الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما المقصود بالعلم في القرآن؟

محمد علي عبد الجليل

2013 / 6 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يقول المسلمون إنَّ الإسلام دِينٌ حضَّ على طلب العِلم وإنَّ أول سورة أُنزِلَت من القرآن هي "اقرأ". ولكنْ ما المقصود بالعلم في لغة القرآن؟ صحيح أنَّ القرآن أمرَ بالقراءة ولكنْ لم يقلْ "اقرأ" بدون قيد أو شرط، بل قال: "اقرأ باسم ربك". فالقراءة المطلوبة في القرآن مقيَّــدة بشروط ومقيِّــدة للقارئ ومنحازة وليست مطلقة، وهذا يخالف طبيعةَ العِلم. فالعِلم لا يعمل باسم أحد ويتميز بالموضوعية ولا يراعي المشاعرَ الدينية والقومية والثقافية والتقاليد الخاصة بمجتمع ما. فالعِلم، بخلاف العقيدة، هو معرفة واضحة وأكيدة مَبنيَّة على تجاربَ وبراهينَ، معرفة قابلة للتعميم فلا تختلف من مجتمع لآخر. أما العِلم المقصود في الإسلام فهو قراءة هدفُها إثبات صحة الإسلام والقرآن والدفاع عنهما ونشرهما. وبهذا يكون متحيزاً وليس علماً بل عقيدة. العِلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه، والعقيدة هي ما عقدَ الإنسانُ عليه قلبَه جازمًا به، سواءٌ أكان حقًا أم باطلاً، صحيحاً أم خاطئاً. وقد شرحنا الفرقَ بين العِلم والعقيدة في مقال سابق منشور في مجلة معابر بعنوان: "أثر العقيدة في تخلُّف وعي المعتقِدين".

القراءة الواجبة في الإسلام مقيَّدة باسم الله، أي مقيَّدة بالعقيدة. يقول القرآن بعد أنْ يذكرَ فِعلَ القراءة بصيغة الأمر ("اقرأ بـاسم ربك"): "كَلاَّ إنَّ الإنسانَ لَيطغى أنْ رآهُ استغنى"، أي (بحسب تفسير الطبري أقدم التفاسير وأهمها): "ما هكذا ينبغي أنْ يكونَ الإنسانُ، أنْ ينعمَ عليه ربُّه بتسويته خلقه، وتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كفء له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك، ويطغى عليه ويتجاوز حده لأنه رأى نفسه استغنت". فالغاية من القراءة ومن العِلم بحسب القرآن هي طاعة الله، أي الخضوع للعقيدة. لأنَّ الله لا ينتمي إلى العِلم بل إلى العقائد.

لِـنرَ ماذا قال المفسرون في تفسير آية "اقرأ باسم ربك"؟
يقول الطبري: "اقرأ يا محمد بذكر ربك." ويقول القرطبي: "ومعنى اقرأ باسم ربك أي: اقرأ ما أُنزِلَ إليكَ من القرآن مفتتحاً باسم ربك، وهو أنْ تذكر التسميةَ في ابتداء كل سورة."

هل هذا هو العِلم؟ أم هو نقيض العلم الذي هو العقيدة التي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة وهي خاصة بتقاليد المجتمع وثقافته ولا تنطبق على جميع المجتمعات؟

يروي ابن كثير والبغوي أنه عندما أُنزِلَت سورةُ "اقرأ" على محمد انطلَقَت به خديجةُ حتى أتت به ورقةَ بن نوفل، وهو ابن عم خديجة، وكان نصرانياً، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتبَ بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أنْ يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجةُ: "أيْ ابنَ عم، اسمع من ابن أخيك". فقال ورقة: "ابن أخي، ما ترى؟" فأخبره محمد ما رأى، فقال ورقةُ: "هذا الناموس الذي أنزل على موسى".

هذه القصة توضح أنَّ القراءة والكتابةَ آنذاك لم تكنْ تتجاوز مجال الكتاب المقدَّس. وتشير القصة إلى علاقة محمد بورقة وإلى أنَّ ورقة كان يترجم الإنجيل بالعربية.

ويوضح محمد الطاهر ابن عاشور (في كتاب التحرير والتنوير):

"وافتتاحُ السورة بكلمة "اقرأ" إيذانٌ بأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيكون قارئاً، أي: تالياً كتاباً بعد أنْ لم يكن قد تلا كتاباً. قال تعالى: "وما كنتَ تتلو من قبله من كتاب"، أي: مِن قَبلِ نزولِ القرآن. [...] فالمطلوب بقوله: "اقرأ" أنْ يفعل القراءةَ في الحال أو المستقبل القريب من الحال، أيْ أنْ يقول ما سيُملَى عليه."

فالمقصود إذاً بالقراءة (بحسب القرآن والمفسرين) هو ترديد ما سيُملى على المرء. وهذا المعنى يناقض كلياً معنى العِلم.

أما العِلم المقصود في الإسلام فهو تعلُّم القرآن. وقد قالها القرآنُ صراحةً: "الرحمن علم القرآنَ خلق الإنسانَ علَّمه البيان" (الرحمن، 1-4)؛ "اقرأْ وربُّكَ الأكرمُ الذي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسانَ ما لم يَعْلَمْ" (العلق، 3-5). فالعِلم في الإسلام تلقيني ترديدي حفظي لا بحثي تجديدي.

ولكنْ للإشارة إلى أنَّ القرآن يحثُّ على البحث العلمي، يستشهد المسلمون بآيات عديدة منها: "سنريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" (فُصِّلَت، 53). ولكنَّ المفسرين كالطبري يفسِّرونها بمعنى أقرب إلى الوعيد والتهديد منه إلى البحث والتمحيص. فيقولون بأنَّ الله سيُري هؤلاء المشركين والمكذِّبين وقائعه بأطرافهم وبهم حتى يعلموا حقيقةَ ما أُنزِل إلى محمد. يقول القرطبي:
"قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" أيْ: علاماتِ وحدانيتنا وقدرتنا في الآفاق، يعني خراب منازل الأمم الخالية، وفي أنفسهم بالبلايا والأمراض. وقال ابنُ زيد: "في الآفاق": آيات السماء، "وفي أنفسهم": حوادث الأرض. وقال مجاهد: "في الآفاق": فتحُ القرى، فيسَّر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده وأنصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموماً، وفي ناحية المغرب خصوصاً، من الفتوح التي لم يتيسَّر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم, ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة وتغليب قليلهم على كثيرهم, وتسليط ضعفائهم على أقويائهم, وإجرائه على أيديهم أموراً خارجة عن المعهود خارقة للعادات. "وفي أنفسهم": فتح مكة."

وحتى إذا أطلقَ المسلمون معنى آية "سنريهم آياتِنا" ووسَّعوه ليشملَ النظرَ والتحرِّيَ فإنَّ ذلك لن يُـحَـــفِّــــزَ المجتمعاتِ الإسلاميةَ على البحث العلمي والإنتاج، إذْ إنَّ زَرْعَ هذا المعنى الجديدِ للآية في خافية المسلمين (في لاوعيهم) يجعلهم سلبيين منفعلين لا إيجابيين فاعلين. ففاعلُ "سنريهم" هو الضمير المستتر "نحن" يعود على الله، والضميرُ المتصل "هم" مفعول به يعود على الناس. فيصبح المعنى هو أنَّ الله يُظهِرُ "عِلمَه" وأنَّ واجب المسلمين المؤمنين تلقِّي هذا "العِلم" فقط. وهذه الفكرة السلبية تُـنافي مبدأَ البحث. وإننا لنرى صدى تلك السلبية في أجوبة كثير من شباب المسلمين العفوية وذات المغزى عندما يريدون تبريرَ تأخُّرِهم العلمي وتغطيةَ شعورهم بالنقص بقولهم: "هم [أيْ الأمم الأخرى] يخترعون ونحن نستفيد فلماذا نُـتعِب أنفسَنا؟! فالله قد سخَّرَ علماءَ الغرب والأمم الأخرى لخدمة أبناء المسلمين".

وعندما أصبح عامةُ المسلمين سلبيين منفعلين غيرَ فاعلين، بسبب قناعاتهم وعقيدتهم، صاروا مستهلِكين أكثرَ مما هم منتجون، مما أدَّى إلى تشكُّل عقدة النقص فيهم وانكفائهم وانطوائهم وتراجعهم. وقد أدركَ جبران خليل جبران ذلك منذ حوالي مئة عام عندما صرخَ في وجه أُمَّتِه: "ويلٌ لأُمَّةٍ تلبس مما لا تنسج وتأكل مما لا تزرع وتشرب مما لا تعصر". وهكذا يعيش المسلمُ حالةَ تمزُّق نفسي ونزاع داخلي بين عقيدته بأنَّ دِينَه خيرُ دِين وبأنه هو كمسلم أَفْضَلُ من الآخر غير المسلم من جهة وبين شعوره بأنَّ غير المسلم متفوِّق عليه وبأنه ينتمي إلى أُمَّة متأخِّرة عن ركب الحضارة من جهة أخرى.

وإذا قال القرآن في آية أخرى: "قلْ انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عن قومٍ لا يُؤْمنون" (يونس، 101) فإن الفعل "انظروا" ليس أقلَّ سلبية من الفعل "سنريهم". لأنَّ الآية تعني طلب النظر في الكواكب والأرض بهدف الإيمان بالله وليس بهدف الاكتشاف والرصد المجرَّد. لاحِظوا ماذا يقول الطبري في تفسير الآية: "قل، يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، السائليكَ الآياتِ على صحة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا، أيها القوم، ماذا في السماوات من الآيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله." ويقول القرطبي: "[المعنى هو] أمرٌ للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع." وبالتالي متى آمن الإنسانُ بالإسلام انتفت الحاجةُ إلى النظر.

فالغايةُ من التفكر في خلق السماوات والأرض هي الإقرار بالربوبية وذِكْر الله: "إنَّ في خَلقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربَّنا ما خلقْتَ هذا باطلاً سبحانَكَ فقِــنا عذابَ النار". (آل عمران، الآيتان 190 و191).

ويقول الطبري في تفسير "فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلِق" (سورة الطارق، 5): "فلينظر الإنسانُ المكذِّب بالبعث بعد الممات المنكرُ قدرةَ الله على إحيائه بعد مماته مِمَّ خُلِق." ويقول في تفسير "فلينظر الإنسانُ إلى طعامه" (سورة عبس، 24): "فلينظر هذا الإنسانُ الكافر المنكر توحيدَ الله إلى طعامه كيف دبَّرَه."

أليست إذاً الغايةُ مِنْ طلبِ القرآنِ التفكُّرَ والنظرَ هي إثبات صحة عقيدة القرآن وقبول رسالة محمد؟! بالمقابل، هل غاية العلم هي إثبات صحة عقيدة ما أم هي رؤية الأشياء على ما هي عليه؟

نلاحظ أيضاً أنَّ أغلب الآياتِ التي يستشهد بها المسلمون لإثبات أنَّ القرآن يوصي بطلب العِلم موجَّهة، بحسب المفسرين، إلى الكفار لا إلى المسلمين، وكأنَّ المسلمين لا حاجةَ لهم إلى العِلم فلديهم كتاب جامع هو القرآن، ولهذه الآياتِ غايةٌ سياسية محدَّدة وتندرج ضمن إطار نزاع مع الآخر المختلِف في محاولة لإدخاله في الدِّين والسيطرة عليه.

أما بشأن تفسير آية "وقل ربِّ زدني علماً" (طه، 114) التي جُعِلَت شعاراً لجامعة دمشق (والتي تسبقها الجملة التالية في سياق النص: "ولا تعجل بالقرآن مِن قَبلِ أنْ يُقضى إليك وحيُه") فيقول الطبري:
"ولا تعجل يا محمد بالقرآن فتُـقرِئه أصحابَك أو تقرأه عليهم مِن قَبلِ أنْ يوحَى إليك بيانُ معانيه، فعوتِبَ على إكتابه وإملائه ما كان اللهُ يُنزِلُه عليه مِنْ كِتابِه مَنْ كان يُــكتِـبه ذلك، مِنْ قَـبْـلِ أنْ يُبيِّنَ له معانيَه. وقيل: لا تتْــلُه على أحد ولا تُـمْـلِه عليه حتى نبيِّنَه لك. [...] وقلْ يا محمد: ربِّ زدني عِلماً إلى ما علَّمتَني."
ويقول القرطبي: "وقل ربِّ زدني علماً، أيْ: فهماً". ويصرِّح البغوي بقوله: "وقل ربِّ زدني عِلماً يعني بالقرآن ومعانيه". ويؤكد أيضاً محمد بن علي بن محمد الشوكاني (في: تفسير القرآن: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية) أنَّ المقصود بالعِلم في الآية هو عِلم الكتاب [القرآن]، فيقول: "وقل رب زدني علماً أنْ سَلْ ربَّــكَ زيادةَ العلم بكتابه".

أما آية "إنما يخشى اللهَ مِن عبادِه العلماءُ" (فاطر، 28) فيقول الطبري في تفسيرها: "إنما يخافُ اللهَ فيتَّـــقي عقابَه بطاعتِه العلماءُ". ويقول ابن كثير: "إنما يخشاه حقَّ خشيتِه العلماءُ العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفةُ للعظيم القديم أتمَّ، والعِلمُ به أكمل، كانت الخشيةُ له أعظمَ وأكثر." ويقول القرطبي: "يعني بالعلماء الذين يخافون قدرتَه، فمن عَلِمَ أنه عز وجل قدير أيقنَ بمعاقبته على المعصية". ورُويَ عن ابن عباس قولُه: "[العلماء هم] الذين علِموا أنَّ الله على كل شيء قدير". وقال الربيع بن أنس: "من لم يخشَ اللهَ فليس بعالِم". ويؤكد سيد قطب في تفسير الظلال: "والعلماءُ هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب، ومن ثم يعرفون اللهَ معرفةً حقيقية". مما يعني أنَّ مفهوم العالِم والعِلم في القرآن يتمحور حول فكرة الخوف أولاً وحول دراسة القرآن والإيمان به خوفاً وطمعاً ثانياً. والخوفُ هو أحد أهم الأسباب في نشوء الأديان والسلطات وأحد أهم الأدوات التي تستخدمها المؤسساتُ الدينية للسيطرة، لأنَّ الخوف يؤدِّي إلى الطاعة. والخوفُ والعِلمُ لا يجتمعانِ، بعكس ما يرى فقهاءُ المسلمين. لأنَّ العِلم يَـنتُـج عن تمام فهم العلاقة، بينما يَــنتُــج الخوفُ، بحسب جِدُّو كريشنامورتي، عن عدم تمام فهمنا للعلاقة مع الآخر، إذْ يقول:
"ينوجد [الخوفُ] عندما يكون فهمُنا للعلاقة غير تام. العلاقة ليست بين الناس وحسب، بل بين أنفسنا والطبيعة، بين أنفسنا والمقتنيات، بين أنفسنا والأفكار؛ ومادامت هذه العلاقةُ غيرَ مفهومةٍ تمامَ فهمِها لا مفرَّ من الخوف. الحياة هي العلاقة. الوجود هو العلاقة، ومن دون علاقة لا حياة ثمة."
وبالتالي فإنَّ الأشياء والأفكار التي أوجدَها الخوفُ هي ضد الحياة لأنها تُشوِّه العلاقةَ مع الآخر ومع الذات. والأديانُ هي بناتُ الخوفِ، الخوفِ من المجهول، من جهة، وتغذِّي الخوفَ من جهة أخرى. كما أنَّ الأديان، وبتعبير أدق المؤسسات الدينية، تقوم على علاقة نزاعية مع الآخر وترفض الآخرَ الذي لا ينضوي تحت سلطتها. وقد عبَّر عن تلك النزعة النزاعية الرافضة حديثُ عائشة عن نبي الإسلام: آخِرُ ما عُهِدَ إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "لا يُــتْرَكُ بجزيرةِ العرب دِينانِ" (رواه أحمد والطبراني) وكذلك حديثُ البخاري ومسلم: "أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب".

ويقول الطبري في تفسير آية "قل: هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون؟" (الزمر، 9): "قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات والذين لا يعلمون ذلك؟" ويؤكد ابن كثير: "هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أنداداً ليُـضِلَّ عن سبيله". وسياق الآية يشير إلى أنَّ المقصود هو أنه لا يستوي من يجعل لله أنداداً ليُضِلَّ عن سبيله مع من يسجد لله ويرجو رحمته. وبالتالي تحمل هذه الآية عنصريةً دينية لأنها تريد أنْ تقول: لا يستوي المسلم مع غير المسلم.

أما في تفسير الآية "يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات" (المجادلة، 11) فيقول الطبري:
"يرفع الله المؤمنين منكم بطاعتهم ربَّهم فيما أمرَهم به من التفسُّح في المجلس إذا قيل لهم تفسَّحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العِلمَ من أهلِ الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العِلمَ بفضل عِلمِهم درجاتٍ، إذا عمِلوا بما أُمِروا به."
وفي هذا إشارة إلى أنَّ الطاعة هي معيار العِلم الإسلامي والسببُ في رفع الدرجات.
ويقول القرطبي:
"يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، أي: في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالِم على من ليس بعالِم. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات، أي: درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به."
والمقصود أنَّ الذين يُرفَعون درجاتٍ في الدين أو في ثواب الآخرة هم المؤمنون بالإسلام والمطيعون المطبِّقون لأحكامه وليس الذين يقومون بالبحث العلمي.

هذا هو مفهوم العِلم في القرآن والذي يؤكده حديثُ البخاري عن عثمان بن عفان: "خيرُكم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمه" وحديثُ مسلم عن أبي هريرة: "من سلكَ طريقاً يلتمس فيه عِلماً فإنَّ الله يسهِّل له بذلك طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفَّتهم الملائكةُ ونزلت عليهم السكينةُ وغشيتهم الرحمةُ وذكرهم الله فيمن عنده".

وقد وصفَ القرآنُ الذين يؤمنون بكتاب مقدَّس إبراهيمي (يهودي أو نصراني أو مسلم) بقوله: "الذين أوتوا العلم". قال ابن عاشور: "الذين أوتوا العلم فسَّره بعضُ المفسرين بأنهم علماءُ أهل الكتاب من اليهود والنصارى". وقال الطبري: "هم أصحاب محمد". وقال القرطبي: "قال مقاتل: الذين أوتوا العلم هم مؤمنو أهل الكتاب".

وبحسب الآية: "هو الذي بَعثَ في الأُمِّيِّينَ رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِه ويزكيهم ويعلِّمُهم الكتابَ والحكمةَ وِإنْ كانوا مِن قَــبْــلُ لفي ضلالٍ مُبِين" (الجمعة، 2) فإنَّ مهمة محمد كانت تعليمَ الأميين، أيْ: إعطاءَ مَن ليس لديهم عِلْمٌ عِلْماً، أيْ أنْ يضعَ، أسوةً باليهود والنصارى أهلِ الكتاب، كتاباً مقدَّساً لقومه الوثنيين الذين لم يكنْ لهم كتاب مقدَّس. حيث إنَّ كلمة "الأميين" في التعبير القرآني تُـقابِل في لغة الكتاب المقدَّس كلمةَ Gentils (وتعني: الأمم غير المؤمنة، الأغيار، وهي ترجمة للكلمة العبرية غوييم Goyim [الأغيار، غير اليهود])، وهم الأمم الذين ليس لهم كتاب ديني دستوري يتَّخِذونه مرجِعاً. وعليه، فقد كان أكثرُ العرب قبل الإسلام أميين، أيْ وثنيين، ليس لأنهم لا يقرؤون الأبجديةَ، لأنَّ منهم من يقرأ، بل لأنه لم يكنْ لديهم كتاب مقدَّس "سماوي" (نموذج بدْئي Archétype جمعي) يرجعون إليه؛ فأُمِّيتهم ليست لغوية بل دينية.

من ناحية لغوية فإنَّ كلمة "الأُمِّيّ" المستخدَمة في القرآن هي نسبة إلى "الأمم" (Gentiles). أيْ أنَّ كلمة "الأُمِّي" وُضِعَت في الحقيقة كترجمة لكلمة غوييم Goyim العِبرية أو لكلمة Gentiles اللاتينية. فإذا أردنا أنْ ننسبَ إلى كلمة "الأُمَم" (التي هي جمع تكسير لكلمة "الأُمَّة") فيجب علينا تطبيق قاعدة النسب إلى جمع التكسير (في العربية وخاصة بحسب البصريين) وهي أنْ نَــرُدَّ الجمعَ إلى واحِدِهِ ثم ننسب إلى هذا الواحد (باستثناء الشواذ التي نُسِبَت إلى الجمع للضرورة مثل: أنصاري وصَحابي وأعرابي)؛ أيْ يجب أنْ ننسبَ إلى كلمة "أُمَّة". وقاعدةُ النسبة إلى الاسم المختوم بتاء التأنيث هي أنْ تُحذَف تاؤُه حين النسب (مثل النسبة إلى مكَّة: مَكِّيّ). فتصبح النسبة إلى "الأُمم" هي "الأُمِّيّ".

العِلم بحسب لغة القرآن هو إذاً معرفة الكتاب المقدس والقرآن. والعالِم (الذي أوتي العِلْمَ، الذي عنده عِلْم) هو من يعرِف بهما معرفةً عقائدية ويؤمن بهما. لاحِظوا كيف قرَنَ القرآنُ بين "الذي عنده عِلم" وبين "الكِتاب": "قالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِن الكِتابِ أنا آتيك به قبلَ أنْ يَرْتَدَّ إليك طَرْفُــكَ" (النمل، 40)، أيْ أنَّ العِلم في الإسلام يساوي العقيدة. عِلماً أنَّ العِلم في الواقع نقيضُ العقيدة.

وبناء على معنى العلم بحسب القرآن والسنة (وهو معنى تلقيني: حفظ وذكر وتكرار ونظر وتفكر بهدف الاعتبار والإيمان) فقد سُـمِّي رجالُ الدين المسلمون وفقهاؤهم بالعلماء!

مفهوم العِلم هذا بعيد عن مفهوم العِلم البحثي والتجريبي. وبالتالي تغلغلُ هذا المفهومِ في خافية المجتمع يؤدي مع الزمن إلى غياب المفهوم الحقيقي للعلم، مما يؤدِّي إلى تثبيط العقول لأنها أصبحَتْ تعتمد على النقل والحفظ، أي اقتصرت على الذاكرة فقط فأصبحَت أوعيةً تحفظ ما يُستودَع فيها ولم تعدْ نوراً يكتشف المجهول. وعندما يتحول العِلم في مجتمعٍ إلى عقيدة يتراجع البحثُ والتجريب لديه ويتعقَّد المجتمعُ ويتجمَّد ويتحجَّر ويتقهقر.

ولذلك قلنا في مقالات سابقة بأنَّ إيمان المسلمين بالقرآن على أنه كلام الله الجامع للحقيقة قتلَ فيهم روحَ الإبداع وثبَّطَ عقولَهم وأعاقهم عن البحث العلمي غير المشروط فأصبحَت أمةُ الإسلام ميتةً ولكنْ تتنفس وتستهلك. فحياةُ الأمم بالعِلم، ومتى توقَّفَت الأُمةُ عن الإنتاج العلمي أو ضعُفَت فيه تقهقرَت.

لا ننكر أنه كان للقرآن دور مهم في تنشيط بعض العلوم الاجتماعية واللغوية وعلم الكلام في عصره وبيئته، ولكن ليس بسبب قيمته الفنية واللغوية والبلاغية والأدبية والعلمية، بل لأنه كان الكتاب الوحيد الذي يُعَــبِّر عن الجماعة اللغوية والعِرقية العربية. فكان القرآنُ كالدستور تماماً، قِيمتُه في سلطته القانونية والقومية لا في عمق أفكاره وبلاغتها وعِلْميتها. فنجاحُ القرآن مرَدُّه إلى فرضِه بقرار سياسي لا إلى قيمته كنص. وهو بذلك يشبه أقوالَ الحُــكَّام العرب التي تُفرَض على الشعوب بالقوة وتُكتَب الكتبُ في مَدح عمقها رغم سطحيتها وتهافُتِها وفي إظهار بلاغتها رغم أنها لا تقول شيئاً. وقد أظهرَ الشيخُ أحمد القبانجي الضعفَ البلاغي في القرآن من خلال نقده لسورة الرحمن من الناحية البلاغية. ونرى أنَّ الضعف البلاغي للقرآن ناجم عن كون النص القرآني مترجَماً إلى العربية ومجموعاً من عدة نصوص متفرِّقة وقد تأثَّرَ بأسلوب النصوص الأصلية التي تُرجِــمَ عنها. وقد أوضحَ ديــﭭ-;-ــيد بيلُّوس في كتابه Le poisson et le Bananier: Une histoire fabuleuse de la traduction [السمكة وشجرة الموز: قصة رائعة عن الترجمة] (منشورات فلاماريون Flammarion، 2012، ص 208) في حديثه عن ترجمة الرواية بين الإنكليزية والفرنسية أنَّ المعيار اللغوي الذي يتقيَّد به المترجِمون (من حيث يدرون أو من حيث لا يدرون) غير مطابق للعُرف اللغوي للناطقين الأصليين باللغة المترجَم إليها. ولهذا كان أسلوب القرآن مختلفاً عن العرف اللغوي العربي السائد آنذاك وكانت طريقتُه في استعمال الألفاظ تختلف عن الطريقة المتعارَف عليها.

هذا الدستور الذي هو القرآن انتهت صلاحيته منذ زمن بعيد وذلك بعد أنْ أدَّى دوره القومي. فكلُّ أحكامه ومفاهيمِه تخصُّ بعضَ العرب في القرون الوسطى في شبه الجزيرة العربية. وعلى الرغم من أنَّ مفهوم القرآن عن العِلم لا يمتُّ إلى العِلم بل إلى ثقافات القرون الوسطى وعقائدها، مازال المسلمون يُصِرُّون على التمسك بفكرة أنَّ القرآن يحثُّ على العِلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الجاهلية
بلبل عبد النهد ( 2013 / 6 / 5 - 20:46 )
من يقصد بالجاهلية ما قبل الاسلام فهو واهم اللغة اخترعت قبل الاسلام هذه اللغة التي وجدها الاه المسلمين جاهزة ليستغلها دون عناء ويكتب بها تخاريفه القرانية وهكذا فالجاهلية بدات مع الاسلام


2 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 6 / 6 - 00:34 )
السؤال : هل نسي الكاتب أن القرآن خاطب العقل 79 مره؟... هل نسي الكاتب أن القرآن الكريم توافقت آياته مع كثيراً من النظريّات العلميّه؟ .
يقول الشاعر الألماني الشهير غوته : (كلما قرأت القرآن شعرت أن روحي تهتز داخل جسمي... القرآن كتاب الكتب، وإني أعتقد هذا كما يعتقده كل مسلم).
يقول أرنست رينان : (عندما تستمع إلى آياته تأخذك رجفة الإعجاب والحب، وبعد أن تتوغل في دراسة روح التشريع فيه لا يسعك إلا أن تعظــّم هذا الكتاب العلوي وتقدّسه) .


3 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 6 / 6 - 04:08 )
السؤال : هل نسي الكاتب أن القرآن خاطب العقل 79 مره؟... هل نسي الكاتب أن القرآن الكريم توافقت آياته مع كثيراً من النظريّات العلميّه؟ .
يقول الشاعر الألماني الشهير غوته : (كلما قرأت القرآن شعرت أن روحي تهتز داخل جسمي... القرآن كتاب الكتب، وإني أعتقد هذا كما يعتقده كل مسلم).
يقول أرنست رينان : (عندما تستمع إلى آياته تأخذك رجفة الإعجاب والحب، وبعد أن تتوغل في دراسة روح التشريع فيه لا يسعك إلا أن تعظــّم هذا الكتاب العلوي وتقدّسه) .


4 - من النظريّات العلميّه
طالب ( 2013 / 6 / 6 - 10:40 )
هل نسي الكاتب انه حتى رئيس الولايات المتحدة الامريكية جورج بوش قال ان الاسلام دين سلام؟؟؟ ومن النظريّات العلميّه الاسلامية التي تطبق في امريكا والمانيا و فرنسا طبعا هي نظيرة مسح المؤخرة بثلاثة حجرات ونظرية طمس جناح الذبابة في القهوة وشرب بول البعير المثلج و نظرية دخول الحمام ونظرية التمر الذي يحل مشاكل العالم كلها ونظرية العطاس من الرحمن والتثائب من الشيطان...لا تتثائب بفم مفتوح والا بال الشيطان في فمك...طبعا هذةه عينة بسيطة من النظريات الاسلامية التي لا يستغي عنها الغرب...والان الغرب يجري دراسات خاصة عن قابلية الوزغ فى النفخ لاستخدامه كبديل لطاقة البترول في تدوير المحركات الحديثة


5 - - تعليق
فائز عادل ( 2013 / 6 / 6 - 10:54 )
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ-;- فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰ-;-كِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.)


6 - للأخ عبدالله خلف
أبو العلاء ( 2013 / 6 / 6 - 19:56 )
أين مدح الشاعر الألماني الشهير غوته محمد. ما إسم الكتاب و رقم الصفحة؟
نفس الشئ بالنسبة لأرنست رينان. أتحداك أن تأتيني بإسم الكتاب والصفحة

أتعرف ماذا قال العظماء عن الإسلام ؟
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=362603



شاهد كيف يتفنن المسلمون بترويج الأكاذيب حول محمد
http://www.youtube.com/watch?v=60z0-bH-baU&feature=youtu.be

http://www.youtube.com/watch?v=SgsEPUkd3q8&feature=youtu.be


7 - انا سعيد
كامل حرب ( 2013 / 6 / 7 - 04:46 )
السيد الكاتب الكريم ,انا سعيد لاننا الان نملك الاليات من خلال النت والفضائيات على توجيه اضواء ساطعه وكاشفه لفضح خزعبلات القران ,فى الماضى كان الشيوخ الكذبه المجرمين يصولوا ويجولوا ويرهبوا ويهددوا ويديروا بزنس للضحك على المسلمين السذج ويبيعوا فتاوى اسلاميه مضحكه وعبيطه وتهبط عليهم الاموال وتمتلئ كروشهم ,اما الان فان الوضع اختلف والاسلام انفضح وتعرى وظهرت مصائبه وتناقضاته ,انها بدايه النهايه للاسلام الرهيب الدموى والذى انتشر للاسف بحد السيف

اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص