الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العولمة والديمقراطية

بتول قاسم ناصر

2013 / 3 / 6
العولمة وتطورات العالم المعاصر



في ظل النجاح الكبير الذي حققته الرأسمالية الغربية وعلى رأسها أمريكا والتطور السياسي والاقتصادي والعلمي وتطور أنظمة الاتصالات وبلوغ النظام الرأسمالي مرحلة الرأسمالية المتوحشة وهي مرحلة أصبح فيها قوة تهدد العالم بالاجتياح بما يمتلكه من عوامل القوة وهي أخطر مراحل النظام الرأسمالي على البشرية وفيها عمل بسبب سعيه الى تحقيق أعلى مستويات الربح على تحقيق أعلى مستويات الإنتاجية ثم أعلى مستويات السيطرة الاستعمارية التي تمثلت باتجاهه الى العولمة والتمدد على خارطة العالم تعبيرا عن حالة القوة والتفوق التي بلغهما . وما احتلال امريكا للعراق الا جزء من محاولة هذا النظام للاستحواذ على العالم كله وكانت دعواها في ذلك رغبتها في نشر الديمقراطية في البلدان التي تعاني من أنظمة مستبدة أو محاربة الإرهاب وهو ما يمثل تهديدا لسلم العالم وأمنه .
لم يعمل الاحتلال الأمريكي للعراق على إقامة نظام ديمقراطي بل فعل العكس لأن إقامة هذا النظام يتطلب ظروفا وعوامل تساعد على قيامه في حين عمل هو على هدم ما كان قائما وموجودا منها بما سببه من انهيار بنية الدولة العراقية وتفكك مؤسساتها التي تحتاج اليها لضمان نجاح العملية الديمقراطية ، وبما سعى اليه من تمزيق المكونات الاجتماعية التي كانت متآخية على أساس مبدأ المواطنة وإثارة العداوة بينها وإرجاعها الى علاقات سابقة على مرحلة بناء الدولة بالتمسك بماهيات قبلية كالطائفة والدين والعرق وتوجيه العمل السياسي وبناؤه على أساسها لا على أساس أفكار تستمد من برامج فكرية سياسية الأمر الذي أدى الى انفصال السياسة عن الفكر السياسي فلم نجد أحزابا تتنافس ضمن مباراة وطنية تخوضها في عملية التحول الديمقراطي والبناء الديمقراطي للبلد بل كيانات تتحدث بلغة عدائية تعبرعن هذه الانتماءات الطائفية أو العرقية مما أدخل البلاد في فوضى ضاربة لا تقيم دولة ديمقراطية بل لا تقيم دولة إنما تسعى الى هدمها وتجزئتها وهو ما تريده امريكا . ولقد كانت تريد أمرا آخر من ربط العمل السياسي بهذه المكونات الطائفية والعرقية وهو محاولة دس الأحزاب التي تؤيدها وأفراد هذه الأحزاب من خلال بعض المكونات فلا يستطيع أي مكون آخر الاعتراض مادام شرط العمل السياسي هو الانتماء إلى هذه الطائفة أو هذه القومية ، وبهذا استطاع البعثيون من (العودة) الى العمل السياسي من خلال مكوناتهم الطائفية .
لقد أدى سقوط النظام السياسي في العراق الى تقبل الإحتلال الأمريكي وأفكار ونظريات أمريكا
في إدارة العالم والتعامل مع قوات الاحتلال بأنها من أسقط النظام الغاشم ، وتحولت امريكا فــي
لغة السياسيين من ( عدوة الشعوب ) و( الشيطان الأكبر ) الى الصديق الأعظم للشعوب ، وتدافعت أفكارها الى ساحة التداول كالليبرالية والتعددية وحرية السوق وحقوق الإنسان وإعادة هيكلة الاقتصاد وحتمية الانتصار للديمقراطية الرأسمالية وغير ذلك ، وهذا يعني أنها نجحت في اللعب على وعي الشعب وتلك هي الخسارة الكبيرة لو صح حقا أنها أقنعت الشعب بصدق نواياها في مساعدة الشعوب على التخلص من أنظمتها الدكتاتورية وإقامة أنظمة شعبية ديمقراطية .
إن محاولة التعرف على حقيقة الديمقراطية الأمريكية يؤكد أنها ليست ديمقراطية حقيقية بل زائفة إن لم تكن عدوة لها . يوضح السيد محمد باقر الصدر في كتابه (فلسفتنا ص 13-22 ) حقيقة الديمقراطية الرأسمالية بأنها : (نظريا) تقوم على الإيمان بالفرد والتكفل بضمان مصالحه وأن واجب الدولة هو حماية الأفراد ورعاية مصالحهم ، فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الاجتماعي ، وكذلك الاهتمام بالحريات العامة وإطلاقها وأن الأفراد متساوون في الحقوق ومنها حق التصويت والانتخاب العام الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم عن أكثرية المواطنين . ويبين السيد الصدر أن النظام الاجتماعي لديها نظام مادي خالص، الإنسان فيه محدود بالجانب المادي النفعي تأثرا بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي . ولقد أقصيت الأخلاق أو تبدلت مفاهيمها ومقاييسها وأصبحت المصلحة الشخصية هدفا أعلى والحريات هدفا لتحقيق تلك المصلحة . وقد انبثقت عن هذا النظام الرأسمالي –الذي يصفه بالمرتجل لأنه لا يقوم على أساس فلسفي مدروس- سلسلة من المآسي الاجتماعية ، وأول حلقاتها تحكم الأكثرية بالأقلية. والأكثرية هذه ليست أكثرية حقيقية بل أكثرية-محدودة- تمثلها الطبقة الرأسمالية . وهذه الطبقة قلة قليلة بعد أن كانت ضمن الطبقة المتوسطة البرجوازية التي تضاءلت واقتربت من المستوى العام ، وهنا اتخذ الحق السياسي للأمة شكلا جديدا وأصبحت المساواة خيالا ووهما . فالفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي في المجتمع وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية وتمكنها من شراء الأنصار والأعوان أصبحت تهيمن على مقاليد الحكم وتحتكره وتحرم من يمثل الأفكار الأخرى المناهضة من الوصول اليه . وقد تسلمت السلطة لتسخيرها في خدمة مصالحها والسهر على مآربها وأصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعين لسيطرة رأس المال بعد أن كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية أنه من حق الأمة جمعاء . وهكذا عادت الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حكما تستأثر به الأقلية وسلطانا يحمي به عدد من الأفراد كيانهم على حساب الآخرين بالعقليـة
النفعية التي يستوحونها من الثقافة الرأسمالية . ثم نصل الى أفظع حلقات المأساة التي يمثلها
هذا النظام إذ ان هؤلاء السادة الذين وضع النظام الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كل نفوذ وزودهم بكل قوة وطاقة أصبحوا يمدون أنظارهم – بوحي من عقلية هذا النظام – الى الآفاق البعيدة ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم أنهم في حاجة الى مناطق نفوذ جديدة وينطلق من هنا عملاق المادة يغزو ويحارب ويقيد ويكبل ويستعمر ويستثمر إرضاء للشهوات وإشباعا للرغبات .
وهكذا يبين السيد محمد باقر الصدر أن الديمقراطية في ظل الرأسمالية لا وجود لها فقلة قليلة من الرأسماليين هم الذين يحكمون وأن الحكم يتداول بينهم من خلال هذه القلة المتحكمة ، ففي امريكا يتولى الحكم حزبان هما في الحقيقة حزب واحد قد يكون الفرق بينهما في بعض الوعود الخدمية التي يطرحانها أمام الجمهور. وسبب احتكار هذين الحزبين للحكم وللترشح للانتخابات هو قدراتهما الاقتصادية الرأسمالية وشراؤهما أصوات الناخبين وقدراتهما على التلاعب بالنتائج . ويشير السيد الصدر الى أمر مهم وهو استغلال هذا النظام لوسائل الإعلام في التوجيه فقد استطاع من خلال نظرته التسييرية للإنسان أن يصنع الأفكار والمشاعر ويكيفها باتجاه غايات نفعية مادية تجعلها تتفق وغاياته وتنسجم مع أهدافه فتعمد الى انتخاب ممثليه ، فحتى من يبدو أنه حر في اختياراته الديمقراطية ليس هو كذلك في الحقيقة فهو مسير وموجه باتجاه خدمة غايات الرأسمالية. ومع أن أفكار السيد الصدر واضحة جدا إلا أننا لا نجد تلامذته اليوم في العراق يتمثلون هذه الأفكار بل راحوا ينظرون الى أمريكا بوصفها المحررة وناشرة الديمقراطية في ربوع العالم . وهم يقرؤون أفكاره التي تصفها بأنها (مصدر الشرور والكوارث في العالم ) وهم يعرفون كذلك مستوى تدخلها في تفاصيل السياسة العراقية ولكنهم قابلوا بالرضا أن تعقد معها اتفاقية أمنية واتفاقية أخرى ( الإطار الاستراتيجي ) هي أشد وطأة على العراق لأنها تجعله في كل خطوة يخطوها تحت مراقبة ومشورة وفحص دقيق من قبل تخطيط وإشراف أمريكي مباشر وهو ما يتنافى والتمتع بالحريات الديمقراطية والسيادة الوطنية . وهكذا أعادونا الى مرحلة الاستعمار والاتفاقيات الثقيلة التي تقيدنا به والتي دفع الشعب ثمنا باهضا من أجل التخلص منها .
إن الاستعمار الذي يسمى الآن - تجميلا لاسمه - : العولمة ، هو عولمة دكتاتورية معادية للديمقراطية ، فالقانون الأساسي للرأسمالية هو المنافع الخاصة والمنافسة والركض وراء الربح ولذلك فهي تسعى الى احتلال بلدان العالم احتلالا مباشرا أو غير مباشر ولي إرادتها ،
وتعمل على إخضاع المنظمات الدولية والقانون الدولي لمصلحتها . وتحاول فرض النظريات
الفلسفية للعولمة وإنهاء الأفكار الأخرى أي العمل ضد التعددية وهي تنادي بالتعددية وحرية الفكر ، فتقوم بإشاعة أفكارها وثقافتها وفرضها على ثقافات العالم ولهذا شاعت مصطلحات تعمل على ذلك وتحث على الانفتاح الثقافي وتكييف الثقافات على وفق أهداف وبرامج تعود الى ثقافات أخرى ودول أخرى إمبريالية ، وبهذا تلغي مبدأ السيادة والدولة الوطنية المستقلة وتعمل على السيطرة على مقدرات البلدان السياسية والاجتماعية والاقتصادية وإخضاعها لمنطق واملاءات المؤسسات المالية والنقدية الدولية . وهذه السياسة التي تقوم على الفرض والقمع تنافي روح الديمقراطية كما أنها بدلا من أن تعمل على حل المشكلات التي تواجهها هذه البلدان فإنها تعمل على تعميق أزماتها بكل مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتزيد من محنتها .
إن من بعض ما عمدت اليه أمريكا وحلفاؤها في العراق في سبيل السيطرة على مقدراته إثارة المشاكل الداخلية والفتن الطائفية وزرع الفرقة والتأسيس للحرب الأهلية معتمدة على مبدأها القديم الجديد : فرق تسد ، والغاية هي أن يعيش الإنسان العراقي في حالة من الفوضى والخوف وأن يحاصر بالأزمات الاقتصادية والأمنية حتى يصبح مشغولا بالدرجة الأولى بدفعها عنه . لقد عملت امريكا في العراق على ضخ كمية ضخمة من الحرية - أو لنقل الانفلات - بعد نظام دكتاتوري صارم وهذه الكمية من الحرية مع العمل على انهيار الدولة إنما الغاية منه إشاعة الفوضى التي سمتها شخصيات امريكية معروفة بالفوضى الخلاقة وهي في الحقيقة فوضى هدامة لأنها –فضلا عن كونها فوضى - فهي مقرونة بالفتن والإرهاب والتخريب شجعت الصراعات الداخلية وأفرزت أطرافا متباينة متناحرة يلغي أحدها الآخر أو يعمل على تدميره مما خلق مجتمعا غير مترابط في كل مكوناته . وقد غذت هذا الصراع وأدارته من خلال وسائل الإعلام والاتصال المتطورة المرتبطة بها والتي ترافق فتحها على المجتمع العراقي مع الاحتلال ، وهذا لا يمهد لإقامة نظام ديمقراطي يتطلب الاستقرار ولهذا أصبحت الفكرة الأمريكية : (نشر الديمقراطية) الفكرة الأكثر تهديدا وخطرا على أمن واستقلال دول العالم وفرصها لإقامة أنظمة عادلة وديمقراطية ، وهذا ما صدحت به أصوات معارضة في مختلف أنحاء العالم .
لقد تجاوزت الدول الاستعمارية مرحلة الاستعمار القديم الذي كتب عنه السيد الصدر وانطلقت منه الى مرحلة جديدة ممثلة بالعولمة وهي مرحلة تمثل قمة الطغيان الامبريالي الساعي الى حمل العالم كله على الرضوخ والاستسلام والامتثال لمنطقها لاسيما بعد زوال القطب الآخر الممثل بالاتحاد السوفييتي . ومن خلال منظور القطبية الواحدة تحاول الدول الرأسمالية بقيادة
أمريكا احتواء العالم وإعادة صياغته ، يقول جورج بوش في خطاب له : ( إننا نسعى الى تشكيل العالم وليس أن يشكلنا هو وأن نؤثر في الأحداث من أجل الأفضل بدلا من أن نكون تحت رحمتها ) . ولقد هيأت لهذه العملية ضمن حملة فكرية أعدها وصاغ نظرياتها ووضع برامجها منظرون ومفكرون صوروا الصراع مع العالم الآخر الذي يسعون لاحتوائه بأنه صراع حضاري مهدد لحضارتهم لكي يبرروا عملية قمع الحضارات والثقافات الأخرى لاسيما غير القابلة منها للامتثال والتخلي عن الهوية ، ومما يسمونه منها: الحضارة الكونفوشيوسية والحضارة الإسلامية. ولقد أدرك هؤلاء المنظرون أن السيطرة الحضارية الثقافية هذه ستمكنهم من تحقيق الهيمنة المطلقة في كل جوانبها: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وإن اقتضى الأمر العسكرية وتفرض التبعية التامة لمراكز القوى الاستعمارية التي تريد فرض منطق واحد على العالم كله ، وذلك لأن الشعوب التي تتخلى عن ثقافتها لصالح الثقافات الأخرى المستعمرة لا ترى ضيرا في أن يتم احتواؤها وإدماجها في غيرها. وتحقيقا لهذا المنطق وترويجا له عند شعوبها راحت أجهزة الدعاية والإعلام الغربية تصور دولها بأنها تتعرض لهجمة من قوى إسلامية (متخلفة) متمثلة بالقاعدة متخذة من هذا ذريعة لاحتلال دول العالم الإسلامي لاسيما الدول التي تريد استمرار ربطها بسياساتها كالعراق بعد التحرر من نظام صدام . إن استغلال القاعدة ذريعة للهجوم على دول محددة يؤكد حقيقة ارتباط القاعدة بالمشروع الإمبريالي الجديد متمثلا بالعولمة لأنها الذريعة التي يستغلها هذا المشروع لتحقق له غزوه وحربه الثقافية والحضارية كما أوصت نظرية صراع الحضارات . وهكذا أصبحت القاعدة في نظر الشعوب الغربية ظاهرة ثقافية غير متحضرة تهدد العالم المتحضر وتسعى الى محاربته فكريا وثقافيا وماديا وهدم البنية الحضارية التحتية له ولهذا يجب على هذه الشعوب تقديم الدعم لحكوماتها في حربها الثقافية والعسكرية للقاعدة . لقد بقي أمام القوى الاستعمارية بعد أن أصبحت تمثل القطب الواحد بعد غلبة النظام الاشتراكي أن تغلب الإسلام الذي يقف بوجهها في محاولتها السيطرة على العالم الإسلامي ، ولهذا سمت مرحلة الصراع الجديدة بمرحلة الصراع الحضاري - بعد انقضاء مرحلة الصراع الآيديولوجي مع الشيوعية- وهي تنظر الى الإسلام بوصفه حضارة عنيدة قوية تقاوم محاولات صهرها وإذابتها لأن الدين الذي يمثل العنصر الجوهري في هذه الحضارة كما تصفه نظرية ( صراع الحضارات) هو الذي يقف في وجه المد الاستعماري في أشرس حالاته المتمثلة بالعولمة .
العولمة محاولة لاستعمار الكون أو للسيطرة عليه أو (عولمته) ، وإذا كان الاستعمار أو الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية فإن العولمة هي أعلى مراحل الرأسمالية في آخر مراحلها وهي ما يسمى بالرأســمالية المتوحشة ، فهي امتداد وتطوير خطير للمرحلة الاســتعمارية
القديمة وتجاوز للأخطاء التي وقعت فيها سابقا والتي أدت الى فشلها وانتصار إرادة الشعوب
عليها ، إذ أدركت أن سبب هذا الفشل يرجع الى المقاومة الثقافية للشعوب التي استعمرتها والى العامل الجوهري في هذه الثقافة وهو الدين الذي يحث على مقاومة الاستعمار . ولذلك عملت هذه الإمبريالية الجديدة ومن خلال النظريات التي توجهها في سعيها هذا لاسيما (نظرية صراع الحضارات) على محاربة الدين الإسلامي فابتكرت ( القاعدة) التي شوهت الإسلام ثقافة وحضارة وأحطت من سمعته على مستوى العالم . واتخذت من حربها للقاعدة ذريعة لغزو البلدان التي تريد احتلالها مباشرة الى أن ترتب الأوضاع فيها لصالحها وتضع حكم البلاد بيد من تعتمد عليهم . ومن المستغرب أن يغفل أو يتغافل السياسيون في العراق عن حقيقة الدور الأمريكي والسياسة الأمريكية التي توجهها غايات العولمة ، فلا إدانة ولا إشارة لا من قريب ولا من بعيد وفي هذا دليل واضح على حقيقة الديمقراطية الأمريكية التي تكم الأفواه وتكتم الأنفاس .
الديمقراطية الليبرالية هي الوجه السياسي للعولمة أو النظرية السياسية لها وهي النظام السياسي الموحد الذي تتذرع العولمة الأمريكية ضمن محاولتها لاستعمار الكون بغاية نشره لدى الشعوب والدفاع عنه ، فثقافة الديمقراطية تدفع التطرف الديني المتمثل بالقاعدة كما يقول جورج بوش ، وهم يسعون الى ( نشر الديمقراطية ودعمها في كل ثقافة وأمة .. ذلك للحفاظ على أمن الشعب الأمريكي ) وهذا يعني أن الولايات المتحدة حفظا لمصلحتها تستعمر البلدان وتخوض في داخلها حروبا تعرض حياة أبنائها للخطر والبنية التحتية لها للدمار وهو ما لا يرضاه أي بلد في العالم وهو يحدث بمنطق الفرض والقوة وهو غير منطق الديمقراطية . إن من أوليات الأفكار عن الاستعمار أنه محاولة للسيطرة والهيمنة وهذه تخالف روح الديمقراطية ، فالديمقراطية خيار حر وليست فرضا، وهنالك تعليق ساخر وصف الديمقراطية الأمريكية بأنها (ديمقراطية محمولة جوا ) بالطائرات والحملات العسكرية ، وهكذا أصبحت السيطرة السياسية نشرا للديمقراطية . إن العولمة مشروع للهيمنة الكونية وهذا المشروع لا يمكن أن يكون ديمقراطيا ولا إنسانيا ولا أخلاقيا . والمفارقة أنها تتخذ من فكرة الديمقراطية والرغبة في إشاعة الحريات العامة في العالم وسيلة للهيمنة على العالم وسلبه حرياته، فهي حرية زائفة كما أنها ديمقراطية زائفة . وما مفهوم ( مع أو ضد امريكا) الذي عبرعنه تصريح الرئيس الامريكي السابق (بوش ) إلا تعبير عن السياسة الامريكية التي تعتمد أسلوب الترهيب والضغط وسلب الآخرين حرياتهم . وما مفهوم (نهاية التاريخ) الذي طرحه فوكوياما وهو يشير الى الديمقراطية الليبرالية التي يراها النظام الذي ينتهي عنده التاريخ إلا تأكيد لروح الغطرسة والاستعلاء وأسلوب الفرض لهذا النظام السياسي الذي يريدونه نظاما مطلقا يعم الكون كله وينتهي عنده الكون كله . فالديمقراطية التي يبشرون بها مشروع يخفي وراءه رغبة في قمع الآخر وإضعافه وإذلاله والسيطرة على مقدراته وسرقته ، فهل يصح بعد هذا اعتبار هذا المشروع مشروعا ديمقراطيا حضاريا وإنسانيا ؟.. الديمقراطية تعني الحرية ، والحرية تعني الإرادة فلا فعل للإرادة بلا حرية .
والحرية تعني نفي سيطرة الغير وترك الأمر للشعوب والأمم بالاحتفاظ بخصوصياتها وعدم حملها بوسائل الفرض والاستحواذ والاستيعاب على التخلي عن خصوصياتها . والعولمة تلغي الخصوصيات التي تعني التعدد ، لذا فإنها تتعارض مع الديمقراطية التي تعني التعدد والخصوصية .
الديمقراطية تضمن الحريات، والحريات ينبغي أن تكون مقيدة بالقانون وباحترام حريات الآخرين والآداب العامة ولكن الحريات المنصوص عليها في الديمقراطية الليبرالية حريات مطلقة وهذا يتعارض مع خصوصيات وثقافات بلدان ودول وأمم العالم الأخرى، ولكن امريكا تحاصر هذه الدول بالمطالبة بأن تأخذ مثلها بالحريات العامة المطلقة المنصوص عليها في ديمقراطيتها ، ولذلك فهي تنظر الى كل أشكال الديمقراطية غير الديمقراطية الليبرالية بأنها ديمقراطيات شكلية وليست ديمقراطيات حقيقية ولا تأخذ بالاعتبار أنها تنبع من خصوصية الأمم وثقافاتها .
الديمقراطية في ظل العولمة تفتقد إذن الى الحرية كما تفتقد الى العدالة ذلك لأن العولمة ظلم واستبداد مدمر يسعى الى عالم تسيطر عليه القوة ورؤوس الأموال ويتطلع الى السيطرة على ثروات الأمم والتحكم باقتصادياتها ، ومن وسائل ذلك ما نراه من ضغط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لإجراء تغييرات هيكلية في اقتصاديات الدول . وتسمى هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على اقتصاديات العالم في ظل العولمة تعاونا ومساعدات دولية كما يسمى التدخل في شؤون الدول المستقلة دفاعا عن حقوق الإنسان فيها ورغبة في إشاعة الحريات الديمقراطية .
إن الدفاع عن حقوق الإنسان تعني احترام خصوصياته الحضارية والثقافية والفكرية ، والعولمة مشروع لاختراق الآخر ثقافيا وفكريا وتذويبه وإعادة صياغته من جديد من خلال النموذج الامريكي وبوساطة وسائله الإعلامية المتطورة وشبكات الانترنيت والفضائيات ، فالعولمة مشروع يعبر عن استكبار وأنانية وإلغاء للآخر ومحاولة التغلب عليه ، مشروع يعتدي على خصوصية الناس وهوياتهم ويحاول سلبها منهم ودمجهم في هوية غير هويتهم هي هوية المستعمر وضمن كيان واحد تسقط أو تتهاوى فيه كل الحدود الوطنية والقومية وكل الخصوصيات وعدم السماح لهم بالمحافظة على تنوع هوياتهم وثقافاتهم والحيلولة دون تنميتها تحت شعار تقديم نموذج كوني للحضارة ، وهذا ضد مبادىء حقوق الإنسان في مواثيق الأمم المتحدة التي لا تميز بين البشر وتحفظ لكل منهم ما يميزه. ونحن نرى في ما يجري في
الساحة الدولية تواطؤا أو تخاذلا من المنظمات الدولية في صيانة واحترام مبادىء القوانين
الدولية وانتهاكا لها بالإذعان للقوى المؤثرة سياسيا في الساحة الدولية. إن كل أشكال التدخل ومحاولة السيطرة هذه إنما تصب في عملية انتهاك السيادة الوطنية والتأثير في القرارات الوطنية . وعملية الاختراق الثقافي عملية استعمار وسيطرة على العقول والنفوس وأداة تسيير للإنسان تجعل من قضية الحريات العامة وإشاعتها واحترامها ضحكة على الشعوب ، كما تجعل من عملية حرية الانتخاب الديمقراطي مجرد وهم وخيال . إن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية يشهد أنها ما تعاملت يوما مع الشعوب من منطلق التعاون والاحترام وعدم التدخل بل عملت على العكس من ذلك وما العولمة - التي تقود مشروعها الآن- إلا محاولة لتجاوز الأوطان والأمم والدول وإلغائها لاحتوائها وابتلاعها .
وفضلا عن كل ما ذكرنا من زيف الديمقراطية التي تنشرها العولمة في العالم فإنها لا تستند الى مبدأ المواطنة ، ولا معنى للديمقراطية بدون المواطنة التي تعني الأخذ بفكرة المساواة وعدم التفريق بين المواطنين على أسس خارجة عن هذه الفكرة . فالمجتمع الأمريكي يعاني من تفاوت طبقي بين الرأسماليين وسواهم من عامة الشعب ، والرأسماليون أو من يعبر عنهم هم من يحكم فقط والمفروض أن الوصول الى الحكم أمر متاح للجميع . إن الديمقراطية تعني احترام مبدأ المواطنة وهو المبدأ الذي يضمن إقامة علاقات متكافئة بين أفراد الوطن الواحد ورفض التمييز بينهم لأنهم جميعا يمتلكون هوية مشتركة هي الهوية الأم التي تحتوي كل الهويات والتي يندمج فيها أفراد المجتمع على أسس قانونية يحترمها الجميع . واعتمادا على هذا المبدأ يختفي التمايز بين الأفراد على أساس عامل الثروة والفقر وعلى أساس عوامل انتماء وهويات أخرى كالجنس واللون والعرق والمذهب . وتعد المواطنة أساس بناء مجتمع منسجم ومتجانس وشعب متعايش وأساس تطور البلدان وازدهارها في الدول الديمقراطية . ولكن الملاحظ أن أمريكا ناشرة الديمقراطية في العالم والتي أوكلت اليها مهمة إدارة التجربة الديمقراطية في بلادنا عملت على إحياء انتماءات أخرى مفرقة وفردية وجعلت العمل السياسي يستند الى هذه الانتماءات ولا يستند إلى أهداف سياسية وطنية وإنسانية وذلك لأن هذه الحالات وهذه الانتماءات تكرس التباين في حين أن المواطنة جامعة تكرس الإتحاد والسلام والابتعاد عن العنف وأمريكا تريد أن تلعب على وتر التفرقة والاختلاف .
وأخيرا نتساءل ما العمل وما هو موقفنا تجاه العولمة والديمقراطية التي تدعو إليها ؟ ..
بعد أن تبينت لنا حقيقة العولمة ينبغي لنا أن نعمل على مواجهتها والتحصن ضد غاياتها
وأهدافها ، وهذا يتطلب التدبر ومعرفة الظروف الراهنة وما استطاعت هذه القوى تكريسه في ساحة المجتمع العراقي مما يحول بينه وبين غاياته وأهم ذلك ما أشاعته من الخلاف والفرقة ، وأن يعمل الجميع على تجاوز الخلافات والاتحاد فبغير الاتحاد لا يمكن مواجهة مخططات العولمة والوقوف بوجه محاولاتها الرامية لإضعافنا لكي يتسنى لها اختراقنا وذلك من خلال ما توصي به نظرياتها من قطع الإنسان عن وطنه وأمته وثقافته وتاريخه وانتمائه تمهيدا لعولمته واحتوائه . ولهذا فإنها عندما أدارت العملية السياسية في العراق عملت- من أجل فرط عقد اتحادنا -على إحياء الانتماءات التي تعبر عن الأطر الضيقة وجعلها أساسا للعمل السياسي وتجاوز الأطر الوطنية الجامعة من أجل تعميق التناقضات بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة وإثارة التناحر والعداء فيما بينهم . وهي تعمل من خلال هذه الغاية على شرذمة الأمم والدول والكيانات الكبيرة لغرض إضعافها والسيطرة عليها . وتأتي الدعوة الى تقسيم العراق شاهدا على ذلك كما عملت سابقا على تقسيم الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية وغيرها من الدول لكي لا تقوم لها قائمة . إن علينا أن نعمل من أجل عملية تنوير جموع الناس بحقيقة هذا النظام الدولي الجديد الذي تريده امريكا والذي تسعى الى تصويره وكأنه قدر لابد من أن يقع على الشعوب وهو لا يزيدها إلا تأخرا وضعفا ، وأن نعمل على بناء تجربة جديدة غايتها التعاون البناء لمصلحة الشعب ، تجربة تحافظ على خصوصيتنا الحضارية والثقافية وتدفع عنا محاولات الاستعمار الثقافي وكل أشكال الاستعمار الأخرى.
أما عن الديمقراطية فنحن لا نعترض عليها ولا غيرنا بل إنها تمثل حلما للشعوب التي عانت من ويلات حكم الطغاة المستبدين وتريد أن تختار من يحكمها ولكن علينا أن نشك في مصداقية أمريكا في الدعوة إليها، فهي صديقة الحكام الطغاة في المنطقة الذين يحكمون بالوراثة والمرتبطين بها، وهي صديقة للنظام الفاشي السابق الذي لا تضارعه كل أنظمة الدكتاتورية والتسلط في العالم وكانت تحرص على المحافظة عليه ولكن مقاومة الشعب وإرادته أضعفته وأزالت حاجز الخوف منه فقررت أمريكا إزالته بعد أن خافت من أن يسقط النظام بيد أبناء الشعب ويصبح حكم البلاد بأيديهم . وقد نادت بالديمقراطية في حين لم توفر لها ظروفها أو وفرت لها الظروف التي تلغيها إذ عملت على انهيار بنية الدولة والمؤسسات الأمنية والعسكرية وأشاعت الفتن الطائفية والعرقية وغيبت الفكر السياسي ذي الأهداف الوطنية فعمل السياسيون من خلال انتماءاتهم المذهبية والدينية والعرقية وتقاتل الناس على الهوية وتشاتموا وتقطعت أواصر الأخوة والصداقة وعمت الفوضى والاضطراب ووصفت أمريكا
ما حدث بأنه ديمقراطية وحرية وهو في الحقيقة فوضى ضاربة أطنابها تسميها السياسة الأمريكية فوضى خلاقة . وإذا كانت الديمقراطية تعني حكم الأغلبية لا ترضى عن حكم الأغلبية وما تأتي به الانتخابات من نتائج إذا كانت هذه النتائج لا تأتي بمن يمثل مصالحها ونجدها تعترف بهذا صراحة في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي للعام 2006 فتبين ( أن الانتخابات ليست كافية في حد ذاتها ) كما أنها تقود أحيانا الى (نتائج غير مرغوبة ) فتعمل على تلافي هذه النتائج ومكافحتها وهذا ما حصل بالواقع في الانتخابات التي جرت في المناطق الفلسطينية وفاز فيها مرشحو حماس . وبالنسبة إلينا فلأنها جاءت بما لا يمثل مصالحها أشارت بالتوافقية لكي تدس بأعوانها من جديد الى العملية السياسية ، وظلت تضغط بكل الوسائل التي منها الأمنية في سبيل عودتهم الكاملة وإذا لم تفلح فهناك وسائل يتم اللجوء إليها كالتزوير وشراء الأصوات الانتخابية . من هنا يتضح أن دعوة أمريكا الى الديمقراطية سببه أنها النظام الذي يمكنها من أن تدفع بأعوانها الى العمل السياسي في ظل الدعم والمساندة التي تقدمها لهم وليس محبة بالشعوب ولا إيمانا بالديمقراطية . فهي تخاف من الأنظمة الفردية التي تناهض سياساتها لأن هذه الأنظمة لا تسمح لأصدقاء أمريكا بمشاركتها الحكم وتخاف من حكم الحزب الواحد الذي يناهضها ولا يسمح لأصابعها من أن تمتد لتعبث بمصالح الشعوب كما كان الحال في عهد النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية . وبعد هذا علينا أن لا نتصور أن الديمقراطية هي وحدها الحل فكل شكل للحكم يضمن العدالة والمساواة والحرية والأمن يمكن أن يكون حلا فليست الديمقراطية غاية إنما وسيلة ولهذا لم يحدد الإسلام شكلا للحكم لكي يستوعب كل الأشكال التي تحقق الأهداف والمثل الإسلامية العليا . وإذا كنا نريد الديمقراطية دون سواها فعلينا أن نمهد لهذه الديمقراطية بتربية الشعب عليها لأنها ليست مجرد صيغة للحكم وإنما ثقافة وبدون الثقافة الديمقراطية فإن الشكل الديمقراطي صيغة فارغة من محتواها. وعلينا أن لا نتقيد بالصورة الغربية منها لأنها محدودة بالنظرة الوضعية التي تحد من آفاق الإنسان والمجتمع على العكس من الصيغة التي نستطيع تسميتها بالإسلامية فهذه تفتح أمام الإنسان والمجتمع وحركة التاريخ آفاقا لا حدود لها إذ تربطها بالجانب الروحي وبالمطلق الذي يصبح هدفا للعمل السياسي فيكون مباراة يسعى المجتمع من خلال ممارستها الى تحقيق إرادة الله لا إرادة الإنسان في إقامة المجتمع العادل . ومن هنا علينا رفض فرض الديمقراطية بمواصفاتها الامريكية لأن في هذا – فضلا عن عدم صدقيتها - محاولة للارتماء في أحضان الأنظمة والثقافات الاستعمارية والتبعية لها والخروج على مرجعيتنا الثقافية ، فالإسلام لا يعادي الديمقراطية لأنه وإن كان ينطلق من مبدأ ( الحاكمية لله ) وأنه مصدر السلطات إلا أن التفسير الإسلامي لذلك يبين أن المراد من ذلك أن الله أوكل الى الأمة والى الإنسان أن يمارس هذه السلطات من خلال علاقة جدلية بينهما يستوحي فيها الإنسان نظرية السماء لحكم الأرض الى أن يتمكن من استيعابها تماما من خلال أشكال الحكم المتنوعة التي يقيمها في الأرض . فالإسلام يؤمن بسيادة الإنسـان وســيادة الأمة التي تتمثل إرادة الله وتعبرعنها . وليس هو مع الحكم الفردي الديكتاتوري الذي يقمع الآخر ويلغيه ، فهو يؤمن بالتعددية واحترام الرأي والشورى والانتخاب وغير ذلك من الآليات الديمقراطية . صحيح أن الإسلام لم يحدد شكلا للحكم ولكن هذا ليس نقصا ، إنه اتصاف بالكمال فالإسلام أكد ضرورة الدولة أما شكل الدولة فلم يحدده وذلك لكي يستوعب كل المتغيرات والمستجدات التاريخية وبذلك يؤكد أنه صالح لكل زمان ومكان وأنه مطلق يترك التحديد إلا ما كان متصلا بالقيم والأخلاق والإجراءات التي يجب أن تلتزم بها الدولة لكي تكون إسلامية وإلهية . وبهذا فإن التفسير الإسلامي للحكم لا يعتبر الديمقراطية الليبرالية وبالمواصفات الأمريكية هي الشكل الحتمي الذي ينتهي عنده التاريخ .

د .بتول قاسم ناصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي على مركز رادارات في سوريا قبيل الهجوم على مدينة


.. لماذا تحتل #أصفهان مكانة بارزة في الاستراتيجية العسكرية الإي




.. بعد -ضربة أصفهان-.. مطالب دولية بالتهدئة وأسلحة أميركية جديد


.. الدوحة تضيق بحماس.. هل تحزم الحركة حقائبها؟




.. قائد القوات الإيرانية في أصفهان: مستعدون للتصدي لأي محاولة ل