الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محروس أبو فريد... طبيب الأحذية

محمود عبد الغفار غيضان

2013 / 3 / 19
الادب والفن


محروس أبو فريد... طبيب الأحذية

الجو هنا خالٍ من الغبار تقريبًا... الشوارع ممهدة... الأرصفة تجد مكانها في الطرقات... اللون الأخضر يجالسك ويسير معك أينما وليت وجهك... المواصلات منظمة ومنتظمة ولذا فالأحذية هنا مرفهة... قد يمسح المرء حذاءه مرة في العام وقد ينسى فلا يفعل... وإن حدث وتعرض حذاءٌ ما لوعكة مفاجئة فهناك الكثير من أكشاك إصلاحها بالشوارع يطلق عليها "مستشفيات الأحذية"...نعم ... "مستشفيات الأحذية"... من المنطقي إذن ... أن يكون الجالسون للعمل داخل تلك الأكشاك "أطباء الأحذية"! أليس كذلك؟!... ذكرني هذا ببؤس الأحذية في مصر ومعاناتها وألمها... وكيف يستبيح التراب والغبار والدخان والضجيج والعشوائية كرامتها البادية بفتارين المحلات قبل أنْ تعرف المعنى الحقيقي للحياة خلف زجاج كالح يتم تنظيفه على مضضٍ كل يوم... تذكرتُ كذلك الأسطى محروس... أو لنقل من الآن مع الكوريين: "محروس.. طبيب الأحذية" في قريتي.
الدروس الوحيدة التي تعلمها محروس بإتقان من جلوسه بآخر مقاعد الفصل هي الوحدة... وأنَّ هذا المكان باتساعه حول أجساد التلاميذ الصغيرة آنذاك لم يكن على
مقاسه قط... كان يتلقى عقابًا يوميًّا لتدني مستواه التعليمي... أما العقاب الإضافي فقد جاءه دون جريمة أو ذنب... كغيره ممن ينتمون لتلك الأقلية في القرية... أما الحقيقة الأخرى التي أدركها غيره من التلاميذ سريعًا؛ فهي أنَّه لن يمكث هنا طويلا... ورث محروس دموعًا لا تكف عن النزف دون بكاء حتى خلنا أنه لن يرى عند بلوغه العشرين... كان واضحًا أنَّ الفقر والقهر وأشياء أخرى قد شرعت بالفعل في تنفيذ مخطط خبيث لسرقة نور عينيه... يترك محروس الفصل... يهجر المدرسة... يترك الإهانات هناك بمقعد لم يكن حريصًا أن يرثه آخرون غيره... فلم يدفعه الفضول للحضور ولو مرةٍ إليه ولم يسأل قط عمن أخذه من بعده... تستريح أذناه من صدى متكرر اعتاد صفعها بعنف كل درس... وبسعادةٍ لم تفلح في تبريد دموعه الهادرة راح يستمتع بعبارة جديدة رددتها كل القرية، حتى ذلك المعلم المتغطرس رددها مُجبرًا: "تسلم إيدك يا أسطى محروس"!

ورث محروس صنعة أبيه؛ الخواجة فريد... وبرضى مدهش أقنعت أشعة عينيه الواهنتين لصي الزمن والوجع أن يضبطا إيقاعاتهما للسطو عليها بسرعة أبطأ سلاحف الكون... ثم لضم بكل فراغات ظلالها خيوطًا متينةً مررها بكل أحذية القرية... دون مبالغة... لمست أصابعه كل نعلٍ فيها... لضمت عيناه كل مسافة بين خطين غير مستقيمين تمامًا من خيوطها... وبكل أدب الكنائس وصبر المسيح الفريد... أجاد محروس الابتسام دون أن تميز عينيه وجوه الناس وملامحهم... لم يتعلم محروس النظر إلى الوجوه مباشرة... ولم يكن يعرف الكثير عن القرية وأهلها... بل لم يهتم أبدًا بما يحدث في العالم من حوله... لم يكن يشغله سوى العناية بأمه... ترويض فقره... إتقان عمله... ولم يقبل قرشًا واحدًا يزيد عما اتفق عليه مع زبائه ولو من باب الإكرامية... مَن قال إن كرامة الفقراء هشة؟! من ذلك الذي لم يقرأ جيدًا { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}... ومن ذلك الذي لم يتسع وقته ليقرأ بعناية ما نقشه محروس على جبينه بحبر الإنسانية السري : ((قدموا في إيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة* وفي المعرفة تعففا وفي التعفف صبرا وفي الصبر تقوى * وفي التقوى مودة أخوية وفي المودة الأخوية محبة)).. دير محروس الطيب امتلاُ بزوار بعدد القرية... وأجراسه تعلمت النطق بأصواتهم... ومواقيت صلاة الشكر التي أحبها أكثر من أي شيء في هذه الحياة كانت تأتيه كلما قيل له بصدق :" تسلم إيدك يا أسطى محروس"... يمر الزمن... يكبر محروس وتتبدل ملامحه... يصير انحناء ظهره واضحًا... يضيق النور بين عينيه الوادعتين... يكبر الفقر كذلك دونما وهن الشيخوخة... وتظل تزحف تلك السلحفاة دون توقف... بينما لا يكف أهل القرية عن شكر محروس.... أما محروس... فدائمًا سعيد... لأن سره الأزلي الذي لم يبح به أبدًا كان أن شخصًا ما... ذات لحظةٍ ما... علمه بصدق... أنَّ كنف الرب... هو الرضى... وأن الرب ليس في الكنيسة فحسب... بل هو في مكان أكبر وأوسع من ذلك بكثير... مكان لا يغادرك إلا بالموت... إنه... القلب...

محمود عبد الغفار غيضان
مجموعة "زمن المصاطب"
19 مارس 2013م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن