الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : قمر اللوكيميا وأنياب التنين

بديع الآلوسي

2013 / 6 / 28
الادب والفن


(على الرغم من تقديمنا الطعام إلى الذئب ، فإنه ينظر دائما شطر الغابة ) 
(تورجنيف) 

مونولوج (جوزيف فلافل وحديث المقهى ) :
يا له من صباح مكفهر ، سمعت أمي تناجي الرب : أيها الرب يسوع ، فك ضائقة من نحب . قلت بخشوع : آمين .. ، وبكيت .
نعم ، يا حسان ، حتى لو لم تكن بيننا ، لكنك موجود في كل مكان . فقد سمعت باعتقالك في صباح اليوم التالي . أتتذكر قبل ستة أيام حين كنا على الجسر معا ً ؟ ، قلت لي حينها : أنظر إلى النهر إنه لا يتظاهر بالسعادة .
بعد خمسة أيام من غيابك كنت أمشي وحيدا ً ، نزلت درجات المكتبة الوطنية وأنا أفكر بهيبتك ، تعثرت خطواتي حين تساءلت : متى تأتي ؟ . بعدها قررت أن أسلي نفسي ، مشيت حتى مقهى البرازيلية ، لم أتوقع أن أرى أخاك نعمان هنالك ، الذي أنهكت قلبه غيوم الخريف ، وجدته منزويا ً يحدق عبر النافذة ، وعلى مقربة منه رقعة الشطرنج التي أعدت للمنازلة .
نعم ، رأيته متذمرا ً ، قال لي : ذلك ما حدث ، لماذا اعتقلوا حسان لست ادري ، كل ما أعرفه ، أن المفاجأة كانت كمباغتة الذئاب .
لا أغفل يا حسان طعم المرارة ، فأدركت أني بفقدك خسرت قلبا ً دافئا ًالتجىء إليه . كل شيء رتيب وروتيني بعدك .
فداحة ما حل بك جعلنا أكثر انتباها ً ، حيث ما زالت أبعاد مهمتهم غامضة بالنسبة لنا . تجهم وجه نعمان ، ولم أنس عبارته التي تحز في نفسي إلى اليوم :
ـ لا أعرف كيف أصف لك وقع المصيبة ، لكني أشعر أن الوطن الذي يغتال أبناءه بالوعة مراحيض .
ـ اللعنة عليهم ! أقالَ لك أيّ كلمة ؟
رد بصوت رخيم وبارد :
ـ لا ، لم أتمكن من الاقتراب منه ، ابتغيت أن أخبره أن قلوبنا معه ، لكني خفت .
ـ وهل كان مرتبكا ً ؟
ـ لا أدري بالضبط ، لكن إحدى نظراته اخترقت قلبي ، أظن أنه أراد أن يقول : سيأتي دوركم ، فاحترسوا .
راودني سؤال لم أفصح عنه: هل يعقل أنك أخفيت عنا علاقتك بتنظيم سري ؟،
لكني فهمت من خلال حديث نعمان ، أن الأمر مبهم على الجميع ويتعذر التكهن بأي شي الآن .
اختفاؤك جعلني أحس آو أقتنع بأن ما حلَ بك سيحل بي يوما ً ، وبما أن الزمن أمهلني ، لذلك يجب أن أرتب حالي كي لا أقع فريسة بين أنياب التنين .
نعم ، هو الخوف الذي جعلني اهمس لنعمان بحرق كل الكتب ودفاتر المذكرات الخاصة بحسان ً .
تطالبنا الحياة وتأمرنا أن نكترث ، فالسلام قد تبدد ، والحذر صار خبزنا اليومي وتغلغل في كل تفاصيلنا الصغيرة ، هكذا التهمت نيران التنور جزءا ً من روحك . نعم ، حاولنا إخفاء أي أثر، كنا نحاول أن ننتشلك بآي ثمن .
وكما توقعنا وخشينا ، فرجال الأمن صاروا يترددون على بيتكم ؟ . قال لي نعمان بعد شهر ونصف : كنا مستسلمين لقضاء الله . يباغتوننا بمناسبة ومن دون مناسبة . وفي كل مرة يثيرون نفس السؤال الذي يرعبنا : هل تعرفون انه يتآمر على السلطة ؟.
لقاء المقهى والمشي والتسكع لساعات ، زادنا جوعا ً ، نظرت إلى نعمان وقلت له ملاطفا ً: إذا ما خيرت الآن بين الدجاج والفلافل ، سأختار الفلافل .
وضحكنا .. لكننا لم ننس أنياب التنين .....
مونولوج (الأب ومأساة ما رأى ) :

كنت بين اليقظة والنوم ، ولا يدور في بالي من شيء ، استمعت لنباح الكلاب . حينها أتوا دون إحداث ضجة ، ما أن رأيت وجه زوجتي المحمل بالخوف والتعاسة ، وهي تردد بصوت مضطرب : مصيبة ، قم بسرعة . ، حتى تأكدت أننا وقعنا في الفخ
نعم رأيت ولدي بين أيديهم ، أحسست بنعمان يسندني كي لا أتداعى ، حاولت أن أستفسر منهم ، لكنهم نصحوني أن لا أقترب ، وقال الشاب الأصلع :
ـ مجرد تحقيق ، سيعود لكم صباح غد .
لم أصدقهم ، نظرت إلى السماء رأيت القمر الأبيض يتلصص من وراء شجرة النبق، كان قلبي يرتجف ، تنهدت بأسى . نظرت إلى حسان وهو لا يبدي أية مقاومة ، شعرت بالألم ، تمنيت في تلك اللحظات من الفوضى أن أخلو به ، ان أقول له جملة واحدة : لماذا ورطتنا مع هؤلاء السفلة .
مرت اللحظات بسرعة ، وبرغم القلق سألتهم : انتظروا قليلا ً ، هل بوسعي أن أتي معكم ؟ . لكنهم رفضوا ، شعرت بالخيبة وتمنيت أن أذرف الدموع .
كان قبل قليل بيننا ، ما أن خطفوه مثل ومضة البرق حتى خانتني ساقاي لأرتمي قرب الباب ، نعمان كان شاهدا ًدون أن ينطق بأية كلمة ، وتعقبت ًنظراتي السيارة التي تلاشت في العتمة ، لكن شكلها ولونها الأسود الناصع سيظل يطارد ذاكرتي حتى الموت .
نعم ، كأن بيتنا احترق تلك الليلة ، راحة النوم صارت تقترن برائحة الموت ، بعدها لم نعرف كيف نتدبر أمرنا ، توقعت أنهم لن يرحموه ، لكني فكرت ونفسي : هناك سيختلِي بنفسه ، هنالك سيتعلم أن السياسة بهذله وموت احمر .
لا اعرف إذا ما غفوت في تلك الليلة أم لا ، لكني كنت أستمع إلى أنين زوجتي التي اختلط في ذهنها الخطأ بالصواب والحمى بالهذيان .
في صباح اليوم التالي ، بدأ زمن آخر للفجيعة ، صار الألم دليلي ، كنت مشوشا ًلا اعرف ماذا بوسعي أن افعل ؟، وكيف يجب أن أتصرف ؟ ، نعم لم أنتظر طويلا ً، اتصلت ببعض أقاربي وشكوت لهم حالي ، متشبثا ً بالأمل ، معتقدا ًأنهم سيبدون المساعدة آو يشفقون عَلي ، لكن خاب ظني بمن أعرفهم وخاصة ًالمقربين منهم للسلطة .
وتأكد لي فيما بعد أنهم جميعا ً جبناء ، وهم ليسوا قادرين على فعل أي شيء سوى : أن قضيته ضمن ملفات المخابرات ، وإذا كان بريئا ً سيرى نور الشمس و .....
مونولوج (حسان الذي صفق للحرية ) :

الذين قبضوا علي ، ثلاثة رجال ، أحدهم أصلع ، يخفون مسدساتهم ويتكلمون بحذر ، دخلت قسرا إلى جوف السيارة حينها شممت رائحة الموت لأول مرة ، وما إن انطلقت حتى قال احدهم : خذ أرتدي العصابة .
نعم ، إنهم لا يريدون أن أرى أي شيء ، كانت السيارة تسارع نحو هدفها ، وكان الزمن يربك روحي بالوساوس ، هذا ربما لأني لستُ مؤهلا ًبعد لمواجهة الموقف أو ما ينتظرني . حينها لم يعد للمستقبل أي اعتبار لأني لم أعد أفكر سوى باللحظة الراهنة .
وما أزعجني خلالها هو : ما نوع الأسئلة التي ستواجهني .
كل ما أعرفه أني وقعت في بؤرة الخطر ، هذه هي المرة الأولى التي أذرع فيها مدينتي من دون أن أسترق النظر إلى أضوائها ومقاهيها وسحر ليلها ومقابرها ، هذا الطواف الإجباري له خصوصيته ، ربما لأنه يدخر مفاجآت عصيبة ، وقد هيأتُ نفسي كي لا أنكسر وقلت في خلدي : إذا لم أنهر نفسيا ً في اليوم الأول سأشكر الموت والجنون لأنهما أتاحا لي الفرصة كي أكتشف نفسي وأعدها للامتحان القادم وبإيقاع آخر . نعم ، لا أكره الموت ولكني إذا ما نجوت سأبجله لأني سأولد أقوى وأجمل ، توقعت أنهم سيمارسون كل الوسائل لخنق روحي الخضراء . نعم ، ما قرأته عن أدب السجون وبطولات المناضلين شيء ، ومواجهة الموقف وجهاً لوجه أعزل ووحيدا ً شيئ ٌ آخر . كان الانتظار سيد الموقف . لو ان أحدا ما سألني حين كنت معصوب العينين : بماذا تفكر، أو ما يشغل بالك تحديدا ً؟ .
سيكون جوابي : إيقاف هذا الضجيج الذي يستفزني .
الطريق بدا لي طويلا ً ، صار الوطن هو الهدف والذات هي المحك ، تجربة فظيعة ، مرارتها المبرحة أني سأدخل سرداب الموت دون أن أعلم إذا ما كنت سأخرج منه سالما ً.
ومنذ اليوم الأول عرفت ماذا تعني الحرية التي مجدتها الملاحم وغناها الثوار ، نعم ، ما أحوجني لأن أصفق لها ، لأنها حجر الزاوية كي لا يصاب الوعي بالعطب ، لا اعرف ما الذي ذكرني بعبارة جيفارا : إذا رأيت عبدا نائما ً أيقظه وحدثه عن الحرية .
تساءلت في خلدي : ماذا يريدون مني بالضبط ؟
أجبت على الفور :
ـ يريدون الجزء المهم من الروح .
وقبل أن نصل إلى المكان ، نهض في نفسي سؤال آخر : عبر إنهاك الجسد ؟
أجبت على الفور :
ـ نعم ، عبر السلخ والمسخ .
هكذا إذن ، الجسد سيمتحن والروح أيضا ً . أشياء كثيرة كانت تنتظرني ، وأنا أفكر ببصيص الأمل شعرت بالهدوء قليلا ً، مرددا ً : ما أجمل أن لا ينحدر الإنسان إلى أسفل سافلين .
قلت في سري : نعم ، إذا طالني الإحباط بمخالبه ، سيكون السجن جحيما ً .
لذلك واجهت خواطري السلبية كي لا يعضني الزمن الرديء ، وطيلة الفترة التي لم أرَ فيها الشمس كنت أردد في خلدي : عليك أن تتأكد من طهارة ذاتك بعد كل دورة تعذيب ، وأن تلعق جراحك كي لا تتلوث ذاكرتك . نعم كنت أوصي نفسي ، حين يجتاحك الضجر اضحك أو أبتسم . ولم أنس ان أردد كل صباح : شكرا ً لك أيتها الحياة لأني ما زلت أتنفس هواءك اللذيذ كالعسل ال... .

مونولوج (القمر المتلصص ) :

هدوء عجيب خيم بعد غروب الشمس ، نعم ، قبل ان تقلهم السيارة السوداء ، كان الثلاثة في كراج المخابرات يضحكون ، وكأنهم قد هيأوا أنفسهم لرحلة أشبه بنزهة لصيد غزال بري ، حشروا أنفسهم في السيارة ، التي انطلقت من البوابة الخلفية ، ما أن تركوا الموقع حتى ضاعفوا السرعة ، كانوا كالمجانين ، كادت سيارتهم تدهس فتاة شابه برفقة رجل عجوز ، لا أعتقد أنهم سيتوقفون حتى لو انتهت الحادثة إلى نهاية تعيسة ، رجال طائشون يبحثون عن فريستهم بأي ثمن .
في منتصف الطريق توقفت السيارة ، نزل الرجل الأصلع وتبول على عمود كهرباء ككلب سائب. في ذلك المساء كانت السماء حزينة وبليدة ، بفضائها الدائري الذي لم تشتعل نجومه بعد ، وقبل أن يتوجهوا إلى البيت المخصص لمهمتهم ، و بعد أقل من ساعة ، توقفوا قبل اقترابهم من الهدف ، ترجلوا وراقبوا عن بعد البيوت التي أضيئت مصابيحها ، خلت الشوارع من البشر ، ولكي لا يثيروا أي ضجة تقدم اثنان وبقى الآخر يراقب الموقف بعد أن سحب مسدسه لتدارك أي طارئ . من حسن حظهم وقبل أن يطرقوا الباب رأى أحدهم طفلة تلعب في حديقة الدار . فقال لها : أذهبي ، وأخبري حسان إننا بحاجة له .
هكذا الطفلة أصغت لطلبهم ببراءة ، لم تظن أبدا ًأن قدرا ًأسود ينتظر حسان ، أو أن العناية الإلهية أغفلت أمره .
بلا تردد فتح حسان الباب ، كان مرتديا ً ببجامة النوم فقط حينها تحدثوا معه قليلا ً ، أمسك احدهم بذراعه ، وقبل أن يخرج الأب ، قال لهم :
ــ طيب ، ما تهمتي تحديدا ً؟ .
وقال الأصلع وهو يربت على مسدسه ليشعر بالأمان :
ـ لا وقت لدينا ، يجب أن تحضر معنا وانتهى الأمر
ـ هل بوسعي ان أ ُخبر زوجتي وأودع طفلتي
ـ لا ، هيا ، يجب ان ننصرف في الحال .
تحول وفي لحظة ٍ الواقع إلى كابوس لا يتنفس سوى أسئلة يتيمة ، والتبس العجز بالوحشة والعقاب بالخطيئة .
لكن حسان وبالرغم من خشيته وذهوله ، رفع رأسه نحوي ، ما أن رآني حتى أبتسم ...

مونولوج (ضابط الأمن الأصلع والحقيقة ) :

تأدية الواجب ودون خطأ يستدعي منا أعصابا ً باردة ً وتنحية العاطفة جانبا ً ، نعم ، سيكون الأمر مختلفا ًلو لم نجد حسان ، كانت مهمتنا ستتعقد بعض الشيء ، ولانتهى الأمر بأخذ الأب بدلا ً عنه ، ربما سيرحمون بحاله ويدخلونه متاهة الأمن العامة فقط ، هناك سيرى عالما ًغريبا ً بتجاعيد حالكة ، نعم سوف لا يألف المكان المكتظ بالأسرار ، وستدخله التجربة عنوة ًبفوضى الهواجس من المجهول ، وسيواجه أسئلة المحققين الماكرة طيلة فترة الحجز وحتى يتم العثور على المتهم . نعم ، حظنا لم يكن سيئا ً ، فقد خرج حسان الذي ما أن عرف بمهمتنا حتى ارتبك وجهه وتطلع الى الخلف مرات ٍعدة. قال : دعوني ارتدي معطفي .
قلت له بحزم : ليس لدينا وقت .
تشجع وقال : حتما ً، هنالك خطأ ما ؟
ـ لا ، لدينا أمر بإلقاء القبض عليك .
عندها خرجت الأم وسمعت بعض ما يجري ، ما إن تراجعت و دخلت البيت ، حتى تعالت الضجة ، ربما أحست ان أمرا ً غريبا ًمثيرا ً للريبة .
وبما أن خطتنا سارت بسلام ، فقد حاولنا أن نلتزم بضبط النفس ، وكذبت على الأب الذي سألني : أين سيكون التحقيق معه ؟
ـ حجي ، لا تقلق ، سيكون في المنظمة الحزبية .
نجحت المهمة ، كان حسان شابا ً في ريعان العمر ، ويبدو مسالما ًوذكيا ً ، حاول في السيارة أن يستفسر عن الجهة التي نتوجه إليها ، عن التهمة الموجهة له ، لكني قلت له ضاحكا ً : سنصل وستفهم كل هذه التفاصيل .
نعم ، مهمتنا انتهت حال أن وصلنا كراج المخابرات ، بعدها تلاقفته أيادي خشنة ومتمرسة ، وبخفة سحبوا يديه خلف ظهره وقيدوا رسغيه بالكلبجات .
قال احدهم ساخرا ً: سنعرف غدا ً إذا ما كنت بطلا ام لا .
امتثل حسان للأوامر والتزم الصمت ، لكن خطواته لم تتعثر على الرغم من انه لم ير سوى طلسم الظلام ... نعم ، أدينا واجبنا ، فنحن نعرف جيدا ًأننا لسنا ملائكة ، لكن ما لا يتخيله الكثيرون أن أي خطأ أو خلل أو تخاذل قد يعرضنا للعقوبة أو إلى الموت أحيانا .
لذلك أردد دائما ً : يا روحي انتبهي من الزلل ، فما ... .

مونولوج (الزنزانة الانفرادية رقم83 ) :

شعاع باهت وهواء عذب تسلل ما إن فتحوا الباب ،على حين غرة رموا بحسان وطرحوه أرضا ً، سمعتهم يقولون له بسخرية : لا تخف أنت في مكان آمن . لم يكتشف المكان ، لكن عفونتي ونتني أشارت له أو هيجت أحاسيسه . نعم ، ربما البرد أيضا ً جعله يتذكر فراشه الدفيء ، قال : ها هنا أذن ستزهق روحي .
هل بدأ يلسعه الخوف الموجع ؟، هل شرعت الحيرة تتناسل في قلبه ؟، لست أدري ، لكني أعرف أن الليلة الأولى في جوفي تشبه الليلة الأولى في القبر . كان يحاول أن يهجع ، رغبته الوحيدة هي أن ينام لينسى أو ليتمكن من مواجهة ما سيحل به غدا ، كل الذين دخلوا زنازين المخابرات للمرة الأولى لا يعرفون إن كانوا مؤهلين لمثل هذه التجربة أم لا ، نادرا ً ما يصمدون ، وبعضهم يصيبه الجنون ، ومنهم من يموت تحت التعذيب ، ومنهم من ينتصر.
يبدو لي أن حساناً كان يعاني كابوسا ً ملتبسا ً ، مخيلته متوهجة لكنها تفيض عذابا ً بلون الحبر . توقع عودتهم في أي لحظة ، كل ذلك زاد من قلقه لكن حفز يقظته . تحرك بكل الاتجاهات ، عرف حينها أنه في زنزانة لا تتعدى المتر والنصف المربعين ، هذه التفاصيل جعلته يندهش ، ومرت بذهنه كوابيس غامضة حتما ً ، سمعته ، كمن كان يهذي : أشعر بالاشمئزاز ، آه من حالة الهستيريا .
نعم ، كنت أشفق عليه ، لأنهم سينسونه لثلاثة أيام ، وبعد ان ينضج اليأس في قلبه ، لن يرحموه ، فهم قادرون على سحق عظامه ولا يتركونه وشأنه حتى يهشموا كبرياءه ،عندها سيعود ها هنا ليبكي لا من البرد بل من الألم و الإحباط . نعم، ربما سيقول ما عنده وسيصرخ مرارا ً وتكرارا ً : ما ذنبي ؟ لكنه لن يجد قلبا ً يتعاطف معه ، وكلما يتعبهم بعناده يزدادون شراسة ، ولا يبالون بقتله إذا ما اقتضت الضرورة .
أنه الآن يتخبط بهواجسه العصية على الفهم ، لذلك كان يردد : مَن وشى بي ؟ صمت وقبل ان يجيب على السؤال أردف :هل سيهتدون الى ما في قلبي؟ .
أراه قد هدأ ، وأتكأ على أحد جدراني ، ربما انه بحاجة إلى ملاك ما يساعده لترتيب أوراقه على مهل ، لتجاوز قسوتهم المفرطة ، التي لا يمكن أن يتخيلها الآن . لكنه قال فجأة ً : نعم ، إن الحرية ناعمة ، جارحة ، لكن لماذا تسألني : هل أنت حر يا ...

مونولوج (زوجة حسان التي نضبت دموعها ) :

كان الذباب على الشباك ، أزحت ُ الستارة ، رأيت القمر شاحبا ً كأنه أصيب باللوكيميا ، نعم ، هذا الانطباع كاد ان يضحكني ، وما إن حاولت رصد المشهد حتى سمعت طفلتي تخاطبني بصوت متوسل : أريد ان أرى . لم أسألها عن ما يبكيها أو يوجعها.
نعم ، التقاليد تمنع النساء الخروج والظهور أمام رجال غرباء ، لم أكن أتوقع من يكونوا بالضبط أول الأمر ، ظننت هؤلاء الغرباء إما ضيوف أو أصدقاء وفدوا يباركون له تخرجه المتميز في الجامعة .
تساءلت كطفلة : ماذا يريدون، لماذا لا يدخلون ؟.
لكن ما إن أمسكوا بذراعه وسحبوه حتى شعرت بالريبة وانقبض قلبي .
فتحت الشباك عسى أن أسمع أو أفهم ما يحدث ، لكن ما إن سحبوه عنوة ً ، حتى تساءلت : أين يأخذه ُ هؤلاء الغرباء ؟. أعرف زوجي او هكذا بدا لي ، فهو لم يخف علي أي شيء ، ومتأكدة أن لا علاقة له بالسياسة . ما أن ولت السيارة حتى هرعت إلى الخارج ، وجدت أبا حسان يتنفس بصعوبة وهو يردد : أخذوه .
شاهدته جزعا ً، متألما ً، يعتصر الحقد ملامح وجهه ، وفي عينيه ترتجف الدموع ، مشهد يصعب وصفه ، ولم أره بهذا الانكسار طيلة حياتي .
سألته وقلبي قد أستفز بالغضب : أخذوه ! ، من أخذه ؟
لم يكن قادرا ً على التفوه بكلمة ، وبقى قرب الباب يدخن لتخفيف أثر الصدمة ولنسيان نظراتهم التي عكرت صفاء قلبه .
كاد أن يغشى علي ، ما إن عرفت مَن هؤلاء ، ورغما ً عني بدأت أولول ، نعم ، فقدت رشدي ، ومنذ ذلك اليوم بدأت كراهيتي للحياة ، وطالني الحزن.
وسحبني والد حسان إلى داخل البيت بصعوبة ، بعد أن حدق في وجهي مواسيا ً قال : إحزني كما تشائين ، لكن لا تفضحينا .
نعم ، قتلني حسان باختفائه المباغت ، كل ذلك جعلني شديدة الانفعال وأغضب لأتفه الأسباب ، خاصة ً بعد أن زادت الشائعات التي تحكي عن تورطه بسخافات لها اسم وحيد هو: السياسة . نعم ، منذ أن أخذوه شعرت أني طعنت ، لم أعرف كيف أوصل لحسان صوتي المذبوح الذي يهيجه الظلام والذكريات والهلع .
كنا لا نأمل سوى أن يبعث حسان من جديد ونفلح بضحكة بريئة تنسينا جزع الموت وتطفله ، وبعد ثلاث شهور استنزفت كل الدموع .
وكل يوم أقول : سيعود حتما ً ، لابد أن يعود . لكني اليوم أجبت طفلتي التي تلج بالسؤال : لا ، لا يا حبيبتي ، لم يعد إلى الآن ...

12 /11 /2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي