الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظاهرةُ فوزي كريم: تشكيلٌ جانبيٌّ لشاعرٍ

حكمت الحاج

2013 / 4 / 5
الادب والفن


علانا المشيب،
ولم تعد الريح ترعى ضفائرنا
وأفراسنا سمنت،
ومراقد من مات صارت مزارا..



هناك، في بغداد الستينات، حيث تبدأ الأشياء، انخرط فوزي كريم بهدوء مشوب بالحذر في الشأن الشعري العراقي عبر فاعلية كبيرة في الحوار المتواصل مع الآخرين في الساحة والتنظير والسجال والمحاججة وتقديم الخلاصات الشفوية ولكن بشكل أقل في مجال الإنتاج والتنصيص والتدوين شأنه في ذلك شأن معظم أبناء جيله من الستينيين في تلك الفترة. ولقد كان تأثير فوزي كريم في هذا المضمار قويا يؤكده معظم من عاش تلك السنوات المحتدمة أو كتب عنها أو تفوه بخصوصها. فحضوره القوي بين أبناء جيله سواء كانوا من الأصدقاء أو الخصوم، تؤشر إلى تجربة ربطت الشخصي بالشعري، وتحركت بين أفقين رحبين: فكرة الجديد الشعري أو تخطي التجارب السابقة، وفكرة الرحيل أو مغادرة العراق التي كانت شاغل الأدباء آنذاك من مختلف الاتجاهات.
ولد شاعرنا في بغداد عام 1945. أكمل دراسته الجامعية فيها ثم هاجر إلى بيروت عام 1969. عاد إلى بغداد عام 1972، ثم غادرها ثانية عام 1978 إلى لندن، حيث يقيم الآن. منذ مرحلة شبابه الأول كان فوزي كريم لا يجد مفارقة في اعتماد التراث والحداثة مصدرين أساسيين لفكره وشعره. فالموروث العربي يمده بالإحساس باللغة كمعقل لكيانه الروحي ويمده بالإحساس بالتاريخ والتواصل. والثقافة الحديثة نافذة يطل منها على العالم اللامحدود. غير إن هذه المفارقة الذهنية المتمثلة في ثنائية "كن أصيلا كن معاصرا" هي التي ستنزل إلى أرض الواقع وتحفر عميقا في نهر حياته وفكره لتتناسل منها ثنائيات أخرى أمسكت وتمسك بمعظم تفاصيل شعر وفكر فوزي كريم كشاهد حي وقوي التمثيل لنمط التفكير والخيال المميز لملامح الثقافة العربية حينذاك.
من الثنائيات التي تنعكس عند شاعرنا على مرآة الموروث والحداثة ثنائية "المنفى والوطن". فالإحساس بالمنفى عميق لديه، لأنه من مطلع الشباب الأول ذاك عاش مجتمعاً ثقافياً، يعتمد ممارسة شعائر مقدسة متضاربة، هي شعائر الإيمان العقائدي. وكان هو بمنأى عن هذا المصطرع. ولكنه لم يكن بمنأى عن رائحة احتراقاته ونزيفه. ولقد أشعره معترك الأفكار العمياء بالوحدة والتطلع. وكان منفاه الاختياري الأول في بيروت هو الذي عمق تلك الوحدة، وذلك التطلع. أعطاهما طبقة صوت محتجة، وغنائية مصوّتة. وضع قصائد بيروت في مجموعة "أرفع يدي احتجاجاً"، وصدرت عن دار العودة عام 1973. قال لي فوزي كريم في لقاء شخصي معه في لندن إن المنفى كان ولد لديه وهو في الوطن وفي سن مبكرة مما دفعه لفكرة السفر والمغادرة لعله أن يجد الوطن. بيد أنه استطرد في ذلك اللقاء قائلا وبشكل لا لُبس فيه إن المنفى بالنسبة إليه دائما ما كان يحمل بعدا ميتافيزيقيا أكثر من كونه محمولا لمعنى اجتماعي. وهكذا فإن السنوات التي قضاها في بغداد ما بين عامي 1972 و 1978 كانت على درجة عالية من التوتر، والإحباط، وانسداد المنافذ. قصائده صارت هي الأخرى متوترة، محبطة، وباحثة عبثاً عن إضاءة. التطلع فيها لم يعد في دم التجربة الشعرية ذاتها، في دم القصيدة. بل صار إشارة مباشرة مقصودة في آخر القصيدة. إلا أن هذه الخبرة الدامية علمته الكثير، لا في حقل كتابة القصيدة فقط، بل في حقل الإنسان والتاريخ. تعلم الحذر من الأفكار في أن تتحول، بفعل غريزي، إلى عقيدة مقدسة. تعلم أن القصيدة إنما تولد من صراع الشاعر مع ذاته، لا مع الآخر. ترك كتباً أخرى أصدرها في بغداد: "من الغربة حتى وعي الغربة" (وزارة الثقافة،1972)، "أدمون صبري" 1975 (وزارة الثقافة) ، و "جنون من حجر" (وزارة الثقافة 1977)، ثم هاجر إلى منفاه الجديد، لندن، أواخر عام 1978. في سنوات هذا المنفى الطويلة دخل الشاعر رحاب الانكليزية أدباً وثقافةً عامة. كما وقع على ضالته التي كانت مفقودة في حياته العربية السابقة، ألا وهي الموسيقى. فبدأ يعوض ما افتقده، في تأسيس مكتبته الشخصية من الموسيقى الكلاسيكية. وطوال ربع قرن لم ينقطع يوماً عن الإصغاء والقراءة والكتابة في الشأن الموسيقي. ولقد انتفعت قصيدته من هذا المصدر الموسيقي، الذي يعتبره الشاعر أسمى وأعمق مصادر البناء في النص الشعري. ولأنه يمارس فن الرسم أيضا بذات الشغف، ولكن ليس بذات التواصل، فقد وضع كتابه "الفضائل الموسيقية" في أجزاء أربعة: عن "الموسيقى والشعر" (صدر عن دار المدى 2002)، و"الموسيقى والرسم"، "الموسيقى والفلسفة" و"الموسيقى والتصوف"، (قيد الإعداد للنشر). في الشعر أصدر: "عثرات الطائر" (المؤسسة العربية 1983)، "مكائد آدم" (دار صحارى1991)، "لا نرث الأرض" (دار رياض الريس1988)، "قارات الأوبئة" (دار المدى 1995)، "قصائد مختارة"(الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995)، "قصائد من جزيرة مهجورة" (نشرت ضمن الأعمال الشعرية 2000 التي صدرت في جزأين عن دار المدى عام 2001)، "السنوات اللقيطة" (دار المدى 2003)، "آخر الغجر" (2005)، "ليلُ أبي العلاء". وفي النثر النقدي أصدر، بعد قصص "مدينة النحاس" (دار المدى 1995)، كتاب "ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة" (المدى 2000)، "العودة إلى گاردينيا" (المدى 2004)، كتاب "يوميات نهاية الكابوس" (المدى 2004)، "تهافت الستينيين: أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي" (المدى 2006). إن مسعى فوزي كريم على المستوى النقدي لتجريد الشعر العربي مما علق فيه من شوائب الشكلانية والميل العضلي، في موروثه وحداثته، وما استحوذ عليه من قوى الأفكار المتعالية والعقائدية، حفزه لإصدار مجلته الفصلية "اللحظة الشعرية" التي ما زالت تصدر وإن كان بشكل إلكتروني.
انشغل فوزي كريم خلال السنوات الأخيرة بالكتابات النثرية فكانت الموسيقى الكلاسيكية والتنظير النقدي والمذكرات ويوميات الستينيات العراقية وغيرها من المواضيع قد تصدرت اهتماماته. وتميز بين الأدباء العراقيين من جيله بطرحين جذبا اهتمام القارئ: الأول تصديه إلى ما يعرف بظاهرة الحداثة الشعرية العربية، وعلى وجه الخصوص حداثة أدونيس وجيل الستينات العراقي، فكان كتابه «ثياب الإمبراطور» تتويجاً لهذا الجهد. والطرح الثاني كان حول ظاهرة الأدب والايدولوجيا، أو الأديب الحزبي أو المؤمن بعقيدة سياسية معينة. وقد اعتبر هذا النوع من الإيمان قد أفسد الأدب وأساء إليه فنياً وإنسانياً. ومن هنا جاء اهتمامه الجديد المتجدد بمفهوم "شاعر المتاهة وشاعر الراية" لتنضاف إلى ما سبق الإشارة إليه بخصوص ولع الشاعر بالثنائيات المتعارضة التي تنتظم نسيج شعره وفكره النقدي في النظر إلى التاريخ الاجتماعي للأدب.
يحتفظ فوزي كريم بعد ثلاثين عاما بغنائية تشكل قاسما مشتركا لشعره، وهو لم يتخل عنها يوما ولا فارقها، بل كان يغني شعره بصوته الجميل الذي تعوده الأصدقاء، يقول سعدي يوسف: "في تلك الأيام بخاصة، كان فوزي كريم شاعر المدينة بامتياز، يطور نصه، ويرتله، ويؤثر في الشبيبة، وبهذا التطلع النزيه نحو الحرية، والجمال، والمعنى الكامن". مر الكثير من الوقت على هذه القصيدة المباشرة، وتقلب الشاعر بتجارب كثيرة، ولكنه لم يترك عادة الترتيل في موسيقى شعره، مثلما بقي يحتفظ بوضوح لم تنقضه قصيدته الطويلة «قارات الأوبئة» التي عدها سعدي يوسف أفضل شعره. إن اهتمام فوزي كريم بالموسيقى الآلية لم يمنعه من الخوض بكل شجاعة في الغناء العربي المعاصر وقال كلاما في فن السيدة فيروز لم يقله أحد من قبل رابطا ذلك بما يسميه "أوهام المثقف العربي". إن اتساع ظاهرة فيروز في وسط المثقفين إنما ينطوي علي شيء من الوهم، الذي هو فعل المثقفين العرب لا فعل فيروز كما يقول فوزي كريم. فقد انتسبوا إليها ونسبوها لأنفسهم، محاولةً منهم لستر عورة الجهل المريع لينابيع الموسيقي الجدية، التي تليق بالمثقف كما تليق الرواية الجدية والمسرح الجدي وكل مصادر المعرفة الجدية الأخرى. ولعل فيروز أخذت استجابتهم التسترية بصورة جدية، ولها كل الحق في ذلك، واطمأنت إلى انتسابها إليهم . ولكن، ودائما مع فوزي كريم، هل هذا الإنتساب إلى ذائقة مثقفينا، الذين لا يعنون بالموسيقي الجدية مطلقا، والذين يفتعلون معنى للجدية لفظياً وشكلياً، هو دليل على جدية فيروز ؟ وهنا يلمس شاعرنا سر الظاهرة الفيروزية حيث يقول إن انتساب فيروز إلى الموسيقي الشعبية والى الناس في كل مستوياتهم أمرٌ لصالح فيروز والموسيقي والناس. ووجودها كتعويض عن الموسيقي الجدية أمر آخر افتعله المثقفون لستر العورة لأن الموسيقي الجدية شأنها شأن الشعر ذات صلة وثيقة بمصادر الوعي الأخرى كالفن والأدب والفلسفة والعلم.
لقد شكلت "ظاهرة فوزي كريم" بعناصرها المتكاملة: الشاعر والمنظر والمفكر والفنان والإنسان، مَعْبَرا مهما لأجيال الحداثة الشعرية في العراق من التقليد إلى الابتكار، ومن الجماعة إلى الفرد ومن السياسي إلى الوجودي ومن المنتمي إلى اللامنتمي وبالتالي من الأدبي إلى اللاأدبي خروجا على الأعراف السائدة وابتعادا عن الجماعات المسودة. لقد كان أبو نواس لا يحسن الشعر إلا في الغزل والخمرة، وكان يكره صناعة الأدب كرها شديدا، وهما شرطان مهمان للشاعر المحدث في زمنه، وأيضا بنفس الأهمية للشاعر الحقيقي في زماننا هذا: أن يحسن الاستجابة للقوة الخفية في داخله، وأن لا يؤخذ باللعب الشكلي الذي عماده الذهن والذكاء. وتلك هي أعظم إسهامات فوزي كريم في ثقافتنا المعاصرة.
.. (يتبع..)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله