الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراسة في مكونات المجتمع المدني وأدوارها في دولة المؤسسات, العراق نموذجا, الحلقة الأولى

هيثم الحلي الحسيني

2013 / 7 / 13
المجتمع المدني


المقدمة
يعبّر بدولة المؤسسات، عن شكل التنظيم السياسي للدولة، الذي تتجلى به الحداثة والمأسسة, في الادارة واليات صنع وإتخاذ القرار، والدور المجتمعي والثقافي، الذي يعتمد الديمقراطية كنهج للدولة, والتخطيط الحكومي المنهجي, في بناء مؤسساتها, وتفعيل أدوارها ومهامها.
إن الديمقراطية كنهج للحياة في الدولة والمجتمع، والذي يفترض إعتماده, في الخطاب السياسي الحكومي, ومناهج الحكومة المنتخبة وبرامجها, لا تعتبر نظاما سياسيا فقط، فهي تحيط بالحياة العامة في جميع مجالاتها, السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتتشكل بها المسارات الرئيسة, للبناء الديمقراطي السليم للدولة.
ان الديمقراطية السياسية, لا تكون ذات أثر عملي، دون أن تكملها الملاحق المتممة لها, ضمن المسارات الديمقراطية الأخرى، فإذا كانت الديمقراطية السياسية، تتحقق من خلال أنشطة وفعاليات المؤسسة السياسية، التي تتشكل من الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية، فإن المسارات الديمقراطية الأخرى, تضطلع بالدور الأكبر فيها، مكونات المجتمع المدني.
وبهدف تغطية المفردات المعرفية, لموضوع المجتمع المدني, ضمن نطاق الدراسة ومقاصدها, فقد جرى هيكلية الدراسة شكلياً, الى خمسة حلقات, لتستجيب مخرجاتها البحثية, لمعضلة الدراسة وغايتها, في بيان مفاهيم المجتمع المدني, وأغراضه وأهدافه, وأدواره التي يضطلع بها في دولة المؤسسات, والإتجاهات المستقبلية, في تنشيطها وتفعيلها, ضمن تجربة العراق نموذجا للدراسة, بما يضمن إستقامة النظام الديمقراطي, وثوابته وآلياته, وبالتالي نشر ثقافته, وتعميم الوعي المجتمعي, في تبيان حقوق الفرد وواجباته, التي تعبّر عن مهام المجتمع المدني, بصفتها الضمانة الأساس, في العملية الديمقراطية.
والدراسة قد تأسست على أصل ورقة موجزة, نشرت في مقاطع متسلسلة, على صفحات صحيفة "بغداد" البغداية, في العام 2004, بعنوان "دور وآليات المجتمع المدني في مسار البناء الديمقراطي السليم للدولة العراقية", وقد أعتمدت كمرجع أساس, للمادة البحثية, لأول أطروحة "دكتوراة" جامعية في العراق, في موضوعها, لنفس العام, وأعيد نشر الورقة, في العام 2007, ضمن موقع عراق المستقبل, وصحيفة النبأ, الورقية والألكترونية.
ولأهمية المادة والموضوع, وتعلّقه بمسارات العملية السياسية, والسجال المحتد بين الفاعلين فيها, وإنعكاسات تداعياته المجتمعية, ولإستقراء الحاجة والضرورة, لتعميم هذه الثقافة ومتبنياتها, ضمن المجتمع والقائمين على الدولة, فقد جرى إعادة هيكلية الورقة وشكليتها, وترصين مادتها المعرفية والفكرية, وتعميق الدراسة فيها, لتكون بالشكل الملائم, لأهدافها ومعضلتها البحثية, وقد وسمت بعنوان "مكونات المجتمع المدني وأدوارها في دولة المؤسسات, العراق نموذجا.
ستكون هذه الحلقة الأولى, من الدراسة, موسومة "مقاصد المفهوم البنيوي للمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية", وسترفق الدراسة, بجملة من التوصيات الرصينة, التي خلصت لها مخرجات الدراسة, محررة بمقترحات لترتيبات تنفيذها, مع قائمة بالمراجع, لكل حلقة من الدراسة, فيما ستوسم الحلقات الأخرى كما يلي:
الحلقة الثانية: عناصر العمل في منظمات المجتمع المدني وعوامل التأثير في أنشطتها.
الحلقة الثالثة: تصنيف مكونات المجتمع المدني, ومهامها ومعوقاتها, العراق نموذجا.
الحلقة الرابعة: أدوار المجتمع المدني في عملية صنع القرار لدولة المؤسسات.
الحلقة الخامسة: الإتجاهات العامة المستقبلية, في تنشيط أدوار المجتمع المدني, العراق نموذجا.

الحلقة الأولى
مقاصد المفهوم البنيوي للمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية

أولاً: مدخل لبنية المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية
توفر الديمقراطية بوصفها أسلوب في الحياة، فرصة لأصحاب الكفاءات, من ذوي المعارف والمهارات المنتجة والخلاقة، للعمل والإبداع للصالح العام، بما يضمن تقدمهم للمجتمع، فتتشكل بهم الجمعيات والمنظمات غير الحكومية NGOs, "nongovernment organizations", وفق ما يتيح لهم دستور الدولة الديمقراطية، فينظم اليها أفراد المجتمع بشكل واسع، لمنحهم امكانية المشاركة في مجمل أنشطة العمل العام.
إن المجتمع المنظّم، هو الذي تكون هيئاته وتنظيماته، هادفة إلى منح جميع أفراده، الفرص الكافية, المتكافئة والمتعادلة، لإشباع حاجاتهم في الحرية والحياة الرفيعة، ولكي يكون المجتمع كذلك، لا بد لأفراده أن يؤدوا الخدمة للصالح العام، بحيث يشعر الفرد، انه إذا اشتغل لأجل المجتمع، إنما هو مشتغل لأجل نفسه.
من خصائص الديمقراطية، أنها تدفع أصحاب الموهبة والكفاءة للبروز، وتوفر لهم أسباب العمل والنجاح, والبيئة التي تساعد على إشغالهم المواقع التي يستحقونها، فتفتح بذلك الطريق واسعا، ليظهروا إمكاناتهم في ميدان العمل العام.
ان هذا الكسب الذي يبدوا في النظرة الضيقة، انه مكسب فردي، غير أنه في الواقع العملي والمحصلة النهائية, إنما هو مكسب للمجتمع، لكي يتقدمه ويقوم بخدمته، من هو الأكفأ والأجدر على ذلك, ولذلك فان على النظام الديمقراطي, ان يجري نفس آلية التنافس الحر في اختيار القادة للنظام السياسي، في إختيار المؤهلين للخدمة الاجتماعية العامة أيضا، عملا بالمثل القديم (الوظيفة هي التي تظهر الإنسان) (1) .
فمن اجل إعداد القادة المؤهلين للخدمة الاجتماعية، يوفر المجتمع الديمقراطي فرصة للنخب المؤهلة وذات الكفاءات الرفيعة، للانضمام إلى مجموعة كبيرة من المنظمات والجمعيات والهيئات والمؤسسات التطوعية، غير الحكومية، NGOs, فيما يطلق عليها اصطلاحا, بالمجتمع المدنيsociety civil، C.S., برغم أن مفهوم المجتمع المدني, هو أوسع منها, وأكثر إتساعا, لأنه يشمل أنشطة وفعاليات أخرى, فاعلة في المحتمع, وإن تكن غير منخرطة بتنظيم أو منظمة, ومنها دور الفرد والأسرة, ودور الرأي العام, والنشاط الشعبي العفوي, وحركة الشارع ونبضه ومزاجه, ورؤيته للحكم والدولة, وتطلعاته ورغباته وحاجاته, فضلا عن فعالياته المختلفة, المنظمة منها وغير المنظمة, غير أن هذه المنظمات, لجهة كونها الحجم الرئيس في الفعاليات المجتمعية, أصبح عنوانها متماه وتعبير المجتمع المدني.
إن هذه المنظمات غير الحكومية, التي يتشكل منها الحجم الأكبر من المجتمع المدني, لا تخضع لسيطرة الحكومة، ولا تمولّ من قبلها، وان من حق الأفراد في المجتمع الديمقراطي، الإنظمام بحرية اليها بشكل واسع، وهذا آمر جوهري وأساس بالنسبة للنظام الديمقراطي وآلياته، فعندما تتّحد وتشترك مجموعة من الأفراد, أو جزء من المجتمع، تربطهم مصلحة مشتركة، أو اهتمام مشترك، فذلك يمنحهم قدرة أكبر, لإسماع أصواتهم, وإمكانية تأثيرهم، في مجمل المسائل العامة في الدولة والمجتمع، مما يؤهلهم لان يكون لهم صوت مسموع في قضايا الساعة العامة، ورأي في القرارات والإجراءات التي تتخذ في هذا الشأن.
وبالتالي سيكون لهم حضور في مراكز صنع القرار ومتابعة تنفيذه، وهي المجلس أو الجمعية أو الهيئات المنتخبة, ذات الوظيفة التشريعية أو الرقابية أو الاستشارية في الدولة, إذ أن تمتع مكونات المجتمع المدني, بدرجة من الاستقلالية، يحفظ لها مكانا وسطا بين الدولة وعموم المجتمع، بما يضمن للحكومة المنتخبة, ويفرض عليها, إضطلاعها بالدور المتوازن, في التعبير عن إرادة القاعدة الشعبية، وثوابت الأداء الديمقراطي.
ثانياً: مفهوم المجتمع المدني وعلاقته بالدولة
يعود مصطلح المجتمع المدني, إلى فلاسفة العقد الاجتماعي، الذين تعاملوا مع العلاقات التنسيقية والتعاونية بين الأفراد، باعتبارها علاقات منشئة للمجتمع وحافظة لاستقراره، ثم تطوّر المفهوم، ليوصف باعتباره شبكة من التفاعلات التلقائية, القائمة على العادات والأعراف والتقاليد(2)، بما يعبر عنه بالثقافة العامة culture, ضمن المفهوم الأوسع للمفردة, ليتميز بذلك مقصد المجتمع المدني, عن مفهوم الدولة، التي توصف بأنها مجموعة من المؤسسات السياسية والقانونية, التي تمارس في إطارها، شبكة العلاقات المكوّنة للمجتمع.
وبرغم هذه الجذور التاريخية للمفهوم، إلّا أن استخدامه بشكل مكثف في أدبيات السياسة المقارنة, ارتبط بعقدي الثمانيات والتسعينات، وما صحبهما من تطور في إتجاه الديمقراطية, وعليه فان مفهوم "المجتمع المدني", قد ولد في رحم البناء الديمقراطي، فاصبح يعبّر عن مجموعات المنظمات الاجتماعية غير الحكومية، التي تتمتع باستقلاليتها عن الدولة، وتعبّر عن إرادة القاعدة الشعبية الإجتماعية، وتمثل المؤشر الإجتماعي للحكومة, والضمانة للثوابت الديمقراطية فيها.
ولجهة الحكومة, فان المجتمع المدني يمثل الضمان لحصولها على الثقة الشعبية، من خلال نواب الشعب وممثليه المنتخبين, والمصدر الحيوي لاختيار الائتلاف السياسي وتكليفه لتشكيلها, فهو ليس جزءا من الحكومة أو الدولة, ولا يهدف أو يسعى, لإشغال أية مواقع في مؤسساتها, ولا يشكل جزءا من سلطاتها, وإن كان يعبّر عنه مجازا, بسلطة رابعة أو خامسة, بقصد تبيان دوره الرقابي المجتمعي, ونشاطه الإستشاري, وممارسته في توفير المعلومات الأساس, لمؤسسسات الدولة وسلطاته.
وعليه فالمجتمع المدني, لا يمارس العمل السياسي التقليدي, أسوة بالأحزاب والكيانات السياسية, الذي يبتنى على التنافس الإنتخابي, والسعي للفوز في العملية الإنتخابية, في ممارسة التداول السلمي للسلطة, فذلك خارج مهامه وإختصاصه وأهدافه.
ثالثاً: المفهوم العام للمنظمة وفلسفة عملها
المنظمة، هي وحدة بناء المجتمع المدني، فعندما يضبط عمل المنظمة وفق أساسيات الأداء الديمقراطي، ينسحب ذلك على أداء المجتمع المدني, فالمنظمة هي ترتيب أو كيان اجتماعي، تجري فيه السيطرة على الأداء، وتوجيهه نحو تحقيق أهداف اجتماعية، وهي ليست مجرد كيانات مادية ومعنوية، بل هي قبل ذلك كيانات حية، تنشأ وتنمو أو تموت، ضمن البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، التي تحيط بها وتتفاعل معها(3).
عليه فلاجل أن تحيا هذه المنظمات وتنمو وتتطور، لا بد من إيجاد البيئة والوسط الملائمتين لذلك، إذ أن هنالك بعدين في العمل لأية منظمة أو مؤسسة، الأول هو "البعد الفلسفي"، وهو الأساس النظري الذي تقوم عليه فكرة أي عمل أو نشاط ضمن المنظمة، ويتحدد ضمن الاتجاه المادي أو الفكري المثالي. أما البعد الثاني، فهو "بعد الإنجاز"، وهو الأساس والبناء التطبيقي، الذي يعمل على تحويل الأفكار والمبادئ, إلى واقع ملموس.
وهنالك إتجاهان في البعد الإنجازي، الأول يؤكد على الأساس الفردي للعمل والإنجاز (individualism)، ويضع مصلحة الفرد فوق كل اعتبار، على أساس أن جميع القيم والحقوق والواجبات, تنبثق من الأفراد، وان الفرد هو وحدة التنظيم الرئيسة، وهذا الإتجاه من المنظمات, منتشر في المجتمع الغربي.
أما الاتجاه الثاني، فهو الذي يؤكد على قيم الجماعة وأهميتها وأسبقيتها، وان الإنجاز الجماعي هو الأساس، والمصلحة الجماعية تأتي بدرجة سابقة لمصلحة الفرد، عليه فان الجماعة في هذا الاتجاه من المنظمات، هي وحدة التنظيم الرئيسة، وهذا الأسلوب منتشر في المجتمع الياباني مثلا.
إن التركيز على وحدة الفرد التنظيمية، يشجع على التفوق والتنافس نحو الأفضل في العطاء والإبداع، في حين أن وحدة الجماعة التنظيمية، ستمنع إشاعة نظرة التفوق والفردية، وحب الذات، وتشيع العمل الجماعي المرتبط بقيم التعاون والتكامل الإبداعي (4).
وعليه فان المنظمات التي تنسجم ومتطلبات مجتمعاتنا، لا بد لها من تحقيق الموازنة بين الإتجاهين الفردي والجماعي، لتكون النموذج الأمثل في العمل والأداء، وصولا إلى ما يمكن أن يطلق عليه، بالمنظمات المتكاملة.

________________________________________
الهوامش
1. عطا بكري، الأستاذ, الدستور وحقوق الأنسان، فلسفة تشريع الديمقراطية، ج1، ص 44.
2. مشرف هلال، الأستاذ, معجم المصطلحات السياسية، ص 159.
3. منقذ محمد داغر, "الدكتور"، تصنيف المؤسسات وأسسها الفكرية، مجلة الدفاع، جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا, العدد 8، لسنة 2000، ص 79.
4. قيس سلمان, "الدكتور"، المنظمة ومفهومها، برنامج الإدارة العلمية الحديثة، كلية الدفاع الوطني، جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا, بغداد 1998.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاريس بشار: العنصرية ضد السوريين في لبنان موجودة لدى البعض..


.. مشاهد لاعتقال العشرات من اعتصام تضامني مع غزة بجامعة نيويورك




.. قانون ترحيل طالبي اللجوء من بريطانيا لرواندا ينتظر مصادقة ال


.. نشرة 8 غرينتش | أدلة إسرائيل لا تدين الأونروا.. ويورانيوم إي




.. تقرير أممي مستقل: إسرائيل لم تقدم حتى الآن أي دليل على ارتبا