الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقل ذو البعد الواحد ...

طارق حجي
(Tarek Heggy)

2013 / 3 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


خــلال نصف القــــرن الأخير والذي ارتبطـــت اثناءه حياتي وتجاربي وأفكاري ومعاملاتي بكل ألوان الطيف الثقافي إتضح لي بجلاء وجه من أوجه الخلل الكبرى في بنية التكوين المعرفي/الثقافي للغالبية العظمى من قادة تيارات الاسلام السياسي ، سواء القيادات العليا أو الوسطى أو الدنيا . ولإلقاء الضوء على هذا الخلل الجسيم فإنه يلزم ان أوضح ماهية التكوين المعرفي العصري المتوازن قبل ان أتطرق للتكوين المعرفي غير المتوازن.

المفترض في التكوين المعرفي العصـــــري المتوازن ان تكون ضمن بنيته رقائقٌ من ابداعاتِ الفكــــــر الإنساني في شتى ميادين المعرفة ، القديمة والمعاصرة ، فالمثقفُ العصري هو من مر عقلُه على ميادين ومجالات المواضيع التالية: التاريخ العام للبشرية والفكر السياسي والفلسفة وعلم النفس والآداب والفنون القديمة والحديثة وعلم الاجتماع وعلوم الإدارة الحديثة ... وغيرها. وقد يكون (وقد لا يكون) هذا بمحاذة مجالات محددة للتخصص سواء في مجال العلوم التطبيقية أو في مجال العلوم الاجتماعية والانسانية . وعلى ضوء ذلك ، فإنه لا يتصور ان يكون التكوين المعرفي لشخصية قيادية في مجتمع معاصر خالية من المعرفة (على سبيل المثال) بانجازات الحضارات المصرية والبابلية والأشورية واليونانية القديمة أو ان يكون خالياً من التعرف على انجازات الابداع الانساني خلال عصر النهضة أو لا يكون عارفاً بالدور التاريخى الذي قام به التنوريون الفرنسيون أمثال فولتير وديدرو وروسو ومونتسكيو في التمهيد لقيام النظم والمؤسسات السياسية والدستورية المعاصرة في المجتمعات المتمدنة . كذلك لا يمكن تصور خلو الوعاء المعرفي لأي من هؤلاء من ثمار الإبداع الإنساني في سائر مجالات العلوم التطبيقة والإجتماعية والإنسانية خلال القرنين الماضيين.

ومن غير المقصود ان يكون التكوين المعرفي للقيادي المعاصر مماثلً لتكوين المتخصص في هذه المجالات التي أشرت لمعظمها. وإنما المقصود ان يكون قد ألم إلماماً كافياً بمسيرة المعرفة الانسانية في العصور القديمة والحديثة. وقد دلتني تجربة خمسة عقود من التعامل وثيق الصلة بعقلية قيادات التيارات الإسلامية أنها (في الغالب الأعم) عقلياتٌ ذات تكوين أحادي البعد. فهم قد طالعوا الكثير أو القليل من أدبيات الدراسات الاسلامية في شتى المناحي. ولكن تكوينهم المعرفي خلي من التوازن الذي اوضحته من قبل. فقادة هذه التيارات والادبيات التي كونتهم ، كلاهما يظهر بجلاء ظاهرة التكوين المعرفي الذي وصفته بأنه ذو بعدٍ واحدٍ. فهم ملمون (بدرجات متباينة) بالدراسات القرآنية ودرسات السيرة والفقه. وهم يعرفون (بدرجات متفاوتة) أمهات الكتب في هذه المجالات. ولكن السواد الاعظم منهم يخلو تكوينه (بشكل شبه كلىِّ) من العناصر المعرفية التي تكون ذهنية المثقف المعاصر. بل ، وقد أظهرت تجربتي في معرفة المئات منهم أن هناك "توجه استراتيجي" داخل جماعات الاسلام السياسي تحض على "عدم تشويش!!" أذهان وعقول أتباعها بكتابات غير اسلامية. وقد سمعت من جل الاسلاميين الذين تعاملت أو تحدثت معهم أن منع اتباعهم من قراءة آثار مثل الفلسفة والآداب اليونانية القديمة ، وكتابات عصر التنويريين الذي مهد للثورة الفرنسية ، والاعمال الفلسفية لفلاسفة البشرية من القرن الخامس قبل الميلاد لوقتنا الراهن انما هو "سياسة من السياسات الأساس" في تكوين القادة والدعاة الاسلاميين. وأنصح القارئ بمطالعة ما كتبه قائد إخواني منشق هو الأستاذ ثروت الخرباوي عن هذه السياسة الإخوانية.

ومن اكبر وأوضح نتائج خلو التكوين المعرفي لمعظم الإسلاميين من وجود رقائق تمثل سائر طبقات رحلة المعرفة الانسانية ، كون معظم الاسلاميين لا يمّيزون بين "الحقيقة الدينية" و "الحقيقة العلمية". فالحقيقة الدينية هي ما لا سند له إلاَّ النص الديني الذى تنبثق عنه تلك الحقيقة الدينية. واما الحقيقة العلمية فهي منذ اتفاق البشرية المتقدمة على تعريفها الذي صاغه الفيلسوف اوجست كونت (مؤسس المدرسة الوضعية) فهي التي تختلف عن الحقيقة الدينية من حيث قابليتها للاثبات بطرائق الاثبات الوضعية (العلمية). وبينما يبقى للحقيقة الدينية احترامها ممن يؤمن بالنص المؤسس لها ومن سواه ، على ان تبقى في مجال الاعتقاد الشخصي فقط. فان الحقيقة العلمية تخضع لقواعد الاثبات العلمي كما تخضع حتى بعد اثباتها للنقد. ومن نتائج التكوين المعرفي ذى البعد الواحد ، وكذلك عدم التفرقة بحسم بين "الحقيقة الدينية" و "الحقيقة العلمية" ، "الاستاتيكية الابدية" لمواقف الاسلاميين من عدد كبير من القضايا مثل : المرأة ، الفنون ، حرية التعبير الفكري والأدبي والفني ، الآخر الديني ...إلخ. فلا يوجد قائد إسلامي واحد يمكن أن يعتبر فناً مثل الباليه شكلاً مسموحاً به من اشكال الفنون. ولا يوجد قائد اسلامي واحد يعترف بحق اي انسان في مجتمعه ان يكون بوذياً أو بهائياً ... ولا يوجد قائد اسلامي واحد يبيح الموسيقى والغناء والتمثيل والتصوير (الرسم) والنحت بدون أن يحيط "الاباحة" بشروط تزهق روح الفن والابداع. بل ولا يوجد اي اختلاف بين قادة الاسلاميين حول اشخاص مثل الشيخ عمر عبد الرحمن أو خالد الاسلامبولي وغيرهما.

ولا اعتقد أنه سيكون بوسعنا الحديث عن "اسلام سياسي معتدل" قبل حدوث صدمة لتيارات الاسلام السياسي تشبه الصدمة التي واجهتها الكنيسة المسيحية في أوروبا خلال القرون التي تلت عصر النهضة والتي شهدت جهود التنويريين لنشر الأنساق القيمية للحضارة الانسانية الرائعة التي بدأت شموسها تنير الكرة الارضية بعد إلجام اصحاب التكوين المعرفي غير المتوازن ومنعهم من تسيير المجتمعات ، وهم أصحاب عقليات لا يمكن ان تعرف طرائق الصواب لانها مكونة معرفياً تكويناً شائهاً ناقصاً ذا بعد واحد لا غير في مواجهة واقع جديد تحتاج معضلاته ومشكلاته وكل اموره لكوادر بشرية ذات تكوين معرفي يتسم بالتوازن والتعددية ومعرفة حقائق الحياة العصرية والانطلاق من أحدث علوم العصر التطبيقية والاجتماعية.

ومعلوم لكل دارس للتاريخ الأوروبي أن اللحظة التي أُجبر فيها اصحابَ العقول ذات البعد الواحد على الإبتعاد كلية عن ادارة المجتمع هي ذات اللحظة التي انطلق فيها الُعقل الابداعي في سائر المجتمعات الأوروبية ليقدم للبشرية خلال اربعة قرون فقط من التقدم والانجازات العلمية وتحسين نوعية الحياة الانسانية اكثر مما انجزتُه البشرية طيلة عشرات القرون التي سبقت تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الانسانية. فالعقل ذو البعد الواحد لا يمكن أن يسمح بانطلاقة الابداع في شتى المجالات اذ انه مشغول على الدوام بأمور شديدة التخلف والانحطاط العقلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تظاهرات في جامعات أميركية على وقع الحرب في غزة | #مراسلو_سكا


.. طلبوا منه ماء فأحضر لهم طعاما.. غزي يقدم الطعام لصحفيين




.. اختتام اليوم الثاني من محاكمة ترمب بشأن قضية تزوير مستندات م


.. مجلس الشيوخ الأميركي يقر مساعدات بـ95 مليار دولار لإسرائيل و




.. شقيقة زعيم كوريا الشمالية: سنبني قوة عسكرية ساحقة