الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ فلسطين العثماني - الحلقة الأولى - فلسطين في العهد العثماني المبكر

ماهر الشريف

2013 / 6 / 13
القضية الفلسطينية



تاريخ فلسطين العثماني

الحلقة الأولى

فلسطين في العهد العثماني المبكر

ازدهرت في العقود الثلاثة الأخيرة الكتابات التاريخية العربية عن فلسطين في العهد العثماني، إلا أن المرحلة الأخيرة من العهد العثماني، التي تغطي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، هي التي استأثرت، حتى الآن، بالاهتمام الأكبر من جانب الباحثين. وبينما ظهر، في السنوات الأخيرة، عدد قليل من الأبحاث والدراسات التي تطرقت إلى تاريخ فلسطين العثماني في القرن الثامن عشر، يُلاحظ أن المرحلة الأولى من العهد العثماني، التي تغطي القرنين السادس عشر والسابع عشر، لا تزال تنتظر أبحاثاً ودراسات تاريخية عربية تعالجها.

طبيعة الدراسات العثمانية وإشكالياتها
يعتبر عادل مناع، وهو من أبرز الباحثين الفلسطينيين الذين انشغلوا بتاريخ فلسطين العثماني، أن معظم الكتابات عن تاريخ فلسطين في ذلك العهد قد افتقدت إلى الموضوعية، وذلك نتيجة تأثرها بنزعتين إيديولوجيتين متقابلتين: نزعة قومة عربية برزت في مطلع القرن العشرين، من جهة، ونزعة إسلامية برزت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، من جهة ثانية.

فالكتابات التي خضعت لتأثير الإيديولوجية القومية العربية، امتلات –كما يرى- " بالتعميمات النمطية التي تدمغ العهد العثماني كله بالاستبداد والقمع والتأخر"، وتصف الحكم العثماني وإدارته " بالفساد وانتشار الرشوة والمحسوبية وإرهاب السكان وجباية الضرائب الباهظة ". أما الكتابات التي خضعت لتأثير الإيديولوجية الإسلامية، فقد طغى عليها " التباكي على زوال الخلافة الإسلامية وإبراز محاسن الحكم العثماني الزائل قياساً بحكم الاستعمارين الفرنسي والبريطاني" (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 2- 3).

ونتيجة كثرة الكتابات التاريخية "الأيديولوجية" وقلة الدراسات "الجيدة والجادة"، تبرز –كما يستخلص مناع- " أهمية ودور المؤرخين المختصين بالعهد العثماني، كما تزداد أهمية نشر دراساتهم وأبحاثهم خارج إطار الجامعة كي تصل إلى الجمهور الواسع لتعريف الأجيال الجديدة بحقيقة العهد العثماني، بإيجابياته وسلبياته، بعيداً عن التعميم والتسطيح السائدين" (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 4).

أما الباحث الفلسطيني الآخر بشارة دوماني، الذي ينطلق من الحاجة إلى دراسات " تعتمد منظوراً من الأسفل إلى الأعلى للتاريخ العثماني، وتعيد تقويم تاريخ فلسطين الحديث بتدوين دور سكانها في الرواية التاريخية "، فيأخذ على معظم الكتابات العربية عن التاريخ العثماني كونها قد استعملت الدولة منطلقاً أساسياً للتحليل، وذلك بالاستناد إلى المحفوظات العثمانية المركزية، أو ركّزت اهتمامها على عواصم الولايات، مثل القاهرة أو دمشق أو حلب أو بيروت، وعدّتها نقاط انطلاق، بينما تجاهلت ما أسماه بالمدن "البروفنسالية"، أي التي تسود فيها البيئة الثقافية والاجتماعية الريفية، وأريافها، والتي " شكّلت مواطن أغلبية الرعايا العثمانيين"، علماً بأن بقاء الإمبراطورية العثمانية ومدن تجارتها الدولية كان قائماً بصورة جوهرية –كما يتابع- على تمكّنها من الوصول إلى الفائض الزراعي للفلاحين والنشاط التجاري للتجار في هذه المدن "البروفنسالية" (دوماني، إعادة اكتشاف فلسطين...، ص 9-11).

ويرجع دوماني هذا التجاهل للمناطق الداخلية من الإمبراطورية العثمانية إلى الخطاب التاريخي، عن العصر الحديث، الذي هيمنت عليه " رواية واحدة مظلَّلة "، وهي " الضم المتدرج أو دمج الإمبراطورية العثمانية في المدارين السياسي والاقتصادي الأوروبيين"، في القرن التاسع عشر. فنتيجة هيمنة هذه الرواية، " أوليت المراكز الحضرية التي كانت رأس جسر للتوسع الغربي والنزعة المركزية الأوروبية –يافا وحيفا والقدس- اهتماماً اكثر كثيراً مما أُوليت مناطق الداخل الجبلية –مثل جبل نابلس- التي كان يعيش فيها معظم السكان حتى أوائل القرن التاسع عشر". وكانت الحصيلة المركبة لذلك كله " الإهمال العام للعمليات الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية الأساسية، والأهم منه استبعاد الأهالي عن الرواية التاريخية " (دوماني، إعادة اكتشاف فلسطين...، ص 13- 16).

وبافتراضه أن الكثير من المؤسسات والممارسات التي يُفترض أنها من نتائج تحوّل رأسمالي مفروض من الخارج، "كان قائماً قبل الهيمنة الأوروبية" في القرن التاسع عشر، يدعو دوماني الباحثين إلى تركيز اهتمامهم على هذه المدن "البروفنسالية" وأريافها والعمل على دفع حدود أبحاثهم إلى أعتابها.

مصادر دراسة تاريخ فلسطين العثماني
صار الباحث في تاريخ فلسطين العثماني يستند، في الأساس، إلى وثائق المحفوظات العثمانية، مثل سجلات المحاكم الشرعية، وسجلات مجالس الشورى، ودفاتر الأراضي العثمانية، وكتب السالنامة - وهي كتب سنوية كانت تصدرها الدولة العثمانية وتتناول فيها التنظيم الإداري في ولايات الدولة كافة - بالإضافة إلى الأوراق العائلية، وأرشيفات الكنائس، وتقارير القناصل، وكتابات الرحالة الأجانب، والصحف.

فالباحث الفلسطيني موسى سرور، الذي اشتغل على تاريخ القدس العثمانية، يعتبر أن وثائق المحاكم الشرعية هي " من أهم المصادر بالنسبة لأنواع الحياة المختلفة في الولايات العثمانية عامة وفي القدس خاصة، لما تميّزت به بالأقدمية عن غيرها من بلاد الشام، إذ يعود تاريخ أقدم سجل إلى عام 1529".

فسجلات المحكمة الشرعية في القدس، تكشف " عن الكثير من تفصيلات الحياة اليومية للمجتمع المدني في القدس العثمانية "، حيث تعالج التفاعلات السياسية في المدينة وجوارها، كما تلقي الضوء على العلاقات الاقتصادية المتشابكة داخل هذا المجتمع، بالإضافة إلى العلاقات الاجتماعية وتفاعلاتها، بما في ذلك قضايا مُلكية الأراضي، وطبيعة السكان وطوائفهم الدينية وتوجهاتهم الثقافية ومستوى معيشتهم، ومكانة المرأة، وعلاقات المدينة بالقرى والأرياف التابعة لها، وتبؤ المناصب الإدراية والقضائية والتعليمية والدينية من قبل أفراد فئة الأعيان والأشراف والعلماء (سرور، سجلات محكمة القدس الشرعية، ص 23-32).
بيد أن الباحث في سجلات المحكمة الشرعية، يواجه – كما يلاحظ سرور- صعوبات جمة، مثل غياب الدراسات الأساسية حول هذه السجلات، وانعدام الفهرسة الإحصائية والمسحية لمضونها، ورداءة الخط أو التداخل ما بين اللغة العربية الفصحى والعامية واللغة العثمانية، ومشكلة ضبط المصطلحات وتحديدها (سرور، سجلات محكمة القدس الشرعية، ص 32-35).

ومع أن بشارة دوماني قد استند، في دراسته لأهالي جبل نابلس، إلى سجلات محكمة نابلس الشرعية، التي " تتيح وفرة من التفصيلات عن الحياة الاجتماعية، ولا سيما في المجال المديني، وعن العلاقات المدينية-الريفية "، كما استند إلى مراسلات مجلس شورى نابلس، التي " تحتوي على معلومات عن تلك المجالات السياسية والإدارية والمالية التي تقع خارج نطاق المحكمة الشرعية "، إلا أنه أخذ على سجلات المحكمة وسجلات مجلس الشورى كونها نتاج مؤسسات اجتماعية، وهي بالتالي " مدبَّجة بلغة تلك المؤسسات وكلامها "، حيث كانت محكمة نابلس الشرعية "تخدم، في معظم الأحيان، حاجات ذوي الأملاك من تجار الطبقة الوسطى المدينية، والأثرياء من أصحاب الحرف والزعماء الدينيين "، بينما كان أعضاء مجلس الشورى، الذين كانوا يلعبون دور الوسيط بين الحكومة المركزية والسكان المحليين، "يحرصون على أن يقدموا لرؤسائهم صورة منمَّقة للاقتصاد السياسي والحياة الثقافية في جبل نابلس، من جهة، ويتفننون في تفسير مطالب الحكومة المركزية للسكان المحليين، من جهة أخرى " (دوماني، إعادة اكتشاف فلسطين...، ص 20-21).

ولتلافي القصور في هذين المصدرين التاريخيين، لجأ دوماني إلى مجموعة واسعة من الأوراق العائلية الخاصة، التي تتضمن " عقود معاملات بين التجار والحرفيين والفلاحين، ودفاتر حسابات، ووقفيات، ومراسلات شخصية ونزاعات بشأن الملكية"، وتتيح " ترسّم التحولات في طريقة مزاولة الأعمال وأنماط الاستثمار" ، وتكتسي بذلك أهميتها، كغيرها من الأرشيفات المنتجة محلياً، من كونها " تستحضر المجتمع الفلسطيني المفعم بالتفاصيل والظلال، لأن تركيزها غالباً ما يكون على الناس"، وهي في وسعها أن تشكّل أساساً " لأرشيف شعبي فلسطيني، الأمر الذي ثبُت أنه ميدان تدريب للأجيال الجديدة من الباحثين الفلسطينيين" (دوماني، "مدخل: أرشفة فلسطين والفلسطينيين: إرث إحسان النمر "، ص 18-19).

مراحل تاريخ فلسطين العثماني
يُنسب العثمانيون إلى زعيمهم الأول عثمان، الذي نجح في إقامة إمارة في منطقة الأناضول على تخوم الإمبراطورية البيزنطية في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي. وقد توسعت هذه الإمارة، بالتدريج، على حساب الدولة البيزنطية من جهة، وبعض إمارات الغزاة المجاورة من جهة أخرى. وفي عام 1453، تمكن العثمانيون من فتح مدينة القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، وورثوا ممتلكاتها في منطقتي الأناضول والبلقان. وفي عامَي 1516 و 1517، استغل السلطان سليم الأول الضعف الشديد الذي كانت تعانيه دولة المماليك في بلاد الشام ومصر، ونجحت جيوشه، في معركة "مرج دابق" بالقرب من حلب، في 24 آب 1516، في الانتصار على جيش المماليك وقتل السلطان قانصوه الغوري.

وفي 23 كانون الثاني 1517، التقى الجيش العثماني جيش المماليك في معركة "الريدانية"، ولاحق فلولهم حتى أُلقي القبض على طومان باي آخر سلاطينهم وتم شنقه على باب زويلة في القاهرة، فكان ذلك رمزاً لنهاية دولة المماليك وبداية الحكم العثماني في بلاد الشام ومصر (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، 1-2؛ رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص 697).

ويمكن تقسيم تاريخ فلسطين في العهد العثماني إلى أربع مراحل، تميّز بعضها من بعض، وخصوصاً فيما يتعلق بنوعية الحكم وطبيعة العلاقات بين الحكومة المركزية والقوى السياسية والاجتماعية المحلية:
1-تاريخ فلسطين في العصر الذهبي للدولة العثمانية، ولا سيما أيام السلطان سليمان القانوني. وشهدت فلسطين في تلك المرحلة بروز مراكز قوى مبعثرة تمثّلت بزعامات محلية ذات مرتكزات بدوية وإقطاعية.

2- تاريخ فلسطين في المرحلة الانتقالية، التي بدأت بعد وفاة السلطان سليمان الثاني واستمرت حتى أواخر القرن السابع عشر. وفي تلك المرحلة، انتقل زمام المبادرة السياسية من القوى المحلية إلى قوى خارجها، حيث نجح أمير جبل لبنان فخر الدين المعني الثاني، في النصف الأول من ذلك القرن، في فرض نفوذه، ثم حكمه، على أقسام هامة من فلسطين. وحين قضت الدولة العثمانية عليه في عام 1635 م، حدث فراغ سياسي حاولت الدولة العثمانية أن تملأه بتقوية نفوذها في المنطقة عن طريق والي دمشق ووالي صيدا العثمانيين، بعد أن أنشأت في هذه الأخيرة ولاية في عام 1660.

3- تاريخ فلسطين في ظل تعزز مكانة القوى والزعامات المحلية خلال القرن الثامن عشر، حيث ظهرت في فلسطين إمارة عربية شبه مستقلة هي إمارة الزيادنة، التي اشتهرت تحت حكم أبرز أمرائها ظاهر العمر.
4- تاريخ فلسطين في ظل محاولات الإصلاح العثماني والتوسع الأوروبي، في القرن التاسع عشر، وذلك في إطار اندماج المنطقة اقتصادياً في النظام الرأسمالي العالمي (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 4-5؛ رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص 698).

تاريخ فلسطين في المرحلة الأولى من الحكم العثماني
بعد أن ضمّ العثمانيون سنة 1516 بلاد الشام إلى دولتهم، قاموا بتقسيم هذه المنطقة إلى ثلاث ولايات هي: حلب والشام وطرابلس. وأصبحت فلسطين بموجب هذه التنظيمات الإدارية جزءاً من ولاية الشام، وقسّمت إلى خمسة ألوية (ولاحقاً سناجق)، هي: نابلس، والقدس الشريف، وغزة، وصفد واللجون.

يشير عادل مناع إلى أن بلاد الشام عامة، والقدس ونواحيها خاصة، " نعمت بفترة طويلة من الازدهار والاستقرار بعد أن صارت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية ". وكان عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566) " بمثابة العصر الذهبي لتلك الإمبراطورية"؛ فانعكس ذلك على العاصمة إستنبول، وكذلك على ولاياتها، حيث تحسنت الأوضاع الأمنية والاقتصادية في فلسطين، فانتعشت التجارة والزراعة، وازدهر البناء والإعمار، وبخاصة في القدس، فتمّ بناء سور القدس في أواخر الثلاثينات بأبراجه وقلعته وبواباته، كما تمّ ترميم مساجد الحرم الشريف وأبنيته المجاورة، وإصلاح قناة الماء من برك سليمان إلى المدينة، وبناء وترميم الأسبلة وغيرها من الأماكن العامة، وإقامة عمارة "خاصكي سليمان" لإيواء الفقراء والمساكين في المدينة وإطعامهم، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى زوجة السلطان سليمان المحبوبة (روكسلانة). وشهد البلد ازدياداً مطرداً في عدد السكان، حيث " وصل عدد سكان القدس مثلاً سنة 1553-1554 إلى 16000 نسمة، ثلاثة أرباعهم من المسلمين والباقي من اليهود والمسيحيين". وشكّل أهالي المدن في تلك الفترة " أكثر من 20 في المئة من مجموع عدد سكان فلسطين، الذي وصل إلى نحو 300000 نسمة " (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 6-7؛ مناع، لواء القدس في أواسط العهد العثماني، ص 9).

وبحسب الباحث السوري عبد الكريم رافق، أبقى العثمانيون عدداً من الأمراء المحليين في فلسطين وغيرها حكاماً على مناطقهم، وذلك بعد اعترافهم بالسلطة العثمانية وتعهدهم بإقامة الأمن وجباية الضرائب. بينما شنوا حملات تأديبية، بين فترة وأخرى، ضد الأمراء المحليين الذين كانوا يتمردون على الدولة. وكثيراً ما كان الزعماء المحليون الموالون يعيّنون ملتزمين للضرائب الميرية في مناطقهم، ويمنحون أحياناً إقطاعات من نوع "الخاص" ( وهو إقطاع كان يأتي، في سلم الإقطاع، قبل "الزعامت"، ويأتي في الأدنى "التيمار"، أو الإقطاع العسكري)، كما كانوا يعيّنون أمراء لقافلة الحج الشامي، والتي كانت تضطلع بمهمات تجارية في الوقت نفسه. أما تعيينهم، فكان يُعزى، في المقام الأول، " إلى مقدرتهم على تأمين سلامة القافلة بسبب معرفتهم الوثيقة بالمنطقة وعلاقتهم الحسنة بالقبائل التي قد تشكّل الخطر الرئيسي على القافلة" (رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص 699-703).

فلسطين في ظل حكم عائلات الأمراء المحليين
لم يحظ القرن السابع عشر –كما يلاحظ مناع- بقسط كاف من اهتمام المؤرخين. ففي تلك الفترة توقفت الفتوحات العثمانية والإنجازات العسكرية المهمة، ولم يصل النفوذ الأوروبي في أراضي الدولة العثمانية إلى مرحلة التغلغل والنفوذ البارزين، و" لم يكن حظ فلسطين عند المؤرخين العرب والأجانب مختلفاً عن حظ بقية الأقاليم العثمانية "، وهو ما يبقي المعلومات عن فلسطين في هذه المرحلة " محدودة " (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 8).

ومع ذلك، شهدت فلسطين، في تلك المرحلة، بعض التحوّلات التدريجية، كان من أبرزها ازدياد دور القوى المحلية اقتصادياً وسياسياً، حيث كان لظهور فخر الدين المعني الثاني في جبل لبنان ومحاولات توسعه في فلسطين " أثر خاص في نشوء بعض عائلات الأمراء من الحكام المحليين الذين أدّوا دوراً مهماً في تحجيم طموحات أمير جبل لبنان ثم القضاء عليه " (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 8-9).

فبعد رجوع الأمير فخر الدين المعني الثاني من هجرته القسرية إلى إيطاليا سنة 1618، عاد حاكماً على جبل لبنان بموافقة الدولة العثمانية، وواصل سياسته الاستقلالية ومحاولات توسعه في المناطق المجاورة، ولا سيما في سنجقي صفد واللجون، ونجح في السيطرة على صفد وعكا والناصرة وحيفا، وأقام فيها الخانات والحصون والأبراج. كما اهتم بتشجيع التجارة مع أوروبا، وبخاصة مع فرنسا التي كانت تستورد كميات كبيرة من القمح والأرز من عكا وحيفا، فبنى في عكا حصناً وخاناً لإقامة التجار الأجانب، الذين كانوا قد اتّخذوا المدينة مركزاً لتجارة القطن. بيد أن السلطان العثماني مراد الرابع لم يمهل حاكم جبل لبنان طويلاً، فقام، في سنة 1633، بإرسال حملة عسكرية للقضاء عليه، نجحت، بالتعاون مع الأمراء المحليين في فلسطين، في أسره ونقله إلى الآستانة، حيث أُعدم سنة 1635 (غنايم، لواء عكا في عهد التننظيمات العثمانية، ص 20-21).

برزت في فلسطين، في أوائل القرن السابع عشر، ثلاث عائلات من الحكام المحليين، هي: آل رضوان وآل طراباي وآل فروخ. وقد شكّلت هذه العائلات " حلفاً سياسياً عسكرياً قوياً " نجح، بالتعاون مع السلطة العثمانية، في صدّ فخر الدين المعني الثاني، ومن ثم في القضاء عليه.

أولاً: آل رضوان: استمرت هذه العائلة الغزية في أداء دور مهم في تاريخ فلسطين حتى سبعينات القرن السابع عشر، وهي ترجع في أصولها " إلى رضوان بن مصطفى باشا (قرا شاهين) ". وقد حكم آل رضوان لواء غزة ومناطق أخرى من فلسطين أكثر من قرن من الزمان، وساهموا بذلك في انتعاش المنطقة واستتباب الأمن فيها، كما تولّوا عدة مرات وظيفة إمارة قافلة الحج. لكن دور العائلة " تدهور وانتهى بسرعة بعد مقتل حسين باشا آل رضوان سنة 1662-1663، ويبدو أن قتله ومصادرة أمواله كانا جزءاً من سياسة الدولة العثمانية أيام وزراء آل كوبريلي للتخلص من الزعامات المحلية " (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 9-11).

ثانياً: آل طراباي: تُنسب هذه العائلة، التي صارت تُعرف فيما بعد باسم " الأسرة الحارثية"، إلى طراباي بن قراجه، أحد زعماء منطقة نابلس، الذي أقطعه العثمانيون إقطاعاً وعيّنوه حاكماً على سنجق اللجون. وفي عهد أحمد بن طراباي، الذي ورث والده بعد وفاته سنة 1601، امتد نفوذ هذه العائلة إلى شمال فلسطين في الجليل واللجون وساحل حيفا، واتّخذ أفرادها لأنفسهم لقب "أمراء الدربين" الذي يشير " إلى وظائفهم الأساسية في حماية طريق الساحل إلى غزة ومصر وطريق الجبل من مرج ابن عامر إلى نابلس والقدس ". كما كان لأفراد هذه العائلة وظيفة أخرى هي حماية طريق الحج (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 11-12؛ البخيت، حيفا في العهد العثماني الأول، ص 304).

وقد تميّز عهد الأمير أحمد بن طراباي بالخلاف مع حاكم جبل لبنان، حيث تصدّى الأمير أحمد بن طراباي للأمير فخر الدين المعني الثاني ولقي تأييداً من حسن باشا حاكم غزة، ومحمد بن فروخ حاكم نابلس، ومن العثمانيين أنفسهم. واستمرت عائلة طراباي في حكم سنجق اللجون حتى سنة 1677، حين أعادت الدولة العثمانية فرض إدارتها المباشرة على السنجق وعيّنت أحمد باشا الترزبي حاكماً عليه. وكانت الدولة العثمانية قد شكّلت سنة 1660، في إطار إصلاحات الوزراء العظام من آل كوبريلي (بين عامَي 1656-1676)، ولاية جديدة هي ولاية صيدا، من مناطق فُصلت عن ولايتي الشام وطرابلس، وأصبح لواء عكا، إضافة إلى سنجقي صيدا وبيروت، ضمن ولاية صيدا الجديدة. وكان الهدف من هذه التغييرات إضعاف سلطة والي الشام، بتقليص حجم المناطق التابعة له، وتشديد الرقابة على الدروز والأمراء الذين خلفوا فخر الدين المعني الثاني في حكم جبل لبنان (غنايم، لواء عكا في عهد التننظيمات العثمانية، ص 19- 20).

ثالثاً: آل فروخ: حكم أفراد هذه العائلة، في بعض الفترات، القدس ونابلس، وكانوا " حلقة الوصل بين آل رضوان في الجنوب وآل طراباي في شمال فلسطين "، كما شغلوا، كغيرهم من الأمراء المحليين، وظيفة إمارة قافلة الحج الشامي أعواماً كثيرة. لكن دور العائلة في تاريخ فلسطين انتهى بوفاة عساف باشا سنة 1671 (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 13-14).

نشوء فئة المشايخ والأعيان
بعد القضاء على دور عائلات الأمراء الثلاث، تقدمت عائلات الأعيان المحليين لملء الفراغ الناشئ، فعززت مكانتها الاقتصادية والسياسية، واندلعت ، منذ أواخر القرن السابع عشر، صراعات " بشأن السلطة والنفوذ بين العائلات القوية " عُرفت، فيما بعد، " بتحزبات القيس واليمن ". وفي إطار هذه الصراعات، راحت تنتشر في ريف فلسطين ظاهرة التسلح والتحزب ونشوء فئة مشايخ القرى والنواحي. ولم يكتف بعض هذه العائلات بدور " الشريك للمتسلمين "، بل " تطلع إلى الوصول إلى رأس الهرم الإداري داخل السنجق ". ، وأبرز هذه العائلات آل النمر وجرار وطوقان في نابلس واللجون، وآل ماضي والزيادنة في الجليل، ومكي ثم أبو مرق في غزة. أما عائلات العلماء في القدس وخارجها، " فاكتفت بدور الشريك ولم تطمح إلى تقلد السلطة السياسية مباشرة " (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 15-20).

وبحسب بشارة دوماني، يعود أصل بعض عائلات الأعيان في منطقة جبل نابلس إلى ضباط العسكر الخيالة المحليين (السباهية) الذين كانوا يقفون على رأس فرق الميليشيا العربية (اليرلية)، ويقودون الحملات التأديبية التي كانت السلطات العثمانية تقوم بتجريدها، بين الحين والآخر، ضد الزعماء المحليين بهدف فرض سيطرتها المركزية. ففي سنة 1657، جردّت السلطة العثماية حملة تأديبية كهذه لتهدئة جبل نابلس، وأُقطعت ضباط عسكر هذه الحملة، بدلاً من دفع رواتبهم، إيرادات بعض الأراضي الزراعية من قرى معينة في جبل نابلس، بحسب نظام "التيمار" أو "الزعامت". وبعد تطويع جبل نابلس، نجح هؤلاء الضباط " في إقامة قواعد سلطة محلية قوية، وذابوا، مع مرور الزمن، في جملة السكان المحليين، وصاروا أشد اهتماماً بإدارة شؤون أعمالهم الخاصة منهم بخدمة الدولة العثمانية ". وكان آل النمر، وهم أصلاً " من شيوخ النواحي في ريف حمص وحماة "، الأهم في هذه المجموعة لأنهم " حصلوا على حصة الأسد من الإقطاعات "، ثم سرعان " ما وضعوا أيديهم على منصبي المتسلم والميرالاي (أي قائد الألاي، او آمر كتيبة الفرسان، السباهية) "، كما نسجوا علاقات مصاهرة مع " عائلات التجار الأغنياء وعلماء الدين البارزين " (دوماني، إعادة اكتشاف فلسطين...، ص 47-49).

وإلى جانب آل النمر، برزت، بعد حملة سنة 1657، عائلتا آل طوقان وآل جرّار. وكانت حمولة جرّار " قد انتقلت من منطقة البلقاء، على الضفة الشرقية لنهر الأردن، إلى مرج ابن عامر في لواء اللجون في سنة 1670 تقريباً ". اما آل طوقان، " القادمون أصلاً من سورية الشمالية "، فقد برزوا بوصفهم " منافسين أقوياء لآل النمر في بداية القرن الثامن عشر تقريباً ". وكان أبرزهم في القرن الثامن عشر الحاج صالح باشا طوقان (ت 1742)، الذي " بدأ حياته السياسية بالخدمة في الفرقة العسكرية المكلفة حماية قافلة الحج، ثم عُيّن، في سنة 1709، متسلماً للقدس، ثم شغل المنصب نفسه في لواء طرابزون على البحر الأسود ". وقد عاد إلى جبل نابلس في سنة 1723 " يوم عُيّن حاكماً لألوية غزة ونابلس واللجون " (دوماني، إعادة اكتشاف فلسطين...، ص 49-50).

آل الحسيني وثورة نقيب الأشراف في القدس
على الرغم من أن عائلات العلماء في القدس كانت تتعاون مع السلطة المركزية في إستنبول ولا تطمح إلى تسلّم السلطة بل تكتفي بدور الشريك للمتسلمين، إلا أن القدس شهدت، ما بين عامَي 1703 و 1705، ثورة شعبية ضد السلطة الحاكمة، وقف على رأسها نقيب الأشراف من آل الحسيني، وشارك فيها سكان البلد من البدو والفلاحين وأهالي المدن.
ووفقاً لعادل مناع، اندلعت هذه الثورة على خلفية محاولات ولاة الشام جباية أكبر قدر من الضرائب من سكان القدس، واحتجاجاً على سياسة القمع والإرهاب التي كان يمارسها المحافظ على ألوية القدس وغزة كرد بيرام محمد باشا. وقد اعتصم العلماء في ساحة الحرم الشريف بعد صلاة الجمعة ودعوا أهالي المدينة إلى مواجهة الظلم ومقاومته، وهكذا بدأت الثورة في أوائل أيار 1703 واستمرت سنتين ونصف السنة (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 21-32).

ويتابع مناع استعراضه لأحداث الثورة، فيذكر بأن الثوار سيطروا على بيت المقدس وعيّنوا نقيب الأشراف محمد بن مصطفى الوفائي الحسيني شيخاً على المدينة ورئيساً لها. وساهم مشايخ الحارات في إدارة أحيائهم، بينما أخذ رجال الانكشارية وغيرهم من عساكر السباهية، الذين انضموا للثوار، على عاتقهم مهمة حراسة المدينة والدفاع عنها. لكن وحدة الصف التي تحققت في بداية الثورة أخذت تتضعضع مع الوقت، وراح كثيرون ممن تضررت مصالحهم يغيّرون مواقفهم ويؤيدون عروض المصالحة والعفو والحلول الوسط التي تقدم بها ولاة الشام وغيرهم من رجال الدولة، وكان من أبرزهم القاضي محمد أمين أفندي.
وانفجر الصراع أخيراً بين الفريقين فانقلبت المدينة إلى ساحة من المعارك بين مؤيد لاستمرار الثورة بقيادة النقيب ومعارض لها.

وعندما يئس الثوار من إمكان التغلب على معارضيهم قرروا الانسحاب، حيث فتح النقيب ورجاله، في إحدى الليالي الأخيرة من تشرين الأول 1705، بابي العمود والمغاربة ولاذوا بالفرار. وبعد التجائه إلى قلعة طرطوس في ولاية طرابلس، نجحت السلطات العثمانية في القبض عليه وأعدمته سنة 1707. وفقدت أسرة الوفائي الحسيني، التي كانت أبرز عائلات بيت المقدس، زعامتها، وعيّنت السلطات العثمانية السيد محب الدين بن عبد الصمد نقيباً للأشراف، وقد عُرفت أسرة محب الدين بكنيتها " آل غضية "، الذين " اتّخذوا، بالتدريج، كنية الحسيني وأسقطوا كنيتهم الأصلية إلى درجة اختلطت فيها الأمور بالنسبة إلى الباحثين والمؤرخين لتاريخ فلسطين الحديث". والواقع، أن " الحسينيين الجدد" (غضية سابقاً) برزوا منذ القرن الثامن عشر ، وبحسب مناع ، بوصفهم أشرافاً " تولّوا نقابة الأشراف أجيالاً متعاقبة، ثم شغلوا منصب الإفتاء بالوراثة مدة طويلة ". أما علاقتهم بآل الوفائي الحسيني " فهي كما يبدو علاقة نسب ومصاهرة فقط " (مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني...، ص 35-38 و ص 46).

الأوضاع الإدارية والمالية في فلسطين
كما مرّ معنا سابقاً، قام العثمانيون بعد احتلالهم بلاد الشام بتقسيم هذه المنطقة إلى ثلاث ولايات، هي: ولاية حلب، ولاية طرابلس وولاية الشام. وقُسّمت الولاية الأخيرة إلى عدد من الألوية، أو السناجق، هي: دمشق، وتدمر، وعجلون، والكرك، وغزة، والقدس، ونابلس، وصفد واللجون (البخيت، حيفا في العهد العثماني الأول، ص 301).

وكان كل لواء يضم عدداً من النواحي، وتشتمل كل ناحية على عدد من القرى. أما الهدف من هذا التقسيم فكان إحصائياً مالياً، حيث " كانت الوحدة المالية تتألف من مدينة أو قرية أو مزرعة أو قبيلة في منطقة معينة، يأتي كل منها بعائدات للدولة بحسب حجم سكانها وأرضها وبالتالي مدخولها ". وكانت العائدات المالية تُقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يذهب للسلطان (باديشاه)، وآخر لأمير اللواء (أو السنجق بك)، وفي الحالين يشكّل ذلك القسم إقطاعاً من النوع "الخاص"، وقسم ثالث يذهب لأصحاب "التيمار" و"الزعامت"، وهم الجنود السباهّية (الفرسان) وضباطهم الذين يعطون الإقطاع عوضاً عن المرتب (رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص 810).

وكانت الدولة تجبي ضريبة على الأشجار تُعرف باسم "خراج"، بينما تُعرف الضريبة المحصلّة عن الماعز باسم "رسم". كما كان العثمانيون يجبون رسوماً على المناحل، حيث كانت تربية النحل منتشرة في بلاد الشام في تلك المرحلة. وكانت الدولة تتقاضى رسوماً على المواد المصدّرة أو المستورة، تُعرف باسم "محصول اسكلة" (ميناء). كما كانت المحاكم تتقاضى رسوماً محددة عند النظر في الدعاوى والقضايا، أو عند عقد نكاح أو تسجيل حجة. فكانت الرسوم التي تجمع عند عقد نكاح تُسمّى "رسم عروس"، وكان جزء من هذه الرسوم يخصص للقاضي ولمن يعمل معه في المحكمة، بينما يُعطى الجزء الأكبر لأصحاب "الزعامت" أو "التيمار". وعند وقوع جريمة قتل أو سرقة، كانت الدولة تأخذ من المسؤولين عن تلك الجريمة رسوماً تُعرف باسم "رسم جرم وجنايت". أما إذا كان المتسببون بذلك مجهولين، فإن أهالي الحارة كانوا يُجبرون على دفع تلك الرسوم (البخيت، حيفا في العهد العثماني الأول، ص 302-303).

وبحسب البخيت، عانت الدولة العثمانية في أواخر القرن السادس عشر من أزمة تضخم مالي كبيرة، إذ إن عملتها الفضية لم تعد قادرة على مواجهة ضغط العملات الأوروبية، خاصة الفلورى الإيطالي الذهبي، فقامت الدولة العثمانية بإنقاص كمية الفضة في تلك العملة، فارتفعت بذلك أسعار السلع وضعفت القوة الشرائية للعملة (البخيت، حيفا في العهد العثماني الأول، ص 302).

مظاهر من الحياة الاقتصادية في فلسطين
كان معظم سكان فلسطين يعملون في الزراعة في ظروف قاسية، كانت تدفعهم، في بعض الأحيان، إلى التمرد والثورة على تعسف ملتزمي الضرائب وإرهاقهم الفلاحين بمتطلباتهم. أما أهم المنتجات الزراعية في تلك المرحلة، فكانت الحنطة والشعير والقطن، فضلاً عن الأرز والذرة والعدس والزيتون والكرمة والتين والخروب والسمسم. وقد تأثرت الزراعة ومنتجاتها، كما تأثرت مراكز تسويقها والطرق التي تنقل عليها، بالوضع الأمني " سواء من ناحية سيطرة البدو على بعض المناطق وتخريبها أو من ناحية تقاتل زعماء القرى فيما بينهم وانتظامهم في حزبي القيسية واليمنية المتصارعين " (رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص 811-812).

وبحسب رافق، لا تتوفر معلومات كثيرة عن الصناعة في فلسطين في هذه المرحلة المبكرة من تاريخها ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. وقد أشار الرحالة إلى صناعات مرتبطة بإنتاج المنطقة، مثل غزل القطن وصناعة الصابون واستخراج زيت الزيتون وزيت السمسم وصنع الأدوات التذكارية الدينية والزجاج. ويُستدل من فرمان أن البارود، الذي اهتمت الدولة العثمانية بصناعته، قد أنتج فعلاً في أريحا (رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص 813).

وظلت تجارة فلسطين الخارجية طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر تابعة لصيدا. وكان للفرنسيين تجارة كبيرة في عكا، اشتملت على الصوف وغزل القطن، الذي يأتيهم من الجليل، والقِلي الذي يبيعونه بكميات كبيرة في مرسيليا والبندقية لصناعة الصابون والزجاج فيهما. وكانت فرنسا تستورد في سنوات القحط كميات كبيرة من القمح والرز من عكا. وكانت يافا، وهي ميناء الرملة، أكثر موانئ فلسطين بؤساً آنذاك، ومعظمها خرائب، وبقيت مهددة من البدو والقراصنة (رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص 817-818).

مظاهر من الحياة الاجتماعية والثقافية في فلسطين
من أولى المشكلات التي يواجهها الباحث في تاريخ فلسطين الاجتماعي، في هذه المرحلة المبكرة من العهد العثماني، معرفة أعداد السكان ككل أو حسب طوائفهم في فترة أو أخرى قبل إجراء الإحصاءات الرسمية. ويفيد رافق بأن بعض الدراسات المبنية على دفاتر الأراضي العثمانية في القرن السادس عشر تلقي أضواء على عدد السكان " وإن يكن بشكل تقريبي وغير نهائي ". كما يمكن للباحث الاستناد إلى تقديرات الرحالة، التي تشير إلى أن فلسطين شهدت ازدياداً ضئيلاً في أعداد السكان في القرن السادس عشر، ثم طرأ ازدياد كبير في القرن الثامن عشر. وقد انقسم سكان الريف، الذين كانوا يشكَلون معظم سكان فلسطين آنذاك، على أساس سياسي-قبلي إلى " قيسية " و " يمنية "، وهذا " من بقايا العصبيات القبلية التي حملها العرب معهم من الجزيرة العربية إلى مختلف مناطق بلاد الشام ". وقد بقيت هذه الانقسامات وما ترتب عليها من منازعات بين الزعماء المحليين والقرى التي تتبعهم قائمة " ما دام الحكم العثماني ضعيفاً والسلاح متوفراً بأيدي السكان ". وكان البدو يشكّلون " عنصر عدم استقرار في الريف وعلى الطرق الرئيسية " (رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص780- 787).

وقد طغى الطابع الديني على الحياة الثقافية في فلسطين، التي كانت متداخلة مع الحياة الثقافية في دمشق والقاهرة، حيث لم تكن هناك حدود تقف في وجه العلماء ولا عقبات جغرافية تعترض تنقلهم. وكان القرن السادس عشر قد شهد ذروة بناء الأبنية الدينية من جوامع وتكايا ومدارس، والتي كانت تمثّل آنذاك مراكز النشاط الثقافي في فلسطين (رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص 830-831). ويعتبر رافق أنه في غياب دراسات معمّقة وشاملة للحياة الثقافية في فلسطين، لن يكون في وسع الباحث دراسة " مقاييس شهرة العلماء إسلامياً ومحلياً "، وتحديد " الدور الذي يقومون به كأعيان بين علماء المدن أو كقادة شعبيين "، بحيث لا يبقى له سوى الاعتماد على أسماء العلماء الواردة في كتب التراجم " لتتبع أصحاب الشهرة العلمية في فلسطين " (رافق، فلسطين في عهد العثمانيين، 1، ص 787-789).

المصادر
البخيت، محمد عدنان، "حيفا في العهد العثماني الأول. دراسة في أحوال عمران الساحل الشامي"؛ في: المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ بلاد الشام 1516-1939، جامعة دمشق، كلية الآداب، الجزء الأول، ص 299-322.

دوماني، بشارة، إعادة اكتشاف فلسطين. أهالي جبل نابلس 1700-1900، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002 (الطبعة الثانية).

دوماني، بشارة، "مدخل: أرشفة فلسطين والفلسطينيين: إرث إحسان النمر" ؛ في: أوراق عائلية في التاريخ الاجتماعي المعاصر لفلسطين، تحرير زكريا محمد، خالد فراج، سليم تماري، عصام نصار، القدس، مؤسسة الدراسات المقدسية، 2009، ص 11-19.

رافق، عبد الكريم، "فلسطين في عهد العثمانيين (1): من مطلع القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي إلى مطلع القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي [1516-1800]"، في: الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، الدراسات الخاصة، المجلد الثاني، بيروت، 1990، ص 695-848.

سرور، موسى، " سجلات محكمة القدس الشرعية: إشكاليات منهجية "؛ في: أوراق عائلية في التاريخ الاجتماعي المعاصر لفلسطين، تحرير زكريا محمد، خالد فراج، سليم تماري، عصام نصار، القدس، مؤسسة الدراسات المقدسية، 2009، ص 23-36.

غنايم، زهير غنايم عبد اللطيف، لواء عكا في عهد التنظيمات العثمانية 1281-1337 هجري-1864-1918 ميلادي، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2005 (الطبعة الثانية).

مناع، عادل، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700-1918 (قراءة جديدة)، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2003 (الطبعة الثانية).

مناع، عادل، لواء القدس في أواسط العهد العثماني: الإدارة والمجتمع منذ أواسط القرن الثامن عشر حتى حملة محمد علي باشا سنة 1831، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2008.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الوساطة القطرية في ملف غزة.. هل أصبحت غير مرحب بها؟ | المسائ


.. إسرائيل تستعد لإرسال قوات إلى مدينة رفح لاجتياحها




.. مصر.. شهادات جامعية للبيع عبر منصات التواصل • فرانس 24


.. بعد 200 يوم من الحرب.. إسرائيل تكثف ضرباتها على غزة وتستعد ل




.. المفوض العام للأونروا: أكثر من 160 من مقار الوكالة بقطاع غزة