الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحنُّ إلى زمن المصاطب

محمود عبد الغفار غيضان

2013 / 6 / 6
كتابات ساخرة


أحنُّ إلى زمن المصاطب

أيتها التكنولوجيا! أنا أتحدث إليك الآن بكل صدق. أشكرك على أشياء كثيرة؛ تُحضرين العالم كله وتضعينه بين أيدينا أينما ذهبنا.. تُمعنين في الترفيه عنا.. بضغطة زر واحدة على هاتفي أسمع صوت أمي من مسافة عشرة آلاف كيلو محبةَ واشتياقًا.. وبضغطة زر واحدة كذلك أرى صور الأهل والأصدقاء وأشاركهم أفكارهم في اللحظة ذاتها... أجلس في مكتبة الكرة الأرضية ومقهاها ودار عرضها ومسرحها الكبير.. لكنكِ وبكل أسف تسرقين أهم ما نحتاج أن نستمتع به في هذه الحياة : الزمن، والمقربين مِن الناس. تسيرين بنا نحو مزيد من التقدم وتسلبيننا إنسانيتنا. نعم. أنا شخصيًّا أشعر بذلك.. إنسانيتي تتآكل بالتدريج في هذا العالم المسعور ... تبدو لي كقطعة حديد نُزع عنها الطلاء وتُركت وحيدة في العراء... سأضرب لك مثلاً لعلك تفهمينني فتجدين سبيلاً للرد عليّ. كنا لا ننام لمشهد قتل مرعبٍ في أحد الأفلام.. بينما الآن.. نرى مشاهد قطع الرؤوس على ساحة السيد "يوتيوب" ثم نكمل ارتشاف القهوة بعد تغيير الموضوع متظاهرين ببعض الألم الذي ربما تتفوق عليه وخزة واحدة لناموسة طاعنة في السن... كنًّا نخاف أن نلتفتَ للحظة بعيدًا عن وجه محدثنا أدبًا واحترامًا.. الآن يجلس معي ذلك الصديق ولا يكف عن استخدام الهاتف مكتفيًا بالاعتذار أول مرة عن لمسه ومتعللاً بضرورة الرد.. تعرفين! لقد قررت أني لن أستخدم هاتفي بعد الثامنة مساء بمجرد عودتي إلى بلدي. وسأحرم الكمبيوتر مني كذلك في ذلك الوقت حتى الصباح.. إن كنتِ تفرضين عليَّ إيقاعًا لاهثًا.. فمعذرة لن أخرج لساني لاهثًا خلفك ككلب أدماه العطش.. سأفرض عليك أنا إيقاعي.. وصدقيني.. أنا أستطيع ذلك والأيام بيننا..

عزيزتي التكنولوجيا.. خذي آي فونك" وكمبيوترك الحديث ومكيفك وثلاجاتك وغيرها مما تتباهين به علينا.. لن أقول إنها أشياء غير مفيدة؛ خاصة والكهرباء لا تتوقف عن الانقطاع في بلدي. لا. أنا لستُ ناكرًا للجميل. لكني عزيزتي أحنُّ إلى بيوت قريتي بالطوب اللبن. بشوارعها المغبرة بتراب جلبة الخير كل صباح ومساء حيث يقف الزمن مرتين ليفتح جفن الحقول مع نسيم الفجر ويطبقهما بكل الخير مع حاجة الشمس لبعض الراحة بعد يوم عمل طويل. أحنُّ إلى طبق الطبيخ الذي تُحضره جارتنا لأمي قبل أن تمنع البوابات الحديدية الحديثة السمجة وصوله إلينا. أحنُّ إلى لهفة أمي توزيع طعامها والحلوى على الجيران بعد أن علت الجدران بين الجميع. أحن إلى جلسة المصطبة مع أكواب الشاي والضحكات الصافية لجالسين لا يملكون شيئًا سوى الحب لكنهم مع ذلك لا يهابون شيئًا. أحِنُّ إلى زمنٍ تتوقف فيه الأفراح بالعام لو مات أحد كبار العائلات في القرية. إلى انتظار اليوم الأربعين ليخرج أحدهم بعد الصلاة معلنًا فك الحزن كي يفرح مَن ينتظر الفرح.. إلى أن أنادي كل كبار السن بجدي وخالي وعمي حتى لو لكم أكن أعرفهم... تعرفين. بالأمس القريب في قريتي تلك. كان الميت قد دُفن للتو. وفي المنزل المجاور "دي جيه" صاخب في وقاحته ونطاعته. عزيزتي التكنولوجيا. آن وقت الاستمتاع بكوكب الشرق مع ذكريات لأصدقاء الثانوية العامة على الطريق بين غيضان والمشرك قبلي. نجلس بين الحقول. نضع الراديو الترانزستور بجابنا. ثم نسمع الوصلة الأخيرة على إذاعتها ونتحدث عن كل شيء وأي شيء دون ضجيج أو صخب. أقول لك الآن تصبحين على خير وللحديث بقية إن شاء الله.

محمود عبد الغفار غيضان
7 يونيو 2013م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و