ليزرعها بالخضروات التي تنقصنا , وكان موفقا في ذلك . وزرع احد هذه المستطيلات ببذور الخيار , وفرض علينا مداراته اكثر من غيره , وحرم علينا الغسيل في داخل المقر لقلة الماء الذي يأتي في " الصوندة " وضرورة سقي الخيار يوميا . ومع دفئ الجو نبعت بذور الخيار , وبعد اسبوع اخذت تكبر بشكل جنوني , وأوراقها اصبحت اكبر من ورق التين . وتبين انها " يقطين " وليس خيار والبذور كانت تتشابه . لم نكتفي بالشماتة باليقطين , بل زرعنا في اليوم الثاني عدة ازواج من الاحذية السوداء النايلون ( سمسون ) لغاية القيطان , وأخبرناه : باننا سنحتاج في الشتاء الى ( جزمات ) , ونستطيع ان نقطفها حسب الاحجام التي نحتاجها عند نموها . استمع الينا لغاية ما اكملنا , ثم ثار وأراد ان يقلع كل ما موجود في المزرعة لولا توسلنا الذي تمكن اخيرا من تهدئته .

عند عودتنا من نقطة الحراسة استمر حديثنا في الغرفة المصنوعة من النايلون لتحمينا من الافاعي والقوارض , كانت تكفي لعشرة اشخاص ويزدادون الى عشرين عند الضرورة . فهمت منه وهي المرة الاولى وقد مضى على علاقتنا سنتين , لأنه لا يحب الحديث عن نفسه اولا , وثانيا ضرورة اخفاء المعلومات الشخصية حفظا على سلامته وسلامة عائلته ,فقد كان معلما ناجحا , ومساهما في اغلب الفعاليات الثقافية والاجتماعية في مدينته , وهو ما جعل النظام يحقد عليه اكثر من غيره . ترك عند التحاقه بكردستان اربعة اطفال وزوجة وأم وأب وثلاثة اخوات واخوين , الاول معوق , والثاني اغتيل من قبل السلطة , تركهم هو وشقيقه المهندس ابو سهيل ( نعمة ) الذي كان من الكفاءات الهندسية الجيدة , وقد نصب اذاعة الحزب " صوت الشعب العراقي " واشرف على ارسالها طيلة سنوات بثها .

ابو سالار منسب للعمل في تنظيمات الداخل , والمسئول الاداري لمقر هزار ستون المعروف بكثرة فاعليته وضيوفه , ولم يكن عليه المشاركة في العمليات العسكرية الا انه يصر على المشاركة في بعض الاحيان . الانصار كانوا يستأنسون كثيرا برفقته , كان لا يأبه كثيرا بإجراءات الحذر في كثير من المواقف الخطرة مما يمنحهم الهدوء والتحكم بالموقف اكثر , كان يتفقد الآخرين في اللحظات الخطرة حتى ولو بالتفاتة او بنظرة مطمئنة , وهذا ما جعل البعض يشعرون بابوته لهم . حدثني ابو سالار عن الفراغ الذي شعر به بعد ان نكل به النظام عندما اودعه في زنزانات الامن . يقول ابو سالار : كنت اسير في المدينة التي لم ارتوي من حبها , وغمامة من الضباب تلفني ولم اعد ارى شيئا , كنت ادخل الى البيت منهكا , لم اتمكن من ان اطلب الغذاء رغم الجوع الذي لم اعد اهتم به , كنت لا استطيع النظر في عيني ابني مباشرة , كنت اتخيله كبيرا ويتهمني باني تخليت عن كل العلاقات التي تربطني بمدينتي وتجعلنا فيها عائلة كبيرة واحدة , وهو سبب افتخاره بي , والسبب الذي يملؤني فخرا بأبوته . كنا قبل البعث فرحين ببعضنا , وهو لا يدرك سر اخلاصي له , فلا يزال طفلا وأنا اتمزق لأنني اصبحت متروكا على الرصيف , لا اريد ان اكون مثل الآخرين , انه ابني ومن حقي ان امزق كل شئ يحرمني من صدقي في ابوته .
اين انت يا ابو سالار ؟!
اين انت في هذا الزمن الذي استبدلت فيه الكرامة بالارتزاق .

استيقظنا صباح اليوم الثاني على صوت صياح ومشاجرة بين رفيقين , الاول من اهل بعقوبة يدعى صباح وكان قد امضى فترة طويلة سجين في زنزانات الامن , خرج وهو يحمل آثار التعذيب , رعشة في جسده وخاصة في رقبته , والآخر كان يعمل معاون آمر سرية . وسبب الشجار , ان الاول استلم الحراسة من الثاني في النقطة القريبة من المقر , وقد شم رائحة كريهة , واتهم الثاني بانه خاف من الذهاب الى ( المرافق الصحية ) التي لا تبعد اكثر من عشر خطوات اخرى . الثاني انتفض لهذا الاتهام وأعاده اليه . وبين الانفعال , والسباب , والحجز بين الطرفين , ومحاولة تهدئتهم صرخت بهم : باني سأعرف الحقيقة خلال خمسة دقائق , واعرف من الذي فعلها . سكت الجميع , وتفاجئوا , ووجوههم تضج بالسؤال : كيف ؟! .. انتظرت لحظات , وطلبت من ابو سالار ان نذهب لمعاينة مكان ( الجريمة ) , ومثلما ميز اكل الرز من قبل الفئران , سيعرف من فعلها ... تحول الموقف بلحظات , وبدل الحجز بين الاثنين , شاط ابو سالار , وقذفني بنظرات نارية , واخذ يدمدم بكلمات متلاحقة لا احد فهم شيئا منها .. لحظات , تناول بندقيته بسرعة كبيرة , ووجهها الي , وأطلق رصاصة واحدة وسط ذهول الجميع , كان صدى صوتها في المغارة اكبر من صوت قنبلة .. استعدنا وعينا , وأنا لا اعرف هل جرحت ام لا , , الجميع مشدوهون ينظرون الى جانبي , التفت , وجدت افعى كبيرة وقد تمزق رأسها . ذهبت اليه , قبلته , استعاد الجميع الهدوء بعد اللحظات الصاخبة ..
اخبرته : هل تعرف اني كنت خائفا منذ رفعت بندقيتك ووجهتها الي ؟ كنت افكر ماذا سيكتب عني في الرثاء ؟!
فكرت اسرع من سرعة الطلقة : استشهد في عملية انصار ؟ ام في الداخل على ايدي القتلة البعثيين ؟! ماذا سيقول الحزب ؟ وهي ولا اية واحدة من اسباب الاستشهاد ... ضحك وكأنه لم يضحك في حياته من قبل ... وانشغل الجميع بماذا سيوصف ( استشهادي ) . ولكنه قبل بمعاينة مكان الجريمة , وعرفنا ان الحمارة صبحه هي التي فعلتها , وصاحبنا ضعفت عنده الحواس بسبب بقائه الطويل في الامن , والتبس عليه الامر .


ابو سالار ( يحيى عزيز الحميدي ) اعدم من قبل النظام البعثي الفاشي , بعد ان وشى به احد الخونة المندسين , عندما نزل من كردستان واخذ يعمل على اعادة التنظيم في مدن الجنوب , وباستشهاده رفع اسم مدينته عاليا , المدينة التي نعتبرها احدى الثروات الوطنية التي رفدت الحركة الثورية بخيرة ابنائها وشبابها , انها السماوة البطلة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي