الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صندوق الموسيقى

سعاد أبو ختلة

2013 / 4 / 14
الادب والفن


صندوق الموسيقى
مصعد البناية يعزف موسيقى أثناء الصعود والهبوط كموسيقى الصندوق المذهب الذي طالما اختبأت داخل دولاب الملابس لتفتحه وتدندن مع موسيقاه ، كان هدية عيد ميلاد شقيقتها وكانت تنهرها كلما وجدته بين يديها مما اضطرها آنذاك لاختباء في الخزانة ، تفتحه ، ضوئه الخافت موسيقاه الهادئة وصورة الحقل الممتد التي تظهر كلما فتحت الصندوق .. ربما كانت هناك فتاة بثوب قروي وردي اللون أو ثوب مليء بالزهور الصغيرة ، هناك خراف وبيت في الأفق .. لا تذكر الصورة جيداً وربما امتزجت مع المسلسل الاميركي الذي كانت تتابعه "بيت صغير في القفر" ، تشارلز الأب والأبنة الكبرى لورا التي طالما تعايشت معها كشقيقتها الكبرى التي كانت تنشر السعادة في البيت بأشيائها الجميلة وحكاياتها حين تجدل لها ضفائرها .. لورا وأمل كانتا شخصية واحدة في مخيلتها ، لورا مصدر سعادة عائلتها التي يثق والدها بأنها تقدر على كل شيء وأمل شقيقتها التي تلتمع عيناها حبوراً وهم يدورون حولها سعداء برضاها أن تقص عليهم حكاية بينما يجن الليل ووالديها عند الطبيب - طفل سيجيء وربما جاء في زحام العائلة كانت أمهم الصغيرة ، تعد لهم الشطائر ، تحيك ثيابهم التي تمزقت من تسلق جدار الحديقة أو التأرحج مع أغصان الزيتون ، طالما عملت لها ثياباً من قصائص الأقمشة ، كملابس الدمية ألوان متناثرة كانت تسعد بها وتدور حول نفسها سعيدة .. كانت أمها تضحك وتحذرها من ارتدائه عند زيارة القريبات ... تضحك وتلعب وفي مساءات الأحد تنتظر لورا بيت صغير في القفر .. تنظر للمسافات والحقول وشقيقتها تبكي للوعة لورا .. ترى الدموع تنهمر من عينيها ويحتبس الدمع في عينيها دون أن تعرف أنها تلتاع للورا التي ترتبط بشخص وتترك البيت الصغير وعائلتها تبكيها وشقيقتها تركتهم أيضاً ومضت للمجهول ، تحجرت ذاكرتها عند صراخ أبوها وصمت أمها بينما يرتجف جسدها محموماً .. عيناها كانتا تدوران تبحثان عن تفسير.. كل النساء تحتفل بمولودها البكر فلماذا تمضي شقيقتها بحزنها مع طفلتها خلف الافق ..؟! لم يصل بها الخيال لتلك المأساوية ولم تحتمل حتى الجزع فطال صمتها وانفجرت بينما بدأت عائلتها بتجرع الأسى ،
ذاكرتها السحيقة أعادها المصعد في ثوانيه المعدودة كفيض من تسونامي هاج في أعماقها لتغتسل من الآن المرير لسنوات الحلم الغض .. صندوق الموسيقى الذهبي واللوحة التائهة ، تقرفصها في خزانة الملابس واحتضانها الشغف للصندوق ودقات قلبها المتراكضة جزعاً من يد تفتح الباب وتخرجها من أذنيها لتنهمر دموعها غزيرة تحرق وجنتيها ..
صندوق الموسيقى يخص شقيقتها الأخرى التي تحب الاحتفاظ بالأشياء ، تمسحه وأشياءها الأخرى وتخبئه في صندوق أسفل الخزانة ، سوارها البلاستيكي الملون بألوان الطيف ، حليها اليدوية الصنع وأقراطها التي كانت تبتاعها من مصروفها أو تجمعها من هدايا صديقاتها ، كانت تعشق أعياد الميلاد وكلما حضرت عيد ميلاد أبلغت صديقاتها أن عيد ميلادها الاسبوع المقبل .. بمعدل ثلاث أو أربع اعياد ميلاد في العام كانت تختطف الفرح اختطافاً .. لم تكن تكبرها سوى بثلاثة أعوام لكنها تملك ارادة قوية وعندما تنوي عمل شيء تنفذه كانت تتذمر من محاباة الذكور في العائلة وتفرض نفسها بقوة ليسوا افضل مني بشئ ، مستقلة بذاتها وترفض أن تصنف في وسط او آخر القائمة لذلك كانت المميزة عند والدها كيف لا وهي الأولى في مدرستها الطالبة المتفوقة التي يلحقها الاطراء أينما مضت بقامتها الطويلة وجسدها المنتصب..على نقيضها كانت تميل للانكفاء على داخلها ، تعيش عالمها الخاص في حكاياتها وقصصها التي كانت بوابة عبورها لأشياء شقيقتها ومساعدتها حيث كانت فيما بعد تمدها بالقلم والأوراق وتؤدي عنها مهامها البيتية اليومية مقابل قصة تقرأها.. لم تعلم أي جنية كانت تثور في داخلها بالحكايات تلتصق مع خيالها الخصب وعبثها في حاجيات شقيقتها وتعنيفها لزملائها من الذكور للنيل منهم انتقاماً من قمع الطفلة التي كانت تطمح للتجول هنا وهناك خارج أسوار المنزل لتحلم بحكايات وترى صوراً لبشر مخطوطة على ملامحهم حكاياتهم بهدوء وصلف معاً ، لطالما نظرت للوجوه مباشرة تقرأ فيها الحكايات الانسانية وهذا يعيب الفتاة التي لم تبلغ بعد العاشرة فماذا عن امرأة .. تعتقد أن كل البشر لديهم أحلام وحكايات مختبئة خلف الاقنعة والأدوار التي ينتظرها الآخرون منهم بينما عندهم أحلامهم وآمالهم الخاصة وربما بعض المخاوف والدموع ...
صندوق الموسيقى كان ينقلها بين أحلامها وحكاياتها التي تبدعها ، شخصيات وهمية تعطيها اسماء من حولها لسبر غورهم ، تطلق أسماء شخصيات الرسوم المتحركة على من حولها ربما هروباً من تعنيفهم أو انتقاماً بالسخرية منهم فمعلمة الرياضيات التي تبدو قاسية كانت السيدة ملعقة التي تبدو قاسية لكنها حكيمة وطيبة أحياناً ومدرس اللغة العربية هو السيد شوكة المتذمر التائه ..السنافر كانوا يمثلون شخصيات كل من حولها فسنفور قوي شقيقها الذي يذكرها في كل لحظة بأنها بنت لا يحق لها ما يحق له .. وعليها أن تعد له الشاي وساندويتش الزعتر في خبز ساخن تحترق اصابعها وهى تقلبه على الموقد ويحترق قلبها تذمراً ... هناك حلم وحكايات تبحث عن النص الذي يُكتب دون ريبة أو وجل ...

بضعة ثواني في المصعد والموسيقى تنبعث في ذاكرتها كوميض حملها لفضاءات الحلم الأخضر .. فكم من وميض نبش الذاكرة لمخزونها الجميل وكم من وميض ألقى بنا في غياهب خوفنا من الماضي والآتي وكأنه يعيد شيطان الذكريات للمر لنتذكر علقمه ونصاب بغصة يتجلى معها العمر كلا شيء أو كل شيء او لنعترف أمام أنفسنا تقاعسنا قليلاً لكننا تعافينا أو هزمنا بعض الشيء وتقبلنا ، أو ثابرنا كثيراً لنقف امام أنفسنا راضين عما مضى ونتطلع بأمل لما تجيء به الأيام ....
والحياة لا تتعدى كونها صندوقاً مغلقاً فربما كانت موسيقى ما يصدح بها حين يفتح أو مصعد ينقلك بين أحلامك وما قُدر لك ، صندوق أسرار تحيا تخبئه كي لا يقرأوا خوفك وحلمك .. او صندوقاً لكل اشياءك الجميلة وذكرياتك الرائعة يصدح موسيقى شغفك بالحياة ...

سعاد أبو ختلة
في التاسع من ابريل 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا