الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع الشاعر والناقد ليث الصندوق

سعدون هليل

2013 / 5 / 20
الادب والفن


حوار مع الشاعر والكاتب ليث الصندوق
حاوره: سعدون هليل
" الحداثة الشعرية ليست سوى عملية استبدال للملابس الشعرية القديمة "
ليث الصندوق شاعر وكاتب عرف بجديته ومثابرته في عالم الشعر والأدب كتب ونشر الكثير من الدواوين منها: قصائد منقوعة بالدم – 1982 ، الانسان الاخضر، من اضرم النار في الشجرة، صراخ في ليل العالم، احزان عازف القيثار، بيت في اور غيرها. كتب عنه عدد كبير من النقاد والكتاب منهم عبد الجبار داود البصري، والدكتور حاتم الصكر، وفاضل ثامر، وطراد الكبيسي، والدكتور محسن اطيمش والدكتور أحمد مطلوب وغيرهم الكثير أجرينا معه هذا الحوار عن الواقع الثقافي العراقي .

* لنتحدث في البدء عن ديوانك الأول " قصائد منقوعة بالدم " كيف عالجت فيه علاقتك ككاتب وشاعر بالمرجع والنصوص ؟
_ في الحقيقة أن مجموعتي الأولى لم تظهر للنور لحد الأن ، وأن مخطوطتها لم تزل لحد منذ أكثر من ثلاثين عاماً ولحد الأن محفوظة في مكتبتي ، وأن ما ظهر على أنه ديواني الأول تحت عنوان " قصائد منقوعة بالدم " هو في الحقيقة ديواني الثاني ، لقد كنت قد أعددت للطبع مجموعتي الأولى التي لم تر النور بعد أن كنت قد نشرت البعض القليل جداً من قصائدها في الصحافة العراقية والعربية ، ولكن المشكلة أن ظروف البلد السياسية المتقلبة سرعان ما تبدلت ، فإضطررت إلى إخفاء مجموعتي التي كنت أعدها للنشر والتي كان إنتمائي السياسي اليساري واضحاً فيها . في تلك الأيام كان اليسار يعاني من مضايقات خانقة وبدأت رحلة الشباب باتجاه المنافي ، وكان من المفترض أن أغادر الوطن مع من غادروا ، ولكن ظروفي الأسرية حالت دون ذلك فآثرت البقاء تحت ضربات المطرقة مع الألاف الذين وقعوا بأيديهم على إستمارات إعدامهم في حال ثبوت عودتهم للعمل السياسي خارج خط السلطة . لقد كانت الظروف قاهرة ، وأقوى من القدرة على الاحتمال ، وكنت يومئذ في بداية مسيرتي الحياتية والابداعية ، فأخفيت مخطوطة مجموعتي الأولى التي لم يكن من أحد " حسب ما أذكر " قد اطلع عليها باستثناء الدكتور علي عباس علوان والدكتور محمد حسين آل ياسين الذي أرفق بها رسالة غاية في الجمال ما زلت أحتفظ بها باعتزاز لحد اليوم .
ومما يؤلم حقاً أن المجموعة " المخطوطة " المحتجبة كانت ترى عالماً على ما يبدو غير ما كنا – نحن الشباب – نراه ونعيشه ، كانت قصائدها تتغنى بالحب والعدل والتسامح والمساواة ، فهي مفردات العالم الذي كنت أنا وأترابي قد حلمنا به وعشنا من أجله ، ولم نكن قد عرفنا سواه . ولكن يبدو أن ذلك لم يكن سوى الوهم الذي أجبرنا أنفسنا على ألا نغادره ، فالحقيقة المرّة أن طبقات من العفن كانت تنمو بتسارع وكثافة تحت تلك القشرة اليانعة والطرية ، وكان هناك من يساعدون في إشاعة ونشر موجة العفن تلك وما تفرزه من ثقافة القوة والكراهية ، وهذا ما حدث مع الأسف ، إذ سرعان ما اندلعت موجة العفن من تحت طبقات الصمت لتغمر العراق بكامله ، ليعيش بعد ذلك ثلاثة عقود من الحروب والدمار ، ما زالت تداعياتها ماثلة لحد الساعة على العملية السياسية القلقة ، وعلى الفرقاء السياسيين المتناحرين . أما مجموعتي " قصائد منقوعة بالدم " التي عُدّت الأولى لي وهي في الحقيقة ليست كذلك كما سبق أن أوضحت ، فقصائدها كُتبت في ظروف الحرب مع إيران ، وفيها لم أنحز إلى غير شعبي ووطني وليس إلى الذين فجروا الحرب دافعين بمئات الآلاف من الضحايا الأبرياء إلى المحرقة ، بينما تواروا هم وراء المكاتب و المكرفونات مكتفين بالقتال الشرس على جبهات الخطب الدعائية والبيانات البلاغية الجوفاء . لقد كان علي ان أخذ بخيار واحد من ثلاثة ، فأما الحياد ، وأما الوطن ، وأما العدو ، وبالرغم من أن الحرب مهما كانت تبقى قذرة ما دامت ستهرق حتى ولو قطرة دم واحدة ، إلا أني آثرت خيار الوطن الذي كان يعني عندي ألا أتخلى في أحرج الظروف التاريخية عن شعبي وعن جيشه الذي زُج كرهاً في الحرب من أجل طموحات سياسية لا مصلحة له بها ، هذا مع إقراري بأني في الجبهة وجدت بأن الجيش العراقي لم يكن جيشاً واحداً ، بل هو جيشان : جيش الضباط والقادة والأمرين أي جيش المتنفذين ، وجيش الجنود المسحوق والمهان ، وكانت العلاقة بينهما هي علاقة سادة وعبيد ، وكان الجيش الأول مدعوماً بقوة السلطة القمعية وحزبها الحاكم وعناصره الأمنية والمخابراتية ، وكان عناصره يتعاملون بمنتهى الاستعلائية والقسوة ، بل بمنتهى المهانة والاحتقار مع ضباط الصف والجنود تحت لافتة الضبط العسكري والحزم السوقي وغيرها من اللافتات والشعارات الزائفة والمضحكة بمرارة والتي نجد جذورها في طيات رواية جورج أورويل ذائعة الصيت " مزرعة الحيوان " ، وبالتالي فتلك التخريجات الشعاراتية تعكس ثقافة النخبة الأمية والنظام الشمولي الحاكم ، وقد أدت نتائجها ، إلى سلسلة الهزائم التي عانينا منها على مدى ثلث قرن من تاريخ المآسي والنكبات ، وانتهت بالهزيمة المرة امام قوات الاحتلال الأمريكية . وبالعموم لم أكن أنطلق في مجموعتي " قصائد منقوعة بالدم " من أية مرجعية أيدلوجية باستثناء مرجعية المواطنة الحميمة التي تشدني إلى وطني ، بالخصوص في ظروف الكوارث والنكبات ، وليست هناك من نكبة أمر من نكبة الحرب .
* يُقال إن الرواية هي الشكل الأدبي الأكثر إنسجاماً مع متطلبات العصر ، فهل توصل الروائيون العرب إلى أن يؤسسوا لرواية ذات سمات عالمية ؟ ثم هل قامت الرواية بدورها الحضاري في البلاد العربية ؟
_ أرى أن ثمة عوائق تحول دون وصول الرواية العربية إلى العالمية ، بعضها تسويقي وترويجي وتلميعي ، وهذه الجوانب مهمة جداً بالرغم من انها لا علاقة لها بالجانب الابداعي ، أما اهم العوائق الابداعية التي تحول دون عالميتها فهي ما تعانيه على ما أرى من اتساع مساحة المسكوت عنه ، بغض النظر عن طبيعة ذلك المسكوت عنه ، وتعدد التابوات ، وهيمنة الايدلوجيا بما يحوّل النص الفني إلى خطاب علوي موجه . ومع ذلك لقد فهم الروائي العربي منذ زمن مبكر بأن الرواية ليست مجرد حكي ، بل هي سرد يفكك به الروائي الظواهر المجتمعية والتاريخية ليبني في موازاتها عالمه الذي لا رابط له مع ما يوازيه سوى أن كليهما يتحدثان لغة حياتية مشتركة واحدة مفرداتها الإنسان والتاريخ والطبيعة ، وإذا كانت مادة بناء الأول هي الواقع ، فإن مادة بناء الثاني هي التخييل ، وإذا كان محور العالم الأول إنساناً من لحم ودم ، فمحور الثاني الشخصية التي هي على حد قول رولان بارت من حبر وورق ، ولعلي لا أغالي إن قلت بأن المسؤوليات السردية التي يحملها الكاتب العربي تعود إلى الإرث الضخم الذي إنتقل إليه " ألف ليلة وليلة " التي ما زالت بالرغم من عمرها الموغل في الزمن تحظى بعدد كبير من القراء وبدراسات عميقة وجادة ، وقد استفاد من تقنياتها الكثير من كبار كتاب العالم ، وأقروا بذلك صراحة وآخرهم ماريو بارغاس لوسا في كتابه النقدي " رسائل إلى روائي شاب " . هذا الإرث العظيم لن يسمح للروائي العربي بالتأكيد أن يتراجع إلى مناطق الوعي المطفأ والمعالجات الغيبية المسطحة وذائقة زمن المقاهي والنراجيل وثقافة تزجية وقتل الوقت ، على العكس من ذلك فذلك الإرث شكل دائماً حافزاً للروائي العربي ليبني على أساساته العالية ، وهذا ما يجعلني أتساءل : هل من المعقول أن لا تجد الرواية العربية من ينقلها إلى العالم ، ويروج لها ، ويدرسها بما تستحق ؟ وهل من الانصاف أن لا تجد من يطبعها بأكثر من ثلاثة آلاف نسخة أو ان مؤلفها يطبعها على نفقته الخاصة بضع عشرات من النسخ ويوزعها بجهده الشخصي وبالمجان على المعارف والاصدقاء في حين إن عدد النسخ التي طبعت من رواية " الخيميائي " ل " باولو كويلو " ألصادرة عام 1988 بلغ " حسب الويكيبديا " ما مجموعه " 65 " مليون نسخة ، وترجمت إلى " 51 " لغة ، ووزعت في " 150 " بلداً ، وهذا العدد هو ربما يضاهي مجموع ما طبع من كل الروايات العربية في كل البلدان العربية منذ بداية القرن المنصرم لحد الآن ، كما انها حظيت بثناء منقطع النظير من شتى الأطراف باستثناء من الاكاديمية السويدية التي لم تُخدع بتلك الارقام المهولة وما زالت متحفظة على منحها جواز عبور إلى جائزة نوبل ، وهذا ما يُعزز رأيي بانها رواية ساذجة ، وذات مضامين سطحية تنتمي إلى نمط الحكاية الشعبية الاسطورية التي طواها الوعي التاريخي لإنسان العصر المعلوماتي ، إضافة لترسيخها قيم الغيب وتقليلها لدور العقل والمنطق العلمي ، في حين إنها يُفترض أن تكون على العكس من ذلك باعتبارها تتناول أسرار واحد من العلوم الطبيعية المهمة ألا وهو الكيمياء ، بيد أنها تناولت ذلك العلم المادي تناولاً غيبياً أفقدها الكثير من المصداقية . ولو تحدثنا عن روايته الأخرى المسماة " إحدى عشرة دقيقة " لوجدناها أكثر سطحية ، فالدقائق الأحدى عشرة التي جاء منها عنوان الرواية هي الوقت الذي تستغرقه عملية الجماع ، والرواية برمتها وصف مبتذل لمختلف أوضاع المضاجعة تدونه عاهرة محترفة . اخشى أن يكون رأيي هذا صادماً لبعض من أحبوا الرجل ، وأنا آسف على صراحتى فأنا لا أقلل من موهبة كويلو وقدرته على استكناه رغبات القراء ، ولكني أجد أن ثمة عوامل غير أدبية هي التي تصنع وتروج الكاتب في العالم الأكثر تحضراً من عالمنا العربي ، وتلك العوامل مهمة جداً ، وإن افتقادنا لها هو الذي حصر الروائي العربي في زاوية المحلية وفرض عليه العزلة ومنعه من الانتشار خارج بقعته الجغرافية إلا في نماذج نادرة . أما بالنسبة للدور الحضاري والنهضوي للرواية العربية ، فقد خضع هذا الموضوع إلى دراسات مهمة وعديدة ، أبرزها في رأيي دراسات الدكتور جابر عصفور التي توزعت في أكثر من كتاب ، أهمها " عصر الرواية " و " ألرواية والاستنارة " ففي الأخير تابع الباحث عبر الزمن الدور التنويري للرواية العربية بادئاً بنماذجها الأولى في القرن التاسع عشر لدى علي مبارك واحمد فارس الشدياق وسليم البستاني وفرنسيس المراش وسواهم ، إضافة إلى دراسته لدور المرأة الروائية ولدور الأقليات الدينية يوم كنا متسامحين وننظر لتلك الأقليات نظرتنا إلى أنفسنا . وبرأيي إن الرواية العربية لم تنقطع عن تلك الجذور ، وانها ما زالت تؤدي دوراً نهضوياً وتحديثياً حضارياً تجاوز بمراحل دور الشعر الذي تراجع إلى الوراء ، وهذا ما توقعه ببصيرة نقدية نافذة وفي وقت مبكر " عام 1945 " الروائي الغائب الحاضر نجيب محفوظ .
* ما السبب في تخلف دور الشعر عن الرواية ؟
_ أرى إن مرد ذلك إلى طبيعة الفنين ، ومدى استجابتهما لمتغيرات العصر وإيقاعه ، إضافة إلى قدرتهما للانفتاح المرن على كل الداخل والخارج في وقت واحد ، ففي حين انفتحت الرواية على الداخل لتستوعب التقنيات الجديدة ، إنفتحت على الخارج في الوقت ذاته محفزة القاريء للاقبال على موضوعاتها المستجدة ومعالجاتها المبتكرة . وعلى النقيض من ذلك فقد كان الشعر قد انفتح من داخله على آخر الصرعات والتقنيات الشكلية ، بينما انغلق على متلقيه ، وبذلك عجز عن تحقيق التواصل السلس مع الاخر الذي استعصى عليه فهم أسرار لغته المستعلية . وبمعنى آخر ، لقد ظلت القصيدة تحفر عميقاً في أنفاق الذات المظلمة ، في حين كانت الرواية في سفر لا ينتهي بحثاً عن تجارب إنسانية جديدة وعن معالجات لكسر النمطية والملل ، وفي دأبها المتواصل ذاك كانت ترسّخ علاقتها النظرية والتطبيقية بالقراءة كمبدأ ، وبالقارىء كحقيقة ، فثبتت موقع " المروي له " كعون سردي متمم ومكمل لدور الراوي ، وللدلالة على حقيقة القاريء ، أو حقيقة صورته المتضمنة داخل النص ، بل إن جيرالد برنس قد وجد أنواعاً أخرى من القراء مثل " القارىء الحقيقي " و " القارىء الواقعي " و " القارىء المثالي " إن الشغف المفرط في البحث في هذا الموضوع مؤشر على عناية الروائيين والباحثين في النظريات السردية بالطرف الثالث في عملية الارسال ، فالرواية رسالة أولاً وأخيراً ، بينما كان الشعر قد طوى هذه الصفحة وترك القارىء وراءه ، وتوجه إلى نخبة ضيقة من نمط ال" سوبرقارىء " .
* هناك من يقول أن تجربة الشعر الحر قد استنفدت ، شأنها شأن الشعر العمودي؟
_ هناك اليوم حملة ضد " الشعر الحر " أو ما يسمى بقصيدة التفعيلة ، الجزء الأكبر من الحملة مبطن ، وما يظهر منها على السطح هو القليل ، وسواء كانت الحملة مستترة او علنية ففي الحالين يريد من انخرط فيها أن يبرهن بأن زمن الموسيقى في الشعر قد انتهى ، وأن قصيدة التفعيلة لاحقة لا محالة بسابقتها القصيدة الكلاسيكية التي أصبحت عاجزة عن مواكبة الاشكال المستحدثة ، وقاصرة عن التعبير عن التجارب المتمردة الجديدة . لقد بالغ بعض النقاد المتحمسين لقصيدة النثر فاعلنوا صراحة كراهيتهم للخليل الفراهيدي ولميزانه ، وأعلنوا أن قصيدة التفعيلة في طريقها للموت إن لم تكن قد ماتت فعلاً ، وأن الذين ما زالوا يكتبونها إنما يعبرون عن إصرارهم على سكن المقابر . أنا أرى أن هذه الحملة مفتعلة ، وانها أعجز من أن تمضي إلى نهايتها ، وأن قصيدة التفعيلة لم تعط بعد كل ما لديها ، وانها ما زالت تختزن طاقات كبيرة قابلة للتفجر والسر في ذلك يعود إلى الطبيعة الديناميكية للتفعيلة ذاتها التي تختلف عن طبيعة الوزن النمطي التقليدي المبني على قواعد حسابية ثابتة وغير قابلة للاستجابة لمتطلبات التغيير بحكم افتقارها إلى إمكانية النمو والتبدل . بعكس الطبيعة الطيّعة والمرنة للتفعيلة التي تقبل الانصياع مع الموضوعات المستجدة ومن هنا فسرّ قوتها في ليونتها وفي قدرتها على النمو من داخلها . ولعلي لا أغالي إن قلت أن قصيدة التفعيلة لم تعط كل ما بامكانها أن تعطيه فهي ما زالت واعدة ، وأن عمرها الزمني لا يُرشحها للشيخوخة المبكرة . وإن بقاءها او انحسارها مرهون بتطورات الزمن ولا علاقة لقصيدة النثر بذلك فلكل قصيدة سياقها ، وليست هناك ثمة علاقة ما بين السياقين باستثناء أن كليهما تكتبان باللغة العربية .
* متى بدأت في رأيك القصيدة العراقية الحديثة
_ أنا أميز ما بين الجدّة والحداثة ، فالأولى ذات طبيعة تزامنية ، أما الثانية فذات طبيعة نوعية تركيبية ، وأن الأولى تمهد للثانية ، وتفتح لها الطريق بل ان ثمة علاقة تكاملية بينهما بالرغم من أن كليهما يمثل نقطة تحوّل على مسطرة الزمن ، وأرى أن الشعر الجديدة بدأ مع القصيدة التي كتبها الرواد محطمين معها الميزان التناظري للقصيدة القديمة ، ولكن ليس كل ما كُتب في تلك المرحلة كان على النمط المعماري الجديد كان حديثاً ، فقد استمرّت القصيدة تراوح في مكانها ما بين الشكل الجديد والارث البلاغي واللغوي القديمين حتى جاءت قصيدة " أغنية في شهر آب " للشاعر الخالد بدر شاكر السياب لتكون الطلقة التي أعلنت بداية السباق على مضمار الحداثة ، ولتحدد الرؤيا المستقبلية للقصيدة ، وترسم ملامح البلاغة الجديدة ، وتكسر القواعد البيانية للغة الموروثة التي لم تعد تتماشى مع إيقاعات العصر المتسارع الذي كان يشهد ثورات في كل مجال . بعد ذلك تسارعت خطى الحداثة الشعرية ، ولحق بها شعراء التجديد في العراق والبلاد العربية ، ومع ذلك فما زال هناك حتى الساعة من يرى أن الحداثة الشعرية ليست سوى عملية استبدال للملابس الشعرية القديمة بأخرى مصممة في أرقى دور الأزياء الشعرية العالمية .
* حبذا لو تحدثنا عن آخر ما قدمت أو ما أنت بصدد تقديمه في مجال الشعر او النقد ؟
_في مجال الشعر فإن مجموعتي الشعرية الثامنة الموسومة " بيت في أور " في طريق الصدور عن دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة ، وهي مجموعة ما بعد المحنة ، أي ما بعد الحرب المبطنة التي خاضتها الكتل السياسية ضد بعضها " بالنيابة " فيما سُمي مجازاً بالحرب الأهلية . ولعله من المفيد أن أقدم تفسيراً لهذا العنوان الذي قد يبدو غريباً ، وللظروف التي أملت علي كتابة القصيدة التي حملت المجموعة عنوانها . فالبيت الذي في أور هو بيت النبي إبراهيم ، وفكرة القصيدة التي أخذت منها المجموعة إسمها تعود إلى أيام وجودي في الوظيفة في هيئة الثار ، يومئذ اطلعت بحكم موقعي الوظيفي على تفاصيل بعثة التنقيب في موقع اور التي كانت قد اكتشفت خلال التنقيبات بيتاً في الموقع بمواصفات إستثنائية إرتأت أنه ربما يكون بيت النبي إبراهيم ، فتم ترميمه ترميماً سيئاً يتناسب مع منجزات مرحلة الحصار الذي كان يخضع له العراق ، وبعد أن شاع الخبر عالمياً أراد بابا الفاتيكان الأسبق " يوحنا بولس الثاني " زيارته ، وقد وجد النظام العراقي السابق في زيارة الحبر الأعظم فرصته لإستثمارها دعائياً بما يخدم نظامه المتهالك ، وقد أدرك البابا اللعبة التي لم تكن ضمن حساباته ، فألغى الزيارة . ألمهم في الأمر أني إطلعت بعد رؤيتي للموقع على تقرير البعثة الأثارية وعلى المسوغات التي ساقتها للتدليل على صحة قناعاتها في كون البيت هو بيت النبي إبراهيم ، ولكني لم أقنع بتلك المسوغات والتبريرات على الإطلاق ، ومع ذلك فقد التقطت الفكرة ، وظلت محفوظة في طبقة عميقة من وعيي لأكثر من عشر سنوات حتى حدث الانفجار الأمني المريع الذي قلب أحوال البلد وعرّضه للكارثة ، فعدتُ أحفر في ذاكرتي أبحث عن رموز فاعلة وحيّة أحاورها ، وأشكو إليها ، واسقط عليها همومي وهموم البلد ، فكانت قصيدة " بيت في أور " ، وأور هي الجزء الذي يعني الكل ، العراق المختلف والمبني منذ ألاف السنوات على قيم التسامح والمحبة ، أما البيت ، فهو بيت النبي إبراهيم الأب الأول لهذا الشعب ، وإن كل طوائف وأديان هذا الشعب هم إخوة من أب واحد ، وليس من الحكمة أن يحترب الأخوة فيما بينهم لأسباب سياسية آنية وعرضية .
أما في مجال النقد فقد فرغت مؤخراً من كتابة قراءة مطولة لثلاثية شيكاغو للروائي العراقي محمود سعيد ، ركزت فيها على شغفه باستخدام الأعمار كمواصفة لتشخيص الأبطال ، وقد نشر الجزء الأول من القراءة في مجلة الصوت الأخر التي تصدر في محافظة أربيل ، بينما نشرت القراءة كاملة في موقع الناقد العراقي الذي يشرف عليه الدكتور حسين سرمك حسن .
* أين تجد نفسك بين الشعر او النقد ؟
- أنا لا أعدّ نفسي ناقداً ، فعلاقتي بالنقد علاقة خاصة أملاها حرصي الشخصي من أجل فهم اعمق لأسرار العملية الإبداعية ، ولذلك أجد مكاني في طرف العملية الإبداعية الأول الذي ينشط فيه الشعر ، لقد كنت منذ البداية أجد إن القراءة من الخارج غير كافية لتحقيق متعة القاريء ما لم تقترن بتفكيك وتهشيم وتفتيت النص المقروء ، وكنت أمارس تلك العمليات التخريبية كطقس سريّ مع نفسي بعيداً عن الأخرين محتفظاً لها وحدها بمتعة الممارسة الفردية دون إقتسام المتعة السرية مع شريك ، لكني في مرحلة لاحقة قررت أن أمارس متعة التخريب المركبة تلك بصوت عال ، مُنفساً عن ذائقة ظلت مقموعة لزمن طويل . ثمّ لا تنسَ إن النقد فعالية واحدة من مجموعة فعاليات ثقافية كنت وما زلت أمارسها مع نفسي ، فنفسي كانت دائماً جمهوري الأول القريب والحميم ، والأكثر إنسجاماً وتفهماً لتمردي وعنادي ، ولكني لم ألبث في مراحل لاحقة ، وبعد أن صارت نفسي تضيق باهتماماتي وأسراري ، وبتحميلها منهما فوق ما لا تحتمل ، صرت أذيع تلك الاهتمامات والاسرار على الأخر ، وأشركه معي بهما . إضافة للشعر والنقد فأنا أمارس الرسم أيضاً ، وقد وضعت بنفسي رسوم ثلاث أغلفة من مجاميعي الشعرية ، كما أني ساهمت باربع لوحات تخطيطية من أعمالي في مجموعة " مدن العاشق " للشاعر البروفيسور عبد الاله الصائغ ، ولي ملفات تشكيلية شعرية عدة في الصحافة الثقافية . ومع كل ذلك يبقى الشعر فرس الرهان ، وتبقى الاهتمامات الأخرى تلهث في إثره دون أن تتمكن من إدراكه .
* وهذا يُذكرني بما سبق أن قدمته من مقاربات نقدية ما بين اللوحة التشكيلية والقصيدة ، هل ترى بعد زمن طويل من التوقف عن تلك المحاولات أن المقاربة ممكنة ما بين الفنين ؟
_ في الحقيقة أنا ولدتُ رساماً ، فأنا من عائلة كل من فيها يرسم ، وحملت معي هذا النزوع إلى الكبر جامعاً معه نزوعاً آخر إلى الشعر ، وقد كنت أظن مع بدايات نضوجي الابداعي أن ثمة علاقة ترابط ما بين الشعر والرسم ، وإن الموهوبين من الشعراء الرسامين او الرسامين الشعراء يحاولون كشف تلك الأصرة والبناء عليها . وقد حاولت الكتابة في هذا المجال متناولاً الشعراء الذين يجمعون مع الموهبة الشعرية الناضجة موهبة تشكيلية ناضجة أيضاً ، وليس الشعراء الذين علمتهم مواهبهم كيف يحركون أصابعهم ويدفعونها للرقص على الورقة وهي تحمل القلم ، لأن أكثر الشعراء يجيدون الخربشة ، وليس كل هؤلاء رسامين . فبدأت الكتابة في هذا المجال محاولاً ان أجد العوامل المشتركة ما بين الفنين يدفعني الحماس إلى كليهما لأثبت رغم أنف " فازاريلي " وجود تلك المشتركات ، وكان الفنان العالمي الكبير المجري الأصل والفرنسي الجنسية فكتور فازاريلي " 1905 – 1997 " ، وهو أحد أعمدة الفن البصري أل " op art " لا يؤمن بوجود تلك العلاقة التكاملية ، ويؤكد ان لكل فن أستقلاليته ونظامه . وبعد فترة لم تدم طويلاً توقفت عن محاولاتي الشبابية المندفعة تلك بعد أن فتر اندفاعي للفكرة حين وقفت على حقيقة أن الشعراء التشكيليين ، والتشكيليين الشعراء هم اقل من أن يُشكلوا عيّنة إحصائية ، فعددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ، وهذا العدد لا يبني ظاهرة ، ولا يُمكّن الدارس من إيجاد عوامل إرتباط كفيلة بتحويل الظاهرة إلى قانون ، واقول الظاهرة هنا من قبيل المجاز لأنها اصلاً لم تستكمل شروطها العددية لتتحوّل إلى ظاهرة . إضافة للفتور الذي اعتور اندفاعي جراء ذلك الكشف ، فإن التقدم في العمر ، والتوقف الطويل عن الكتابة في هذا المجال منحاني فرصة لتأمل الموضوع القديم بهدوء وتان ، بعيداً عن حماس الشباب وثورته لأكتشف بان راي فازاريلي كان أكثر صواباً وعقلانية من رأيي ، وأن لكلا الفنين نسقه المميز ، وبناؤه العلاماتي المستقل .
* إلى أي تيار تنتمي أنت وسط هذه التيارات المتلاطمة والمتداخلة في مسيرة الشعر العربي .
_ أنا لا أرى أن هناك ثمة إتجاهات ومدارس بيّنة في الشعر العربي اليوم ، لقد تجاوز الشعر مرحلة المدرسية وتداخلت الأسراب مع بعضها وهي في طريقها للهجرة باتجاه الحرية والابداع . وإذا كانت هناك ثمة ملامح لاتجاهات ما ، فأنا لا أؤطر داخلها كتاباتي ، فأنا أرى أن التيارات أو المدارس الشعرية ليست سوى قيود تحول دون تمكين الموهبة من التعبير الحر عن ذاتها ، إنها ترسم وتحدد مسارات الانطلاق والحركة خطوة بخطوة بما يجعل المناورة محصورة في الهامش . إن المدارس يمكن ان تكون منصة إنطلاق وحافزاً لتوحيد وتجميع الرؤى المعثرة في المجالات النظرية والبحثية ، فهي تقدم للمشتغلين فيها المناهج التي تميز أعمالهم بالرصانة والجدية . أما في مجالات الابداع فالوضع مختلف تماماً ، لأن الرصانة والاتزان مقتلتا الإبداع ، وإن حاجة المبدع إلى جناحين هي أكبر من حاجته إلى قيود وسلاسل .
ولكن ذلك لا يعني أن العملية الإبداعية تسير من بدايتها حتى نهايتها دون موجّهات وأدلة ، فالتاريخ يشير إلى أن ثمة مدارس كبرى شكلت مفترقات طرق في مسيرة الشعر ، وأن تلك المدارس هي التي رسمت مستقبله وحددت الملامح العامة التي نرى بعضها اليوم ، وربما تكون تلك المدارس هي ما عناه مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن في كتابهما المشترك " الحداثة " عندما تحدثا عن الإزاحات الكبيرة ، وقالا إنها تمتاز بالتحولات العميقة التي ربما يستمر تأثيرها لمدد تقاس بالقرون . وعدا تلك المدارس الكبرى ، فإن التقليعات والصرعات والبصمات الخاصة التي يضيفها كبار المبدعين في كل مرحلة لا يمكن أن تسمى بمدارس أو اتجاهات ، وحتى لو سُميت كذلك اعتزازاً وفخراً من قبل صُنّاعها وتلاميذهم ، فإن الإلتزام الدقيق بها ليس سوى قيد يحوّل من يلتزمون بها إلى نماذج مستنسخة عن النوذج الأصل الأول ، والبقاء والتميز في النهاية يبقى لذاك الأخير بينما النماذج المستنسخة فكلها سرعان ما تُنسى .
* لقد فرضت على نفسك منذ زمن بعيد العزلة عن المجتمع ، وعن الوسط الثقافي ، ألا ترى أن العزلة مقتلة الأديب ؟
ج : نعم ، ربما تكون العزلة مقتلة لأن شرانقها الفولاذية التي تلف بها الأديب تحول دون تواصله مع المستجدات ، وفي هذا المجال أذكر المقال الذي كتبه الشاعر عدنان الصائغ تعقيباً على الملف الشعري الذي نشرته أحدى الدوريات الثقافية العراقية للشاعر محمود البريكان بعد عزلة طويلة . أما بالنسبة لي ، فعزلتي عن الوسط الثقافي هي عزلة إجتماعية ، وليست ثقافية ، بمعنى أني لم أنقطع خلالها عن مواصلة الكتابة والنشر سواء في الصحافة الثقافية الورقية أو الألكترونية ، كما أني أواصل إصدار مجاميعي الشعرية سواء عن طريق وزارة الثقافة ، أو عن طريق القطاع الخاص ، وإن لي عبر الميديا إتصالات مع عدد كبير من المثقفين نتحاور عبرها ونتبادل تجاربنا ، إضافة إلى تواصلي مع أهم التجارب الفاعلة والمؤثرة عراقياً وعربياً في مجالات الشعر والسرد والنقد .
لقد أقنعت نفسي منذ بداياتي بأن المبدع الحقيقي لا يعول على علاقاته الاجتماعية في البروز والانتشار ، لأن الموهبة ، والموهبة وحدها من المفترض أن تكون ميزان الوسط الثقافي في ترجيح المبدعين ، ولكن مع ذلك فهذه القناعة تعرضت للاهتزاز حين وضعت على المحك في أكثر من تجربة مع الأسف الشديد ، لقد وجدت أدباء كبار يعتمدون معايير غير أدبية ، وغير ثقافية في تقويم وتصنيف الأدباء ، وفي مقدمة تلك المعايير العلاقات الاجتماعية المفتوحة والمتشعبة ، والمنصب الوظيفي ، والانتماء السياسي والمرتبة الحزبية ، والثراء المادي ، وربما هناك غير هذه المعايير الكثير بعضها مخجل ومعيب ولا يتناسب مع نبل الاهداف الثقافية المعلنة وشرفها ، وقد آلمني شديد الألم أن بعض أؤلئك الأدباء الذين يفترض أنهم يتمتعون بحس نقدي أصيل ، وموهبة حقيقية في تقويم وفهم الظواهر الأدبية ، بل وحتى الاجتماعية ، إضافة إلى نظرة ثاقبة للنفاذ إلى الأعماق وعدم الانخداع بالظاهر الصاخب والمبهرج . لقد آلمني من هؤلاء الادباء إنهم يتعاملون مع المواهب الحقيقية على وفق المبدأ السطحي القائل بأن البعيد عن العين بعيد عن القراءة ، ومع ذلك فموقف هؤلاء الادباء ذوي الأسماء الرنانة والرؤيا المسطحة لم يدفعني لردة فعل معاكسة انقض فيها عزلتي ، وأندفع معهم باتجاه الصخب غير المجدي ، لقد بقيت في عزلتي أنتج بهدوء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة