الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزهار جابر السوداني الفجائعية- قراءة إنطباعية

عبد الفتاح المطلبي

2013 / 7 / 25
الادب والفن


أزهار جابر السوداني الفجائعية
(( قراءةٌ إنطباعية))
عبد الفتاح المطلبي
ابتداءً لا أتوخى من قراءة ديوان الأستاذ الشاعر جابر السوداني عرضا نقديا منهجيا فذلك شأن الأساتذة النُقاد و أنا لستُ منهم ، و أستطيع الإدعاء بأن هذه القراءة ما هي إلا انطباعات تكونت إثر قرائتي لديوان الشاعر الموسوم بـ(( أزهار بلون فجيعتي)) فأنا كقارئ أرى أن الشعر ( القصيدة) مثٍل واسطة نقلٍ تنقلك إلى مدياتٍ أوسع وأبعد من النقطة التي تقف فيها قبل ركوبك تلك الواسطة ويتوقف المدى الذي تصل إليه من خلال ركوبك هذه الواسطة على نوعها وقدرتها الدافعة (للشعور والوعي هنا) فمنها ما يكون مثل زورقٍ في نهر أو جناح طائر أو طائرة حديثة أو حصان جامح أوسيارة عتيقة وليس من المفترض بالقارئ المتذوق( الراكب) أن يقوم بتفكيك المركب أو الزورق أثناء إبحاره أو يُفكك صامولات السيارة أثناء انطلاقها وعليه أن يتلقى ويعبر عن ذلك النوع من الإنطباعات التي تركتها في نفسه الرحلة عبر تلك الوسيلة وليفعل بعد ذلك ما يشاء بعد بلوغ مداه وبعد أن تطأ قدماه الأرض أرض العودة من تلك الرحلة وعلى هذا الأساس كانت قرائتي لأزهار جابر السوداني الملونه بلون الفجيعة. عندما اختار بودلير عنوانا ملفتا لقصائد ديوانه ((أزهار الشر)) بمَ كان يفكر هل كان يعني ما ذهب إليه أن القصائد أزهار تتفتح من جذر الشر ، أنا شخصياً أعتقد ذلك ، لأن الشر وحده والفجائع الكبيرة تستطيع أن تنتج هذا الشعر المنبثق من ذلك الجذر،ولقد جعل بودلير من نفسه مرآةً عاكسة ينعكس عليها المُحيط وإرهاصاته فيستل من تلك المعكوسات على مرآة نفسه تلك القصائد الكبيرة والتي أورثت جدلا كبيرا في قضية الحداثة واستحقت أن تكون بداية لها في الشعر الحديث، لست هنا بصدد مناقشة أزهار الشر البودليرية ولكنني أود أن أتحدث عن ديوان الشاعر جابر السوداني الذي اختار عنوانا يتماهى مع عنوان ديوان بودلير ويتناص معه فأزهار الشر بداهةً هي أزهار فجائع وعلى ذلك نخلصُ إلى أن وراء كل شر فجيعة ولو حاولنا تفكيك هذا العنوان لمحاولة استخلاص الدلالة المخبوءة فيه لوجدنا أن كلمة أزهار تحيلنا إلى الحياة والنمو ولكن أي نمو، نمو في السلب إذا اخذنا باعتبارنا ثنائية الخير والشر فأزهار الشر هي الشر بعينه ممرعا في النفوس ومزهرا فارضا وجوده على النفس البشرية بقوة ،
فجائع جابر السوداني يمكن إجمالها بنوعين يتمحوران على مستويين أولهما المستوى الجمعي وتتناولها القصائد التي تتطرق إلى كل ما يجري في هذه البقعة من العالم والتي تعني الوطن و عن هموم الذات الجمعية في محيط الشاعر وغالبا ما تتعلق بفقراء مدينته وهمومهم المزمنة و والمستوى الثاني تلك القصائد التي تتحدث عن أنوية الشاعروهمومه الشخصية وغالبا ذلك يتعلق بالحب والحياة ومابينهما بالنسبة للمستوى الثاني تبرز قضية الحب والمرأة كفاعل قوي ومؤثر في حياة الشاعر وصيرورته الشعرية
أزهار بلون فجيعتي
أزهار جابر السوداني ، قصائده التي ارتدت حلة بلون الفجيعة ، بكل ما تعنيه تلك المفردة من ألم قد نتج عن شر مريع وبفجيعة يؤشر لها الشاعر السوداني وينسبها له كونها فجيعته هو وحده وليست فجيعتنا نحن القراء ذلك يعني في ما يعنيه التأكيد على إن الشاعر كونٌ لوحده أو سطح صقيل يعكسُ ما يصطدم به ، هو مرآة ذاته التي تحدد موقفه من الموضوع الخارجي الذي ينعكس على تلك المرآة وهنا نتلمس ذلك التماهي مع عتبة أزهار بودلير ومن البديهي أن أي ذات تعبر عن انطباعها حول العالم المحيط على قدر درجة صقل تلك الذات أي بمعنى أوضح على جودة مرآة تلك الذات وهنا نجد علة التغاير والتباين في نظرة الشاعر عن غيره من الذوات والحكم الفصل في ذلك للقارئ الذي حدده النص الشعري هدفا له فكل نص يبحث لزوما عن قارئه كما يقول رولان بارت وحيث أن العمل الأدبي موجه إلى من يُصنع من أجله النص وبهذه العبارة يتم تخصيص حصة بقدرما من تلك الفجيعة للقارئ المشارك والنتيجة أن الشاعر يدعو قارئه لمشاركته فجيعته عبر قرائته لقصائده وهذه هي المساحة التي يتشارك الحضور عليها الشاعر وقارئه على بساط النص وهكذا فإن فجيعة الشاعر قد صبغت قصائده ( أزهار ديوانه) بلونها وأرادنا عندما أشار لذلك أن نميز بين تلك الألوان الفجائعية وليس هناك متسع من درجات وتونات اللون في الفجائع يتعدى اللون الأحمر القاني الدموي المتنمر والصارخ بالألم واللون الأسود الكامد الصارخ بالحزن والأسى والأصفر الملتهب بالحرائق ومابينهما من رماد تلك الفجائع وحرائقها مقدما بذلك تشكيلا لونيا عبر عملية القراءة وما توحي به العتبة الرئيسة وما يليها من المتون وكثيرٌ من المفكرين والأدباء في الشعر والنثر يرون أن الأدب شعرا كان أو نثرا هو نوع من موقف مواجه لتردي الحياة وانتكاس الذات البشرية عندما تنحشر تلك الذات المتألمة الحساسة بين صفائح القهر والإستبداد وشراسة البؤس والحرمان وكما يعبر عن ذلك الشاعر الإيطالي ((سيزار بافيزي)(1) حينما يقول إن الأدب هو الرد الوحيد على إهانات الحياة وعلى ذلك يكون الشعر بمثابة الطلقة التي توجه للحياة ردا على إهانتها للنفس الحساسة ويكون ذلك صحيحا كما أرى عندما يكون الشعر نتاجاً لاستمرار ذلك الجدل الديالكتيكي بين الشاعر وحياته ويلجأ الشاعر لقول الشعر وكتابته عندما يصطدم وعيه المجروح بخزي الحياة وظلمها وشراستها فسيكون رده على ذلك الظلم وتلك الشراسة القصيدة وتارةً أخرى عندما يجد الشاعر ذاته المنتهبة والمستباحة على طول الحياة وعرضها دون أن يثير ذلك الإنتهاب وتلك الإستباحة أي رد فعل عند الآخرين ، حين ذاك يبدأ العويل والصراخ والإستنجاد وحين لا يجد من يُصغي لآلامه يقدم الروح قربانا ويشعلها نيرانا بل ويضحي بها أحياناو يسيل دماها للفت نظر الآخر للمعاناة وبشاعة الخزي المنسرب من هذه الحياة متيمنا بقول الشاعر الروسي الكبير ((سيرجي يسنين)) عندما يقول:( لكي تكون شاعرا عليك أن تسلخ جلدك الرقيق وتجعل الآخرين يغتسلون بدمك.)(2)
أتى ديوان الشاعر عبر مائة وثمانين صفحة من القطع المتوسط توزعت عليها قصائد الديوان وقد تناولت مواضيع شتى لم يعتن الشاعر بتصنيفها أو ترتيبها حسب إشاراتها الموضوعية بل رأى أن تأتي هكذا دون تخصيص فلربما رأى الشاعر أنها كلها عبارة عن حزمة أزهار بلون الفجيعة كما عبر عن ذلك عنوان الديوان وعتبته الرئيسة التي أرادنا أن ندخل ديوانه من خلالها وقد صنع هذه العتبة بشكل قصدي واضح توخى منه الشاعر أن يجعلنا نتريث قليلا قبل الدخول إلى ديونه وليس جديدا أن نعرف أن للعتبة الرئيسة في الرواية والشعر والبحث العلمي دورا كبيرا بطبيعة تعالقية بين المؤلف والمتن والقارئ فلو افترضنا جدلا أن المطبوعات تعرض في المكتبات دون عتباتها لكان علينا أن نفترض وجود فارق كبير في موقف المتصفح وقراره الأخير في ما عليه أن يتخذ من موقف أزاء الكتاب، إذن لابد أن تكون العتبة الرئيسة نص موازٍ للمتن يعمل بمثابة الداعي للقارئ والمشجع للدخول إلى المحتوى المتني مختزلا ومنوها عن المحتوى بواسطة شحنته الإيحائية و التحريضية وفي ديوان الشاعر السوداني نرى أنه قد عمد إلى صناعة عتبته بهيئة جوابٍ لسؤال مضمر ذي مفادٍ أستفهاميٍّ كليٍّ وكأن المستفهم يريد معرفة كنه المُستفهَم عنه بصورة كلية ليأتي الجواب المشوب بمعانٍ مضمرة أخرى وهكذا يدخلنا الشاعر منذ البداية في تيار من الإستفهامات الأولية لينتج عن ذلك قرارا بالدخول إلى المتن عبر شحنة المراودة التي أطلقتها تلك العتبة المصنوعة بقصدية شعرية أيضا،لذلك فجواب السؤال المضمر كأن يكون ((ما هذا؟)) يكون الجواب إنها أزهار بلون فجيعتي وهو جواب غير قطعي يستوجب التوغل في عمق الديوان لنتبين ماهية لون تلك الأزهار التي بلون الفجيعة مولدا سؤالا آخر وهل للفجيعة من لون ؟ وبرأيي أن الشاعر نجح كثيرا في خلق كل ذلك القصد في صناعة العتبة وبوأها مكانا مهما من القيمة الكلية لزخم المتن الشعري وكانت أمامنا مائة قصيدة تنوعت بين قصائد تفعيلة وقصائد نثر ولكنني سأستميح الشاعر عذرا وأغض الطرف عن تلك القصائد التي خرجت عن إطار دلالة عتبة العنوان وأبحث عن نماذج تلك القصائد التي تفتحت أزهاراً ولكن بلون فجائعي ونبدأ بقصيدته الأرملة(3) كزهرة نموذجية من باقة أزهاره الملونة بلون الفجيعة

أرملةٌ عرجاء
ذات مسمى وطني
صورتها أقبح من وجه الشيطان
وفي شفتيها حشد من حبّ الثؤلول
متصابية أيضا
لكني فاخرت بها الشعراء جميعا
وتغلبت عليهم
هذه القصيدة نموذج لتقنية الإستعارة، يقول الدكتور جابر عصفور في إحدى دراساته حول الإستعارة(((فالاستعارة مثل القناع تتألف من طرفين، مشبه ومشبه به، ولكن العلاقة بينهما ليست علاقة استبدال يحل فيها المشبه به في وضع المشبه فحسب، وليست علاقة مقارنة يقارن فيها هذا الطرف بذاك فحسب، بل هي ـ أساساً ـ علاقة تفاعل بين الطرف الحاضر في السياق، وهو المشبه به أو ما يرتبط به، والطرف الغائب الذي لا تكفّ فاعليته، وهو المشبه. وناتج هذه العلاقة معنى جديد، ينفصل عن كلا الطرفين على السواء، وينبع من كلا الطرفين على السواء)) (4)
القصيدة قد نجحت حسب معيار الإستعارة الذي أورده الدكتور عصفور بإيصال طعم الفجيعة كما أرادها الشاعرإذ استعار لمضمراته ومرماه تلك الأرملة البشعة التي يصفها في القصيدة وهل هناك أكثر تمثيلا للفجيعة أن تفاخر بما يحوي كل هذا القبح مبررا ذلك بأنه أهون الشرور ورحم الله أبا الطيب المتنبي إذ يقول (( ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ** عدوا له ما من صداقته بدُّ)) وهذا لون كالح لزهرة اصطبغت به إثر هذه الفجيعة التي أرغمت الشاعر على قبول كل هذا القبح لأن ما قبله كان أكثر قبحا وبؤسا.‏
وفي قصيدة الغائب التي تتمحور حول أمل ينتظره الشاعر منذ قرون وكأن الشاعر قد كشف الغطاء عن جيناته الموروثة منذ رحمٍ عاصر الفجائع وانتظر أملا من المفروض أن يرد لذاك الرحم اعتباره وينتصر لهزائمه ولكنه اندثر ولم يحظى بفرصة لقاء ذلك الأمل فورثه لبنيه عبر كل تلك القرون وصولا لجيل الشاعر الذي لم يستطع تبرير نومة ذلك الأمل واختفائه في السرداب رغم إن كل ما كان حافزا لظهوره قد حصل ، أي فجيعة أن لاتأتيك النجدة من منجد قد وعد حينما يحين وقت حاجتها ، (( لم توقضه الحرب وأحزمة النسف وصيحات جنود المارينز)) ، إذن ماذا بعد أيها الأمل ، إبق حيث أنت تقول القصيدة لقد فات الأوان ولا حاجة لظهورك بعد كل هذه الفجائع ، وها هو الشاعر ينحت الكلمات تمثالا لليأس من أمل صار أصما كالصخرواستقر بعيدا في غياهب السرداب.
وبرغم الأخطاء المطبعية الكثيرة التي تخللت ديوان الشاعر والتي أساءت كثيرا لنصوصه ، لكنها لا تنال من جمالها وفصاحتها عندما يقرأها القارئ اللبيب الذي يستطيع أن يميز بين الهنات الرقنية خلال الطباعة وبين لغة الشاعر الأصيلة وحينما نتوغل كثيرا في قراءة ديوانه نخلص إلى أن الشاعر قد خبرصناعة الشعر بكل أنواعه وبشتى اساليبه وتقنياته فنشعر أن نصه يأتي سلسا مطواعا غير متكلفٍ ولا متقعرٍ بلغةٍ شعرية جميلة تبتعد كثيرا عن الصلادة القاموسية والإبهام بل على العكس توخى الشاعر الجمل الإحالية لتشكيل صوره ناجحا باستخدام رموزه وهي تطرح مقاصد الشاعر وما يتوخى إيصاله لنا نحن قرائه ففي قصيدة( تجربة)5 يقول:
قبل عقودٍ أوهمني العباس بن الأحنف
وهو يكابد عشق امرأة من طرفٍ واحد
أن نساء الأرض جميعا مثل قساوة فوز....
لكني عن قصد أهملت القلب على قارعة العشق
وحيدا تأخذه الصدفة لمساءات أديبة
وجنون غوايتها البكر، عروسا تأتي
في رابعة الليل، تراود سخف وقاري
تصحبني مأخوذا بشميم أنوثتها لسماوات من شبقٍ
وحدائق عشقٍ لم تألفها قدمٌ غير خُطاي
وهنا يعود الشاعر مرة أخرى إلى الإستعارة و استخدام الإحالة كمرجعية موضوعية لأرهاصاته الشعرية الحاضرة باستدعاء شخصيات تاريخية ( العباس بن الأحنف وفوز )6 مشيرا بذلك إلى اقتفاء أئر أسلافه من الشعراء على سكتي الشعر والعشق معارضا ومُفندا لا محايثا ومقلدا ليثبت خطل رأي العباس بن الأحنف وإن في النساء مثل أديبة الحبيبة التي تسمو به إلى فضاءات العشق الفريد وهنا إشارة واضحة لطعم الفجيعة ولونها حين يدلل من خلال المقارنة بين فوز وأديبة أن خسارته لأديبة التي اختطفها منه الموت لا يمكن تعويضها
وهكذا عندما نمضي قدما في قراءة هذه الإضمامة من أزهار جابر السوداني التي بلون الفجائع نخلص إلى ألوان قصائده قد تجللت بهذه الغلالة من الحزن الشفيف وكأننا ننظر إلى لوحة بانورامية تظهر فيها قصائد ديوانه كأزهار مجللةٍ بالقهر والأسى وركام الحيف على عمرٍ مهدور بين عسف الحياة وبلادة الأيام التي تمر على الشاعر دون أن تبدل ألوانها الكامدة..
إحالات:
1-شاعر إيطالي / أنطولوجيا الشعراء المنتحرين/ جمانة حداد
2-قراءة في الأدب اليمني المعاصر/ د. عبد العزيز المقالح...
3- أزهار بلون فجيعتي / جابر السوداني......................
4- تقنية القناع في الشعر العربي الحديث/ د. جابر عصفور...
5 –أزهار بلون فجيعتي / جابر السوداني......................
6- شاعر عباسي...............................................








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي