الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحمد قبانجي: كلام النقد العقلاني المشاكس

فالح عبد الجبار

2013 / 2 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



آخر فظاظات الحكم الإكليروسي في إيران، أمّ الحضارة الشرقية الكبرى، هو الدوس على أهم معلم للحضارة، قديمها وحديثها: إنزال العقاب على حرية الضمير والاعتقاد. والضحية هو أحمد قبانجي: رجل دين بعمامة سوداء، رمز النسب العلوي عند الفقهاء، مقابل الغترة الخضراء، اللون العلوي عند شيوخ القبائل. لا أحد يعرف على وجه اليقين الجريمة التي تنسب إليه الآن، ولا أحد يعلم يقيناً أين يقبع، في سجن أيفين الرهيب، باستيل المسلمين، أم في أقبية جهاز اطلاعات، الاسم الرقيق لدائرة الأمن الرهيبة، سليلة الأوخرانا الروسية والغستابو الهتلري بامتياز.

بوسعنا التخمين يميناً وشمالاً، لكن شخص القبانجي أحمد كفيل بإرجاعنا إلى قضية واحدة لا غير: ما يسمى في اللاهوت المسيحي الهرطقة، وفي الفقه الإسلامي القديم بالبدعة، وعقابها النار، في الدنيا كما في الآخرة، وفي لغة الجمهورية بالفسق أو الكفر، وعقابه التدلي من حبل مشنقة. ونعرف من التجربة ما تحمله هذه الكلمات من ثقل رمزي في مستعمرات العقاب التي آلت إليها مجتمعاتنا المؤسلمة بالإكراه.

مصير القبانجي لا يختلف كثيراً عن مصير كثرة من المفكرين الإيرانيين ممن سبقوه وقرأ لهم، وتشبع بروحهم النقدية الجياشة وعقلانيتهم الرصينة. حسبنا ذكر علي شريعتي الذي اغتيل أيام الشاه: استخدم المنهج العقلي الأوروبي لإعلاء شأن التشيع الأصيل الذي سمّاه التشيع العلوي، مقابل نقد محتدم للتشيع الرسمي لدولة الشاه الذي سمّاه التشيع الصفوي، وكان مقصده، كما مقصدنا، التمييز بين الإيمان الروحي في المجتمع، مقابل الاستخدام النفعي للإيمان خدمة لسلطة جائرة.

لنا أيضاً أن نذكر الفيلسوف الإيراني شايغان الذي كان أول من حلل مشروع إقامة دولة إسلامية في إيران فأشار إلى أن مقولة «الجمهورية الإسلامية» هي تناقض في التعريف كقولنا حديد خشبي. ذلك لأن مبدأ الجمهورية هو حكم الشعب، مصدر السلطات، أما صفة الإسلامية، فهي النقيض، لأن السلطة فيها مستمدة من الشريعة، بالأحرى من مُدّعي تمثيلها، أي الفقهاء.

القبانجي ينتمي إلى جيل جديد نشأ وترعرع في حاضنة فقه النجف مطلع السبعينات، ليهجرها مكرهاً أواخر ذلك العقد غير السعيد، عقد تدفق كنوز سليمان على غاصبي سلطة الدولة المفقرة، فتحولوا بين ليلة وضحاها إلى حكام مترعين ثراء وقسوة وغروراً، فأصاب النجف ما أصاب العراق من كبت، فهاجر مع ثلة إلى ملاذ قم التي كانت تحررت لتوها من الشاه، لا لشيء إلا لتسقط في وهدة أخرى.

ذهب إليها رجل دين تقليدي ممتثلاً وعاد منها رجلاً يعتمد العقلانية النقدية في مساءلة الفهم الراهن للتراث. وهو فهم، كما اكتشف القبانجي، مطمور بطبقات من الأتربة التي تراكمت عليه دهوراً، فاختفى كل مظهر عقلاني ممكن فيه، وتشوه تشوهاً لا براء منه.

لا ريب أن القبانجي غرف من معين علم الكلام الجديد الذي ازدهر في إيران رغماً عن التحريمات، مرسياً مقاربة عقلانية وحداثية لمسائل الإيمان والمجتمع والسياسة. ولعل ابرز ممثليه مالكيان ومحمد خاتمي ومحمد شبستري وغيرهم. ولعل النقد الألمع لنقاد الفهم الإكليروسي الراهن الضيق للدين، جاء على لسان وقلم عبد الكريم سوروش، الذي أرسـى نـقده على قاعدة فلسـفية أتـاحـتها له دراسـته فلسفة العلم في الجامعات البريطانية، وسيبقى كتابه، قبض وبسط الشريعة، واحداً من ابرز الإنجازات الفكرية لهذه الحضارة الشقيقة. القبانجي على ما أذكر ترجم بعضاً من محاضرات سوروش.

إيران الحضارة، وإيران العقل النقدي، كانت الإرث الذي عاد به القبانجي من قم، وهو أرث يتعارض كلياً مع الفقه الرسمي السائد، مقولة ولاية الفقيه، وهي كما بيّن مفكر إسلامي إيراني هو محسن كديفار، مجرد نظرية بين تسع نظريات في ولاية الفقيه، فلماذا يتعين القبول بها وحدها، أو اعتبارها قدسية!

القبانجي تطور من النقد العقلاني للتراث إلى النقد العقلاني للنصوص، وبلغ في هذا قدراً من العنفوان المشاكس أوصله في البداية إلى نوع من علمانية إصلاحية، غايتها إصلاح الثقافة الدينية بأمل العقلنة والتحديث، لكن العنت الذي جوبه به زاد عناده المشاكس وصولاً إلى الاعتراض الكاسح، وهو نوع من علمانية إنكارية، إن جاز القول. وفي هذا كله أبدى ضرباً نادراً من الإقدام ذوداً عن رأيه، من دون اعتبار للمخاطر. بل كان يبدو، في جولاته التلفزيونية (متوافرة على يوتيوب) كما في محاضراته، يتلذذ في تهديم مألوف القناعات لدى الجمهور. البعض خشي عليه ولامه لما اعتبره جموحاً مفرطاً، وآخرون لاموه كتابة على نقد عقائد الجمهور، مفضلين الاكتفاء بما للخاصة (النخبة) دون العامة (الجمهور).

لعل المبدأ الأسـمـى الذي سـار عليـه هو حكمة الفيلسوف اليوناني: لست ضد آلهة الجمهور، لكنني ضد فكرة الجمهور عن الآلهة.

لن يقنع كثيرون بهذا التمييز بين الآلهة والفكرة. اكبر دليل على ذلك الشتائم والتهم التي تكال له. فهو، من هذه الجهة، «رافضيّ زنديق» ( كما تقول رسائل على فايسبوك)، وهو، من جهة أخرى، «ناصبي - أي سني- بغيض» (وفق رسائل أخرى على فايسبوك أيضاً)، أما كيف يجمع المرء صفات متناقضة، كيف يكون الجسم سائلاً وصلباً، والروح محلقة ورابضة، فهذا شأن العقول الخاوية لمن لا يريد أن يعرف، ولا يريد أن يسمع، ما يخالف ما اعتاد عليه، ولو كان الاعتياد معتمداً على منقولات مغلوطة.

أتذكر في شبابنا كراساً للجيش العراقي عن بندقية الكلاشنيكوف مُعداً لتعليم الجنود، وفيه خطأ طباعي حوَّل كلمة الفوهة إلى كلمة لا وجود لها في اللغة هي: فهوة. واكتسبت الـ «فهوة» وجوداً صلداً ارسخ من قانون، وعوقب كل المجندين من خريجي الجامعات زحفاً في الطين لأنهم تجرأوا على إبلاغ العريف أن «الفهوة» خطأ طباعي.

والحال إن قراءة التراث والنصوص حافلة بـ «الفهوات»، أي الهفوات!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حکم بلا دليل
البغدادي ( 2013 / 2 / 24 - 13:30 )
عندما يکتب الانسان بغير اختصاصه ويرمي الکلام علي عواهنه تاتي المقاله مجافيه للحق .مجانبه للصدق مخالفه للواقع


2 - سبب أعتقال القبانجي
علي عباس ( 2013 / 2 / 24 - 13:52 )
شكراً للسيد الكاتب على هذا المقال الرائع. ذكر أنه لم يعرف سبب اعتقاله
أدرج أدناه رابطاً أرجو نقلة إلى البراوزر، تجد السيد يرد على أخيه صدر الدين القابانجي الذي اتهمه بالهرطقة والزندقة والكفر
سبب إعتقال السيد أحمد القبانجي من قبل إيران
https://www.youtube.com/watch?v=bJ-LZyjz7pg&feature=player_embedded#!


3 - الدوده في قلب الثمره
دعبول سرمد ( 2013 / 2 / 24 - 14:32 )
فعلا ابتلاء تحتل امريكا بلد-واذا بالاسلاميين يبزغون كنبت شيطاني-تحدث ثورة جياع وعاطلين وتنتصر يبزغ الاسلاميون-عصابات تحتل مالي يبزغ الاسلاميون تفتح قدر المركه يطلعك اسلامي-تشاهد على موقع اليوتيوب فلم عن المريخ يعلق الاسلاميين-تدخل الى التواليت يقول لك الاسلامي تكثر الجن في التواليت انهم في كل مكان مثل الفيروسات والجراثيم


4 - الأشياخ الراديكاليي كلّهم عبارة عن هفوات وفهوات !
رعد الحافظ ( 2013 / 2 / 24 - 15:53 )
مشكلة هؤلاء الأشياخ والملالي على إختلاف أنواعهم وتفرعاتهم ومذاهبهم ومدارسهم
ستبقى قائمة أبد الدهر , لماذا ؟
لأنّهم يقولون بالنقل دون العقل
وبما أنّ العقل لا يحلو لهُ الركون ولا السكون
إذاً سيكون على الدوام سيفاً مُسلطاً على مصير هؤلاء الأشياخ البائسين
صحيح أنّ المفكر التنويري أحمد القبانجي , نادر الوجود في هذا الزمان
لكن ألف أحمد سيظهر بسبب إعتقالهِ أولاً وبسبب مايوفره النت من حقائق ثانياً
شباب هذا الزمان بين أيديهم أقوى سلاح ( للعقل ضدّ النقل )
حيث يعرض النت عليهم كلّ الآراء , ولهم أن يختاروا ما يُلائم تفكيرهم
مهما كان من أمر , حتى سجن الملالي الرهيب , لن يستطيع حبس أفكار القبانجي أحمد
وشتّان بينه وبين أخيهِ الأكبر صدر الدين الذي تبرّأ منهُ كممارسة للنفاق الشعبي الذي حكى عنهُ مُعلمنا الكبير علي الوردي
****
يقول نيتشه
إنّهم ( الأشياخ ) يحقدون أكثر من أيّ شيء آخر على ذلك الذي يكسر ألواح قيمهم القديمة
يدعونهُ المخرّب , المجرم ... لكن ذلكَ هو المُبدِع !

اخر الافلام

.. هنية: نرحب بأي قوة عربية أو إسلامية في غزة لتقديم المساعدة ل


.. تمثل من قتلوا أو أسروا يوم السابع من أكتوبر.. مقاعد فارغة عل




.. العقيدة النووية الإيرانية… فتوى خامنئي تفصل بين التحريم والت


.. العالم الليلة | ليست نيتساح يهودا وحدها.. عقوبات أميركية تلا




.. شاهد: مع حلول عيد الفصح.. اليهود المتدينون يحرقون الخبز المخ