الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا شيء هنا أكثر من الهَوَس

فكري آل هير
كاتب وباحث من اليمن

(Fekri Al Heer)

2013 / 8 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في إطار المبحث الابستمولوجي للفلسفة، والذي كان ولازال يطمح الى الوصول الى رؤية كلية وشمولية للمعرفة الانسانية، أو بالأحرى للحقيقة الكلية التي تنتهي إليها كل المعارف، وعلى نفس النسق الذي سار فيه تيار فلسفة العلم، مع جهود الكثيرين ممن حاولوا استكشاف الحدود الفاصلة بين العلوم المختلفة، ونقاط التماس والاتصال بينها أيضاً، وكل هذا في سبيل ما بات يعرف اليوم في أوساط المتخصصين بـ (النظرية المعرفية الموحدة).. أو نظرية كل شيء..
في هذا النسق، ورغم الطفرات العلمية والتكنولوجية التي تحققت اليوم، لازال نفس السؤال مطروحاً: الى أين وصلنا اليوم بالنسبة لهذا المطمح القديم الجديد؟ أما أنا فأصوغ سؤالي على هذا النحو: هل هناك حقيقة فعلاً؟ أم أننا مهووسون فقط بالحديث عنها؟
الحديث عن فيزياء نيوتن (الفيزياء الكلاسيكية)، ومن ثم النظرية النسبية التي اهتدت اليها عبقرية (اينشتاين)، ونظريات أخرى مثل (الكوانتم) والأوتار الفائقة السرعة، بات أساس اعتقاد الكثيرين بأن الحلم المعرفي البشري الشامل، ملقىً فقط على كاهل علماء الفيزياء، وأن الإجابة على تلك التساؤلات العصية على العقل البشري منذ فجر التاريخ، على غرار: من أين جئنا؟ ومن جاء بنا وكيف وجدنا ومتى؟ والى أين ينتهي بنا المطاف؟.. - نفس الأسئلة عن البداية والنهاية، عن الولادة الوجودية والمصير النهائي.. والتي لازال يحيط بها ذلك الزخم الفكري والعلمي للبحث والمعرفة أكثر.. وفي كل الأحوال، لابد من القول بأن ذلك الاعتقاد الذي يجلل الفيزياء أو العلوم الطبيعية وحسب، يتناقض أصلاً مع جوهر الفكرة ومغزى الطموح الأول، للحظة الوصول الى المعرفة كلها والى الحقيقة كاملة.
إذن، تصويب مثل هذه الاعتقادات يعد أمراً مهماً، وعلى الكثيرين منا أن يجتهدوا أكثر في سبيل ادراك، مدى صعوبة رسم الخارطة المعرفية في أي لحظة تاريخية، والتي لابد وأن تشمل كافة الحقول والعلوم والمجالات والفروع.. الفلسفة والتاريخ والرياضيات واللسانيات والآداب والعلوم الاجتماعية والعلوم التطبيقية،.. ومناط التأكيد هنا يقع على ما يمكن أن نضرب به مثلاً، فيما لو طلب من أحدنا أن يحدد الموقع المناسب لعلم الأركيولوجيا بالنسبة للثرمودينامك، أو أن يشرح علاقة القرابة المعرفية التي تربط السيمنطيقا بعلوم الفضاء.. ولعل هذا يفسر كيف غدت النظريات الفيزيائية الكبرى مهرباً لائقاً من حمل عبأ المطلب المعرفي الشامل، وكيف أصبح التخصص العلمي بديلاً شرعياً لضرورات المعرفة الموسوعية التي لا مناص من الشعور الملح بالحاجة إليها؟.. ولنا أن ندرك وفق هذه الملاحظة كيف أن المؤسسات العلمية في أعلى مراتبها، تعاني من الكثير من العقد والمشكلات النفسية.. وكيف أن البشرية بحاجة الى ما قدمه (فرويد) وغيره من علماء النفس والاجتماع، فقط لتصويب مسارات واتجاهات كوكبة المؤسسات الأكاديمية، ومساعدتها على تجاوز عقدها السيكولوجية والمعرفية، فضلاً عن حاجتها الى وضع علم النفس في مكانه الصحيح بالنسبة لسائر العلوم والمعارف في خارطة المعرفة الانسانية.
البعض اعتبر المسألة، مسألة (منهج) تتحدد فيه ومن خلاله الطريقة التي يتم بها التعبير عن المعرفة والحقائق العلمية، وهذا زج بالأمر كله في محيط اللغة، باعتبارها القسمة الأنثروبولوجية التي تكشف عن جميع ملكاتنا الفكرية والعقلية التي تميزنا كـ (بشر)، وباعتبارها الحامل الاجتماعي الذي تتم به عملية نقل المعرفة، ومن ثم غرقت الأبستمولوجيا وفلسفة العلم ونظريات المنهج في بحر المباحث اللسانية، التي يصعب للغاية السيطرة عليها أو تكميمها بشكل علمي، فبقدر ما أصبحت نظريات مثل (البنيوية والتفكيكية) وغيرها مداخلاً لفهم وظيفة المنطوق والمكتوب اللغوي (كنص) بالنسبة لنظرية المعرفة، أصبحت بالقدر نفسه أشد وأعتى العوائق التي تحول دون ذلك.
كل هذا حصل معنا في مستوى ضرورات تفكيك واعادة تركيب الحصيلة المعرفية والعلمية المعاصرة، ناهيك عما قد تتطلبه عمليات تكوين الرؤية الشمولية نفسها، أضف الى ذلك كل التعقيدات الشائكة التي أسفر عنها الانفجار المعلوماتي الذي أحدث أوسع تجربة اتصال وتواصل بشري في التاريخ، بفضل ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات.
بيد أن البعض الأخر اتخذ مساراً مغايراً، بالحديث عن ضرورة كسر جدار القطيعة المعرفية التي أحدثتها تحولات ما بعد عصر النهضة الأوربية مع (الميتافيزيقا)، وذلك بالعودة إلى الأخيرة هذه.. بعد أن ثبت عجز النظرة المادية في تحقيق حلم البشر بالمعرفة الشاملة والكلية، فيما انبرى من هذا الاتجاه فرعاً له مال الى تبني الدعوة الى المصالحة بين الطرفين، واعادة ربط الوشائج القديمة بينهما مجدداً، خصوصاً وأن الحديث بلغة علمية رصينة عن مستويات وجود ووعي في أبعاد متعددة، في مقابل العوالم الافتراضية التي فتحت التكنولوجيا المتقدمة لنا أبوابها، وأيضاً عما يمكن أن تقودنا اليه معرفتنا بالثقوب السوداء، وتكنولوجيا النانو الدقيقة، وثورة الصناعات الحيوية، التي أدخلت المادة الحية نفسها في صلب نزعتنا الاستهلاكية، على نحو جعل كل أفكارنا المصدومة والمذهولة عن (الاستنساخ)، تتضاءل وتتقزم أمام تلك القفزات الهائلة التي حققتها الثورة البيوجزيئية، والتي انتهت بنا اليوم الى حيرة بالغة بعد أن كشفت لنا نتائجها، كيف أن العلم بظواهر الحياة المختلفة، لم يخفف ولو قليلاً من حدة المعضلة التي تتمثل في الوصول الى فهم وعلم قطعي بكنه الحياة نفسها. كل هذه المستجدات أفسحت المجال للطرح الميتافيزيقي وربما أعادته الى مسرح الفكر البشري بقوة، وبنفس الطريقة التي تخلى العلم الأوروبي عن فكرة الخالق، عادت الميتافيزيقا هذه المرة مستندة الى حجج توصف في الغالب بأنها قوية وهي تفرض على الجميع إعادة البحث مرة أخرى عن (الله).
هكذا عدنا الى نقطة البداية.. وأصبحنا بحاجة ماسة الى إعادة قراءة التاريخ من جديد، ومرة أخرى، وضعت الكتب الدينية والنصوص المقدسة والأساطير القديمة، على طاولة الفكر البشري المعاصر، بما يشبه رد الاعتبار اليها، والاعتراف بأنها يمكن أن تكون مصدراً مهماً من مصادر معرفتنا بأنفسنا وبتاريخنا، بكل ما فيه من تنوع وتباين في كل ملامح الوجود والفعاليات البشرية: أعراق، ولغات وأديان وثقافات وحضارات وأساطير وملاحم.. وفجأة بدا الغرب وكأنه متعطش للإيمان ومدفوع مرة أخرى للتصديق وبقوة مفرطة، بأن ثمة عقل كوني خالق ومبدع وراء كل هذا الوجود اللامتناهي على صورة المادة، وأن ثمة مؤامرة شيطانية تقف وراء كل ما جرى ويجري، وأن ما حدث ليس أكثر من عملية تزييف للتاريخ وتحريف للحقيقة وحجبها عن عامة الناس، لتكون تلك الحقيقة وعلومها الأصلية أسيرة المخابئ والخزائن التي تحتكرها (النخبة) العالمية، التي تسعى الى السيطرة والهيمنة على العالم بقوة العلم الذي سرقته من جميع حضارات البشر ومعارفها عبر التاريخ.. ومثل هذا الطرح لم يفضي الى شيء، أكثر من الاستنتاج البدهي بأننا "لا نعرف شيء".. وأن ما نعرفه لا علاقة له بالحقيقة، وأن علينا البدأ مجدداً في تحصيل هذه الحقيقة المفقودة انطلاقاً من (سومر) قبل (5000) عام على أقل تقدير.
الهوس بالحقيقة والمجازفات المعرفية اليوم، لا يقاربها شبهاً ومماثلة إلا الهوس بالثقافة التي تصنعها مؤسسات هوليوود منذ قرن تقريباً، حيث تنتج ثقافة الصورة، ونموذج البطولة الخارقة لـ سوبر مان (Super Man) ورامبو (Rambo)، وبالطبع لن يكون ذلك جيداً ويشبه الحقيقة إلا إذا جعلت وقائعه تحدث على أرضية حرب باردة (Cold War) أو تحالف دولي لقوى (العالم الحر) ضد عدو هلامي مصطنع وملفق مثل (الإرهاب)، إنها الثقافة التي تطلب منا اليوم أن نجري وراء (مارد) كتاب السر لتحقيق أمنياتنا دون عناء، وأن ننغمس الى حد الثمالة في فك ألغاز وطلامس روايات (دان براون) المحبوكة، في الوقت نفسه الذي تتضاعف فيه ثروة هذا الكاتب فقط لمجرد أننا (نقرأه). وهي نفس الثقافة التي تطلب منا أن نقيم طقوس عبدة الشيطان في بساتين البوهيمي من جهة، وأن نقوم بكشف وتعرية المؤامرة الماسونية وفضح ما يدور في محافلها السرية، حاملين في أيادينا الشمعدانات والأصلاب والأهلة من جهة أخرى، وفي غمرة هذه الزحمة المتناقضة من الأفلام والصور والأفكار، لن يكون من الصعب أن تجد من يصدق كاتب شهير مثل (ديفيد ايكه)، وهو يحدثنا عن الزواحف والأناناكيين القادمين من الفضاء البعيد فوق (عربات الآلهة)، لتنفيذ مؤامرتهم السرية ضد الوجود البشري، وسيكون أمراً قابلاً للتصديق أيضاً، أي حديث عن النهاية التي تسبقها معركة (هرمجدون) والانتصار - أو الهزيمة - الذي سيتحقق عشية يوم الدينونة، وبعدها يأتي الصباح المستقبلي الذي نستيقظ فيه لنجد أنفسنا وجهاً لوجه مع الله بين جناته وجحيمه.. أو في قبضة المخلوقات الفضائية وتحت رحمتهم الماحقة.
وإذن.. لا شيء أكثر من الهوس.. هذه هي الحقيقة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟