الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقائع كان يمكن ان لا تكون

عدنان اللبان

2013 / 8 / 9
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية



كانت تستعجل السيارة في داخلها , وتتمنى ان تتحول الى طائرة تهبط بها بأسرع وقت في الناصرية الحبيبة , الناصرية التي ظلت ترنو اليها لأكثر من ثلاثة وعشرين عاما , الناصرية التي لم تغب عن ذاكرتها يوما واحدا طيلة هذه السنوات. لم تنتبه لما حل بالأرض التي جردت من اغلب نخيلها وأشجارها , وبان التصحر لمسافات طويلة على الطريق الذي كان يوما يزهو بلونه الاخضر في عز الصيف , لم يشد اهتمامها الوجوه المتعبة للعراقيين , وذلك الشحوب المترب والنظرات الشاردة التي تتساءل عن مستقبل مجهول . كان تفكيرها مشدودا لرؤية ابنتها التي تركتها ولم تتجاوز الاربعة اشهر من عمرها , وكيف سترى زوجها ابو فرات الذي كان ابا وحبيبا ولم يخدش مشاعرها في يوم من الايام , كان يكذب مع اهله حتى يتحاشى تقولات غيرة النساء وهن يفتقدن الود والحنان الذي نسج مفردات حياة العائلة .

طيلة الطريق بين بدرة والكوت , كان اخوها وأختها اللذين قدما معها من ايران يحاولان اقناعها بالذهاب معهما الى مدينتهم الصويرة التي هجرّوا منها , كانا يريدان ان تتأكد من ان زوجها وابنتها لا يزالان في الناصرية ثم تذهب اليهم , الا انها رفضت بإصرار , وسالت باستغراب كي تغلق باب هذا الطلب : كيف تطلبون مني ذلك ؟! وأنا متأكدة بأنهم لا يزالون في البيت . كان اخوها مثقفا وكاتبا , ولو تيسر له ان يحظى على الفرصة الطبيعية لممارسة قدراته لكان له شأن كبير في دنيا الادب , لكن متطلبات العيش فرضت عليه العمل في بازار طهران , وهو اكبر مراكز التجارة والأخبار في ايران , وسمع الكثير عن انهيار العلاقات الاجتماعية التي سببها التهجير والحرب العراقية الايرانية وكم من العوائل تمزقت , وكان خائفا على اخته التي يحترمها ويعزها كثيرا من مصير مؤلم رغم كل التطمينات التي حصلت عليها , وكان آخرها ان زوجها لم يتزوج غيرها , ولا يزالون يسكنون الناصرية .

في البداية عند تواجدهم في الاوردكَاه (مخيم اللاجئين ) القريب من مركز محافظة كرمنشاه , وهي الاقرب للحدود العراقية , كان اغلب الموجودين فيه من العراقيين المهجرين او الفارين من جبروت النظام الصدامي , سمعت ان زوجها الذي سحبت مواليده لخدمة الاحتياط قتل في احد المعارك ولم يتم التعرف على جثته . وبعد اكثر من سنتين , اي بعد ان خرجوا من مخيم اللاجئين وسكنوا في مدينة قم مع الكثيرين من ابناء مدينتهم توفى والدها , وتبعه احد اخوتها , ولكنها عرفت ان زوجها لم يقتل بل اصيب في احدى ساقيه وبترت في عملية جراحية . وقبل عدة سنوات اكد لها احد القادمين من العراق وهو يعرف ابو فرات جيدا : بأنه لا يزال موجودا في محله وبيته , ويتمتع بصحة جيدة ولم تقطع ساقه كما سمعت سابقا . ولكنها تساءلت مع نفسها كثيرا : لماذا لم يسأل عنها ؟! مثل الآخرين الذين اتصلوا عندما ضعف النظام بعد تحرير الكويت , وجاء الكثير من العراقيين بعد اشتداد العقوبات عن طريق المهربين في كردستان او في مناطق العمارة .

ام فرات كانت لا تمل من السؤال عن ابنتها وزوجها طيلة هذه السنوات , وقد كلفت احد اخوتها بالذهاب المستمر الى حسينية الناصرية في قم , وملازمة الشيخ الناصري الذي هو احد القيادات السياسية في المجلس الاعلى او في حزب الدعوة وهو المسؤول عن الحسينية , املا في معرفة شئ من القادمين الى الحسينية من الناصرية . كانت كل ليلة خميس على جمعة تزور ضريح معصومة وهي اخت الامام الرضا (ع ) ثامن ائمة الشيعة , وقبل سنتين وبعد طوافها حول الضريح جلست لتصلي وتطلب الشفاعة لزوجها وابنتها وكل احبتها في العراق , تعرفت على ام وابنتها من اهالي الناصرية , ولكن العائلة لم تكن تعرف عائلة ابو فرات , استضافتهم في بيتها حيث كانت تسكن وحدها في السنتين الاخيرتين بعد ان تزوج جميع اخوتها وأخواتها , وأرتهم بعض الملابس التي كانت تشتريها لفرات على امل الذهاب , وحدثتهما كيف كانت تجمع اطفال اخوتها وأقاربها وتقيم لهم حفلة في يوم عيد ميلاد فرات . وبعد يومين ساعدتهم ماديا - كانت تعمل معلمة لغة ام في المدرسة العربية التي تشرف عليها السعودية – وودعتهم بعد ان وعدوها بإيصال اقراطها التي نزعتها من اذنيها الى ابنتها فرات .

رغم رغبتها الجارفة في الوصول الى بيت زوجها , الا ان استرجاعها لمحطات حياتها خفف المعاناة من طول الطريق , ام فرات وجدت في تنمية علاقاتها الاجتماعية والانغماس في اهتمامات اهلها وأقربائها وأبناء مدينتها ما يديم اطمئنانها لجذوة مشاعرها تجاه ابنتها وزوجها , ويحصنها من الانزلاق للوحدة وما يتبعها من مشاعر الحرمان . كان الجميع يودها ويسأل عنها , وفي لحظات وداعها لهم في اليومين الاخيرين قبل مجيئهم الى العراق , كانت الدموع تتساقط من عيون النساء والدعاء والتمنيات بالموفقية ترفرف فوق هامتها , وتركت الكثير من الهدايا التي حملوها معهم لفرات وابي فرات في بيت اخيها الكبير , حيث كان الحمل ثقيلا جدا .

في كَراج البلدية في الناصرية استأجرت تكسي وطلبت الذهاب الى الزقاق الذي لم يغادر ذاكرتها يوما واحدا , ورغم حدوث بعض التغيرات على معالم الزقاق الا انها لم تخطأ في تحديد البيت الذي فيه ابنتها وزوجها . دفعت اجور التاكسي , ودقت الباب , وبعد اقل من دقيقة فتحت وأطلت اخت زوجها نجية التي كانت على علاقة جيدة معها , لحظات وتشابكت الاثنتان بعناق ودموع حارة وكلمات تقطعت بالنشيج وشدة المفاجأة , ادخلتها وحملت عنها الحقيبة الكبيرة , وأخذت تتوضح كلمات الترحيب , وأخبرتها بان فرات قد تزوجت من ابن عمها غالب وعندها ولد اسمه احمد وتسكن مسافة ليست بعيدة عنهم . توهجت عينا ام فرات فرحا , وطمعت ان تزيد فرحتها وتتأكد من يقينها : ما اعرف بزواج فرات , بس اعرف ابو فرات ما تزوج عليّ . نجية : صحيح .
ام فرات بصوت مسموع , وقد اشتعلت عيناها اكثر وزاد التماع نظرها بعد ان بللته دمعة كبيرة : والله كَلبي ما خانّي .
أحضرت لها الغداء , وأخبرتها انها ستذهب الى محل ابي فرات لتخبره , وتوصي لفرات كي تأتي , وبينت لها تفاصيل البيت وختمت كلامها عند خروجها : هذا بيتج عيني .

اكملت غدائها وأخذت قدحا من الشاي , وقد استبطأت نجية حيث كان محل ابو فرات لا يبعد كثيرا عن البيت , حاولت ان تقنع نفسها انه ربما انتقل الى مكان آخر . وعادت تطرق ذاكرتها تفاصيل ذلك اليوم المشئوم , وكيف تركت ابنتها فرات عند عمتها نجية ونزلت عند مفترق الطريق الى الصويرة القادم من بغداد الى الناصرية . لم تتحرك , وظلت عيونها مسمرة الى السيارة التي تحمل ابنتها الى الناصرية الى ان غابت عن ناظريها . ام فرات معلمة , وعند اول تخرجها عينت في الناصرية , تعرفت على زوجها وكان يمتلك محل لنجارة الموبيليا , تزوجا ورزقا بابنتهم البكر فرات . اخبرت زوجها بأنها ستزور اهلها في الصويرة , وستذهب اولا الى بغداد لتتأكد من الطبيب بشأن صحة ابنتها التي كانت تعاني في الايام الاخيرة من حالة استفراغ وارتفاع في الحرارة .

ام فرات اكبر الاخوات في العائلة , كانوا ست اخوات وخمسة اخوة , وعندما توفيت والدتهم شعرت بالمسؤولية اكثر على اخواتها وإخوتها , وهو ما جعلها تتردد كثيرا على بيت اهلها في الصويرة , مما ولد عدم ارتياح في بيت اهل زوجها . كانت قلقة , ولم تتمكن من توضيح اسباب قلقها امام عائلة زوجها , فاحد اخوتها اعتقل بسبب وشاية كونه في حزب الدعوة , ولم يعرف عنه شئ رغم مرور اكثر من ثمانية اشهر على اعتقاله , ووصل الى سمعها من زوجها : ان الحكومة اخذت تسفر الفيلية الذين عندهم ابناء مشبوهين , والمشبوه تعني اما شيوعي او في حزب الدعوة , واحد معارفهم كان شيوعيا فسفر مع عائلته . كانت المسافة بين مفرق الصويرة والمدينة ليست بالطويلة , ولم يبق في ذهنها دعاء لم تردده على ان تمر هذه الازمة بسلام .

في الكَراج مر امامها جيرانهم ماجد , وهو في عمر اخيها المعتقل حادث , ومعه ايضا في السادس الاعدادي , ولكنه لم يرها , نادته بصوت عال ولم يسمعها , نزلت من السيارة بسرعة ولكنه " فص ملح وذاب " كما يقولون , كانت بحاجة لأي انسان يطمئنها على اهلها . وقبل ان تصل بيتهم طرقت باب بيت خالها الذي يقع على الطريق , فتحتها ابنة خالها وداد التي شهقت بتعجب , وسحبتها بسرعة وأغلقت الباب خلفها . انكمشت ام فرات ولم تستطع ان تجاري لهفة وداد لها , سألتها والخوف كاد ان يخنقها : ماذا جرى ؟! اخبرتها وداد : ان الامن اخذوا والدها وأخوتها الاربعة وجميع اخواتها الى مديرية الشرطة لكي ينقلوهم الى الكوت , ومن هناك يسفروهم الى ايران . وأضافت : زين اجيتي عدنه قبل ما تروحين للبيت ويشوفج واحد من ولد الحرام ويخبرهم . نهضت وهي لا تزال في عباءتها تريد الذهاب الى مديرية الشرطة , حاولت وداد ان تمنعها , وطلبت منها ان تذهب على الاقل عندما يأتي والدها ليذهب معها , الا انها اصّرت وأزاحت وداد عنها بخشونة , وبصوت متحشرج : خل يسفروهم لكن عبودي شلون يسفروا ؟! وعبودي اخوها عبد الحسن الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره , ومتعلق بها مثل امه .

في مديرية الشرطة وجدت خالها , وحاول ان يصرفها عن رغبتها بالاحتفاظ بعبودي , وألح عليها ان تترك المديرية دون ان يعلم احد المسؤولين بأنها ابنة احد العوائل التي ستسفر , الا انها ابت وأصرت على مقابلة مدير الامن , وأكدت لخالها ان زوجها عربي وسجل بعثي ولن يسفروها . اخذها خالها الى صديقه المفوض علي الذي يعرفها ايضا , وحاول علي ان يفهمها بأنها حتى لو تمكنت من مواجهة مدير الامن فسوف لن يفعل الا ان يضعها مع اهلها حتى لو كان عفلق زوجها . ولكنها لا تستوعب كيف ان عبد الحسن سيعيش بدونها , وأصرت على انها ستقنع المدير ان يبقى عبودي معها . ولم تستطع ان تقابل المدير , وأرسلت مع اهلها الى الكوت , ومن هناك قذفت معهم الى الحدود .

عادت نجية بعد وقت ليس بالقصير , وكانت تتحاشى النظر في عين ام فرات , كان الارتباك واضحا عليها , وتخلصا من حالة الارباك هذه عجلت في توضيح موقف شقيقها الذي لم تتمكن من اقناعه في استقبال زوجته : ام فرات حجيت وياه وما يفيد , بعده مجروح , يكَول " ردت منها اخير مرّة ان ماتروح , ما قبلت , وكل الزين تعرف يسفروها وياهم , ما طول فضلت اهلها علينا الله وياها ". بعده مقهور , هسه يوم يومين وتروح من باله انشاءالله . ام فرات : كلامه هذا اللي ما ردت افكر بيه كل هذي السنين , لان حتما راح يسأل نفسه : شلون أعوف فرات وياج اذا آني اعرف راح اتسفر ؟! نجية : ذكرني بيها وكَال " تتذكرين من كَتلج تاخذين البنية منها اذا اصرت ان تروح للصويرة " . وهو هذا اللي صار , آني روحتي وياج لبغداد حتى ارجع فرات وياي . ام فرات وقد شدهتها الصدمة , ولا تعرف كيف تقنع نجية التي لم تتزوج ومن المستحيل انها لا تعرف : ما ذا تعني الامومة ؟! وهل يوجد بديلا عنها لكل امرأة ؟! سمعت صوت فتح الباب وفرات بصوت قلق وعال : يوم , يوم وين انت , خوماكو شي دزيتي علي بسرعة ؟ ام فرات ادركت بلا وعي انها فرات , وكلمة " يوم " الموجهة الى نجية طعنت كل شئ حي في داخلها , نهضت عن كرسيها , ولا تعرف ماذا تفعل , مدت يدها قبل ان تتحرك . نجية ارادت ان لا تتفاجا فرات , صاحت بأعلى صوتها , ماما فرات اتصوري منو عدنه اليوم , امج اجتي من ايران . تحركت ام فرات الى باب الغرفة , تثاقلت خطوات فرات وتوقفت عند العتبة وهي تنظر بوجه امها , ام فرات اعتقدت ان المفاجأة شلت استمرارية حركة ابنتها , فتحت ذراعيها , احتضنتها , شمتها , ومن بين دموعها ونشيجها شعرت بصلابة جسد ابنتها , واستدارت لتحتضنها من الجانب الآخر دون اية استجابة من ابنتها , توقفت , وتراجعت , وفسحت المجال لفرات كي تعبر العتبة وتجلس بجانب نجية . ولم تطل الجلسة اكثر من خمسة دقائق , لا يعرفن الثلاث كيف انقضت حينما استأذنت فرات بالذهاب لانها تركت ولدها نائما.

عادت ام فرات الى اقاربها ومعارفها في الصويرة , وبعد اسبوع سمعت بزواج ابي فرات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024