الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العولمة الغربية والمشروع الإسلامي ، نظامان أخلاقيان في لحظة المواجهة

بتول قاسم ناصر

2013 / 7 / 11
العولمة وتطورات العالم المعاصر


بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي وزوال المعسكر الشرقي ، انفرد الغرب وعلى رأسه امريكا بزعامة العالم وانتهى نظام القطبية الى تفرد أحد القطبين. ولم يقض هذا الحال من القيادة الموحدة على عوامل التمايز الاجتماعي والحضاري والاقتصادي بين المجتمعات المختلفة في العالم ، بل عمل على تكريس هذا الانتصار لصالح مجتمعات الغرب الرأسمالي واصبح هناك نوعان منها : نوع هو الأقوى والمنتصر والمتفوق في مجال العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والمادة والحضارة. ونوع ينظر اليه بأنه الأضعف غير القادر على ان يلحق بالمجتمع المتقدم وان تكون له أسباب تقدمه ويعامل من موقع القوة والغطرسة والاستكبار ويعمل على تهميشه وقمعه واستضعافه. وظهرت بهذا نوعان من الآيديولوجيا : آيديولوجيا المعسكر القوي المتفوق التي تنطلق من الرغبة في الهيمنة والسيطرة والصراع والاستعلاء. وتجابهها آيديولوجيا المعسكر الآخر المتطلع الى العدالة والانصاف والراغب في التعايش والساعي الى حوار ثقافي وفكري يجد نفسه فيه قادراً على الإقناع.
لقد وجد الغرب الرأسمالي نفسه متفرداً لا ينازعه منازع قادر على الوقوف في وجهه بما يمتلكه من دواعي القدرة العسكرية والسياسية والثقافية والإعلامية. ووجد العالم الآخر نفسه دون هذه القدرات والمؤهلات. ولقد نقل هذا الحال العالم الى أعتاب عصر جديد كل الدلائل فيه تشير الى أنه يهيء الى تغير وتحول كبير تهجس به حالة المواجهة بين نوعين من الآيديولوجيا ونوعين ملائمين لها من القيم الأخلاقية والثقافية ، ثقافة الغرب الرأسمالي المتسيّد وقيمه الأخلاقية والثقافية والثقافة والقيم الأخلاقية التي تنتمي الى بلدان ومجتمعات يطلق عليها الغرب المنتصر (بقية العالم). وقد سمى الغرب مشروعه الذي تحكمه آيديولوجيته وقيمه الأخلاقية بالعولمة ، وتنطلق (بقية العالم) من رؤية فكرية وقيم أخلاقية تمثل النقيض الفكري والثقافي والحضاري للمشروع الغربي. وينتمي المشروع الحضاري الأسلامي الى هذا الموقف الفكري والأخلاقي المناهض للغرب بمشروعه المتمثل بالعولمة. لقد أصبح العالم إزاء ثقافتين وآيديولوجيتين : ثقافة استعمارية إمبريالية وثقافة انسانية متحررة ترفض التبعية وتتبنى المشاريع التحررية والوطنية. ويعمل كل من المشروعين على صياغة مفاهيمه الجديدة وتطوير مفاهيمه القديمة ويسعى من خلال هذه الصياغة على تهيئة نفسه ومجتمعاته للخروج من عصر الى عصر. وهما ينطلقان من محاولة السعي الى إثبات وجودهما وتثبيت مرتكزاتهما الثقافية والفكرية في العالم التي تصدر عن موقفين أخلاقيين متناقضين.
فالغرب يعمل من خلال تفرده بالسيطرة على محاولة احتواء الآخر غير الغربي والغائه ثقافيا ومعرفياً وتاريخياً ومحو هويته وخصائص وجوده وسماته الحضارية ويسعى الى إثبات نفسه وإحلال ثقافته ونظمه الفكرية محل غيره لتتحقق له هيمنة مطلقة متعددة الأبعاد تؤكد تفرده في التحكم في شؤون العالم.
ويتصدى بعض علماء الغرب لتعبئته ثقافياً وفكرياً ضد الثقافات والحضارات الاخرى التي تقع خارج مركزيته الفكرية. لقد أعاد الغرب الإستعماري النظر في (النظرية الاستعمارية) لتلافي الخلل في أساليبه ومشاريعه وخطواته التنفيذية التي منيت بالفشل في الماضي بعد أن لفظت الدول التي استعمرها الاستعمار وطردته عنها وذلك عندما كان احتلالاً عسكريا مباشراً أو غير مباشر. واكتشف أن الذي أعان هذه البلدان على التخلص من الاستعمار هو أنها تستند الى ثقافات عميقة قوية لا يمكن حملها على الانصياع والتطويع. ويشكل الدين العنصر الجوهري والفاعل والمحرك في هذه الثقافات وهو الذي يدفعها الى عدم مهادنة المستعمر وعدم القبول به والعمل على محاربته ودفعه عنها. ولهذا عمل قادة الفكر الاستعماري ومنظروه على إعداد صياغة نظرية جديدة للاستعمار تمثلت بمشروع (العولمة). هذا المشروع يسعى الى إعادة الهيمنة الاستعمارية على البلدان ولكن ليس من خلال السيطرة المباشرة والعسكرية أو ليس من خلالها وحدها وإنما بالاستعانة بالسيطرة الثقافية والفكرية والنظر الى هذه بأنها الأهم في تحقيق السيطرة الاستعمارية ، لأن الثقافة والأخلاق والقيم اذا استكانت للثقافة الغربية وسايرتها مكنت للاستعمار من نفسها وسهلت له امر التغلغل وبسط السيطرة. ولذلك تبذل الدول الاستعمارية كل جهودها في سبيل تطويع الثقافة الأخرى وتطبيعها وفتح أبوابها لتقبل أفكار ومبادئ الثقافة الغربية الاستعمارية من خلال مشروع العولمة. ولهذا يرى بعض المفكرين العرب أنه كما كان يقال إن الامبريالية أو الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية يصح أن يقال الآن : إن العولمة هي أعلى مراحل الرأسمالية الجديدة التي توصف بأنها الأشد توحشاً وشراسة.
تسعى العولمة الى الهيمنة على الاقتصاديات العالمية والثقافات والمعرفة بما يجرد الدول من سماتها الوطنية والقومية ومحو خصائصها ومحاربة الذاكرة والتاريخ والوعي ، والانتماء الى مكونات عالمية تابعة لمراكز القوى الاستعمارية الكبرى. فالعولمة منطق استبدادي غير ديمقراطي يعمل على فرض واقع اقتصادي وفكري وثقافي وايديولوجي على كل العالم وتذويب كل الثقافات الأخرى في منظومة القطب الواحد الذي يمثله الغرب الرأسمالي وتقوده امريكا بعد افراغها من محتواها أو تهميشها والعمل على تكييفها او تطويرها لكي تلحقها باهداف يعمل نظام العولمة على تحقيقها. أن العولمة تعمل على تحقيق مصالحها ، وهي تتبع منطقاً لا اخلاقياً أوصلها الى العدمية الأخلاقية والفكرية. وتسود هذه المرحلة من التطور الغربي والتي تسمى مرحلة ما بعد الحداثة موجة من الشك واللاتثبت واللايقين حتى عدت انقلاباً على العقلانية التي سادت مرحلة الحداثة الغربية. إنها الآن لا تحتكم الى العقل والى المنطق بل الى الغريزة التي تجعلها تندفع الى ما يحقق مصالحها الذاتية. فهي ثقافة نفعية وفكر أناني مدفوع بالمصلحة الخاصة. هذه المصلحة التي تجعل منها موجة بربرية تتحرك لتدمير الحضارة ، ولذا فإن هنالك من ينظر الى هذه المرحلة التي يمر بها الغرب بأنها إيذان بنهاية حضارته وتدميرها. أما شعاراتها الأخلاقية والإنسانية بالحرية والديمقراطية فهي شعارات زائفة لأنها لايمكن أن تكون داعية الى الحرية والديمقراطية لأن العولمة إلغاء واستباحة للأخر. وحتى بالنسبة الى بلدانها فلا وجود للديمقراطية والحرية الصحيحتين وذلك بسبب سيطرة الطبقة الرأسمالية التي تستأثر بالحكم وتستحوذ على وسائل الإعلام ولا تسمح لغيرها بالبروز والسيطرة. وهي تعمل على تربية شعوبها تربية أنانية نفعية لاترى الا مصالحها ولاتنفتح على غير آفاق حياتها المادية المحسوسة كل ذلك ليسهل لها حكمها والسيطرة عليها. ولقد حولت الرأسمالية الإنسان في مجتمعاتها الى كائن داجن طوع توجيهها لا أفق له ولا تطلع الى آفاق انسانية رحبة وأوضاع أرقى وأبقته في حال التقبل والرضى وحولته الى آلة مفرغة قابلة للتطويع والتوجيه وتعطيل إرادته واستلابه لكي يتسنى لها وحدها التحكم بمصيره ونهب ثراواته.
ويرى بعض المحللين أن العولمة لا تعمل على الغاء الآخر غير الغربي فقط بل إنها تعمل على الغاء الآخر الاوربي كذلك لتبقى العولمة تمثل امريكا وحدها ولا تطرح الا النمط السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري الامريكي. وهي بهذا تغليب للطابع المحلي الامريكي الذي تدعي أنه يمثل البشرية جمعاء وهو في الحقيقة لا يمثل الا امريكا لأنه يفقد الناس خصوصياتهم وهوياتهم ليطبعهم بطابع الهوية والخصوصية الامريكية التي تريد أن يحملها العالم كله. ويراها بعض المفكرين تعبيراً عن حقد وغل الحضارة الامريكية تجاه حضارات العالم الأخرى ذات التاريخ العريق ، لأنها حضارة بلا تأريخ ولهذا تسعى الى محو تأريخ العالم وعراقته وخصوصياته لكي يبقى مجرداً الا من بصمتها التاريخية عليه من خلال العولمة ، فهي تعمل على توجيه الناس بكل تفرعاتهم لكي يرتبطوا بانطلاقاتها التاريخية الحاضرة ولتكون بدء وجودهم الجديد.
لقد وجد الغرب الرأسمالي بعد أن انتهى اليه التطور التأريخي وحده وانفرد بقيادة العالم وفي سعيه للسيطرة عليه وبعد مراجعة لتأريخه الاستعماري ، إن الثقافة الخاصة والهوية والتأريخ الوطني كلها عوامل تحرك شعوب البلدان التي يسعى للسيطرة عليها لرفض سيطرته عليها واستعماره لبلدانها ، فهذه الثقافات الخاصة فيها عوامل قوية تأبى الانصياع والتبعية ويمثل الدين أقوى العوامل الثقافية المحرضة على دفع العدوان وجهاد المستعمرين. وهذا ما أكدته الأطروحات النظرية التي حاولت أن تختصر الموقف الفكري للقوى الاستعمارية وتقدم لها الخلاصات النظرية التي تعبر عن مشروعها الحضاري والأخلاقي الجديد لكي تسلحها في مواجهة ثقافة تمانعها في مشاريعها الاستعمارية. وهذه الأسس النظرية التي استندت اليها للنهوض بمشروع العولمة ولمواجهة الفكر والثقافة الأخرى وبالأخص الدينية التي تمثل المشروع المقابل لها تتمثل بنظريتين جرى الحديث عنهما والدعاية لهما على نحو واسع ، والانطلاق منهما أساساً نظرياً لبدء وتنفيذ اجراءات العولمة في غزو البلدان والسيطرة عليها. هاتان النظريتان هما : (نهاية التاريخ) و (صراع الحضارات). حاولت نظرية (نهاية التاريخ) أن تستفيد من المفاهيم الفلسفية الكبرى لا سيما فلسفة هيجل التي أخذت منها الماركسية العدو الفكري والتاريخي للغرب الرأسمالي لأن هذا كان يحس افتقاراً الى الأبنية الفكرية الكبرى وهو يجابه عدواً متسلحاً بالأفكار. وكما أخذت الماركسية من هيجل أخذت الليبرالية الغربية منه ما تفسر به انتصارها وتفردها في العالم وما يعطي هذا الانتصار صفة الحتمية التاريخية. فنهاية الصراع التاريخي مع النظام الاشتراكي وزوال هذا النظام وبقاء الليبرالية الرأسمالية تفسره بأنه تأكيد للأفكار الفلسفية الهيجلية التي تقول بنهاية التاريخ عند دولة محددة ونظام سياسي محدد هو الليبرالية الرأسمالية الذي هو الاختيار الوحيد المتبقي أمام الانسانية جمعاء كما تعتقد هذه النظرية ، وان نهاية التاريخ تحققت وتوقفت عند الليبرالية الرأسمالية التي تمثل انتصار التاريخ.
ولأن الصراع التاريخي انتهى عند الليبرالية الرأسمالية التي هي الخيار التاريخي الأخير للبشرية كما ترى نظرية (نهاية التاريخ) ، ولأن هذه هي النتيجة الأخيرة التي انتهى عندها التطور التاريخي حسب ما ترى هذه النظرية فإن عليها أن تمتد على جسد العالم كله. وهذا ما يرمي اليه مشروع العولمة الذي يسعى الى بسط سيطرة الدولة الغالبة على كل العالم. ولأن هنالك مقاومة من ثقافات ترفض أن تستسلم لهذا الخيار الإمبريالي تحاول نظرية (صراع الحضارات) أن تضع خطة للتعامل مع هذه الثقافات تستند الى حقائق او فروض نظرية مجملها أن النزاعات الدولية سواء منها الإقليمية او العالمية ستكون في المستقبل بصورة (صدام حضارات) وليس بصوة صراع آيديولوجيات وأفكار. ويتعامل واضع هذه النظرية مع محتواها لا كفروض مجردة إنما كحقائق تاريخية مؤكدة حكمت التاريخ في الماضي وستحكمه في المستقبل. وراح يعيد بناء التاريخ كله بما يجعل منه صداماً لحضارات يمحو بعضها بعضاً لأنها اجناس متمايزة من بعضها بصورة قاطعة. وعُد الدين العنصر الجوهري فيها لأنه العنصر الذي لا يقبل التغيير. وهذا العنصر الذي لا يقبل التغيير هو العنصر الذي يجابه العولمة ويقاومها في سعيها الى تغيير ثقافات الأمم المختلفة في حين أنه يأبى أن يتغير وأن ينصاع لأهدافها التي تتناقض مع تعاليمه.
وبعد أن تضع هذه النظرية تصورها لواقع الصراع الذي بقي على النظام الليبرالي الرأسمالي ان يخوضه تقدم مقترحها للتعامل مع هذه الثقافات التي يحركها الدين ضد المشاريع الاستكبارية التي تسعى للهيمنة. وتصنف هذه النظرية الحضارات القائمة في العالم الى تسع حضارات. وترى أن الحضارة الغربية (المسيحية – الكاثوليكية) التي تقود مسيرتها الولايات المتحدة الامريكية هي الحضارة المتفوقة على الحضارات الأخرى في كل المجالات. وقد انتهى اليها الصراع التاريخي بعد الانتصار على عدوها النظام الاشتراكي الماركسي. وليس هنالك من تحدٍ يقف أمام مشاريعها وتحقيق سطوتها ، الا من الثقافات والحضارات التي ازداد وعيها بذاتها ومقومات وجودها وبالحدود الفاصلة بينها. وهذا غير ما تريده العولمة. وتعيّن من هذه الحضارات الحضارتين الاسلامية والكونفوشية فإن إحساسهما بتميزهما واختلافهما وعدم استعدادهما للتنازل عن هذا التميز الحضاري يدفعهما الى الاستعداد لمواجهة الحضارة الغربية المسيحية وهناك من الدلائل – كما تبين هذه النظرية – ما يشير الى أنهما يتداولان السلاح فيما بينهما ويطورانه ويكدسانه استعداداً للحرب والمواجهة. وترى هذه النظرية أن حرباً ثالثة يمكن أن تندلع بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية. وتقدم مقترحاتها للانتصار في هذه المواجهة بالعمل على التماسك والوحدة في داخل المعسكر الغربي والعمل على التسلح والاستعداد للحرب واتخاذ كل التدابير للدفاع عن مركزه ومصالحه. وبدلاً من أن تدعو هذه النظرية الاطراف التي تفترض أنها ستتنازع لتلافي الوقوع في الصراع والحرب وتجنب الأخطار المدمرة فإنها ترسم خطة للحرب والصراع تضعها بين يدي الحضارة الأمريكية لحرب الحضارات (غير الغربية) التي لا تستسلم لمشيئتها وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية.
إن نظرية (صراع الحضارات) خطة بيد الولايات المتحدة لحرب الإسلام الذي يقاوم مشروع العولمة الامريكية. وانطلاقاً من هذه الأفكار ومن مشروعها الاستعماري لعولمة العالم قامت امريكا على رأس العالم الغربي الاستعماري بشن حملة إعلامية على مستوى العالم ضد صورة مشوهة للإسلام تمثلت بالقاعدة وطالبت بدعوى محاربة التطرف على لسان كبار سياسييها الدول الإسلامية بمحاولة إعادة النظر في مناهج التربية الإسلامية ومحو الافكار التي تدعو الى الجهاد لكي تحارب الإسلام الذي يدعو الى مناهضة المشروع الإستعماري في الجهاد ضده. وقامت بالتدخل المباشر في بعض الدول وعملت من هناك على تنفيذ مشروعها من خلال خطوات تنفيذية تمثلت بإثارة المشاكل الداخلية والاقليمية بما يجعل المجتمع يعيش في حالة اضطراب عبرت عنها السياسة الامريكية بالفوضى الخلاقة مما يجعل الحفاظ على النفس وتحقيق الأمن هو الحالة الوحيدة المطلوبة ومحاربة الاقتصاد الوطني ووضع العقبات أمام تنميته والتأثير عليه بما يعرض الناس الى الجوع ليبقى همهم الوحيد سد العوز والحاجة.
وفي مقابل (صراع الحضارات) يطرح الإسلام مشروعه المتمثل في (حوار الحضارات) وهي الصورة المثلى للعلاقة بين ثقافات وحضارات العالم. فالحوار والتعاون هو الأساس لا الصراع والتصادم. والنظرة المتسامحة المنفتحة على الآخر المؤمنة بالتعارف افضل في العلاقات البشرية من النظرية المتسلطة المتعالية التي اتسمت بها الحضارة الغربية والتي دفعتها الى استعمار دول العالم وهدم الحضارات الأخرى. وهي أسمى وأرقى من الحضارة الغربية التي تتفوق بالتقنية العسكرية والقوة المادية لا بالقيم الروحية والأخلاقية. ولو استطاع الغربيون أن يتجاوزوا هذه النظرة الضيقة واستبدلوا بمشروعهم مشروعاً للحوار فأنهم سيقدمون لأنفسهم وللعالم ضمانة للبقاء ووعداً بالسلام العالمي. ولقد دعى المفكرون الاسلاميون الى الانفتاح على الحضارات الأخرى وعدم الانغلاق على الثقافة والتراث الإسلامي على الرغم من عظمته وغناه لأن ذلك شرط للاستفادة مما لدى الحضارات الأخرى من منجزات وخبرات.
إن الخصوصية الحضارية لكل أمة لا تعني عدم وجود قواسم مشتركة بينها ثقافية واجتماعية ، والصحيح هو مد الجسور بينها والبحث عن القواسم المشتركة معها لا البحث عن أوجه الخلاف والتمايز كما تفعل النظريات العدوانية والتطلع الى الإنسانية جمعاء ومخاطبتها بلغة الصداقة والحوار لابلغة العداء والصراع.
وفي مقابل أفكار الصراع والعداء والاستعلاء وفي مقابل العولمة الغربية يتبنى الإسلام عولمة تسعى الى ضم الناس في وحدة حضارية انسانية تجعل عالمنا عائلة متآخية تشدها أواصر القربى وروابط المحبة فلا يبقى بين البشر نفور وتباعد ومناحرات وحروب. وهي عولمة حضارية ذات اهداف أخلاقية تنطلق من الغايات والأسباب الإلهية في خلق الناس أمماً وشعوباً بلغات وثقافات تختلف فيما بينها لكي يتعرف بعضها على بعضها الآخر : ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)) فالاختلاف يدعو الى التعاون والعلاقات الإنسانية المتميزة بالمودة ولا يدعو الى الصراع والتدابر واضطهاد الأمم بعضها لبعض واستعلائها عليها واستضعافها لها. إن الاختلاف غايته التعرف على الآخر والاعتراف به وليس إلغاءه ومحوه كما تفعل العولمة الرأسمالية.
إن العالم يشهد الآن مواجهة بين مشروعين ثقافيين : العولمة الرأسمالية والعولمة الاسلامية ، العولمة الإسلامية إنسانية تحكم بالعدالة الاجتماعية والسلام على مستوى العالم وتضع المطالبين بها على طريق الكفاح من أجل عالم أفضل وأكمل وأسعد وأرقى واجمل. العولمة الرأسمالية تعبير عن القوة وعن حالة مرضية تمزق النسيج الاجتماعي للمجتمعات العالمية وتعمم التناقضات وتعمق الهوة بين المستغلين والمسحوقين ، المستكبرين والمستعضفين على مستوى العالم. وهي تمثل مرحلة من مراحل تاريخ تطور الرأسمالية تسعى فيها الى تحقيق أعلى انتاج وأعلى ربحية تقترن باستخدام أرقى التكنولوجيا وأوسع وسائل الاتصال انتشاراً مما أدى الى فوضى الانتاج والمنافسة الوحشية بعيداً عن أي سعي لخير الإنسان. إن العولمة الأمريكية لا تعني العالم أجمع إنما تعني النموذج الامريكي فقط وتستهدف فرضه بعد إضفاء الطابع الكوني عليه على كل العالم. وهذه ينبغي التمييز بينها وبين العولمة الإسلامية التي لاتنحرف مثلها الى محاولة فرض القيم الاسلامية على جميع الناس مع أنها قيم لاتستعبد الناس وتستضعفهم وتتكبر عليهم. إن إضفاء الطابع العالمي على الأمور إنما يكون بعد الحوار بين الدول والمجتمعات ضمن أجواء حرة لاتنطوي على أوامر من الأعلى الى الأدنى وهو الأمر الذي لا تعترف به العولمة الامريكية بل هي تتصرف من منطلق الفوقية حتى على المنظمة الدولية للأمم المتحدة وتضرب توصياتها عرض الحائط وتحاول إخضاعها لمنطقها وسياساتها وجعلها أداة مسخرة بيدها ولمصلحتها لا لمصلحة أمم الأرض. وتتغافل عن حقيقة المعايير الدولية لحقوق الإنسان والتي تنص على التعددية الحضارية والثقافية والفكرية والسياسية لجميع شعوب الأرض لاستبعاد التمييز بينها وهو ما تهدمه في أسسه العولمة الامريكية بسعيها الى الغاء التعددية الثقافية والحضارية وفرض قيم واحدة عليها وهي قيم الثقافة والحضارة الأمريكية مستعينة بالتطور التقني ووسائله الذي تقوم عليه شركات عالمية كبرى تابعة لها.
وكما تعتدي على حقوق الإنسان الثقافية ، تعتدي العولمة الامريكية على حقوق الإنسان الاقتصادية في سعيها الى عولمة الاقتصاد العالمي وإخضاعه لضغوط السياسات المالية والنقدية للمؤسسات الدولية الخاضعة لها واجبارها على إجراء تبديلات هيكلية فيه انعكست سلباً على تمتع الشعوب بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية.
ويقف المشروع الإسلامي في وجه العولمة الرأسمالية ليدافع عن الإنسانية التي تريد ابتلاعها ويعمل على مقاومة أهدافها بالعمل على التمسك بالجذور والأصول والهوية المميزة التي تريد العولمة محوها واستيعاب أصحابها في منظومتها الثقافية. ويؤكد هذا التمسك قوة الانتماء وقوة المقاومة ضد هذه الأفكار المنحرفة عن الإنسانية والتي جعلت العصر الجديد الذي تحكمه يعيش أزمة اخلاقية حادة سببها شراهة وجشع الرأسمالية المتوحشة التي تعيد انتاج مشروعها الاستعماري القديم.
ويعمل الفكر الإسلامي من اجل النهوض بهذه المهمة على إعادة النظر بثقافته وقراءتها قراءة معاصرة لكي تكون قادرة على الاستجابة للتحديات الفكرية الجديدة. ويعمل في سبيل ذلك على التأسيس لمفاهيم ونظريات تستطيع مجابهة ما يطرح عليه من أسئلة معرفية جديدة ، ويسائل نفسه دائماً عن طبيعة مهمته ويعد العدة ويواصل البناء في إطار عملية مراجعة ونقد وتقويم لكي لا تكون مواقفه الفكرية عرضة للهدم.
إن العولمة الرأسمالية تتسبب في أكبر وأخطر أزمة اخلاقية في تأريخ البشرية ، وهي تقود العالم الى أزمة للقيم الاخلاقية لأنها توجهه الى المنفعة المادية ولا تقيم توازناً بين الجانب المادي والجانب الروحي في حياة الإنسان. وهذا يقتضي إعادة النظر بصوة جذرية ونقدية في الأسس القيمية والمعرفية التي ترتكز عليها الحضارة والأخلاق الغربية والتي تستمد من نسبية العقل الإنساني المحدود والمحكوم بالمصالح الذاتية. ويتبنى المشروع الاسلامي القيم الاخلاقية بوصفها بعداً من أبعاد الإيمان بالله المطلق ، فهي مباديء عامة كونية تفيض على العالم خيرها العميم. وتقابلها نسبية للقيم من وضع العقل الانساني وهو يعيش أزمته في ظل المفاهيم النفعية للرأسمالية الغربية. ومن هنا فإن التقدم الذي تدفع اليه العولمة الرأسمالية ليس تقدماً بل تقهقر أو تقدم نحو المجهول. فالتقدم الذي ليس فيه خلاص للبشرية هو تقهقر وهو سبيل الى الهلاك. والتقدم هو الذي يرتبط بالقيم الأخلاقية المسخرة لخدمة البشرية. إن الإسلام جاء بأخلاق ترتبط بتفضيل الله للإنسان في الكون واحترامه لإرادته ولوجوده. وهو يقف ضد الدعوات المضادة للحياة التي جعلها رحمة وتكريماً للإنسان.
إن التقدم الذي تعمل عليه العولمة يصاحبه انفصال عن القيم الروحية وقد صاحبت هذا الانفصال أزمات اجتماعية ليس لها حل لديها. وهذه الأزمات تستدعي حلاً معرفياً وأخلاقياً من مصدر متعالٍ على المصالح التي تستهوي الإنسان ومتجاوز لامكانات عقله المحدودة.
إن العالم تتواجه فيه الآن قيم أخلاقية متناقضة ، قيم الانسان المستبد المستكبر الساعي الى الاستعلاء في الأرض وإلغاء غيره ومصادرته. وقيم الله المطلق التي تدعو الى المحبة والمشاركة والتعاون وبذل النفس وعدم العلو وخفض الجانب وإقامة العدل وبسط الخير ... إنهما منهجان أخلاقيان مختلفان يعملان على تأكيد وجودهما ويتقابلان بكل تحدٍ من أجل تأكيد هذا الوجود ....








بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي وزوال المعسكر الشرقي ، انفرد الغرب وعلى رأسه امريكا بزعامة العالم وانتهى نظام القطبية الى تفرد أحد القطبين. ولم يقض هذا الحال من القيادة الموحدة على عوامل التمايز الاجتماعي والحضاري والاقتصادي بين المجتمعات المختلفة في العالم ، بل عمل على تكريس هذا الانتصار لصالح مجتمعات الغرب الرأسمالي واصبح هناك نوعان منها : نوع هو الأقوى والمنتصر والمتفوق في مجال العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والمادة والحضارة. ونوع ينظر اليه بأنه الأضعف غير القادر على ان يلحق بالمجتمع المتقدم وان تكون له أسباب تقدمه ويعامل من موقع القوة والغطرسة والاستكبار ويعمل على تهميشه وقمعه واستضعافه. وظهرت بهذا نوعان من الآيديولوجيا : آيديولوجيا المعسكر القوي المتفوق التي تنطلق من الرغبة في الهيمنة والسيطرة والصراع والاستعلاء. وتجابهها آيديولوجيا المعسكر الآخر المتطلع الى العدالة والانصاف والراغب في التعايش والساعي الى حوار ثقافي وفكري يجد نفسه فيه قادراً على الإقناع.
لقد وجد الغرب الرأسمالي نفسه متفرداً لا ينازعه منازع قادر على الوقوف في وجهه بما يمتلكه من دواعي القدرة العسكرية والسياسية والثقافية والإعلامية. ووجد العالم الآخر نفسه دون هذه القدرات والمؤهلات. ولقد نقل هذا الحال العالم الى أعتاب عصر جديد كل الدلائل فيه تشير الى أنه يهيء الى تغير وتحول كبير تهجس به حالة المواجهة بين نوعين من الآيديولوجيا ونوعين ملائمين لها من القيم الأخلاقية والثقافية ، ثقافة الغرب الرأسمالي المتسيّد وقيمه الأخلاقية والثقافية والثقافة والقيم الأخلاقية التي تنتمي الى بلدان ومجتمعات يطلق عليها الغرب المنتصر (بقية العالم). وقد سمى الغرب مشروعه الذي تحكمه آيديولوجيته وقيمه الأخلاقية بالعولمة ، وتنطلق (بقية العالم) من رؤية فكرية وقيم أخلاقية تمثل النقيض الفكري والثقافي والحضاري للمشروع الغربي. وينتمي المشروع الحضاري الأسلامي الى هذا الموقف الفكري والأخلاقي المناهض للغرب بمشروعه المتمثل بالعولمة. لقد أصبح العالم إزاء ثقافتين وآيديولوجيتين : ثقافة استعمارية إمبريالية وثقافة انسانية متحررة ترفض التبعية وتتبنى المشاريع التحررية والوطنية. ويعمل كل من المشروعين على صياغة مفاهيمه الجديدة وتطوير مفاهيمه القديمة ويسعى من خلال هذه الصياغة على تهيئة نفسه ومجتمعاته للخروج من عصر الى عصر. وهما ينطلقان من محاولة السعي الى إثبات وجودهما وتثبيت مرتكزاتهما الثقافية والفكرية في العالم التي تصدر عن موقفين أخلاقيين متناقضين.
فالغرب يعمل من خلال تفرده بالسيطرة على محاولة احتواء الآخر غير الغربي والغائه ثقافيا ومعرفياً وتاريخياً ومحو هويته وخصائص وجوده وسماته الحضارية ويسعى الى إثبات نفسه وإحلال ثقافته ونظمه الفكرية محل غيره لتتحقق له هيمنة مطلقة متعددة الأبعاد تؤكد تفرده في التحكم في شؤون العالم.
ويتصدى بعض علماء الغرب لتعبئته ثقافياً وفكرياً ضد الثقافات والحضارات الاخرى التي تقع خارج مركزيته الفكرية. لقد أعاد الغرب الإستعماري النظر في (النظرية الاستعمارية) لتلافي الخلل في أساليبه ومشاريعه وخطواته التنفيذية التي منيت بالفشل في الماضي بعد أن لفظت الدول التي استعمرها الاستعمار وطردته عنها وذلك عندما كان احتلالاً عسكريا مباشراً أو غير مباشر. واكتشف أن الذي أعان هذه البلدان على التخلص من الاستعمار هو أنها تستند الى ثقافات عميقة قوية لا يمكن حملها على الانصياع والتطويع. ويشكل الدين العنصر الجوهري والفاعل والمحرك في هذه الثقافات وهو الذي يدفعها الى عدم مهادنة المستعمر وعدم القبول به والعمل على محاربته ودفعه عنها. ولهذا عمل قادة الفكر الاستعماري ومنظروه على إعداد صياغة نظرية جديدة للاستعمار تمثلت بمشروع (العولمة). هذا المشروع يسعى الى إعادة الهيمنة الاستعمارية على البلدان ولكن ليس من خلال السيطرة المباشرة والعسكرية أو ليس من خلالها وحدها وإنما بالاستعانة بالسيطرة الثقافية والفكرية والنظر الى هذه بأنها الأهم في تحقيق السيطرة الاستعمارية ، لأن الثقافة والأخلاق والقيم اذا استكانت للثقافة الغربية وسايرتها مكنت للاستعمار من نفسها وسهلت له امر التغلغل وبسط السيطرة. ولذلك تبذل الدول الاستعمارية كل جهودها في سبيل تطويع الثقافة الأخرى وتطبيعها وفتح أبوابها لتقبل أفكار ومبادئ الثقافة الغربية الاستعمارية من خلال مشروع العولمة. ولهذا يرى بعض المفكرين العرب أنه كما كان يقال إن الامبريالية أو الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية يصح أن يقال الآن : إن العولمة هي أعلى مراحل الرأسمالية الجديدة التي توصف بأنها الأشد توحشاً وشراسة.
تسعى العولمة الى الهيمنة على الاقتصاديات العالمية والثقافات والمعرفة بما يجرد الدول من سماتها الوطنية والقومية ومحو خصائصها ومحاربة الذاكرة والتاريخ والوعي ، والانتماء الى مكونات عالمية تابعة لمراكز القوى الاستعمارية الكبرى. فالعولمة منطق استبدادي غير ديمقراطي يعمل على فرض واقع اقتصادي وفكري وثقافي وايديولوجي على كل العالم وتذويب كل الثقافات الأخرى في منظومة القطب الواحد الذي يمثله الغرب الرأسمالي وتقوده امريكا بعد افراغها من محتواها أو تهميشها والعمل على تكييفها او تطويرها لكي تلحقها باهداف يعمل نظام العولمة على تحقيقها. أن العولمة تعمل على تحقيق مصالحها ، وهي تتبع منطقاً لا اخلاقياً أوصلها الى العدمية الأخلاقية والفكرية. وتسود هذه المرحلة من التطور الغربي والتي تسمى مرحلة ما بعد الحداثة موجة من الشك واللاتثبت واللايقين حتى عدت انقلاباً على العقلانية التي سادت مرحلة الحداثة الغربية. إنها الآن لا تحتكم الى العقل والى المنطق بل الى الغريزة التي تجعلها تندفع الى ما يحقق مصالحها الذاتية. فهي ثقافة نفعية وفكر أناني مدفوع بالمصلحة الخاصة. هذه المصلحة التي تجعل منها موجة بربرية تتحرك لتدمير الحضارة ، ولذا فإن هنالك من ينظر الى هذه المرحلة التي يمر بها الغرب بأنها إيذان بنهاية حضارته وتدميرها. أما شعاراتها الأخلاقية والإنسانية بالحرية والديمقراطية فهي شعارات زائفة لأنها لايمكن أن تكون داعية الى الحرية والديمقراطية لأن العولمة إلغاء واستباحة للأخر. وحتى بالنسبة الى بلدانها فلا وجود للديمقراطية والحرية الصحيحتين وذلك بسبب سيطرة الطبقة الرأسمالية التي تستأثر بالحكم وتستحوذ على وسائل الإعلام ولا تسمح لغيرها بالبروز والسيطرة. وهي تعمل على تربية شعوبها تربية أنانية نفعية لاترى الا مصالحها ولاتنفتح على غير آفاق حياتها المادية المحسوسة كل ذلك ليسهل لها حكمها والسيطرة عليها. ولقد حولت الرأسمالية الإنسان في مجتمعاتها الى كائن داجن طوع توجيهها لا أفق له ولا تطلع الى آفاق انسانية رحبة وأوضاع أرقى وأبقته في حال التقبل والرضى وحولته الى آلة مفرغة قابلة للتطويع والتوجيه وتعطيل إرادته واستلابه لكي يتسنى لها وحدها التحكم بمصيره ونهب ثراواته.
ويرى بعض المحللين أن العولمة لا تعمل على الغاء الآخر غير الغربي فقط بل إنها تعمل على الغاء الآخر الاوربي كذلك لتبقى العولمة تمثل امريكا وحدها ولا تطرح الا النمط السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري الامريكي. وهي بهذا تغليب للطابع المحلي الامريكي الذي تدعي أنه يمثل البشرية جمعاء وهو في الحقيقة لا يمثل الا امريكا لأنه يفقد الناس خصوصياتهم وهوياتهم ليطبعهم بطابع الهوية والخصوصية الامريكية التي تريد أن يحملها العالم كله. ويراها بعض المفكرين تعبيراً عن حقد وغل الحضارة الامريكية تجاه حضارات العالم الأخرى ذات التاريخ العريق ، لأنها حضارة بلا تأريخ ولهذا تسعى الى محو تأريخ العالم وعراقته وخصوصياته لكي يبقى مجرداً الا من بصمتها التاريخية عليه من خلال العولمة ، فهي تعمل على توجيه الناس بكل تفرعاتهم لكي يرتبطوا بانطلاقاتها التاريخية الحاضرة ولتكون بدء وجودهم الجديد.
لقد وجد الغرب الرأسمالي بعد أن انتهى اليه التطور التأريخي وحده وانفرد بقيادة العالم وفي سعيه للسيطرة عليه وبعد مراجعة لتأريخه الاستعماري ، إن الثقافة الخاصة والهوية والتأريخ الوطني كلها عوامل تحرك شعوب البلدان التي يسعى للسيطرة عليها لرفض سيطرته عليها واستعماره لبلدانها ، فهذه الثقافات الخاصة فيها عوامل قوية تأبى الانصياع والتبعية ويمثل الدين أقوى العوامل الثقافية المحرضة على دفع العدوان وجهاد المستعمرين. وهذا ما أكدته الأطروحات النظرية التي حاولت أن تختصر الموقف الفكري للقوى الاستعمارية وتقدم لها الخلاصات النظرية التي تعبر عن مشروعها الحضاري والأخلاقي الجديد لكي تسلحها في مواجهة ثقافة تمانعها في مشاريعها الاستعمارية. وهذه الأسس النظرية التي استندت اليها للنهوض بمشروع العولمة ولمواجهة الفكر والثقافة الأخرى وبالأخص الدينية التي تمثل المشروع المقابل لها تتمثل بنظريتين جرى الحديث عنهما والدعاية لهما على نحو واسع ، والانطلاق منهما أساساً نظرياً لبدء وتنفيذ اجراءات العولمة في غزو البلدان والسيطرة عليها. هاتان النظريتان هما : (نهاية التاريخ) و (صراع الحضارات). حاولت نظرية (نهاية التاريخ) أن تستفيد من المفاهيم الفلسفية الكبرى لا سيما فلسفة هيجل التي أخذت منها الماركسية العدو الفكري والتاريخي للغرب الرأسمالي لأن هذا كان يحس افتقاراً الى الأبنية الفكرية الكبرى وهو يجابه عدواً متسلحاً بالأفكار. وكما أخذت الماركسية من هيجل أخذت الليبرالية الغربية منه ما تفسر به انتصارها وتفردها في العالم وما يعطي هذا الانتصار صفة الحتمية التاريخية. فنهاية الصراع التاريخي مع النظام الاشتراكي وزوال هذا النظام وبقاء الليبرالية الرأسمالية تفسره بأنه تأكيد للأفكار الفلسفية الهيجلية التي تقول بنهاية التاريخ عند دولة محددة ونظام سياسي محدد هو الليبرالية الرأسمالية الذي هو الاختيار الوحيد المتبقي أمام الانسانية جمعاء كما تعتقد هذه النظرية ، وان نهاية التاريخ تحققت وتوقفت عند الليبرالية الرأسمالية التي تمثل انتصار التاريخ.
ولأن الصراع التاريخي انتهى عند الليبرالية الرأسمالية التي هي الخيار التاريخي الأخير للبشرية كما ترى نظرية (نهاية التاريخ) ، ولأن هذه هي النتيجة الأخيرة التي انتهى عندها التطور التاريخي حسب ما ترى هذه النظرية فإن عليها أن تمتد على جسد العالم كله. وهذا ما يرمي اليه مشروع العولمة الذي يسعى الى بسط سيطرة الدولة الغالبة على كل العالم. ولأن هنالك مقاومة من ثقافات ترفض أن تستسلم لهذا الخيار الإمبريالي تحاول نظرية (صراع الحضارات) أن تضع خطة للتعامل مع هذه الثقافات تستند الى حقائق او فروض نظرية مجملها أن النزاعات الدولية سواء منها الإقليمية او العالمية ستكون في المستقبل بصورة (صدام حضارات) وليس بصوة صراع آيديولوجيات وأفكار. ويتعامل واضع هذه النظرية مع محتواها لا كفروض مجردة إنما كحقائق تاريخية مؤكدة حكمت التاريخ في الماضي وستحكمه في المستقبل. وراح يعيد بناء التاريخ كله بما يجعل منه صداماً لحضارات يمحو بعضها بعضاً لأنها اجناس متمايزة من بعضها بصورة قاطعة. وعُد الدين العنصر الجوهري فيها لأنه العنصر الذي لا يقبل التغيير. وهذا العنصر الذي لا يقبل التغيير هو العنصر الذي يجابه العولمة ويقاومها في سعيها الى تغيير ثقافات الأمم المختلفة في حين أنه يأبى أن يتغير وأن ينصاع لأهدافها التي تتناقض مع تعاليمه.
وبعد أن تضع هذه النظرية تصورها لواقع الصراع الذي بقي على النظام الليبرالي الرأسمالي ان يخوضه تقدم مقترحها للتعامل مع هذه الثقافات التي يحركها الدين ضد المشاريع الاستكبارية التي تسعى للهيمنة. وتصنف هذه النظرية الحضارات القائمة في العالم الى تسع حضارات. وترى أن الحضارة الغربية (المسيحية – الكاثوليكية) التي تقود مسيرتها الولايات المتحدة الامريكية هي الحضارة المتفوقة على الحضارات الأخرى في كل المجالات. وقد انتهى اليها الصراع التاريخي بعد الانتصار على عدوها النظام الاشتراكي الماركسي. وليس هنالك من تحدٍ يقف أمام مشاريعها وتحقيق سطوتها ، الا من الثقافات والحضارات التي ازداد وعيها بذاتها ومقومات وجودها وبالحدود الفاصلة بينها. وهذا غير ما تريده العولمة. وتعيّن من هذه الحضارات الحضارتين الاسلامية والكونفوشية فإن إحساسهما بتميزهما واختلافهما وعدم استعدادهما للتنازل عن هذا التميز الحضاري يدفعهما الى الاستعداد لمواجهة الحضارة الغربية المسيحية وهناك من الدلائل – كما تبين هذه النظرية – ما يشير الى أنهما يتداولان السلاح فيما بينهما ويطورانه ويكدسانه استعداداً للحرب والمواجهة. وترى هذه النظرية أن حرباً ثالثة يمكن أن تندلع بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية. وتقدم مقترحاتها للانتصار في هذه المواجهة بالعمل على التماسك والوحدة في داخل المعسكر الغربي والعمل على التسلح والاستعداد للحرب واتخاذ كل التدابير للدفاع عن مركزه ومصالحه. وبدلاً من أن تدعو هذه النظرية الاطراف التي تفترض أنها ستتنازع لتلافي الوقوع في الصراع والحرب وتجنب الأخطار المدمرة فإنها ترسم خطة للحرب والصراع تضعها بين يدي الحضارة الأمريكية لحرب الحضارات (غير الغربية) التي لا تستسلم لمشيئتها وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية.
إن نظرية (صراع الحضارات) خطة بيد الولايات المتحدة لحرب الإسلام الذي يقاوم مشروع العولمة الامريكية. وانطلاقاً من هذه الأفكار ومن مشروعها الاستعماري لعولمة العالم قامت امريكا على رأس العالم الغربي الاستعماري بشن حملة إعلامية على مستوى العالم ضد صورة مشوهة للإسلام تمثلت بالقاعدة وطالبت بدعوى محاربة التطرف على لسان كبار سياسييها الدول الإسلامية بمحاولة إعادة النظر في مناهج التربية الإسلامية ومحو الافكار التي تدعو الى الجهاد لكي تحارب الإسلام الذي يدعو الى مناهضة المشروع الإستعماري في الجهاد ضده. وقامت بالتدخل المباشر في بعض الدول وعملت من هناك على تنفيذ مشروعها من خلال خطوات تنفيذية تمثلت بإثارة المشاكل الداخلية والاقليمية بما يجعل المجتمع يعيش في حالة اضطراب عبرت عنها السياسة الامريكية بالفوضى الخلاقة مما يجعل الحفاظ على النفس وتحقيق الأمن هو الحالة الوحيدة المطلوبة ومحاربة الاقتصاد الوطني ووضع العقبات أمام تنميته والتأثير عليه بما يعرض الناس الى الجوع ليبقى همهم الوحيد سد العوز والحاجة.
وفي مقابل (صراع الحضارات) يطرح الإسلام مشروعه المتمثل في (حوار الحضارات) وهي الصورة المثلى للعلاقة بين ثقافات وحضارات العالم. فالحوار والتعاون هو الأساس لا الصراع والتصادم. والنظرة المتسامحة المنفتحة على الآخر المؤمنة بالتعارف افضل في العلاقات البشرية من النظرية المتسلطة المتعالية التي اتسمت بها الحضارة الغربية والتي دفعتها الى استعمار دول العالم وهدم الحضارات الأخرى. وهي أسمى وأرقى من الحضارة الغربية التي تتفوق بالتقنية العسكرية والقوة المادية لا بالقيم الروحية والأخلاقية. ولو استطاع الغربيون أن يتجاوزوا هذه النظرة الضيقة واستبدلوا بمشروعهم مشروعاً للحوار فأنهم سيقدمون لأنفسهم وللعالم ضمانة للبقاء ووعداً بالسلام العالمي. ولقد دعى المفكرون الاسلاميون الى الانفتاح على الحضارات الأخرى وعدم الانغلاق على الثقافة والتراث الإسلامي على الرغم من عظمته وغناه لأن ذلك شرط للاستفادة مما لدى الحضارات الأخرى من منجزات وخبرات.
إن الخصوصية الحضارية لكل أمة لا تعني عدم وجود قواسم مشتركة بينها ثقافية واجتماعية ، والصحيح هو مد الجسور بينها والبحث عن القواسم المشتركة معها لا البحث عن أوجه الخلاف والتمايز كما تفعل النظريات العدوانية والتطلع الى الإنسانية جمعاء ومخاطبتها بلغة الصداقة والحوار لابلغة العداء والصراع.
وفي مقابل أفكار الصراع والعداء والاستعلاء وفي مقابل العولمة الغربية يتبنى الإسلام عولمة تسعى الى ضم الناس في وحدة حضارية انسانية تجعل عالمنا عائلة متآخية تشدها أواصر القربى وروابط المحبة فلا يبقى بين البشر نفور وتباعد ومناحرات وحروب. وهي عولمة حضارية ذات اهداف أخلاقية تنطلق من الغايات والأسباب الإلهية في خلق الناس أمماً وشعوباً بلغات وثقافات تختلف فيما بينها لكي يتعرف بعضها على بعضها الآخر : ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)) فالاختلاف يدعو الى التعاون والعلاقات الإنسانية المتميزة بالمودة ولا يدعو الى الصراع والتدابر واضطهاد الأمم بعضها لبعض واستعلائها عليها واستضعافها لها. إن الاختلاف غايته التعرف على الآخر والاعتراف به وليس إلغاءه ومحوه كما تفعل العولمة الرأسمالية.
إن العالم يشهد الآن مواجهة بين مشروعين ثقافيين : العولمة الرأسمالية والعولمة الاسلامية ، العولمة الإسلامية إنسانية تحكم بالعدالة الاجتماعية والسلام على مستوى العالم وتضع المطالبين بها على طريق الكفاح من أجل عالم أفضل وأكمل وأسعد وأرقى واجمل. العولمة الرأسمالية تعبير عن القوة وعن حالة مرضية تمزق النسيج الاجتماعي للمجتمعات العالمية وتعمم التناقضات وتعمق الهوة بين المستغلين والمسحوقين ، المستكبرين والمستعضفين على مستوى العالم. وهي تمثل مرحلة من مراحل تاريخ تطور الرأسمالية تسعى فيها الى تحقيق أعلى انتاج وأعلى ربحية تقترن باستخدام أرقى التكنولوجيا وأوسع وسائل الاتصال انتشاراً مما أدى الى فوضى الانتاج والمنافسة الوحشية بعيداً عن أي سعي لخير الإنسان. إن العولمة الأمريكية لا تعني العالم أجمع إنما تعني النموذج الامريكي فقط وتستهدف فرضه بعد إضفاء الطابع الكوني عليه على كل العالم. وهذه ينبغي التمييز بينها وبين العولمة الإسلامية التي لاتنحرف مثلها الى محاولة فرض القيم الاسلامية على جميع الناس مع أنها قيم لاتستعبد الناس وتستضعفهم وتتكبر عليهم. إن إضفاء الطابع العالمي على الأمور إنما يكون بعد الحوار بين الدول والمجتمعات ضمن أجواء حرة لاتنطوي على أوامر من الأعلى الى الأدنى وهو الأمر الذي لا تعترف به العولمة الامريكية بل هي تتصرف من منطلق الفوقية حتى على المنظمة الدولية للأمم المتحدة وتضرب توصياتها عرض الحائط وتحاول إخضاعها لمنطقها وسياساتها وجعلها أداة مسخرة بيدها ولمصلحتها لا لمصلحة أمم الأرض. وتتغافل عن حقيقة المعايير الدولية لحقوق الإنسان والتي تنص على التعددية الحضارية والثقافية والفكرية والسياسية لجميع شعوب الأرض لاستبعاد التمييز بينها وهو ما تهدمه في أسسه العولمة الامريكية بسعيها الى الغاء التعددية الثقافية والحضارية وفرض قيم واحدة عليها وهي قيم الثقافة والحضارة الأمريكية مستعينة بالتطور التقني ووسائله الذي تقوم عليه شركات عالمية كبرى تابعة لها.
وكما تعتدي على حقوق الإنسان الثقافية ، تعتدي العولمة الامريكية على حقوق الإنسان الاقتصادية في سعيها الى عولمة الاقتصاد العالمي وإخضاعه لضغوط السياسات المالية والنقدية للمؤسسات الدولية الخاضعة لها واجبارها على إجراء تبديلات هيكلية فيه انعكست سلباً على تمتع الشعوب بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية.
ويقف المشروع الإسلامي في وجه العولمة الرأسمالية ليدافع عن الإنسانية التي تريد ابتلاعها ويعمل على مقاومة أهدافها بالعمل على التمسك بالجذور والأصول والهوية المميزة التي تريد العولمة محوها واستيعاب أصحابها في منظومتها الثقافية. ويؤكد هذا التمسك قوة الانتماء وقوة المقاومة ضد هذه الأفكار المنحرفة عن الإنسانية والتي جعلت العصر الجديد الذي تحكمه يعيش أزمة اخلاقية حادة سببها شراهة وجشع الرأسمالية المتوحشة التي تعيد انتاج مشروعها الاستعماري القديم.
ويعمل الفكر الإسلامي من اجل النهوض بهذه المهمة على إعادة النظر بثقافته وقراءتها قراءة معاصرة لكي تكون قادرة على الاستجابة للتحديات الفكرية الجديدة. ويعمل في سبيل ذلك على التأسيس لمفاهيم ونظريات تستطيع مجابهة ما يطرح عليه من أسئلة معرفية جديدة ، ويسائل نفسه دائماً عن طبيعة مهمته ويعد العدة ويواصل البناء في إطار عملية مراجعة ونقد وتقويم لكي لا تكون مواقفه الفكرية عرضة للهدم.
إن العولمة الرأسمالية تتسبب في أكبر وأخطر أزمة اخلاقية في تأريخ البشرية ، وهي تقود العالم الى أزمة للقيم الاخلاقية لأنها توجهه الى المنفعة المادية ولا تقيم توازناً بين الجانب المادي والجانب الروحي في حياة الإنسان. وهذا يقتضي إعادة النظر بصوة جذرية ونقدية في الأسس القيمية والمعرفية التي ترتكز عليها الحضارة والأخلاق الغربية والتي تستمد من نسبية العقل الإنساني المحدود والمحكوم بالمصالح الذاتية. ويتبنى المشروع الاسلامي القيم الاخلاقية بوصفها بعداً من أبعاد الإيمان بالله المطلق ، فهي مباديء عامة كونية تفيض على العالم خيرها العميم. وتقابلها نسبية للقيم من وضع العقل الانساني وهو يعيش أزمته في ظل المفاهيم النفعية للرأسمالية الغربية. ومن هنا فإن التقدم الذي تدفع اليه العولمة الرأسمالية ليس تقدماً بل تقهقر أو تقدم نحو المجهول. فالتقدم الذي ليس فيه خلاص للبشرية هو تقهقر وهو سبيل الى الهلاك. والتقدم هو الذي يرتبط بالقيم الأخلاقية المسخرة لخدمة البشرية. إن الإسلام جاء بأخلاق ترتبط بتفضيل الله للإنسان في الكون واحترامه لإرادته ولوجوده. وهو يقف ضد الدعوات المضادة للحياة التي جعلها رحمة وتكريماً للإنسان.
إن التقدم الذي تعمل عليه العولمة يصاحبه انفصال عن القيم الروحية وقد صاحبت هذا الانفصال أزمات اجتماعية ليس لها حل لديها. وهذه الأزمات تستدعي حلاً معرفياً وأخلاقياً من مصدر متعالٍ على المصالح التي تستهوي الإنسان ومتجاوز لامكانات عقله المحدودة.
إن العالم تتواجه فيه الآن قيم أخلاقية متناقضة ، قيم الانسان المستبد المستكبر الساعي الى الاستعلاء في الأرض وإلغاء غيره ومصادرته. وقيم الله المطلق التي تدعو الى المحبة والمشاركة والتعاون وبذل النفس وعدم العلو وخفض الجانب وإقامة العدل وبسط الخير ... إنهما منهجان أخلاقيان مختلفان يعملان على تأكيد وجودهما ويتقابلان بكل تحدٍ من أجل تأكيد هذا الوجود ....
























التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت