الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صعودهم لأعلى وصعودنا أبدًا لا يليق بنا

محمود عبد الغفار غيضان

2013 / 5 / 28
كتابات ساخرة


صعودهم لأعلى وصعودنا أبدًا لا يليق بنا

موجز حكاية صورة لرسالة على هاتفي من عيادة الدكتور "كيم دونغ هو":

أذهب أنا وابنتي لعيادة الأسنان هنا في مدينة كوانج جو بكوريا الجنوبية. العيادة تعلم تمامًا أنها ابنتي، كما تعلم جيدًا أنها طفلة صغيرة، ومع ذلك ترسل لي رسالتين قبل يومٍ من كل موعد محجوز لزيارة المستشفى؛ الأولى موجهة لابنتي ، والثانية موجهة لي حتى لا ننسى موعدنا معهم. ولأحكي لكم الحكاية من أولها لأن المسألة أكبر بكثير من مجرد الحرص على مشاعر طفلة صغيرة والتعامل معها كشخص له كل الحقوق وتجب رعايته. ليست المسألة هي احترام ابنتي من خلال العناية بي أنا وتقديري أنا. وإنما مسألة احتراف أن يتم احترامنا معًا وبالقدر نفسه.

شعرتُ ابنتي بألم في أسنانها، فصحبتها إلى مستشفى الأسنان بالجامعة القريبة من بيتي حيثُ أدرِّس اللغة العربية. كانت الساعة قد تجاوزت السادسة مساء، فقيل لي في الاستقبال إن وقت العمل قد انتهى وعليَّ أن أذهب للطوارئ بالمستشفى العام. ذهبنا على الفور إلى الطوارئ. استقبلنا طبيب حديث التخرج وقال :" أقترح أن تشتري أي مسكن من الصيدلية حتى الغد، الطوارئ لن تقدم لكما خدمة خاصة كمستشفى الأسنان، مع الوضع في الاعتبار أن الأمر في الطوارئ مكلفٌ! سألغي الحجز حتى لا تدفع شيئًا أو إذا أردت فانتظر طبيبة الأسنان التي ستأتي بعد قليل!"

أدهشني حرصه على ألا أدفع نقودًا دون خدمةٍ تُنهي ألم ابنتي. لكني قررت انتظار الطبيبة. لم يكن موقفها مختلفًا. فحصت فم ابنتي، ثم قالت إنها تحتاج إلى مستشفى الأسنان وكل ما يُمكن عمله هنا هو أن تكتب لها اسم مسكن للألم. ثم قالت لنا اسمه بالفعل بعد أن ألغت الحجز حتى لا أدفع أي نقود. شكرتها كما شكرت الطبيب الأول ثم ذهبنا إلى أقرب صيدلية. في اليوم التالي اصطحبتُ ابنتي إلى عيادة أسنان خاصة. ولأني أشكو من وجع في الأسنان كنتُ لا أجد وقتًا للخلاص منه فقد بدأتُ مع "سلوى" رحلة علاج أسنانية عائلية. المستشفى فخم ونظيف بشكل مبهر. مدخله يشد انتباهك بأناقته. ومكان الانتظار بالداخل يشبه مقهى على أحدث طراز. موسيقى كلاسيكية لا تتوقف. موظفان في الاستقبال وثلاث مساعدات مع الطبيب. أكثر من ستة كراسٍ مجهزة بمعدات الأسنان على أحدث مستوى. شاشة كمبيوتر أمام كل كرسي. ولأن الجالسة هي سلوى فقد تم تشغيل أحد أفلام الكرتون على الشاشة الخاصة بها. غسل الطبيب والمساعدات أيديهم ثم بدأوا العمل دون ارتداء قفازات طبية. أعلم تمامًا أن الأدوات معقمة جيدًا وأن الأيدي نظيفة لكني لم أكن مستريحًا لذلك. ولأن الأمر اقتصر على الأشعة وفحص أسناني أنا وسلوى وما فيها من مشكلات، فقد أرجأت الحديث عن القفاز للزيارة التالية التي كانت بعدها بيومين.

بعد ذلك. اتصلت هاتفيًا بموظفة الاستقبال هناك وأبلغتها برغبتي في أن يرتدي الطبيب قفازًا هو والمساعدات. فأكدت على أنه سيفعل وطلبت مني ألا أقلق مطلقًا. عندما ذهبنا إلى هناك، اعتذر الطبيب عما سببه لنا من توتر وأكد أنَّ كل شيء نظيف ومعقم. ثم قام بارتداء القفاز وكذلك مساعدته. ثم بدأت رحلة العمل في أسنانا. بعد تلك المرة، وقبل موعد الذهاب بيوم على الأقل، ترسل العيادة رسالة إلى هاتفي للتأكيد على الموعد المحجوز. أعجبني جدًّا أنهم يتعاملون مع سلوى كشخص مستقل. فمع أن الرسالة يتم أرسالها إلى هاتفي أنا. ومع أني والدها، غير أن المستشفى ترسل كل مرة رسالتين: الأولى إلى سلوى والثانية إليَّ أنا.

هذا النوع من النظام مع احترام الآخر والعناية به هو ما يصنع الفارق هنا في هذه المجتمعات التنافسية، وهو ما يصنع الفارق بينهم وبين شعوب أخرى يتم تسميتها بالعالم الثالث. الذي لا طعم ولا لون ولا رائحة له. إنه يشبه تمامًا تلك الدعابة الساخرة
التي يطلقها الأجانب على النساء فيما فوق الأربعين تقريبًا هنا في كوريا : "أجومًّه"؛ حيث يقولون إن في كوريا: الذكور والإناث والأجومات :) فعذرًا. مجتمعات العالم الثالث هي "أجومات" ولا شيء أكثر من ذلك.

أعود لموضوع المجتمعات التنافسية. كنت مع صديق مصري وهو زميل لي بالجامعة كذلك وأساتذة الكلية في عشاء بأحد الفنادق الكبرى بالمدينة. بمجرد أن قيل للمسؤول عن مائدتنا- التي ضمت قرابة الثلاثين أستاذًا- إننا مسلمان. كان يقدم ثمانية وعشرين طبقًا من نوع واحد وطبقين مختلفين تمامًا خاليين من أي لحوم وخاصة الخنزير. فقال صديقي لرئيس القسم الجالس بجوارنا: "هذا الموظف ممتاز وخدوم جدًّا. يجب أن نشكره على اهتمامه بنا". فرد الأستاذ الكوري:" إنه يقدم خدمة ويجب عليه أن يقدمها على أعلى مستوى وإلا لن نحضر إلى هنا مستقبلاً". الكل هنا يدرك ذلك جيدًا ويتصرف على أساسه. الأمور هنا غالبًا على هذه الشاكلة. كل مكان يقدم لك خدمة ويعلم تمامًا قيمتك لديه وقدرك لأنه لو خسرك سيخسر الكثير. لا أدري لماذا أتذكر الآن أنني كثيرًا ما أحسستُ في بعض المطاعم أو المقاهي أو المحال التجارية في مصر أن أصحابها يمنون على الزبائن ويتفضلون عليهم بأن باعوهم بضاعتهم أو أجلسوهم على موائدهم أو كراسيهم وليس العكس!! يعني عليك أن تشكر صاحب المطعم مليون مرة أنه سمح لك- كزبون متواضع لا قيمة لك في الحياة- أن تدخل محله.

على كل حال. بجانب موضوع الخدمات التنافسية، يمكن القول إن هذه الشعوب المتقدمة ليست من طينة أخرى. الأمر باختصار وكما قال "برايز" في ذلك الفيلم الكوميدي الشهير يكمن في "النظااااااااااااااااااااااااااااااااااااام".

تعقيب قد يريح البعض

في النهاية. لديَّ تعقيب قد يريح البعض ويؤكد على أمرين مهمين؛ الأول، أننا نملك من الصفات الإنسانية والتاريخ والعادات والتقاليد ما يجعلنا- لو عرفنا قيمة ما نملك وأمهلنا أنفسنا فرصة توظيفه- أرقى وأنبل شعوب الأض. أما الثاني فهو أنني كذلك أعرف عيوب هذا المجتمع ومشاكله، لكني هنا ولأني أريد لبلدي الأحسن فأنا أركز على الجميل لعلنا نتعلم أو نستفيد منه. أخيرًا، ولو كان فيما سأقوله بعض عزاء لبعض القراء. فلقد أجريت قبل عامين عمليتين جراحيتين في كتفي وعانيت لمدة سنة مع شريحة معدنية كفاكم الله جميعًا شرها وشر ألمها بسبب خطأ لطبيب كوري صغير السن في تشخيص شرخ في عظمة الترقوة. تحياتي لكم وعذرًا للإطالة.
"محمود عبد الغفار غيضان"
28 مايو 2013م.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - صدقت
حازم ( 2013 / 8 / 10 - 09:51 )
أوافقك تماما في مقارنتك بين كوريا ومصر. بخصوص رسائل الطبيب على المحمول فهي تتم أتوماتيكيا بنظام الحاسوب المسجل به بيانات المرضى في العيادة ولا دخل لاحترام الطفل في ذلك

اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج