الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إصلاح اجتماعي أم ثورة

روزا لوكسمبورغ
(Rosa Luxemburg)

2018 / 8 / 8
الارشيف الماركسي


الناشر/ دار الطليعة – بيروت

فهرس
1- مقدمة المؤلفة 3
2- الطريقة الانتهازية 5
3- تكيف الرأسمالية 8
4- تحقيق الاشتراكية عبر الإصلاحات الاجتماعية 13
5- الرأسمالية والدولة 17
6- نتائج الإصلاحات والطبيعة العامة للتحريفية 20
7- التطور الاقتصادي والاشتراكية 25
8- التعاونيات والنقابات والديمقراطية 30
9- الاستيلاء على السلطة السياسية 36
10- الانهيار 42
11- الانتهازية في النظرية والتطبيق 45

1- مقدمة المؤلفة
قد يثير عنوان هذا الكتاب الدهشة أول وهلة. أيمكن أن تكون الاشتراكية الديموقراطية ضد الإصلاحات؟ هل يمكننا أن نعارض الإصلاحات الاجتماعية بالثورة الاجتماعية، أي بتحويل النظام القائم: هدفنا النهائي؟ كلا بالتأكيد. فالنضال اليومي من أجل الإصلاحات، ومن أجل تحسين وضع العمال ضمن إطار النظام الاجتماعي القائم، ومن أجل المؤسسات الديموقراطية هو سبيل الاشتراكية الديموقراطية الوحيد إلى خوض الحرب الطبقية البروليتارية باتجاه الهدف النهائي –الاستيلاء على السلطة السياسية وإلغاء العمل المأجور. وتعتقد الاشتراكية الديموقراطية أن هناك صلة لا تنفصم تربط بين الإصلاحات الاجتماعية والثورة، فالنضال من أجل الإصلاحات وسيلة الاشتراكية الديموقراطية والثورة الاجتماعية غايتها.
إننا نجد لأول مرة عاملي الحركة العمالية هذين يوضعان قبالة بعضهما في نظرية إدوارد برنشتاين التي يعرضها في مقالاته في نيوزايت (الأزمنة الحديثة) 1897-1898 بعنوان «مسائل الاشتراكية» وفي كتابه «الشروط المسبقة للاشتراكية ومهام الاشتراكية الديموقراطية». وتميل نظرية برنشتاين إلى إسداء النصح لنا بالتخلي عن التحويل الاجتماعي، هدف الاشتراكية الديموقراطية، وجعل الإصلاحات الاجتماعية، وهي وسيلة الاشتراكية الديموقراطية، غاية لها. ولقد صاغ برينشتاين نفسه وجهة النظر هذه بالوضوح الذي يتميز به عندما كتب قائلا: «الهدف النهائي، مهما يكن، ليس شيئا، والحركة كل شيء».
لكن الهدف النهائي للاشتراكية هو العامل الحاسم الذي يميز الحركة الاشتراكية الديموقراطية عن الديموقراطية البرجوازية وعن الراديكالية البرجوازية. إنه العامل الوحيد الذي يحول الحركة العمالية كلها من جهد غير مجد لتصليح النظام الرأسمالي إلى نضال طبقي ضد هذا النظام بغية القضاء عليه. وهذا ما يجعل التساؤل «إصلاح أم ثورة؟» كما يطرحه برنشتاين يعادل بالنسبة للاشتراكية الديموقراطية التساؤل التالي: «أن تكون أو لا تكون؟ ». وينبغي على كل عضو في الحزب أن يفهم بوضوح أن المشادة مع برنشتاين وأتباعه لا تدور حول هذه الوسيلة النضالية أو تلك، أو حول استعمال هذه التاكتيكات أو تلك، بل هي تدور حول وجود الحركة الاشتراكية الديموقراطية ذاته.
قد يبدو هذا أمرا مبالغا فيه إذا ما نظر إلى نظرية برنشتاين نظرة عابرة. إلاّ يذكر برنشتاين باستمرار الاشتراكية الديموقراطية وأهدافها؟ ألاّ يكرر المرة تلو الأخرى وبلغة صريحة أنه هو الاخر يناضل باتجاه الهدف النهائي للاشتراكية، ولكن بطريقة أخرى؟ ألا يؤكد على الخصوص أنه يتفق تماما مع الممارسة الراهنة للاشتراكية الديموقراطية؟
كل هذا صحيح بالتأكيد. كذلك صحيح أن كل حركة جديدة عندما تبدأ بتطوير نظريتها وسياستها، إنما تبدأ بالبحث عما يدعمها في الحركة السابقة، على الرغم من أنها قد تكون على تناقض مباشر معها. إنها تبدأ بالتأقلم مع الأشكال الموجودة وبالتكلم باللغة الموجودة. ومع الوقت تنبثق البذرة الجديدة مخترقة القشرة القديمة، وتجد الحركة الجديدة أشكالا ولغة خاصة بها.
أما أن يتوقع المرء من معارضته للاشتراكية العلمية أن تقوم منذ البداية بالتعبير عن نفسها بوضوح وإلى أبعد النتائج فيما يتعلق بموضوع محتواها الحقيقي، وأن يتوقع منها أن تنكر صراحة ومباشرة الأسس النظرية للاشتراكية الديموقراطية، فإن في ذلك استخفافا بقوة الاشتراكية العلمية. فمن يريد اليوم أن يبدو اشتراكيا ويعلن في الوقت ذاته الحرب على النظرية الماركسية، أعظم نتاج للعقل البشري في هذا القرن، يجد أن عليه أن يبدأ ملزما بتقديم فروض الاحترام لماركس، وأن عليه أن يبدأ بإعلان نفسه تلميذا لماركس باحثا في تعاليم ماركس ذاتها عن مواطن دعم لهجومه على النظرية الماركسية، متظاهرا أن هذا الهجوم إنما هو تطوير للماركسية. لذا فإن علينا أن لا نكترث للقشور ونلتقط لب نظرية برنشتاين. وهذه مسألة ضرورية ملحة لشرائح واسعة من البروليتاريا الصناعية في حزبنا.
ليس هناك من إهانة للعمال أكثر قحة، ولا من تشهير بهم أكثر ضعة من القوا أن «النقاشات النظرية خاصة بالأكاديميين فحسب». لقد قال لاسال منذ بعض الوقت «فقط عندما يصبح العمال والعلم، هذان القطبان المتقابلان للمجتمع، كلا واحدا، سيسحق العمال بأذرعتهم الفولاذية كل العوائق التي تقف في طريقهم إلى الثقافة». إن كل قوة الحركة العمالية الحديثة تعتمد على المعرفة النظرية.
لكن أهمية هذه المعرفة مضاعفة بالنسبة للعمال في الحالة الراهنة، ذلك أن وجودهم في الحركة وتأثيرهم عليها هما بالضبط ما في الميزان. وجلدهم هو الذي يساق إلى السوق. فليست النظرية الانتهازية في الحزب، تلك النظرية التي صاغها برنشتاين، سوى محاولة لا واعية لضمان سيطرة العناصر البرجوازية الصغيرة التي دخلت حزبنا، ولتغيير سياسة حزبنا وأهدافه باتجاه هذه العناصر. أن مسألة الاصلاح أم ثورة، الهدف النهائي أم الحركة، هي في الأساس، وان على شكل آخر، مسألة الطابع البورجوازي الصغير أم الطابع البروليتاري للحركة العمالية.
لذا فإن من مصلحة جماهير البروليتاريا في الحزب أن تتعرف بنشاط وبالتفصيل على المناظرة النظرية مع الانتهازية. ذلك أنه إذا ما بقيت المعرفة النظرية امتيازا لقبضة من «الأكاديميين» في الحزب، فإن هؤلاء سيواجهون خطر الضلالة. ولن تنتهي الميول البرجوازية الصغيرة جميعها والتيارات الانتهازية كلها إلى الإخفاق التام، إلاّ إذا قبض جمهور عظيم من العمال على أسلحة الاشتراكية العلمية الموثوقة الحادة بأيديهم. عندئذ ستجد الحركة نفسها على أرض صلبة أكيدة. «ستقوم الكثرة بالمهمة».

2- الطريقة الانتهازية
إذا كان صحيحا أن النظريات ليست إلاّ صورا منعكسة لظاهرات العالم الخارجي في الوعي الإنساني، فيجب أن يضاف فيما يتعلق بموضوعة برنشتاين أن النظريات أحيانا صور مقلوبة. أليس ذلك ما تبينه نظريته في إقامة الاشتراكية بواسطة الإصلاحات الاجتماعية في وجه الركود الكامل لحركة الإصلاحات في إنكلترا ونظريته في رقابة النقابات على الانتاج في وجه هزيمة عمال المعادن في انكلترا و نظريته في كسب أغلبية في البرلمان بعد تعديل دستور سكسونيا وبالنظر إلى المحاولات الحديثة العهد ضد حق الاقتراع العام. بيد أن النقطة المحورية في موضوعة برنشتاين ليست مفهومه للمهام العملية للاشتراكية الديموقراطية، بل هي موقفه من مسار التطور الموضوعي للمجتمع الرأسمالي، هذا الموقف الوثيق الصلة بمفهومه للمهام العملية للاشتراكية الديموقراطية.
يرى برنشتاين أن إمكانية الانحطاط العام للرأسمالية تبدو في تناقض شيئا فشيئا. فالرأسمالية من جهة تبدي قدرة أعظم على التكيف، ومن جهة أخرى يزداد الإنتاج الرأسمالي تنوعا أكثر فأكثر.
يقول برنشتاين أن قدرة الرأسمالية على تكييف نفسها تتبدى أولا في اختفاء الأزمات العامة نتيجة تطور نظام التسليف وتنظيمات أصحاب الأعمال واتساع وسائل المواصلات والإعلام. وهي تتبدى ثانيا في تماسك الطبقات الوسطى الناجم عن التمايز المتنامي في فروع الانتاج وارتفاع شرائح واسعة من البروليتاريا إلى مصاف الطبقات الوسطى. ويمضي برنشتاين إلى القول بأن ما يثبت هذا أكثر من ذلك هو تحسن الوضع السياسي والاقتصادي للبروليتاريا بفضل النشاط النقابي (التريديونيوني).
ومن هذا الموقف النظري يشتق برنشتاين النتيجة العامة التالية المتعلقة بالمهام العملية للاشتراكية الديموقراطية: يجب على الاشتراكية الديموقراطية أن لا توجه نشاطها اليومي إلى الاستيلاء على السلطة السياسية، بل إلى تحسين وضع العمال ضمن إطار النظام القائم. ويجب عليها أن لا تتوقع إقامة الاشتراكية نتيجة أزمة سياسية واجتماعية، بل ينبغي عليها أن تبني الاشتراكية بواسطة التوسع المتنامي للرقابة الاجتماعية والتطبيق التدريجي لمبدأ التعاون.
ولا يرى برنشتاين ذاته في نظرياته جديدا. بل هو على العكس من ذلك يرى أنها تتفق مع بعض تصريحات ماركس وانجلز. ولكن يبدو لنا على الرغم من ذلك أن من العسير نفي أنها على تناقض تام مع مفاهيم الاشتراكية العلمية.
إذا كانت تحريفية برنشتاين تقتصر على التأكيد أن مسيرة التطور الرأسمالي أبطأ مما كان يظن سابقا، فإنه بذلك إنما يقول أن من الواجب تأجيل استيلاء البروليتاريا على السلطة، وهذا ما يتفق عليه الجميع حتى الآن. والنتيجة الوحيدة لذلك هو ابطاء خطي النضال فحسب.
لكن الأمر ليس كذلك. فما يضعه برنشتاين موضع تساؤل ليس سرعة تطور المجتمع الرأسمالي، بل مسار هذا التطور ذاته، وبالتالي امكانية التحول إلى الاشتراكية ذاتها.
لقد أعلنت النظرية الاشتراكية حتى الآن أن نقطة انطلاق التحويل إلى الاشتراكية ستكون أزمة عامة كارثية. إلاّ أننا ينبغي أن نميز في هذا بين أمرين: الفكرة الأساسية وشكلها الخارجي.
الفكرة الأساسية هي التأكيد أن الرأسمالية تتحرك نتيجة تناقضاتها الداخلية ذاتها إلى نقطة تكون فيها غير متوازنة، فتصبح عندئذ وببساطة مستحيلة. ولقد كان هناك من الأسباب ما يدفع إلى تصور هذا المنعطف على شكل أزمة تجارية عامة كارثية. ولكن هذا لا يرتدي سوى أهمية ثانوية بالنسبة إلى الفكرة الأساسية.
يعتمد الأساس العلمي للاشتراكية كما هو معروف جيدا على ثلاث نتائج رئيسية للتطور الرأسمالي هي:
1- فوضى الاقتصاد الرأسمالي المتنامية، التي تقود بالضرورة إلى دماره.
2- التشريك المتزايد للعملية الإنتاجية، التي تخلق بذور النظام الاجتماعي المقبل.
3- التنظيم والوعي المتنامي للطبقة العاملة، وهذا ما يشكل العامل الفعال في الثورة القادمة.
يقوم برنشتاين بهدم أولى دعائم الاشتراكية العلمية الثلاث الأساسية. فهو يقول أن التطور الرأسمالي لا يؤدي إلى الانهيار الاقتصادي الشامل.
وهو لا يرفض شكلا معينا لهذا الإنهيار، بل يرفض إمكانية الانهيار ذاتها. إذ أنه يقول بالنص: «يمكن للمرء أن يدعي أن انهيار المجتمع الراهن يعني امرا غير الأزمة التجارية العامة. أي أنه يعني ما هو أسوأ: الانهيار التام للنظام الرأسمالي نتيجة تناقضاته الخاصة». ويجيب برنشتاين على هذا قائلا «مع التطور المتنامي للمجتمع، تقل أكثر فأكثر إمكانية الانهيار التام والانهيار الشامل لنظام الإنتاج الراهن. وذلك لأن التطور الرأسمالي يزيد من جهة قدرة الرأسمالية على التكيف، ويزيد من جهة أخرى وفي الوقت ذاته تمايز الصناعة» (نيوزايت (الأزمنة الحديثة) 1897-1898، المجلد 18، ص 555).
هنا يبرز السؤال التالي: كيف ولماذا نحقق الهدف النهائي في هذه الحالة؟ طبقا للاشتراكية العلمية، تتجلى الضرورة التاريخية للثورة الاشتراكية قبل كل شيء في فوضى الرأسمالية المتزايدة التي تقود النظام إلى مأزق. ولكن إذا اعترف المرء مع برنشتاين أن التطور الرأسمالي لا يتحرك باتجاه دماره ذاته، فإن الاشتراكية تكف عن أن تكون ضرورية موضوعيا.
يبقى هناك الدعامتان الرئيسيتان الأخريان للتقسيم العلمي للاشتراكية، وهما دعامتان يقال أنهما نتيجتان للرأسمالية ذاتها: تشريك العملية الإنتاجية ووعي البروليتاريا المتنامي. وهاتان هما المسألتان اللتان يقصدهما برنشتاين عندما يقول: «إن التخلي عن نظرية الانهيار لا يحرم النظرية الاشتراكية بأي شكل من الأشكال من قدرتها على الإقناع. فإذا ما تفحصنا المسألة بتعمق، وجدنا أن جميع العوامل التي عددناها والتي تعمل على القضاء على الأزمة السابقة أو تعديلها، ليست في الواقع غير شروط أو حتى بذور تشريك الإنتاج والتبادل» (المصدر السابق ص 554).
إننا لا نحتاج سوى القليل من التفكير لنفهم أننا هنا أيضا نواجه نتيجة خاطئة. فما هي أهمية كل الظاهرات التي يقول برنشتاين انها وسائل التكيف الرأسمالي: الكارتلات ونظام التسليف وتطور وسائل المواصلات وتحسين وضع الطبقة العاملة… ألخ؟ من الواضح أن أهمية هذه جميعا هي في أنها تخمد، أو على الأقل توهن، التناقضات الداخلية للاقتصاد الرأسمالي، وتوقف تطور أو تفاقم هذه التناقضات. هكذا فإن إخماد الأزمات لا يعني سواء إخماد العداء بين الإنتاج والتبادل على الأساس الرأسمالي. ولا يمكن أن يعني تحسين وضع الطبقة العاملة وتسلل أجزاء من هذه الطبقة إلى الشرائح الوسطى سوى إضعاف العداء بين رأس المال والعمل. ولكن إذا كانت العوامل المذكورة تخمد التناقضات الرأسمالية وبالتالي تنقذ النظام الرأسمالي من الدمار، وإذا كانت تمكن الرأسمالية من الإبقاء على نفسها – ولهذا يدعوها برنشتاين «وسائل تكيف» – فكيف يتسنى لهذه العوامل (الكارتلات ونظام التسليف واتحادات العمال الخ) أن تكون في الوقت ذاته «شروط وإلى حد ما بذور» الاشتراكية؟ من الواضح أن ذلك ممكن بمعنى أنها تعبر بأوضح صورة عن الطابع الجماعي للإنتاج.
ولكن هذه العوامل ذاتها في شكلها الرأسمالي تجعل تحويل الانتاج المستشرك إلى انتاج اشتراكي أمرا لا حاجة له. وهذا ما يمكن أن يجعلها بذور أو شروط النظام الاشتراكي بمعنى نظري وليس بمعنى تاريخي. إنها ظاهرات نعلم في ضوء مفهومنا للاشتراكية أنها تنتسب إلى الاشتراكية، ولكنها في الواقع لا تؤدي إلى الثورة الاشتراكية. ليس ذلك فحسب بل انها أيضا وعلى العكس من ذلك تلغي الحاجة إلى هذه الثورة.
لم يتبق من قوى الاشتراكية سوى واحدة، هي وعي البروليتاريا الطبقي. ولكن هذه أيضا، في هذه الحالة، ليست الانعكاس الفكري البسيط لتناقضات الرأسمالية المتزايدة وهبوطها الوشيك، بل هي لا تعدو كونها مثالا يستمد قوة إقناعه من الكمال الذي يعزى إليه.
باختصار، نجد هنا تفسير البرنامج الاشتراكي بواسطة «العقل المحض». ولنستعمل لغة أبسط فنقول أننا هنا نجد تفسيرا مثاليا للاشتراكية. أمّا الضرورة الموضوعية للاشتراكية وتفسير الاشتراكية على انها نتيجة التطور المادي للمجتمع فيلقيان أرضا.
هكذا تضع النظرية التحريفية نفسها في معضلة. فاما أن يكون التحويل الاشتراكي، كما هو منعارف عليه حتى الآن، نتيجة التناقضات الداخلية للرأسمالية، ويكون نمو الرأسمالية عاملا على تطوير تناقضاتها الداخلية، مما يؤدي بالضرورة إلى انهيار عند حد ما (وفي هذه الحالة وسائل التكيف ليست فعالة ونظرية الانهيار صحيحة). وأمّا أن توقف «وسائل التكيف» انهيار النظام الرأسمالي بالفعل، فتتمكن الرأسمالية بذلك من الحفاظ على نفسها بإخماد تناقضاتها. وفي هذه الحالة تكف الاشتراكية في أن تكون ضرورة تاريخية، وتصبح ما أرادت ولكنها لا تبقى نتيجة التطور المادي للمجتمع.
وتقود المعضلة إلى أخرى. أمّا أن تكون التحريفية محقة في موقفها من مسار التطور الرأسمالي، ليكون التحويل الاشتراكي للمجتمع مجرد يوتوبيا، أو لا تكون الاشتراكية يوتوبيا، وتكون نظرية «وسائل التكيف» خطلا. هذه هي المسألة باختصار.

3- تكيف الرأسمالية
يذهب برنشتاين إلى أن نظام التسليف ووسائل الاتصال التي تقرب من الكمال والمجمعات الرأسمالة الجديدة هي العوامل الهامة التي تؤدي إلى تكيف المجتمع الرأسمالي.
للتسليف تطبيقات متنوعة في الرأسمالية. وأهم الأدوار التي يلعبها على الاطلاق هو توسيع الانتاج وتسهيل التبادل. فعندما يصطدم الميل الداخلي للانتاج الرأسمالي إلى التوسع بلا حدود بالابعاد المحدودة للملكية الخاصة، يظهر التسليف كوسيلة لتخطي هذه الحدود بالطريقة الرأسمالية الخاصة. فهو يمكِّن كل رأسمالي من استخدام أموال الرأسماليين الآخرين، على شكل تسليف صناعي. وهو في شكله التجاري يسرع تبادل السلع وبالتالي عودة رأس المال إلى الانتاج، وبذلك يعيد دورة العملية الانتاجية بكاملها. إن الطريقة التي يؤثر بها هذان الدوران اللذان يلعبهما التسليف على نشوب الأزمات واضحة تماما. ذلك أنه إذا كانت الأزمات تنشب نتيجة التناقض بين القدرة على الاتساع، أي ميل الانتاج إلى الازدياد، وبين القدرة الاستهلاكية المحدودة للسوق، فإن التسليف بالنظر إلى ما أسلفنا هو بالضبط الوسيلة المحددة التي تجعل التناقض ينفجر كلما كان ذلك ممكنا. فالتسليف أولا يزيد بطريقة غير متناسبة من قدرة الإنتاج على الاتساع ليشكل بذلك قوة داخلية دافعة تدفع الانتاج بدأب إلى تخطي حدود السوق. لكن التسليف بضرب في اتجاهين، فهو يحث الإنتاج (كعامل من عوامل العملية الإنتاجية)، ولكنه بعد ذلك (بوصفه عاملا من عوامل التبادل) يدمر خلال الأزمة القوى الإنتاجية ذاتها التي خلقها. فالتسليف يذوب مختفيا عند أول بوادر الأزمة، ويتخلى عن التبادل حيث تكون الحجة ماسة اليه ،ليظهر بدلا من ذلك بلا جدوى و لا فعالية حيث يستمر بعض التبادل. فيكون بذلك قد قلص قدرة السوق الاستهلاكية إلى حدها الأدنى.
يؤثر التسليف، بالإضافة إلى هاتين النتيجتين الرئيسيتين، على نشوب الأزمات بالطرق التالية: إنه يشكل الوسيلة التقنية التي تتيح للرائد الرأسمالي entreprenent استخدام رأس مال الغير، وفي الوقت ذاته يتيح له الاستخدام الجريء وغير الحريص لأملاك الغير، أي أنه يؤدي إلى المضاربة. ولا يفاقم التسليف الأزمة بوصفه وسيلة ضمنية للتبادل فحسب، بل إنه يساعد على نشوب واتساع الأزمة وذلك بتحويله للتبادل كله إلى آلية معقدة جدا ومصطنعة يسهل تخلخلها عند أضعف هزة لأنها تعتمد على الحد الأدنى فقط من النقد كأساس حقيقي لها.
هكذا نجد أن التسليف بدلا من أن يكون أداة لإخماد الأزمات أو تخفيفها، هو على العكس من ذلك أداة قوية جدا لإحداثها . ولا يمكن له إلا أن يكون كذلك، فهو يقضي على البقية الباقية من صلات العلاقات الرأسمالية، ويدخل أقصى مرونة ممكنة إلى كل مكان، فيجعل القوى الرأسمالية جميعها مطاطة ونسبية وحساسة إلى ابعد حد. وهو بذلك يسهل الأزمات ويؤدي إلى تفاقمها، فالأزمات ليست إلا الإصطدامات الدورية لقوى الاقتصاد الرأسمالي المتعارضة.
يؤدي بنا ذلك إلى سؤال آخر. لماذا يظهر التسليف على وجه العموم بمظهر «أداة لتكيف الرأسمالية»؟ مهما كان الشكل أو العلاقة الذين يقدم بهما بعض الناس هذا «التكيف»، إلا أن من الواضح أنه يتكوّن فحسب من القدرة على إخماد واحدة من علاقات الاقتصاد الرأسمالي العدائية المتعددة، أي القدرة على إخماد أو إضعاف أحد هذه التناقضات والسماح بحرية الحركة عند هذه النقطة أو تلك للقوى الإنتاجية التي تكون بدون هذا التكيف مقيدة. الحقيقة أن التسليف هو بالضبط ما يفاقم هذه التناقضات إلى درجتها القصوى. فهو يؤجج التعادي بين نمط الإنتاج ونمط التبادل وذلك نمط الإنتاج إلى حده الأعلى وفي الوقت ذاته شل التبادل لأتفه الذرائع. وهو كذلك يفاقم التعادي بين نمط الإنتاج ونمط التصرف بالملكية وذلك بفصل الانتاج عن الملكية، أي بتحويل رأس المال الموظف في الانتاج إلى رأسمال «اشتراكي» وفي الوقت ذاته تحويل جزء من الربح على شكل فائدة لرأس المال إلى عنوان بسيط للملكية. كما أنه يفاقم التعادي القائم بين علاقات الملكية وعلاقات الإنتاج وذلك بوضع كمية هائلة من القوى الإنتاجية في عدد فليل من الأيدي ونزع ملكية عدد كبير من الرأسماليين الصغار. وهو أخيرا يفاقم التعادي القائم بين الطابع الجماعي للانتاج والملكية الرأسمالية الخاصة الفردية، وذلك بجعله تدخل الدولة في الإنتاج أمرا ضروريا.
باختصار، يعيد التسليف إنتاج كل التناقضات العدائية الأساسية في العالم الرأسمالي. إنه يؤججها ويجعل تطورها بذلك يدفع العالم الرأسمالي قدما إلى دماره. لذا فإن تكيف الرأسمالية فيما يتعلق بالتسليف يجب أن يكون تحطيم التسليف وإلغائه. فالتسليف في الحقيقة بعيد جدا عن أن يكون أداة للتكيف الرأسمالي. فهو على العكس من ذلك وسيلة تدمير لها أهميتها الثورية القصوى. ألم يوحي هذا الطابع الثوري للتسليف في الواقع خطط إصلاح «اشتراكي»؟ ولذا فقد وجد التسليف بعض الأنصار الممتازين، وكان بعض هؤلاء (مثل إسحاق بيرييرا في فرنسا) نصف أنبياء نصف أوغاد، على حد تعبير ماركس.
ولا تقل «وسيلة التكيف» الثانية، وهي منظمات أرباب العمل، عن سابقتها هشاشة. يرى برنشتاين أن منظمات كهذه ستضع حدا لفوضى الإنتاج وتتفادى الأزمات عبر تنظيمها للإنتاج. لم تدرس الآثار المتعددة لتطور الكارتلات و التروستات دراسة جادة بعد. ولكن هذه تمثل مسألة لا يمكن حلها دون الاستعانة بنظرية ماركس.
هناك أمر واحد أكيد: إننا لا نستطيع الحديث عن إيقاف الفوضى الرأسمالية من خلال المجمعات الرأسمالية إلاّ إذا أصبحت الكارتلات والتروستات ولو بشكل تقريبي شكل الانتاج المسيطر. لكن طبيعة الكارتلات ذاتها تحول دون هذه الامكانية والتحقق. فالهدف الاقتصادي النهائي لهذه المجمعات ونتيجتها هو التالي: يجري التأثير على اقتسام كمية الربح المكتسبة في السوق، عبر التخفيف من المنافسة في الفرع المعني من الانتاج، بحيث تتحقق زيادة في حصة هذا الفرع من الصناعة. وتنظيم كهذا للمجال يمكن أن يزيد وتيرة الربح في فرع معين من الصناعة ولكن على حساب فرع آخر. وهذا بالضبط ما يجعلها غير قابلة للتعميم، ذلك أنه حينما يجري مدها إلى فروع الصناعة الهامة جميعها فإن هذا الميل يخمد تأثيره ذاته.
عدا ذلك، تكون نتيجة المجمعات في حدود تطبيقها العملي عكس اخماد الفوضى الصناعية تماما. فالكارتلات تنجح في العادة في الحصول على زيادة في الربح في السوق الداخلي وذلك بالانتاج بوتيرة ربح اخفض للسوق الأجنبي. وهكذا توظف الأقسام المكملة من رأس المال التي لا تستطيع توظيفها للحاجات المحلية. أي أن الكارتلات تبيع في الخارج بأسعار أرخص مما تبيع في الداخل، فتكون النتيجة زيادة حدة التنافس في الخارج –وهذا عكس ما يريد البعض. وكذلك ما يثبته تاريخ صناعة السكر العالمية.
إن المجمعات بشكل عام، إذا ما نظر إليها على أنها إحدى تجليات نمط الإنتاج الرأسمالي، لا يمكن إلاّ أن تعتبر مرحلة محددة من مراحل التطور الرأسمالي. والكارتلات أساسا ليست غير وسيلة يلجأ إليها نمط الإنتاج الرأسمالي. بغرض إيقاف التدهور القاتل في وتيرة الربح في فرع معين من الإنتاج. فما هي الوسائل التي تستخدمها الكارتيلات للوصول إلى ذلك؟ إنها تلجأ إلى إبقاء جزء من رأس المال المتراكم خاملا، أي أنها تستخدم الوسيلة ذاتها التي تستخدمها الأزمات ولكن بشكل اخر. فيتشابه المرض والعلاج تشابه نقطتي ماء. ولا يمكن اعتبار العلاج أهون الشرين إلاّ إلى حد معين. فعندما تتقلص منافذ التصريف وتمتد السوق العالمي إلى أقصى حدوده ويصبح مستنفدا عبر تنافس الأقطار الرأسمالية –وهذا ما سيحدث عاجلا أو آجلا، فإن الخمول الجزئي الاجباري لرأس المال يتخذ أبعادا واسعة يصبح العلاج معها داءا، وعندئد يميل رأس المال الذي كان قد «شرك» إلى حد بعيد بفضل التنظيم إلى العودة ثانية إلى شكل رأس مال فردي. وفي وجه الصعوبات المتزايدة في طريق إيجاد أسواق، يفضل كل جزء فردي من رأس المال أن يجرب حظه منفردا. حينئذ تنفجر التنظيمات المنظمة كفقاعات الصابون مخلية السبيل للمزاحمة المتفاقمة(1).
لذا تبدو الكارتلات بشكل عام، مثلها مثل التسليف، مرحلة محددة من التطور الرأسمالي، تزيد في التحليل الأخير من حدة الفوضى في العالم الرأسمالي وتعبر عن تناقضاته الداخلية وتنضجها. وتؤجج الكارتلات التعادي القائم بين نمط الانتاج والتبادل وذلك بزيادة حدة الصراع بين المنتج والمستهلك، كما هو الحال على وجه الخصوص في الولايات المتحدة. إلى ذلك، تزيد الكارتيلات من تفاقم التعادي القائم بين نمط الانتاج ونمط التصرف بالملكية وذلك بأن تضع في مواجهة الطبقة العاملة، وبأكثر الطرق الوحشية، القوة المتفرقة لرأس المال المنظم، وبذلك تزيد التعادي بين رأس المال والعمل.
وأخيرا، تفاقم المجمعات الرأسمالية التناقض القائم بين الطابع العالمي للاقتصاد العالمي الرأسمالي والطابع القومي للدولة، وذلك لأنها تترافق دوما مع حرب تعرفة شاملة مما يؤدي إلى زيادة حدة الخلافات بين الدول الرأسمالية. ويجب أن نضيف إلى ذلك التأثير الثوري الأكيد الذي تمارسه الكارتلات في تمركز رأس المال والتقدم التقني.
بكلمات أخرى، إذا قيمنا الكارتلات والتروستات من زاوية أثرها النهائي على الاقتصاد الرأسمالي، فإنها تفشل في أن تكون «وسيلة تكيف». إنها تفشل في تخفيف تناقضات الرأسمالية. وعلى العكس، فإنها تبدو عاملا يؤدي إلى المزيد من الفوضى، فهي تشجع تنامي التناقضات الداخلية للرأسمالية وتسرّع هبوط الرأسمالية العام المقبل.
ولكن إذا كانت الكارتلات والتسليف لا تخفف من فوضى الرأسمالية، فلماذا لم نشهد أزمة تجارية كبرى مدة عقدين من الزمن، منذ 1873؟ أليس هذا دلالة على أن نمط الانتاج الرأسمالي، على العكس من تحليل ماركس، قد كيف نفسه، على الأقل بشكل عام، لحاجات المجتمع؟ ما كاد برنشتاين في عام 1898 يرفض نظرية ماركس في الأزمة حتى نشبت أزمة عامة عميقة في عام 1900، وبعد ذلك بسبع سنوات ضربت أزمة جديدة بدأت في الولايات المتحدة السوق العالمية. فأثبتت الوقائع خطل نظرية «التكيف»، وبينت في الوقت ذاته أن أولئك الذين تنكروا لنظرية ماركس في الأزمة لمجرد أنه لم تحدث أزمة خلال فترة معينة، إنما خلطوا بين جوهر هذه النظرية وبين واحد من مظاهرها الخارجية – هو الدورة العشرية (كل عشر سنوات). إذ لم يكن وصف ماركس وانجلز لدورة الصناعة الرأسمالية الحديثة في الأعوام 1860-1870 بأنها دورة تتكرر كل عشر سنوات سوى ملاحظة بسيطة للوقائع، لم تكن مبنية على قانون طبيعي ولكن على سلسلة من الظروف التاريخية التي كانت متعلقة بالنشاط المنتشر بسرعة للرأسمالية الشابة.
لقد كانت أزمة 1825 في الواقع نتيجة الاستثمار الكثيف لرأس المال في بناء الطرق والقنوات وشبكات الغاز الذي حدث في العهد السابق على الأخص في بريطانيا حيث نشبت الأزمة. كذلك كانت الأزمة التالية 1836-1839 نتيجة الاستثمار الكثيف في بناء وسائط النقل. وقد استثيرت أزمة 1847 بفعل البناء المحموم للسكك الحديدية في إنكلترا (من 1844 إلى 1847، أعطى البرلمان الإنجليزي امتيازات سكك الحديد ما قيمته 15 بليون دولار).
في الحالات الثلات التي ذكرنا، كانت كل أزمة تنشب بعد وضع أسس جديدة للتطور الرأسمالي. وفي 1857 حدثت نتيجة مشابهة بفعل الانفتاح المفاجئ لأسواق جديدة للصناعة الاوروبية في أمريكا وأستراليا بعد اكتشاف مناجم الذهب والبناء الكثيف لخطوط السكك الحديدية، على الأخص في فرنسا حيث جرى تقليد المثال الانجليزي (بنيت في فرنسا وحدها من 1852 إلى 1856 خطوط سكك حديدية جديدة قيمتها 1250 مليون فرنك). وأخيرا كانت الأزمة الكبرى عام 1873 نتيجة مباشرة للازدهار الأول للصناعة الكبيرة في ألمانيا والنمسا الذي تبع حوادث 1866 و1871 السياسية(2).
إذن، وحتى الآن، ما زال الاتساع المفاجئ لمجال الاقتصاد الرأسمالي، وليس تقلصه، السبب في الأزمة التجارية كل مرة. لكن تكرار الازمات2 العالمية كل عشر سنوات بالضبط لم يكن سوى حقيقة خارجية محضة، مسألة صدفة. إن المعادلة الماركسية للأزمات كما عرضها انجلز في «ضد دوهرينغ» وماركس في المجلدين الأول والثالث من رأس المال تنطبق على الأزمات إلى الحد الذي تكشف فيه آليتها العالمية وأسبابها الأساسية العامة.
قد تكرر الأزمات ذاتها كل خمس أو عشر سنين، وحتى كل ثمانية أو عشرين سنة. لكن ما يبرهن على خطأ نظرية برنشتاين هو أن الأزمة الأخيرة (1907-1908) كانت أكثر عنفا من الأقطار التي شهدت أكبر تطور لـ«وسائل التكيف» المشهورة – التسليف والاتصالات الكاملة والتروستات.
إن الاعتقاد بأن الانتاج الرأسمالي يستطيع «تكييف» نفسه للتبادل يفترض مسبقا أحد أمرين: أمّا أن يستطيع السوق العالمي الامتداد بلا حدود، أو على العكس من ذلك أن يكون تطور القوى المنتجة مقيدا لدرجة لا يستطيع معها تخطي حدود السوق. الفرضية الأولى مستحيلة ماديا، والثانية تماثل الأولى في استحالتها لأن التقدم التقني المستمر يخلق يوميا قوى منتجة جديدة في كل الفروع.
تبقى هناك ظاهرة أخرى يقول برنشتاين أنها تتناقض مع مجرى التطور الرأسمالي كما أشرنا إليه سالفا. يرى برنشتاين في «التجمعات الراسخة» للمشاريع المتوسطة الحجم اشارة إلى أن تطور الصناعة الكبيرة لا يسير في اتجاه ثوري وأنه ليس فعالا بالقدر الذي ينظر إليه من زاوية تمركز الصناعة كما تتوقع «نظرية» الانهيار. غير أن برنشتاين هنا ضحية افتقاره إلى الفهم. ذلك أن النظر إلى الاختفاء المتزايد للمشاريع المتوسطة الحجم على أنه نتيجة ضرورية لتطور الصناعة الكبيرة لا يعدو كونه سوء فهم محزن لطبيعة هذه العملية.
يلعب الرأسماليون الصغار، طبقا للنظرية الماركسية، دور رواد للتغيير التقني خلال التطور الرأسمالي. وهم يلعبون هذا الدور بمعنى مزدوج: إنهم يدخلون وسائل انتاج جديدة إلى فروع الصناعة العريقة، وهم مفيدون في خلق فروع انتاج جديدة لم يستغلها الرأسماليون الكبار بعد. ومن الخطأ أن يتصور المرء أن تاريخ المؤسسات الرأسمالية المتوسطة الحجم يسير في خط مستقيم باتجاه اختفائها المتزايد. فخط سير هذا التطور جدلي محض يتحرك دوما بين تناقضات. فالشرائح الرأسمالية المتوسطة تجد نفسها، كالعمال تماما، تحت تأثير ميلين متعاديين، أحدهما صاعد والآخر هابط. والميل الهابط في هذه الحالة هو الصعود المتزايد لسلم الانتاج الذي يفيض دوريا عن حدود حزم رأس المال المعتدلة الحجم ويقصيها باستمرار عن مسرح التنافس العالمي. أمّا النزعة الصاعدة فهي أولا الاهتلاك الدوري لرأس المال الموجود التي تخفض مرة ثانية سلم الانتاج إلى القيمة الضرورية للحد الأدنى من رأس المال، وهي بالاضافة إلى ذلك تتمثل في تغلغل الانتاج الرأسمالي إلى حقول جديدة. ولا يمكن اعتبار صراع المشاريع المتوسطة مع رأس المال الكبير معركة تتقدم بانتظام وتستمر فيها قوات الطرف الأضعف في الذوبان مباشرة وكميا. بل يجب اعتبار هذا الصراع سحقا دوريا للمشاريع الصغيرة التي تنموا ثانية بسرعة، لا لشيء إلاّ لتجد نفسها وقد سحقتها الصناعة الكبيرة مرة أخرى. يتقاذف هذان الميلان شرائح الرأسماليين المتوسطين، ولابد أن ينتصر الميل الهابط في النهاية. وعكس ذلك تماما هو الصحيح بالنسبة لتطور الطبقة العاملة. ولا يتجلى انتصار النزعة الهابطة بالضرورة في التناقص المطلق لعدد المشاريع متوسطة الحجم، ولكنه يظهر بالضرورة أولا في النمو المتزايد لكمية رأس المال الدنيا الضرورية لعمل المشاريع في فروع الصناعة القديمة، ثانيا في التناقص المطرد لفترة الوقت التي يستطيع فيها الرأسماليون الصغار الاحتفاظ بفرصة استغلال فروع انتاجية جديدة. والنتيجة فيما يتعلق بالرأسمالي الصغير هي التناقص المطرد لفترة بقائه في الصناعة الجديدة والتغير المتسارع باطراد في وسائل الإنتاج كحقل للاستثمار. وتكون النتيجة بالنسبة لشريحة الرأسماليين المتوسطين عملية انصهار وانعزال اجتماعيين تتسارع باستمرار.
يدرك برنشتاين هذا تمام الإدراك، فهو يعلق على ذلك. ولكن يبدو أنه ينسى أن هذا هو ذاته قانون حركة المشاريع الرأسمالية المتوسطة. وإذا ما اعترف المرء أن الرأسماليين الصغار رواد التقدم التقني، وأن هذا التقدم هو نبض الاقتصاد الرأسمالي الحيوي، فإن من الواضح حينئد أن الرأسماليين الصغار جزء لا يتجزأ من التطور الرأسمالي، وأنهم لن يختفوا إلاّ مع التطور الرأسمالي. إن الاختفاء المطرد للمشاريع المتوسطة الحجم، بالمعنى المطلق الذي يقصده برنشتاين، لا يعني كما يظن برنشتاين سير التطور الرأسمالي سيرا ثوريا، بل أنه على العكس من ذلك يعني توقف وبطء هذا التطور. قال ماركس «أن وتيرة الربح أي الزيادة النسبية في رأس المال هامة بالنسبة إلى مستثمري رأس المال الجدد الذين يتجمعون باستقلال. وحالما ينحصر تكوين رأس المال في أيدي حفنة من الرأسماليين الكبار، فإن حرارة الانتاج المنعشة تنطفئ وتخبو».
ـــــــــــــــــــــ
(1) في حاشية من المجلد الثالث من رأس المال، كتب إنجلز عام 1894 يقول: «منذ أن كتب ما تقدم (1865) اشتدت المزاحمة على السوق العالمي إلى حد بعيد نتيجة التطور السريع للصناعة في كافة الأقطار المتمدنة وعلى الأخص في أمريكا وألمانيا. وتنمو القوى المنتجة نموا سريعا وعظيما متخطية سيطرة القوانين الخاصة بنمط تبادل السلع الرأسمالي، ذلك النمط الذي يفترض فيها أن تتحرك ضمنه. وهذه الحقيقة تفرض نفسها اليوم أكثر فأكثر حتى على وعي الرأسماليين. وهذا ما يبينه عرضان: أولهما جنون الحماية بفرض التعرفة (الجمركية) التي تختلف عن الحماية القديمة على وجه الخصوص في أن المواد القابلة للتصدير هي المواد التي تحمي أفضل من غيرها. وثانيهما تروستات المنتجين التي تشمل حقولا إنتاجية كاملة بقصد تنظيم الانتاج وبالتالي الأسعار والأرباح. وغني عن القول أن هذه التجارب عملية ما دام المناخ الاقتصادي مؤات نسبيا. لكن العاصفة الأولى تقلب هذه التجارب رأسا على عقب وتثبت أنه على الرغم من أن الانتاج يحتاج بالتأكيد إلى التنظيم إلاّ أن من المؤكد أن الطبقة الرأسمالية ليست هي المؤهلة لتلك المهمة. خلاف ذلك ليس للتروستات من مهمة سوى العمل على أن يبتلع السمك الكبير السمك الصغير بأسرع مما كان (رأس المال، المجلد الثالث، ص 142، حاشية 16، طبعة كيو. طبعة موسكو 1962 ص 118).
(2) المقصود هو الحرب النمساوية-البروسية عام 1866، التي كانت نتيجتها وحدة ألمانيا الشمالية حول بروسيا المتطورة اقتصاديا، وكذلك الحرب الفرنسية-البروسية عام 1870-1871، التي انتهت بانتصار بروسيا، وفي 1871 تمت الوحدة الألمانية، التي ساعدت على تطوير سريع للرأسمالية في ألمانيا.

4- تحقيق الاشتراكية عبر الإصلاحات الاجتماعية
يرفض برنشتاين «نظرية الانهيار» كطريقة تاريخي إلى الاشتراكية. فما هي الطريق إلى المجتمع الاشتراكي كما تقترحه «نظرية تكيف الاشتراكية»؟ لا يجيب برنشتاين على هذا السؤال إلاّ تلميحا. بيد أن كونراد شميدت يحاول أن يعالج هذه المسألة بالتفصيل على طريقة برنشتاين. وهو يقول «إن نضال النقابات من أجل الساعات والأجور والنضال السياسي من أجل الإصلاحات سيؤدي باطراد إلى رقابة أوسع على شروط الإنتاج و«بما أن حقوق المالك الرأسمالي ستتقلص عبر التشريع، فإن دوره سينحسر في الوقت المناسب ليصبح مجرد مدير». «سيرى الرأسمالي ملكيته تفقد قيمتها بالنسبة له شيئا فشيئا» وفي النهاية «ستنتزع إدارة وتوجيه الاستغلال منه تماما» ويقام «الاستغلال الجماعي».
لذا فإن النقابات والإصلاحات الاجتماعية، ويضيف برنشتاين إلى ذلك تحقيق الديموقراطية السياسية للدولة، هي وسائل التحقيق المضطرد للاشتراكية.
لكن الحقيقة هي أن الوظيفة الأساسية للنقابات (وهذا ما شرحه برنشتاين ذاته في مجلة نيوزايت في عام 1891) هي تزويد العمال بوسيلة لتحقيق القانون الرأسمالي للأجور، أي بيع قوة عملهم بالأسعار الراهنة في السوق. واتحادات العمال تمكن البروليتاريا في كل لحظة من استثمار وضع السوق. وأوضاع السوق هذه هي:
1- الطلب على العمل وتحدده حالة الإنتاج.
2- عرض العمل ويخلقه سقوط الشرائح الوسطى في المجتمع إلى مصاف البروليتاريا والتكاثر الطبيعي للطبقة العاملة.
3- الدرجة اللحظية لإنتاجية العمل.
وهذه جميعا تظل خارج نطاق تأثير النقابات، فهذه لا تستطيع القضاء على قانون الأجور. وأقصى ما تستطيع فعله، في ظل أكثر الظروف مواتاة، هو فرض الحد «الطبيعي» اللحظي على الاستغلال الرأسمالي. ولكنها لا تملك القدرة على القضاء على الاستغلال ذاته، ولا حتى بالتدريج.
صحيح أن شميدت يرى أن النقابات الراهنة لا تزال في «مرحلتها الضعيفة الأولية» ويأمل «في المستقبل» أن تمارس الحركة النقابية تأثيرا يتزايد باطراد على تنظيم الانتاج». ولكننا نفهم بتنظيم الانتاج أمرين فقط: التدخل في المجال التقني لعملية الانتاج ووضع سلّم الانتاج ذاته. فما هو التأثير الذي تمارسه النقابات في هذين المجالين؟
من الواضح أن مصلحة الرأسمالي فيما يتعلق بتقنية الانتاج تتفق إلى حد معين من تقدم وتطور الاقتصاد الرأسمالي. ومصلحته ذاتها هي التي تدفعه إلى إجراء تحسينات تقنية. ولكن العامل المعزول يجد نفسه بالتأكيد في موقع مختلف. فكل تحويل تقني يناقض مصالحه، إذ أنه يفاقم من وضعه البائس لأنه يبخس قيمة قوة عمله ويجعل العمل أكثر كثافة وأكثر رتابة وأكثر صعوبة. وإذا تخلت النقابات، بالقدر الذي تستطيعه، في المجال التقني للانتاج، فإنها لا تستطيع إلاّ أن تتدخل لتعارض التجديد التقني. ولكنها هنا لا تعمل لمصلحة الطبقة العاملة كلها ولمصلحة تحررها التي تتفق مع التقدم التقني وبالتالي تتفق مع مصلحة الرأسمالي المنعزل. إنها تعمل هنا باتجاه رجعي. ونحن في الواقع نجد جهودا من جانب العمال للتدخل في الجزء التقني من الانتاج، لا في المستقبل كما يأمل شميدت، بل في ماضي الحركة النقابية. فقد طبعت هذه الجهود المرحلة القديمة من مراحل الحركة النقابية الانجليزية (التريديونيونية)، حتى العام 1860، عندما كانت المنظمات الانجليزية لا تزال مربوطة إلى بقايا «نقابية» العصور الوسطى وتجد وحيها في المبدأ البالي «أجر يوم عادل لعمل يوم شريف» كما عبر عنه ويب في كتابه « تاريخ التريديونيونية».
من جهة أخرى، لا تزال جهود النقابات لتثبت سلم الانتاج وأسعار السلع ظاهرة حديثة العهد. فلم نشاهد مثل هذه الجهود إلاّ حديثا في اجلترا –مرة ثانية في انجلترا. وتشابه هذه الجهود في طبيعتها وتوجهاتها ما عالجناه آنفا. إلى ماذا تؤدي مشاركة النقابات مشاركة نشيطة في تحديد سلّم وكلفة الانتاج؟ إنها تؤدي إلى كارتل من العمال والرواد الرأسماليين في موقف مشترك ضد المستهلك وعلى الأخص ضد الرواد الرأسماليين المنافسين. ولا يحدث ذلك أي أثر مختلف عن ذلك الذي تحدثه جمعيات أرباب العمل المعهودة. وهنا لا يعود هناك أساسا صراع بين العمل ورأس المال بل تضامن رأس المال والعمل ضد المستهلكين جميعا. وليس ذلك من وجهة نظر قيمته الاجتماعية غير خطوة رجعية لا يمكن أن تكون مرحلة في صراع البروليتاريا من أجل انعتاقها، لأنها تتضمن عكس الصراع الطبقي تماما. وهي إذا ما نظر إليها من زاوية تطبيقها العملي لا يمكن أن تمتد لتشمل الفروع الصناعية الكبيرة التي تنتج للسوق العالمي.
هكذا ينحصر مجال النقابات أساسا في النضال من أجل زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل، أي في جهود تهدف إلى تنظيم الاستغلال الرأسمالي وفق الضرورة التي تفرضها الحالة اللحظية للسوق العالمي. ولكن النقابات،على العكس مما يؤكده كونراد شميدت، في اتجاه الفصل الكامل بين سوق العمل وأي علاقة مباشرة مع بقية السوق.
وهذا ما يدل عليه أن الجهود لاقامة علاقة بين عقود العمل والوضع العام للانتاج بواسطة نظام لسلم أجور متحرك قد انقضت، فالنقابات البريطانية تزداد ابتعادا عن مثل هذه الجهود.
لا تستطيع الحركة النقابية، حتى ضمن الحدود الفعالة لنشاطها، ان تتوسع بالطريقة غير المحدودة التي تدعيها لها نظرية التكيف. على العكس من ذلك، لو تفحصنا العوامل الكبيرة للتطور الاجتماعي، لوجدنا أننا لا نسير باتجاه حقبة يميزها تطور منتصر للحركة النقابية، بل نحو زمن ستزداد فيه المصاعب التي تواجه هذه الحركة. فعندما يصل التطور الصناعي أعلى ذروة ممكنة وتدخل الرأسمالية مرحلة هبوطها في السوق العالمي، يصبح النضال النقابي مضاعف الصعوبة. ففي المقام الأول سيكون ظرف السوق الموضوعي أقل مواتاة لمن يبيعون قوة عملهم لأن الطلب على قوة العمل سيزيد بوتيرة أبطأ وعرض العمل بوتيرة أسرع مما هو الحال الراهن. في المقام الثاني، سيبذل الرأسماليون جهودا أكبر من تلك التي يبذلونها الآن لتقليص ذلك الجزء من الناتج الذي يذهب إلى العمال (على شكل أجور) وذلك ليعوضوا خسائرهم في السوق العالمي. وتخفيض الأجور، كما يشير ماركس، أحد الوسائل الرئيسية لاعاقة هبوط الربح. إن الحالة الراهنة في انكلترا تعطينا صورة عن بداية المرحلة الثانية من مراحل تطور النقابات. فقد تقلص عمل النقابات البريطانية بالضرورة ليقتصر على الدفاع البسيط عن المكاسب التي سبق أن حققت، وحتى هذا يزداد صعوبة شيئا فشيئا. هذه هي الوجهة العامة للأمور في مجتمعنا. ويجب أن يكون المكمل لهذه الوجهة تطوير الجانب السياسي من الصراع الطبقي.
يقترف كونراد شميدت الخطأ ذاته في المنظور التاريخي عندما يعالج الإصلاحات الاجتماعية. فهو يتوقع أن تؤدي الإصلاحات الاجتماعية كالمنظمات النقابية إلى «إملاء الشروط التي يتعين على الرأسماليين قبولها ليستطيعوا استخدام قوة العمل». وفي هذا الضوء يرى برنشتاين الإصلاح فيدعو تشريع العمل جزءا من «الرقابة الاجتماعية» وبالتالي جزءا من الاشتراكية. كذلك يستخدم كونراد شميدت تعبير «الرقابة الاجتماعية» كلما أشار إلى قوانين حماية العمل. وعندما يحول بذلك الدولة إلى مجتمع وبكل سرور، يضيف بثقة «أي الطبقة العاملة الصاعدة». ونتيجة لحيلة الإبدال هذه تتحول قوانين العمل البريئة التي أصدرها المجلس الفيدرالي الألماني إلى إجراءات اشتراكية انتقالية يفترض أن تكون البروليتاريا قد أصدرتها.
التعمية واضحة. فنحن نعلم حق العلم أن الدولة الراهنة ليست «مجتمعا» يمثل «الطبقة العاملة الصاعدة». إنها ممثلة المجتمع الرأسمالي. إنها دولة طبقية. ولهذا فإن إجراءات الإصلاح التي تتخذها ليست تطبيقا لـ«الرقابة الاجتماعية»، أي رقابة المجتمع يعمل بحرية في عملية العمل الخاصة به. إنها أشكال من الرقابة تفرضها المنظمة الطبقية لرأس المال على انتاج رأس المال. وأن ما يسمى بالاصلاحات الاجتماعية يسن لمصلحة رأس المال. بلى، يرى برنشتاين وكونراد شميدت في الوقت الحاضر «بدايات واهنة» فقط لهذه الرقابة، وهما يأملان أن يريا سلسلة متتابعة طويلة من الاصلاحات في المستقبل، كلها من صالح الطبقة العاملة. ولكنهما في هذا يقترفان خطأ شبيها بخطأ ايمانهما بالتطور اللامحدود للحركة النقابية.
هناك شرط أساسي لنظرية تحقيق الاشتراكية بالتدريج عبر الاصلاحات الاجتماعية وهو تطور موضوعي معين للملكية الرأسمالية والدولة. يقول كونراد شميدت أن المالك الرأسمالي يحن إلى فقدان حقوقه الخاصة بفعل التطور التاريخي، لينحسر إلى لعب دور المدير البسيط. وهو يعتقد أن نزع ملكية وسائل الانتاج لا يمكن أن ينفذ بعمل تاريخي وحيد مفرد. وهو لذلك يلجأ إلى نظرية نزع الملكية على مراحل. ويقسم شميدت الملكية إلى قسمين، آخذا ما سبق بعين الاعتبار: 1) حق «السيادة» (الملكية) الذي يعزوه إلى شيء يسمى «مجتمعا» والذي يريد أن يوسعه. 2) نقيض هذا الحق، أي حق الاستعمال البسيط، الذي يملكه الرأسمالي، ولكنه يقلص في أيدي الرأسماليين ليصبح مجرد أدارة مشاريعهم.
أما أن يكون هذا التفسير لعبا على الكلام، وفي هذه الحالة لا يمكن لنظرية نزع الملكية التدريجي أي أساس حقيقي، وأمّا أن يكون صورة حقيقية للتطور الحقوقي، وفي هذه الحالة تكون نظرية نزع الملكية التدريجي خاطئة تماما، كما سنرى.
إن تقسيم حق الملكية إلى عدة حقوق مكونة، وهذا ترتيب يستخدمه كونراد شميدت كمظلة يمكن له أن يبني تحتها نظريته في «نزع الملكية على مراحل»، قد طبع المجتمع الإقطاعي المؤسس على الاقتصاد الطبيعي. فقد كان الناتج يقتسم، في الإقطاعية، بين الطبقات الاجتماعية في ذلك الوقت على أساس العلاقات الشخصية القائمة بين الإقطاعي وأقنانه وأجرائه. وكان تحلل الملكية إلى عدة حقوق جزئية يعكس الطريقة التي توزع بها الثروة الاجتماعية في تلك الفترة. ولكن العلاقة بين الناس والأشياء (أي الملكية الخاصة) أصبحت أقوى تبادليا بالانتقال إلى إنتاج السلع وذوبان جميع الروابط الشخصية بين المشاركين في عملية الإنتاج. وبما أن التقسيم لم يعد على أساس العلاقات الشخصية بل عبر التبادل، فإن الحقوق المختلفة التي تخول أخذ نصيب من الثروة الاجتماعية لم تعد تقاس كفتات لحقوق الملكية، بل أصبحت تقاس طبقا للقيمة التي يحملها كل فرد إلى السوق.
كان التغيير الأول الذي ادخل على حقوق الملكية بتقدم الإنتاج السلعي في العاميات (كومونات) المدينة في العصور الوسطى هو تطور الملكية الخاصة المطلقة. فقد ظهرت هذه في وسط العلاقات الحقوقية الإقطاعية، وتقدم هذا التطور بخطى سريعة في الإنتاج الرأسمالي. وكلما ازداد استشراك عملية الإنتاج، كلما أصبحت عملية التوزيع (تقسيم الثروة) تعتمد على التبادل. وكلما أصبحت الملكية الفردية منغلقة ومصونة أكثر، كلما تحولت الملكية الرأسمالية من الحق في نتاج العمل الشخصي للمرء إلى الحق في التصرف بعمل إنسان آخر. وما دام الرأسمالي نفسه يدير مصنعه، فسيظل التوزيع إلى درجة ما مرتبطا بمشاركته الشخصية في عملية الإنتاج. ولكن كلما انتفت الحاجة إلى الإدارة الشخصية من جانب الرأسمالي –وهذا هو الحال اليوم في الشركات المساهمة- كلما أصبحت ملكية رأس المال، فيما يتعلق بالحق في المشاركة في التوزيع (تقسيم الثروة) منفصلة عن أي علاقة شخصية بالإنتاج. فهي الآن تبدو في شكلها الأنقى: إن الحق الرأسمالي في الملكية يصل تمام تطوره في رأسمال على شكل أسهم وقروض صناعية.
لذا فإن المخطط التاريخي الذي يرسمه كونراد شميدت لتتب تحول الرأسمالي «من مالك إلى مدير بسيط» يخطئ التطور التاريخي الحقيقي. ففي الواقع التاريخي، يميل الرأسمالي، على العكس من ذلك، إلى التحول من مالك ومدير إلى مالك بسيط. ما حدث لكونراد شميت حدث لغوته:
يرى الواقع حلما
ويرى ما انقضى واقعا.
وكما يرتحل مخطط شميدت التاريخي إلى الوراء اقتصاديا من مجتمع حديث يعتمد على ملكية الأسهم إلى دكان الحرفي، كذلك يرغب حقوقيا في أن يقود العالم الرأسمالي خلفا إلى القوقعة الاقطاعية القديمة في العصور الوسطى.
أيضا من وجهة النظر هذه، تبدو «الرقابة الاجتماعية» في الحقيقة وجها مختلفا لا كما يراها كونراد شميت. فما يعمل اليوم له «رقابة اجتماعية» -تشريع العمل، رقابة المنظمات الصناعية عبر ملكية الأسهم الخ- لا يتعلق على الإطلاق بـ«الملكية الفائقة». فـ«رقابة» شميدت «الاجتماعية» أبعد ما تكون عما يعتقده من أنها تقليص للملكية الرأسمالية، بل هي على العكس من ذلك حماية لهذه الملكية. أو أنها، معبرا عنها من وجهة النظر الاقتصادية، ليست تهديدا للاستغلال الرأسمالي، بل هي ببساطة تنظيم لهذا الاستغلال. وعندما يتساءل برنشتاين عمّا إذا كان في قانون ما لحماية العمل قدر كبير أو صغير من الاشتراكية، فإننا نستطيع أن نطمئنه إلى أن أفضل قوانين حماية العمل ليس فيها «اشتراكية» أكثر مما في أمر بلدي ينظم تنظيف الشوارع أو إضاءة مصابيحها.

5- الرأسمالية والدولة
الشرط الثاني للتحول التدريجي إلى الاشتراكية، طبقا لبرنشتاين، هو تطور الدولة إلى مجتمع. لقد أصبح أمرا عاديا القول أن الدولة دولة طبقية. وهذا أيضا، كما بالنسبة لكل ما يشير إلى المجتمع الرأسمالي، ينبغي أن لا يفهم بطريقة مطلقة جامدة، ولكن جدليا.
لقد أصبحت الدولة رأسمالية بانتصار البرجوازية السياسي. فالتطور الرأسمالي يعدل جوهريا من طبيعة الدولة فيوسع نطاق عملها ويفرض عليها مهاما جديدة باستمرار (على الأخص تلك التي تتعلق بالحياة الاقتصادية)، ويجعل من تدخلها في المجتمع ورقابتها عليه أمرا ضروريا أكثر فأكثر. فالتطور الرأسمالي بهذا المعنى يمهد السبيل شيئا فشيئا لذوبان الدولة والمجتمع في المستقبل. أي أنه يمهد لعودة مهام الدولة إلى المجتمع. ويستطيع المرء بتتبع خط التفكير هذا أن يتحدث عن تطور الدولة الرأسمالية إلى مجتمع، وهذا ما كان يقصده ماركس بالتأكيد عندما أشار إلى أن تشريع العمل هو أول تدخل واع من «المجتمع» في العملية الاجتماعية الحيوية، تلك الجملة التي يستند إليها برنشتاين كثيرا.
لكن التطور الرأسمالي ذاته يحقق من جهة أخرى تحولا آخر في طبيعة الدولة. فالدولة الراهنة هي أولا منظمة للطبقة الحاكمة. وهي تتخذ لنفسها أعمالا محابية للتطور الإجتماعي، بالتحديد لأن هذه المصالح وهذا التطور الاجتماعي يتوافقان بشكل عام مع مصالح الطبقة المسيطرة. فتشريع العمل يسن لمصلحة الطبقة الرأسمالية مباشرة بالقدر الذي هو لمصلحة المجتمع بشكل عام. ولكن هذا التوافق لا يدوم إلاّ إلى حد معين من التطور الرأسمالي. فعندما يصل التطور الرأسمالي مستوى معينا، تأخذ مصالح البرجوازية كطبقة في الاصطدام بحاجات التقدم الاقتصادي حتى بمعناه الرأسمالي. ونحن نعتقد أن هذه المرحلة قد ابتدأت. فهي تظهر في ظاهرتين هامتين جدا من ظاهر الحياة الاجتماعية المعاصرة: من جهة سياسة حدود التعرفة (الحدود الجمركية) ومن ناحية ثانية الظاهرة العسكرية. وقد لعبت هاتان الظاهرتان في تاريخ الرأسمالية دورا لا غنى عنه وبهذا المعنى دورا تقدميا و ثوريا. إذ لم يكن تطور الصناعة الكبيرة في أقطار عدة ممكنا بدون الحماية الجمركية. لكن الوضع مختلف الآن.
ففي الوقت الراهن لا تخدم الحماية تطور صناعة شابة بقدر ما تبقي بصورة مصطنعة على أشكال إنتاجية قد شاخت.
ليس مهما من وجهة نظر التطور الرأسمالي، أي من وجهة نظر الاقتصاد العالمي، ما إذا كانت ألمانيا تصدر بضاعة أكثر من إنكلترا أو العكس. فمن وجهة نظر هذا التطور يمكن القول أن الزنجي قد أدى عمله وآن له أن يذهب في سبيله3. نظرا لاعتماد فروع الصناعة المتبادلا على بعضها البعض، فإن فرض تعرفة حماية على أية سلعة يؤدي بالضرورة إلى رفع كلفة إنتاج داخل البلد ذاته. ولكن هذا ليس من مصلحة الطبقة الرأسمالية. فبينما لا تحتاج الرأسمالية التعرفة لتطورها، فإن الرواد الرأسماليين يحتاجون التعرفة لحماية أسواقهم. وهذا يدلل على أن التعرفة الراهنة لم تعد تعمل على حماية قطاع رأسمالي نام ضد قطاع آخر أكثر تقدما. إنها الآن الذراع الذي تستخدمه جماعة من الرأسماليين من قومية رأسمالية ضد جماعة أخرى. كذلك لم تعد التعرفة ضرورية كأداة لحماية الصناعة في حركتها لخلق وغزو السوق المحلي. إنها الآن وسيلة لا غنى عنها لخلق الكارتلات الصناعية، أي أنها وسيلة يستخدمها الرأسماليون المنتجون في صراعهم ضد المجتمع المستهلك ككل. إن ما يدل بصورة حاسمة على الطابع المحدد للسياسة الجمركية المعاصرة هو أن الزراعة لا الصناعة هي التي تلعب اليوم الدور المسيطر في صنع التعرفة . لقد أصبحت سياسة الحماية الجمركية أداة لتحويل المصالح الإقطاعية والتعبير عنها في شكل رأسمالي.
لقد حدث التغير ذاته في الظاهرة العسكرية. فإذا نظرنا إلى التاريخ كما كان، لا كما ممكنا أو واجبا، فإن علينا أن نوافق على أن الحرب كانت ملمحا ملازما للتطور الرأسمالي. فالولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا ودول البلقان وبولندا مدينة جميعا بشرط تطورها الرأسمالي أو بصعوده للحروب، سواء انتهت بالنصر أم بالهزيمة. ففي الحالات التي كانت فيها بلدان تعاني من الانقسام السياسي الداخلي أو العزلة التي يجب أن تحطم، لعبت الظاهرة العسكرية دورا ثوريا من وجهة نظر الرأسمالية. لكن الوضع الآن مختلف. ذلك أنه إذا كانت السياسة العالمية قد أصبحت متلبدة بنذر الصدام، فليس ذلك متعلقا بمسألة فتح بلدان جديدة للرأسمالية، بل هي نتيجة لوجود عداوات أوروبية نقلت إلى الأقطار الأخرى لتنفجر هناك. ولا نضع الدول المتصاعدة عسكريا، التي نراها اليوم في أوروبا وفي غيرها من القارات، أنفسها في جانب كأقطار رأسمالية والبلدان المتخلفة في الجانب الآخر، فهي دول تدفع إلى الحرب على وجه الخصوص نتيجة تشابهها في تقدم التطور الرأسمالي. ولذا فإن الانفجار سيؤدي بهذا التطور إلى حتفه بالتأكيد، بمعنى أنه سيثير اختلالا عميقا جدا وتحويلا للحياة الاقتصادية في كل الأقطار. بيد أن هذه المسألة تبدو مختلفة تماما عندما ينظر إليها من وجهة نظر الطبقة الرأسمالية. فقد أصبحت العسكرة أمرا لا غنى عنه لهذه الطبقة. أولا كوسيلة للنضال من أجل حماية المصالح «القومية» في التنافس مع الجماعات «القومية» الأخرى. وثانيا كوسيلة لتوظيف رأس المال النقدي والصناعي. وثالثا كأداة للسيطرة الطبقية على السكان العاملين داخل البلد نفسه. وهذه المصالح بحد ذاتها لا تملك أية علاقة بتطور نمط الإنتاج الرأسمالي. وليس أدل على الطابع المحدد للظاهرة العسكرية الراهنة من أنها تتطور بشكل عام في كل البلدان كأثر لقوتها الدافعة الميكانيكية الداخلية ، وهذه ظاهرة كانت مجهولة تماما قبل عدة عقود .ونستطيع أن نتعرف على هذا في الطابع المميت للانفجار الوشيك الذي يبدو محتما على الرغم من أن أهداف ودوافع الصدام ليست محددة إطلاقا. لقد تحولت العسكرية من محرك للتطور الرأسمالي إلى داء رأسمالي.
تقف الدولة إلى جانب الطبقة المسيطرة في الصدام بين مصالح هذه الطبقة والتطور الرأسمالي. فتصطدم سياسيا كسياسة البرجوازية بالتطور الاجتماعي. فتفقد بذلك طابعها كممثل للمجتمع كله شيئا فشيئا وتتحول بالوتيرة ذاتها إلى دولة طبقية محضة. أو، إذا توخينا الدقة، تتمايز هاتان الصفتان عن بعضهما وتجدان نفسيهما في علاقة تناقضية بحكم طبيعة الدولة ذاتها. وتزداد حدة هذا التناقض رويدا رويدا. ذلك أن هناك من جهة نمو وظائف الدولة المعبرة عن مصلحة عامة –تدخلها في الحياة الاجتماعية ورقابتها على المجتمع- ومن جهة أخرى تجد الدولة نفسها مجبرة شيئا فشيئا بفعل طابعها الطبقي على تحريك محاور نشاطها ووسائل القسر التي تملكها إلى مجالات يستفيد منها فحسب الطابع الطبقي للبرجوازية وليس لها بالنسبة للمجتمع ككل سوى أهمية ثانوية، كما في حالة الظاهرة العسكرية والتعرفة والسياسات الكولونيالية. بالإضافة إلى ذلك، يسيطر الطابع الطبقي للدولة على «الرقابة الاجتماعية» التي تمارسها ويتسلل إلى هذه الرقابة (فلنلاحظ كيف يطبق تشريع العمل في كل البلدان).
ولا يعاكس اتساع الديموقراطية، الذي يرى فيه برنشتاين وسيلة لتحقيق الاشتراكية على درجات، التحول الذي جرى في طبيعة الدولة بل يتوافق تماما مع هذا التحول.
يعلن كونراد شميدت أن حصول الاشتراكية الديموقراطية على الأغلبية في البرلمان يؤدي مباشرة إلى «التشريك» التدريجي للمجتمع. لا شك أن الأشكال الديموقراطية للحياة السياسية ظاهرة تعبر بوضوح عن تطور الدولة إلى مجتمع. وهي إلى هذا الحد تشكل خطوة نحو التحويل الاشتراكي. ولكن الصدام داخل الدولة الرأسمالية، كما وصفناه سالفا، يتجلى بقدر أكبر من الوضوح في البرلمانية الحديثة. فالبرلمانية فعلا وبالتوافق مع شكلها تعبر من داخل تنظيم الدولة عن مصالح المجتمع كله. ولكن ما تعبر عنه البرلمانية هنا هو المجتمع الرأسمالي، أي مجتمع تسوده المصالح الرأسمالية. وفي هذا المجتمع تكون المؤسسات التمثيلية ديموقراطية شكلا، ولكنها في المحتوى أدوات في خدمة مصالح الطبقة الحاكمة. ويتجلى هذا بشكل واضح للعيان في أنه ما أن تبدي الديموقراطية ميلا إلى نفي طابعها الطبقي لتتحول إلى أداة في خدمة المصالح الحقيقية للسكان، حتى تضحي البرجوازية وممثلي دولتها بكل الاشكال الديموقراطية. وهذا هو السبب في أن فكرة كسب أغلبية برلمانية إصلاحية حساب يجري تماما بروح البرجوازية الليبرالية فيشغل نفسه. بجانب واحد، هو الجانب الشكلي، للديموقراطية، ولا يأخذ في الحسبان الجانب الآخر، وهو محتوى الديموقراطية الحقيقي. إن البرلمانية، في كليتها، ليست عنصرا اشتراكيا مباشرا يتغلغل بالتدريج في كل المجتمع الرأسمالي. بل هي على العكس من ذلك شكل محدد من أشكال الدولة الطبقية البرجوازية تساعد على إنضاج وتنمية التعاديات القائمة في الرأسمالية.
إن اعتقاد برنشتاين وكونراد شميدت بأن ازدياد «الرقابة الاجتماعية» يؤدي إلى الادخال المباشر للاشتراكية، يتحول في ضوء تاريخ التطور الواقعي للدولة إلى معادلة تجد نفسها يوما فيوما في تناقض متزايد مع الواقع.
تقترح نظرية التحقيق التدريجي للاشتراكية إصلاحا تقدميا للملكية الرأسمالية وللدولة الرأسمالية باتجاه الاشتراكية. ولكن كليهما يتطور في الاتجاه المعاكس بالضبط نتيجة للقوانين الموضوعية التي تسود المجتمع القائم. إن عملية الإنتاج المستشرك باطراد وتدخل الدولة ورقابتها على عملية الإنتاج يتسعان. ولكن الملكية الخاصة في الوقت ذاته تصبح بتزايد مستمر شكل الاستغلال الرأسمالي المفضوح لعمل الآخرين، كذلك فإن المصالح الخاصة للطبقة الحاكمة تخترق رقابة الدولة. فالدولة، أي التنظيم السياسي للرأسمالية، وعلاقات الملكية، أي التنظيم الحقوقي للرأسمالية، تصبحان أكثر رأسمالية وليس أكثر اشتراكية، مما يضع عقبتين لا يمكن تخطيهما في وجه نظرية الادخال المضطرد للاشتراكية إلى المجتمع.
لقد كانت خطة فورييه لتحويل مياه كل البحار إلى شراب لذيذ المذاق بواسطة نظام التعاونيات فكرة خيالية. ولكن برنشتاين إذ يقترح تحويل بحر المرارة الرأسمالية إلى بحر من العذوبة الاشتراكية بسكب قوارير من شراب الاصلاحات الاجتماعية، إنما يقدم فكرة أكثر بلاهة ولكنها ليست بحال أقل خيالية.
إن علاقات الإنتاج في المجتمع الرأسمالي تقترب شيئا فشيئا من علاقات انتاج المجتمع الاشتراكي. ولكن العلاقات السياسية والحقوق أقامت بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الاشتراكي سدا منيعا يرتفع باستمرار. ولا يتهدم هذا الجدار بتطور الاصلاحات الاجتماعية وتقدم الديموقراطية، بل هو يتعزز ويقوى بهما. ولن يستطيع شيء غير ضربة الثورة القاصمة، أي استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية، أن يحطم هذا الجدار.

6- نتائج الإصلاحات والطبيعة العامة للتحريفية
كان هدفنا في الفصل الأول أن نبين أن نظرية برنشتاين رفعت البرنامج الاشتراكي عن قاعدته المادية وحاولت أن تضعه على قاعدة مثالية. فكيف يصير حال هذه النظرية عندما تترجم إلى ممارسة؟
أول وهلة، لا يبدو ان الحزبية الناجمة عن نظرية برينشتاين لا تختلف عن الممارسة التي تقوم بها الاشتراكية الديموقراطية حتى الآن. فقد تكون نشاط الحزب الاشتراكي الديموقراطي سابقا من العمل النقابي والتحريض على الإصلاحات الاجتماعية وإشاعة الديموقراطية في المؤسسات السياسية القائمة. لكن الخلاف ليس على «ماذا» بل على «كيف».
يعتبر النضال النقابي والممارسة البرلمانية الآن الوسيلة التي تهدي البروليتاريا وتثقفها لمهمة الاستيلاء على السلطة. لكن هذا الاستيلاء على السلطة مستحيل وغير مجد من وجهة النظر التحريضية، ولذا فإن على الحزب أن يقوم بالنضال النقابي والممارسة البرلمانية من أجل نتائجهما المباشرة فحسب، أي يفرض تحسين الوضع الراهن للعمال وتخفيض الاستغلال الرأسمالي تدريجيا وتوسيع الرقابة الاجتماعية.
فاذا ما طرحنا جانبا، هذه اللحظة، تحسين وضع العمال – وهذا هدف يشترك فيه برنامج حزبنا وبرنامج التحريفية – فإن الاختلاف في وجهتي النظر هي الآتي: النشاط البرلماني والنشاط النقابي، طبقا للمفهوم الراهن لحزبنا، مهمان لأنهما يعدان البروليتاريا لمهمة تحقيق الاشتراكية، أي أنهما يخلقان العامل الذاتي للتحول الاشتراكي. ولكن هذين النشاطين طبقا لبرنشتاين يقلصان الاستغلال الرأسمالي ذاته وينزعان عن المجتمع الرأسمالي طابعه الرأسمالي، فسيحققان موضوعيا التغيير الاجتماعي المطلوب.
إننا نجد، إذا أمعنا النظر في المسألة، أن المفهومين على طرفي نقيض. فإذا نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر حزبنا، فإننا نقول أن البروليتاريا نتيجة نضالاتها النقابية والبرلمانية تصبح مقتنعة باستحالة انجاز تغيير اجتماعي أساسي عبر نشاط كهذا، فتنتهي إلى أن الاستيلاء على السلطة أمر لابد منه. غير أن نظرية برنشتاين تبدأ بالاعلان أن هذا الاستيلاء مستحيل، لتستنتج مؤكدة أن الاشتراكية لا يمكن أن تقوم إلاّ نتيجة النضال النقابي والنشاط البرلماني. ذلك أن للعمل النقابي والبرلماني كما يراهما برنشتاين طابعا اشتراكيا لأنهما يمارسان تأثيرا «مشتركا» متزايدا على الاقتصاد الرأسمالي.
لقد حاولنا أن نبين أن هذا التأثير خيالي تماما. فالعلاقات بين الملكية الرأسمالية والدولة تتطور في اتجاهات متعاكسة تماما، لدرجة تجعل نشاط الاشتراكية الديموقراطية العملي اليومي الحالي يفقد، في التحليل الأخير، كل صلة بالعمل من أجل الاشتراكية. إن نضالنا النقابي وممارستنا البرلمانية مهمان جدا من وجهة نظر التحرك نحو الاشتراكية لأنهما يجعلان وعي البروليتاريا اشتراكيا ويساعدان على تنظيمها كطبقة. ولكنهما ما أن يعتبرا كأداتين مباشرتين بل يكفان عن أن يكونا وسيلتين لاعداد الطبقة العاملة للاستيلاء على السلطة. يعاني ادوارد برنشتاين وكونراد شميدت من سوء فهم كامل عندما يطمئنان إلى الاعتقاد أنه على الرغم من تقليص برنامج حزبنا ليقتصر على العمل من أجل الاصلاحات الاجتماعية والعمل النقابي المعتاد، فإن الهدف النهائي للحركة لا يطرح بذلك جانبا، لأن كل خطوة إلى الأمام تصل أبعد من الهدف المباشر المعطى ولأن الهدف الاشتراكي متضمن كوجهة في التقدم المفترض.
لا شك أن هذا صحيح بالنسبة إلى نهج الاشتراكية الديموقراطية الألمانية الراهن، وهو صحيح مادام النضال النقابي والعمل من أجل الاصلاحات الاجتماعية مشربا بجهد واع وصلب للاستيلاء على السلطة السياسية. ولكن إذا فصل هذا الجهد عن الحركة ذاتها وجعلت الاصلاحات الاجتماعية غاية بذاتها، فإن هذا النشاط لن يقود إلى الهدف النهائي للاشتراكية، بل سيتحرك في الاتجاه المعاكس تماما.
إن كونراد شميدت ببساطة يعتمد على الفكرة القائلة أنه ما أن تبدأ حركة ميكانيكية ظاهريا فإنها لا تستطيع أن تقف من تلقاء ذاتها، لأن «شهية المرء تنمو أثناء الأكل» ويفترض أن الطبقة العاملة لن تقنع بالاصلاحات الاجتماعية حتى يتحقق التحول الاشتراكي النهائي.
إن هذا الشرط الأخير حقيقي تماما، وضمانة فعاليته هي عدم كفاية الإصلاحات الرأسمالية ذاتها. ولكن النتيجة المستخلصة منه لا تكون صحيحة إلاّ إذا كام ممكنا بناء سلسلة متصلة من الإصلاحات المضطردة تقود من رأسمالية اليوم إلى الاشتراكية. وهذا بالطبع محض خيال. فالسلسلة سرعان ما تنكسر، بحكم طبيعة الأشياء كما هي، لتضع الحركة المتقدمة المفترضة قبالة طرق كثيرة ومختلفة.
ماذا تكون النتيجة المباشرة لو غير حزبنا نهجه العام ليتفق مع وجهة النظر التي تنزع إلى التأكيد على النتائج العملية لنضالنا، أي على الاصلاحات الاجتماعية؟ ما أن تصبح «النتائج المباشرة» الهدف الرئيسي لنشاطنا، حتى نجد أن وجهة النظر الحازمة الواضحة، التي تجد معناها بقدر ما تعتزم كسب السلطة فحسب، قد أصبحت غير مناسبة أكثر فأكثر. وستكون النتيجة المباشرة لذلك انتهاج حزبنا «سياسة تعويض» أي سياسة الاتجار السياسي ووجهة المساومة الديبلوماسية الخجول. ولكن لا يمكن الاستمرار في هذا الاتجاه وقتا طويلا. فما دامت الإصلاحات الاجتماعية لا تستطيع غير إعطاء أمل فارغ، فسيكون النتيجة خيبة الأمل.
ليس صحيحا أن الاشتراكية ستنشأ أوتوماتيكيا عن النضال اليومي للطبقة العاملة. فلن تكون الاشتراكية إلاّ نتيجة: 1) التناقضات المتنامية للاقتصاد الرأسمالي. 2) فهم الطبقة العاملة لضرورة القضاء على هذه التناقضات عبر التحويل الاجتماعي. وعندما ينكر الشرط الأول ويرفض الثاني، على طريقة التحريفية، فستجد الحركة العمالية نفسها وقد تقلصت إلى حركة إصلاحية وتعاونية بسيطة. فتحرك بذلك في خط مستقيم باتجاه التخلي الكامل عن وجهة النظر الطبقية.
وتصبح هذه النتيجة واضحة أيضا عندما نبحث الطبيعة العامة للتحريفية. من الواضح أن التحريفية لا ترغب في الاعتراف بأن موقفها هو موقف الدفاع عن الرأسمالية. فهي لا تلحق بالاقتصاديين الرأسماليين في إنكارهم في وجود التناقضات الرأسمالية. لكن ما يشكل بالضبط، من جهة أخرى، النقطة الأساسية للتحريفية ويميزها عن الاتجاه الذي أخذته الاشتراكية الديموقراطية حتى الآن هو أنها لا تقيم نظريتها على الاعتقاد بأن تناقضات الرأسمالية ستقمع نتيجة التطور المنطقي الداخلي للنظام الاقتصادي الراهن.
يمكننا القول أن نظرية التحريفية تحتل موقعا وسطا بين طرفين. فالتحريفية لا تتوقع أن ترى تناقضات الرأسمالية وقد نضجت، وهي لا تطمح إلى القضاء على هذه التناقضات عبر التحول الثوري. إنها تريد أن تقلل من التناقضات الرأسمالية وتوهنها. لكي يهدأ التعاديالقائم بين الانتاج و التبادل بتوقف الازمات وتكوين مجمعات رأسمالية ويعدل التعادي بين رأس المال والعمل بتحسين وضع العمال والحفاظ على الطبقات الوسطى، ويصفي التناقض بين الدولة الطبقية والمجتمع عبر ازدياد رقابة الدولة وتقدم الديموقراطية.
صحيح أن النهج الراهن للاشتراطية الديموقراطية لا يتكون من انتصار تناقضات الرأسمالية كي تتطور لتنتقل بعد ذلك فقط إلى مهمة القضاء على هذه التناقضات. على العكس من ذلك، يقوم جوهر النهج الثوري على الاهتداء باتجاه هذا التطور، متى جرى التحقيق منه، واستنتاج الشروط الضرورية للنضال السياسي من هذا الاتجاه. هكذا تصدت الاشتراكية الديموقراطية للحرب الجمركية وللظاهرة العسكرية دون أن تنتظر كي يصبح طابعهما الرجعي واضحا تمام الوضوح. أمّا نهج برنشتاين فلا يهديه اعتبار تطور الرأسمالية ولا امكان تفاقم تناقضاتها. إن ما يهديه هو إمكان تلطيف هذه التناقضات، وهو يكشف ذلك عندما يتحدث عن «تكيف» الاقتصاد الرأسمالي.
والآن، متى يمكن لهذا المفهوم أن يكون صحيحا؟ إذا كان صحيحا أن الرأسمالية ستستمر في التطور في الاتجاه الذي تسير فيه الآن، فإن تناقضاتها ستصبح بالضرورة أكثر حدة وتفاقما بدلا من أن تختفي. ومن هنا فإن إمكانية تخفيف تناقضات الرأسمالية تفترض مسبقا توقف نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه عن التقدم. باختصار، الشرط العام لنظرية برنشتاين هو توقف التطور الرأسمالي.
بيد أن نظرية برنشتاين تدين نفسها بذلك بطريقة مزدوجة. فهي في المقام الأول تكشف عن الطابع الطوباوي لموقفها من الاشتراكية. لأن من الواضح أن تطورا رأسماليا متخلفا لا يمكن أن يؤدي إلى الاشتراكية.
كما أنها في المقام الثاني، تزيح النقاب عن طابعها الرجعي عندما تحاكم بمقتضى التطور الرأسمالي السريع الذي يحدث الآن. فكيف لنا أن نفسر موقف برنشتاين أو حتى نعبر عنه بالكلمات في وجه تطور الرأسمالية الواقعية؟
بينا في الفصل الأول أن الشروط الاقتصادية التي يبني عليها برينشتاين تحليله للعلاقات الاجتماعية القائمة لا أساس لها. فقد رأينا أنه لا يمكن القول أن نظام التسليف أو الكارتلات «أدوات لتكيف» الاقتصاد الرأسمالي. كما رأينا أنه حتى التوقف المؤقت للأزمات وبقاء الطبقة الوسطى لا يمكن اعتبارهما عرضين من أعراض التكيف الرأسمالي. ولكن على الرغم من أننا يجب أن لا نفشل في اكتشاف خطأ تفصيلات نظرية برينشتاين هذه جميعا، إلاّ أننا لا نملك إلاّ أن نتوقف أمام صفة بارزة تشترك فيها هذه التفصيلات جميعا: إن نظرية برنشتاين لا تأخذ تجليات الحياة الاقتصادية المعاصرة هذه كما تظهر في علاقاتها العضوية بكلية التطور الرأسمالي وبالآلية الاقتصادية للرأسمالية، بل تعمد إلى انتزاع هذه التفاصيل من النطاق الاقتصادي الحي لتعاملها كأجزاء جامدة من آلية لا حياة فيها.
لنأخذ مثلا مفهوم مفهوم للأثر التكيفي للتسليف. إذا أدركنا أن التسليف مرحلة طبيعية أعلى من مراحل عملية التبادل وبالتالي من التناقضات الكامنة في التبادل الرأسمالي، فإننا لا نملك أن نرى فيها في الوقت ذاته وسيلة ميكانيكية للتكيف تقع خارج عملية التبادل. ويصبح عندئذ مستحيلا اعتبار التسليف وسيلة لتكيف الرأسمالية كما يستحيل اعتبار النقد والبضاعة ورأس المال كذلك.
بيد أن التسليف، مثله في ذلك مثل النقد والسلع ورأس المال، حلقة عضوية في الاقتصاد في مرحلة معينة من تطوره. فهو مثلها جزء لا غنى عنه في آلية الاقتصاد الرأسمالي، وفي الوقت ذاته أداة تدمير لأنه يفاقم التناقضات الداخلية للرأسمالية.
ويصح الشيء ذاته على الكارتلات ووسائل المكتملة الجديدة.
تبدو لنا النظرة الميكانيكية ذاتها في محاولة برنشتاين وصف الأمل في توقف الأزمات كعرض من أعراض «تكيف» الاقتصاد الرأسمالي. فالأزمات بالنسبة له هي ببساطة خلل في الآلية الاقتصادية، وهو لذلك يعتقد أنه إذا ما توقفت الأزمات فإن الآلية تستطيع أن تعمل جيدا. ولكن الأزمات ليست في حقيقة الأمر «خللا» بالمعنى المعتاد للكلمة. فهي «خلل» لا يستطيع الاقتصاد الرأسمالي أن يتطور دونه إطلاقا. ذلك أنه إذا كانت الأزمات الوسيلة الوحيدة المتاحة في الرأسمالية – وبالتالي الوسيلة الطبيعية – لحل التناقض القائم بين التوسع الذي لا حد له في الإنتاج والحدود الضيقة للسوق العالمي دوريا، فإن الأزمات بذلك مظهر عضوي للاقتصاد الرأسمالي لا يمكن فصله عنه.
إن التقدم «غير المعاق» للإنتاج الرأسمالي يتهدد الرأسمالية بخطر أفدح من خطر الأزمات. إنه خطر الهبوط المستمر لوتيرة الربح الناتج عن نمو إنتاجية العمل ذاته وليس عن التناقض بين الإنتاج والتبادل. وهبوط وتيرة الربح يميل ميلا خطرا جدا إلى جعل أي مشروع ذي رأسمال صغير أو متوسط أمرا مستحيلا. وبذلك يحد من التكوين الجديد لرأس المال، وبالتالي من توسع توظيفه.
والأزمات هي بالضبط ما يشكل النتيجة الأخرى لهذه العملية ذاتها. ذلك أن الأزمات، نتيجة إهتلال رأس المال، تحدث هبوطا في أسعار وسائل الإنتاج وشللا في جزء من رأس المال الناشط وزيادة في الأرباح في الوقت المناسب. وبهذا تخلق فرصا جديدة لتجدد تقدم الانتاج. لذا فإن الأزمات تبدو وسيلة تسعير نار التطور الرأسمالي. ولن يؤدي توقفها –لا توقفها المؤقت بل اختفاؤها الكامل عن السوق العالمي- إلى تطور الاقتصاد الرأسمالي تطورا أبعد. بل إلى تدمير الرأسمالية.
ينسى برنشتاين، إخلاصا منه لوجهة النظر الميكانيكية التي تطبع نظريته في التكيف، ضرورة الأزمات وكذلك ضرورة التوظيفات الجديدة لرؤوس الأموال الصغيرة ومتوسطة الحجم. وهذا ما يجعل اختفاء رأس المال اختفاء مستمرا يبدو له علامة على توقف التطور الرأسمالي، بينما هو في الحقيقة عرض من أعراض التطور الطبيعي للتطور الرأسمالي.
إنه لأمر على جانب من الأهمية أن نلاحظ أن هناك وجهة نظر أخرى تبدو الظاهرات السالفة منها كما صورتها نظرية برنشتاين في «التكيف» تماما. إنها وجهة نظر الرأسمالي المنعزل (المنفرد) الذي يعكس في ذهنه الحقائق الاقتصادية التي تجري حوله تماما كما تبدو من منظور قوانين التنافس. فالرأسمالي المنفرد برى كل جزء عضوي من أجزاء الكلية الاقتصادية وجودا مستقلا، إنه يرى هذه الإجزاء كما تؤثر فيه هو الرأسمالي المنفرد، وهو لذلك يرى فيها «خللا» بسيطا في «وسائل تكيف» بسيطة. صحيح أن الأزمات بالنسبة للرأسمالي الفرد مجرد «خلل» حقا فتوقف الأزمات يطيل بقاءه. والتسليف فيما يخصه ليس الا وسيلة «التكييف» قواه الإنتاجية غير الكافية لمتطلبات السوق. ويبدو له أن الكارتل الذي يصبح عضوا فيه يعمل حقا على القضاء على الفوضى الصناعية.
ليست التحريفية، إذن، إلا تعميما نظريا اخذ من زاوية الرأسمالي الفرد.إلى ماذا تنتمي وجهة النظر هذه نظريا ان لم تكن تنتمي إلى علم الاقتصاد البورجوازي المبتذل؟
تقوم كل أخطاء هذه المدرسة بالضبط على المفهوم الذي يستبدل خطاْ ظاهرة التنافس، كما يبدو من زاوية الرأسمالي الفرد، بظاهرة الاقتصاد الرأسمالي كله، فكما يرى برنشتاين إن التسليف وسيلة من وسائل «التكيف» كذلك يرى الاقتصاد المبتذل النقود وسيلة حكيمة لـ«التكيف» لحاجات التبادل. والاقتصاد الفظ يحاول هو الاخر أن يجد ترياقا شافيا من أمراض الرأسمالية في الظاهرة الرأسمالية ذاتها. وهو على طريقة برنشتاين يصل في الوقت المناسب الى الرغبة في تلطيف تناقضات الرأسمالية، أي الى الاعتقاد بامكان تضميد جراح الرأسمالية، لينتهي الى الانتساب الى برنامج الرجعية لينتهي الى يوتوبيا.
لذا يمكن تعريف نظرية التحريفية بالشكل التالي: انها نظرية الركود في الحركة الاشتراكية ، وهي مبنية بمساعدة الاقتصاد المبتذل على نظرية ركود رأسمالي.

7- التطور الاقتصادي والاشتراكية
لقد كان أكبر كسب أحرزته الحركة الاشتراكية النامية هو اكتشاف نقاط انطلاق تحقيق الاشتراكية في الوضع الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي. ونتيجة لهذا الاكتشاف تحولت الاشتراكية من «مثال» حلمت به الانسانية آلاف السنين الى ضرورة تاريخية.
ينكر برنشتاين وجود الشروط الاقتصادية للاشتراكية في مجتمع اليوم. وقد تعرض تفكيره بسبب من ذلك الى تطور ملفت للنظر. ففي البداية، أبدى برنشتاين ببساطة في «نيوزايت» شكه بسرعة عملية التمركز في الصناعة، وبنى موقفه على مقارنة للاحصاءات الوظائفية في ألمانيا في 1882 و1895، ولكي يستطيع برنشتاين استعمال الأرقام لخدمة غرضه، فقد اضطر إلى اللجوء إلى أسلوب مقتضب وميكانيكي. ولم يكن برنشتاين ليستطيع في أحسن الأحوال وحتى ببرهانه لثبات المشاريع المتوسطة الحجم أن يضعف التحليل الماركسي قيد شعرة، لأن التحليل الماركسي لا يفترض وتيرة محددة لتمركز الصناعة –أي تأخير محددا لتحقيق الاشتراكية، ولا يفترض كما بيّنا الاختفاء المطلق لرأس المال الصغير، الذي يوصف عادة باختفاء البورجوازية الصغيرة.
لكن برنشتاين، عبر التطور اللاحق لأفكاره، يأتينا في كتابه بنوع جديد من البراهين هو احصائيات الشركات المساهمة. فيستخدم هذه الاحصائيات ليبرهن أن عدد مالكي الأسهم يزداد باضطراد ونتيجة لذلك تكبر الطبقة الرأسمالية ولا تصغر. إن غربة برينشتاين عن المادة التي يعالجها أمر مثير للدهشة، كما يثيرها عجزه عن استخدام الاحصائيات الموجودة في صالحه.
ذلك أنه كان على برنشتاين أن يلجأ إلى الأرقام مختلفة تماما، إذا كان يريد نقض قانون ماركس في التطور الرأسمالي بالإشارة إلى وضع الشركات المساهمة. فكل من يملك أدنى فكرة عن تاريخ الشركات المساهمة في ألمانيا يعرف أن معدل رأسمالها عند التأسيس يتناقص باستمرار تقريبا. هكذا، بينما كان معدل رأس المال التأسيسي قبل العام 1871 يصل إلى 10,8 مليون مارك، فإنه اقتصر على 4,01 مليون مارك في عام 1871 و3,8 مليون مارك في عام 1873، وأقل من مليون من العام 1882 إلى العام1887 و0,52 مليون عام 1891، و0,62 مليون فقط عام 1892. وتأرجحت الأرقام بعد هذا التاريخ حول 1 مليون مارك فهبطت إلى 1,78 في العام 1895 و1,19 خلال النصف الأول من العام 1897 4.
يا لهذه الأرقام! لقد أمل برنشتاين بالاستناد إلى هذه الأرقام في اثبات وجود اتجاه معاكس للماركسية يتمثل في إعادة تحويل المشاريع الكبيرة إلى مشاريع صغيرة. لكن الجواب الواضح على هذه المحاولة هو التالي: إذا أردت أن تثبت شيئا ما بالاستناد إلى هذه الأرقام، فإن عليك أولا أن تثبت أنها تتعلق بالفروع ذاتها من الصناعة. عليك أن تبين أن المشاريع الصغيرة تحل فعلا محل المشاريع الكبيرة، وأنها لا تظهر بدلا من ذلك حيث كانت المشاريع الصغيرة وحتى الصناعة الحرفية سائدة من قبل. لكنك لا تستطيع إثبات ذلك. لأن الانتقال الاحصائي من الشركات المساهمة إلى المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم لا يمكن أن يفسر إلاّ بالاشارة إلى استمرار نظام الشركات المساهمة في التغلغل إلى فروع جديدة من الانتاج. فلقد كان عدد قليل من المشاريع الكبيرة ينظم قبلا كشركات مساهمة، لكن نظام المساهمة كسب تدريجيا المشاريع المتوسطة الحجم وحتى الصغيرة. فنرى اليوم شركات مساهمة رأس مالها أقل من ألف مارك.
والآن، ما هي الأهمية الاقتصادية لتوسع نظام الشركات المساهمة؟ اقتصاديا يمثل امتداد الشركات المساهمة التشريك المتنامي للإنتاج في الشكل الرأسمالي – لا تشريك الإنتاج الكبير فحسب بل المتوسط والصغير أيضا. لذا فإن اتساع المساهمة لا يتناقض مع النظرية الماركسية، بل هو على العكس من ذلك يؤكدها.
ما الذي تعنيه ظاهرة الشركة المساهمة فعلا؟ إنها تمثل من ناحية توحيد عدد من الثروات الصغيرة لتكون رأس مال إنتاجي كبير، وهي من الناحية الأخرى تمثل انفصال الإنتاج عن الملكية الرأسمالية، أي أن هذه الظاهرة انتصار مزدوج على نمط الإنتاج الرأسمالي، ولكنه انتصار لا يزال على القاعدة الرأسمالية.
لذا ما معنى الاحصائيات التي أوردها برنشتاين، والتي تدل على أن عددا متزايدا باستمرار من حاملي الأسهم يشارك في المشاريع الرأسمالية؟ إن هذه الإحصائيات تبين بالضبط ما يلي: إن المشروع الرأسمالي في الوقت الحاضر لا يتفق مع مالك فرد لرأس المال، كما كان الحال سابقا، بل يتفق مع عدد من الرأسماليين. ونتيجة لذلك لم يعد المفهوم الاقتصادي لـ«الرأسمالي» يدل على فرد منفرد، فالرأسمالي الصناعي الحديث شخص جماعي (هيئة جماعية – المترجم) مكوّن من مئات وحتى آلاف الأفراد. لقد أصبحت مقولة «رأسمالي» ذاتها مقولة اجتماعية، فقد أصبحت (مشتركة) ولكن ضمن إطار المجتمع الرأسمالي.
في هذه الحالة، كيف يمكننا أن نفسر اعتقاد برنشتاين أن ظاهرة الشركات المساهمة تمثل تشتت وليس تركز رأس المال؟ لماذا يرى برنشتاين اتساع الملكية الرأسمالية بينما رأي ماركس انقضاءها؟
إن هذه غلطة اقتصادية بسيطة. فبرنشتاين لا يعني بـ«رأسمالي» مقولة إنتاجية، بل حق الملكية، فـ«الرأسمالي» بالنسبة له ليس وحدة اقتصادية بل وحدة مالية. و«رأس المال» بالنسبة له ليس عاملا من عوامل الإنتاج، بل هو ببساطة كمية معينة من النقد. وهذا هو السبب في أن برنشتاين لا يرى في تروست الغزل الإنجليزي، الذي أورد مثاله، انصهار 12300 شخص يملكون نقدا في وحدة رأسمالية واحدة، بل يرى فيهم 12300 رأسمالي. ولهذا السبب فإن المهندس شوز الذي حبته بائنة زوجته بعدد كبير من الأسهم هو أيضا رأسمالي بالنسبة لبرنشتاين. وللسبب ذاته أيضا يرى برينشتاين أن العالم يعج بالرأسماليين(1).
هنا أيضا، الأساس النظري لخطأ برنشتاين الاقتصادي هو في «تبسيطه المبتذل» للاشتراكية. ذلك أن هذا ما يفعله، فهو بنقله مفهوم الرأسمالية من علاقاته الإنتاجية الى علاقات الملكية، وبحديثه عن الافراد بدلا من الرواد الرأسماليين، انما ينقل مسألة الاشتراكية من مجال الانتاج الى مجال علاقات الثروة، أي من العلاقة بين الرأسمال والعمل الى العلاقة بين الغني والفقير.
وبهذه الطريقة يقودنا برنشتاين بحبور من ماركس وانجلز الى فيتلنغ، مؤلف «انجيل الصياد الفقير». بفارق واحد، هو ان فيتلنغ راى بغريزة البروليتاري التعارض بين الفقير والغني، أي أنه رأى التناقضات العدائية الطبقية في شكلها البدائي وأراد أن يجعل من هذه التناقضات رافعة للحركة نحو الاشتراكية. لكن برنشتاين من جهة أخرى يضع تحقيق الاشتراكية في امكان جعل الفقير غنيا. أي أنه يضعها في تخفيف التعاديات الطبقية وبالتالي يضع أمله في البرجوازية الصغيرة.
صحيح أن برنشتاين لايقف عند احصائيات المداخيل، بل يقدم احصائيات عن المشاريع الاقتصادية الخاصة في البلدان التالية: المانيا وفرنسا وانجلترا وسويسرا والنمسا والولايات المتحدة. ولكن هذه الاحصائيات ليست الارقام المقارنة لفترات مختلفة في كل بلد بل للفترة ذاتها في البلدان المختلفة. لذا فان ما يقدمه برنشتاين لنا (عدا حالة ألمانيا عندما يكرر المقارنة القديمة بين 1895 و1882) ليس مقارنة لاحصائيات المشاريع في البلد المعني في مراحل مختلفة بل أرقاما مطلقة للبلدان المختلفة: انجلترا 1891 وفرنسا 1894 والولايات المتحدة في 1890 الخ.
وهنا يصل برنشتاين الى النتيجة التالية: «صحيح ان الاستثمار الكبير هو المتفوق في الصناعة اليوم، الا أنه مع ذلك مضافا اليه المشاريع المعتمدة عليه لايمتل أكثر من نصف السكان المشتغلين بالانتاج». ويصح هذا على ألمانيا وانجلترا وبلجيكا الخ.
ما الذي يثبته برنشتاين هنا فعلا؟ انه لا يثبت وجود هذا الميل او ذاك للتطور الاقتصادي بل يثبت فحسب علاقة القوى المطلقة بين الأشكال المختلفة من الإنتاج، أو بكلمات أخرى العلاقة المطلقة بين الطبقات المختلفة في مجتمعنا.
والآن، إذا أراد المرء بهذه الطريقة أن يثبت استحالة تحقيق الاشتراكية، فان تفكيره يجب ان يعتمد على النظرية التي تقول ان نتيجة الجهود الاجتماعية تتعلق بعلاقات القول المادية العددية لعناصر الصراع، أي بعامل العنف. وبكلمات أخرى، ان برنشتاين الذي يصب جام غضبه على البلانكية دوما يقع في أكبر خطأ بلانكي . غير أن هناك الفرق التالي: بالنسبة للبلانكيين، الذين كانوا يمثلون اتجاها ثوريا واشتراكيا، بدا إمكان التحقيق الاقتصادي للاشتراكية أمرا طبيعيا تماما. وعلى هذا الإمكان بنى البلانكيون فرص الثورة العنيفة – حتى تلك التي تقوم بها أقلية صغيرة . لكن برنشتاين على العكس من ذلك يستنتج من عدم كفاية الاغلبية الاشتراكية استحالة التحقيق الاقتصادي للاشتراكية. بيد أن الاشتراكية الديمقراطية لاتتوقع احراز هدفها نتيجة العنف المنتصر تقوم به أقلية ولا نتيجة التفوق العددي لاغلبية. انها ترى ان الاشتراكية تأتي نتيجة الضرورة الاقتصادية، ووعي هذه الضرورة ، مما يؤدي إلى قضاء الجماهير العاملة على الرأسمالية . وتتجلى هذه الضرورة فوق كل شيء في فوضى الراسمالية.
ماهو موقف برنشتاين من المسألة الحاسمة، مسألة فوضى الاقتصاد الرأسمالي؟ انه ينكر فقط الأزمة العامة الكبيرة، ولاينكر الأزمات الجزئية والأزمات التي تحدت على النطاق القومي. انه، بكلمات أخرى ، يرفض أن يرى الكثير من فوضى الرأسمالية ، وهو لا يرى الا القليل منها . إنه ، اذا استخدمنا ايضاح ماركس، كالعذراء الساذجة التي لم تلد إلا طفلا «صغيرا جدا». ولكن الكارثة هي أنه في أمور مثل الفوضى الاقتصادية يستوي القليل والكثير من الرداءة. إذا كان برنشتاين يدرك وجود القليل من هذه الفوضى، فإننا يمكن أن نشير له أن هذا القدر الصغير من الفوضى سيكبر إلى أبعاد لم يسمع بمثلها، ليؤدي في النهاية الى الانهيار، وذلك بفعل آلية الاقتصاد السوقي، لكن إذا كان برينتاين يأمل في تحويل هذا القدر الصغير من الفوضى الى نظام واتساق، مع الحفاض على نظام الإنتاج السلعي، فانه يقع ثانية في أحد أخطاء الاقتصاد السياسي البورجوازي الأساسية ، ذلك الخطأ القائل بأن نمط التبادل مستقل عن نمط الإنتاج.
ليس هذا بالمكان المناسب للدخول في إيضاح مفصل لتشوش برنشتاين المريع في ما يتعلق بأكثر مبادئ الاقتصاد السياسي أولية. ولكن هناك نقطة واحدة فقط – تقودنا إليها المسألة الأساسية، مسألة الفوضى الرأسمالية – يجب إيضاحها حالا.
يعلن برنشتاين أن قانون ماركس في «فائض القيمة» تجريد محض. من الواضح أن عبارة كهذه تشكل في الاقتصاد السياسي إهانة بالغة. ولكن إذا كان فائض القيمة تجريدا محضا، إذا كان محض خيال، فإن لكل مواطن عادي أدى خدمته العسكرية ويدفع الضرائب الحق ذاته الذي يملكه ماركس في تكوين سخافة خاصة به، أي أن يضع قانونا للقيمة خاصا به. «إن لماركس الحق في اهمال خواص السلع حتى لا تصبح أكثر من تجسيد لكميات من العمل الانساني البسيط، إن له هذا الحق بالقدر الذي يحق فيه لمدرسة بوهيم – جيفونز أن تصنع تجريدا من كل خواص السلع خارج منفعتها».
أي أن «العمل الاجتماعي» الذي قال به ماركس و«المنفعة التجريدية» التي قال بها منجر شيئان متشابهان تمام التشابه، فهما تجريدان محضان. وينسى برنشتاين تماما أن تجريد ماركس ليس اختراعا، بل اكتشاف. فهو لا يوجد في عقل ماركس بل في اقتصاد السوق، وليس له وجود خيالي، بل وجود اجتماعي حقيقي، وحقيقي جدا لدرجة أنه يمكن أن يقتطع ويطرق ويوزن ليوضع على شكل نقود. فالعمل الانساني المجرد، الذي اكتشفه ماركس ليس في شكله المطور الا النقد . هذا بالضبط هو أحد اكتشافات ماركس العظيمة، بينما ظل جوهر النقد لغزا صوفيا حار فيه كل الاقتصاديين-السياسين البرجوازيين من المركنتيليين إلى آخر الكلاسيكيين.
إن «منفعة» بوهيم-جيفونز المجردة في الحقيقة خدعة من خدع العقل، وإذا توخينا من الدقة، فإننا نقول أنها تمثيل للفراغ الفكري والسخافة الشخصية التي لا يمكن أن تكون الرأسمالية أو أي مجتمع آخر مسؤولة عنها، فالمسؤول الوحيد عنها هو الاقتصاد البورجوازي المبتذل ذاته. ويمكن أن يظل برنشتاين وبوهيم وجيفونز وكل الشلة الذاتية عشرين عاما أمام لغز النقد وهم يهدهدون بنات أفكارهم دون أن يصلوا جميعا إلى أي حل يختلف عن ذلك الذي يستطيع أن يتوصل إليه أي إسكافي، ألا وهو ان النقد شيء «نافع» أيضا.
لقد فقد برنشتاين كل فهم لقانون القيمة الذي اكتشفه ماركس. ويستطيع كل من يعرف قليلا عن الاقتصاد الماركسي أن يرى أن نظرية ماركس بدون قانون القيمة تستغلق في الفهم. أو بعبارة أدق، سيظل اقتصاد الرأسمالية كله، ببكل ما يتفرع عنه، لغزا يحار فيه بالضرورة من لا يفهم طبيعة السلعة وتبادلها.
ما هو بالضبط المفتاح الذي مكن ماركس من أن يفتح الباب على كل أسرار الظاهرة الرأسمالية ويحل، كما لو كان يلهو، مسائل لم تكن تجول في خاطر أعتى عقول الاقتصاد السياسي البورجوازي الكلاسيكي؟ لقد كان هذا المفتاح مفهومه للاقتصاد الرأسمالي كظاهرة تاريخية، ليس فحسب بالمعنى الذي أدركه في أحسن الأحوال الاقتصاديون الكلاسيكيون، أي عندما يتعلق الأمر بالماضي الإقطاعي للرأسمالية، بل أيضا فيما يتعلق بالمستقبل الاشتراكي للعالم. إن سر نظرية ماركس في القيمة، وتحليله لمسألة النقد ونظريته في رأس المال ونظريته في وتيرة الربح وبالتالي في النظام الاقتصادي القائم كله يكمن في الطابع الانتقالي للاقتصاد الرأسمالي، وحتمية انهياره، مما يقود – وهذا ليس إلاّ وجها آخر للظاهرة ذاتها – إلى الاشتراكية. ولم يكن ماركس ليستطيع حل رموز الاقتصاد الرأسمالي الهيروغليفية، لو لم ينظر إلى الرأسمالية من وجهة النظر الاشتراكية، أي من وجهة النظر التاريخية. ولأنه بالضبط اتخذ من وجهة النظر الاشتراكية نقطة انطلاق لتحليله للمجتمع البرجوازي فقد كان في موقع يستطيع منه أن يعطي الحركة الاشتراكية أساسا علميا.
هذا هو المقياس الذي نستطيع به أن نقيم ملاحظات برنشتاين. إنه يشكو من «الازدواجية» الموجودة في كل مكان من كتاب ماركس الضخم «رأس المال». «فالكتاب يرغب في أن يكون دراسة علمية وأن يثبت في الوقت ذاته موضوعة تم وضعها وتطورها قبل أن يكتب الكتاب بزمن طويل. إنه مبني على مخطط يتضمن سلفا النتيجة التي يريد أن يؤدي إليها. إن العودة إلى البيان الشيوعي (أي إلى الهدف الاشتراكي- ر.ل.) يثبت وجود بقايا طوباوية في مذهب ماركس».
ولكن ماذا تكون «إزدواجية» ماركس إن لم تكن ازدواجية المستقبل الاشتراكي والحاضر الرأسمالي؟ إنها ازدواجية العمل ورأس المال، ازدواجية البرجوازية والروليتاريا. إنها الانعكاس العلمي لازدواجية موجودة في المجتمع البرجوازي، ازدواجية التعاديات الطبقية تتصارع داخل النظام الاجتماعي الرأسمالي.
إن فهم برنشتاين لهذه الازدواجية في ماركس على أنها «بقاء للطوباوية حية» ليس في الواقع إلاّ اعترافا ساذجا بأنه ينكر الازدواجية التاريخية للمجتمع البرجوازي وأنه ينكر وجود التعاديات الطبقية في الرأسمالية. إن ذلك اعتراف منه بأن الاشتراكية لم تعد بالنسبة له سوى «بقاء الطوباوية حية». وماذا تكون أحادية برنشتاين – وحدة برنشتاين – إن لم تكن الوحدة الأبدية للمجتمع الرأسمالي، وحدة الاشتراكي السابق الذي تنكر لهدفه وقرر أن يجد في المجتمع الرأسمالي، الواصد الثابت غير القابل للتغيير، هدف التطور الإنساني؟
لا يرى برنشتاين في البنية الاقتصادية للرأسمالية التطور الذي يؤدي إلى الاشتراكية. ولكن ليستطيع برنشتاين أن يحتفظ ببرنامجه الاشتراكي، شكلا على الأقل، فإنه يجد نفسه مجبرا على اللجوء إلى بنية مثالية موضوعة خارج التطور الاقتصادي، يجد نفسه مجبرا على تحويل الاشتراكية ذاتها من مرحلة تاريخية محددة من مراحل التطور الاجتماعي إلى «مبدأ» مجرد.
لهذا فإن «المبدأ التعاوني» – المسخ الحقير للاشتراكية الذي يرغب برنشتاين في أن يطلي به الاقتصاد الرأسمالي – يبدو كتنازل لا لمستقبل المجتمع الاشتراكي بل لماضي برنشتاين الاشتراكي.
ــــــــــــــ
(1) من الواضح ان برنشتاين يجد في الانتشار الواسع للاسهم الصغيرة برهانا على ان الثروة الاجتماعية بدأت تمطر اسهمها عل كل الرجال الصغار .فمن لا يستطيع فعلا ان يشتري اسهما مقابل جنيه استرليني أو 20 ماركا ؟ البورجوازي الصغير وحتى العامل يستطيع ذلك . لكن ها الافتراض يقوم لسوء الحظ على خطأ حسابي . فنحن هنا نتعامل بالقيمة الاسمية للاسهم بدلا من أن نتعامل بقيمتها الفعلية في السوق ، والقيمتان جد مختلفتين . مثلا ، اسهم شركة " راند الجنوب ـ افريقية " معروضة للبيع في سوق التعدين ، وهي في قيمتها الاسمية تعادل قيمة معظم اسهم التعدين ، أي جنيها استرلينيا واحدا أو20 ماركا ورقيا . ولكن هذه الاسهم بيعت فعلا في العام 1899 بـ = 43 جنيها استرلينيا أي بـ 860 ماركا بدلا من 20 . وهذا هو الوضع في كل الحالات . مما يجعل هذه الاسهم بورجوازية تماما وليست على الاطلاق " قسائم على الثروة الاجتماعية " بورجوازية صغيرة أو بوليتارية، ذلك أن عددا قليلا فقط من حملة الاسهم يشتريها بقيمتها الاسمية .

8- التعاونيات والنقابات والديمقراطية
تقدم اشتراكية برنشتاين للعمال الأمل في المشاركة في ثورة المجتمع، فيصبح الفقراء أغنياء؟ وكيف تتحقق هذه الاشتراكية؟ لا تحوي مقالات برنشتاين «مسائل الاشتراكية» غير تلميحات غامضة إلى هذه المسألة. لكن معلومات وافية يمكن الحصول عليها في كتابه.
تتحقق اشتراكية برنشتاين بمساعدة الأداتين التاليتين: اتحادات العمال – أو كما يصفها برنشتاين نفسه، الديموقراطية الاقتصادية – والتعاونيات. فالأولى سوف تقضي على الربح الصناعي والثانية سوف تنهي الربح التجاري.
تشكل التعاونيات، لاسيما التعاونيات في حقل الانتاج، شكلا هجينا في خضم الرأسمالية. ويمكن وصفها بأنها وحدات صغيرة للانتاج المستشرك وسط التبادل الرأسمالي.
لكن التبادل يسيطر على الانتاج في الاقتصاد الرأسمالي، أي أن الانتاج يعتمد إلى حد بعيد على إمكانيات السوق. ونتيجة للتنافس تصبح سيطرة مصالح رأس المال على عملية الانتاج – أي الاستغلال الذي لا يرحم – شرطا لدوام كل مشروع. وتعبر سيطرة رأس المال على عملية الانتاج عن نفسها بالطرق التالية: يكثف العمل، يطول يوم العمل أو يقصر طبقا لحالة السوق، أمّا أن يستخدم العمل أو يلقى به إلى قارعة الطريق، طبقا لمتطلبات السوق. وبكلمات أخرى، تستخدم كل السبل التي تمكن المشروع من الوقوف على قدميه في وجه منافسيه الآخرين في السوق. هكذا يجد العمال الذين يتشكلون في التعاونيات في حقل الإنتاج أنفسهم في مواجهة الضرورة المتناقضة للسيطرة على أنفسهم بأكبر قدر من الحزم ويضطرون إلى لعب دور الرائد الرأسمالي تجاه أنفسهم – وهذا هو التناقض الذي يفسر الفشل المعتاد للتعاونيات الانتاجية، التي أمّا أن تصبح مشاريع رأسمالية بحثة أو تنتهي إلى الذوبان إذا ظلت مصالح العمال مسيطرة.
ولقد لاحظ برنشتاين نفسه هذه الحقائق. ولكن من الواضح أنه لم يفهمها. فهو جنبا إلى جنب مع السيد بوتر – ويب يفسر فشل التعاونيات الإنتاجية في إنجلترا بافتقارها إلى «الانضباط». ولكن ما يدعى هنا بصورة مسطحة مصطنعة «انضباطا» ليس إلاّ النظام الإطلاقي الطبيعي للرأسمالية. ومن الواضح أن العمال لا يستطيعون تطبيق هذا النظام بنجاح ضد أنفسهم(1).
لا تستطيع تعاونيات المنتجين أن تدوم داخل الاقتصاد الرأسمالي إلاّ إذا تمكنت مداورة من القضاء على التناقض الرأسمالي بين نمط الانتاج ونمط التبادل. وهي تستطيع أن تحقق ذلك فقط بأن تعزل نفسها اصطناعيا عن تأثير قوانين التنافس الحر، ولا يمكنها أن تنجح في ذلك إلاّ إذا ضمنت لنفسها مسبقا دائرة دائمة من المستهلكين، أي عندما تضمن لنفسها سوقا دائما.
إن تعاونيات المستهلكين هي التي تستطيع أن تؤدي هذه الخدمة إلى شقيقتها في حقل الإنتاج. وهنا، لا في تمييز أوبنهايمر بين تعاونيات تبيع وتعاونيات تشتري، يكمن السر الذي يسعى برنشتاين إلى اكتشافه: التفسير للفشل الدائم لتعاونيات المنتجين التي تعمل مستقلة وبقاؤها على قيد الحياة عندما تدعمها منظمات مستهلكين.
إذا كان صحيحا أن امكانيات وجود تعاونيات المنتجين داخل الرأسمالية رهن بامكانيات وجود تعاونيات المستهلكين، فإن مجال الأولى مقتصر، حتى في أكثر الحالات مواتاة ، على السوق المحلي المحدود وعلى مصنعي المنتوجات التي تخدم حاجات مباشرة، وعلى الأخص المنتجات الغذائية. وبذلك تستثني تعاونيات المستهلكين وبالتالي تعاونيات المنتجين من معظم فروع انتاج رأس المال الأكثر أهمية – صناعات النسيج والتعدين والمعادن والبترول وبناء الآلات والقاطرات والسفن. ولهذا السبب وحده، فإن التعاونيات في حقل الانتاج، بغض النظر عن طبيعتها الهجينة، لا يمكن اعتبارها جديا أداة للتحويل الاجتماعي العام. ذلك أن إقامة تعاونيات المنتجين على نطاق واسع تفترض قبل كل شيء القضاء على السوق العالمي وتفتيت الاقتصاد العالمي الراهن إلى حقول انتاج وتبادل محلية صغيرة. أي أن المطلوب من رأسمالية عصرنا الفائقة التطور الواسعة الانتشار أن تقفل عائدة إلى اقتصاد العصور الوسطى التجاري.
تقتصر تعاونيات المنتجين ضمن إطار مجتمعنا الراهن على لعب دور الملحق البسيط بتعاونيات المستهلكين. ولذا يبدو أن هذه الأخيرة يجب أن تكون بداية التحويل الاجتماعي المقترح. ولكن إصلاح المجتمع المتوقع بواسطة التعاونيات يكف بذلك عن أن يكون هجوما ضد الإنتاج الرأسمالي. أي أنه يكف عن أن يكون هجوما على القواعد الأساسية للإنتاج الرأسمالي، ويصبح بدلا من ذلك نضالا ضد رأس المال التجاري وعلى الأخص الصغير والمتوسط منه. أنه يصبح هجوما على أغصان الشجرة الرأسمالية.
إن النقابات طبقا لبرنشتاين هي أيضا وسيلة هجوم على الرأسمالية في حقل الإنتاج. ولقد أوضحنا فيما سبق أن النقابات لا يمكن أن تمنح العمال تأثيرا حاسما على الإنتاج. فهي لا تستطيع أن تحدد أبعاد الإنتاج ولا تقدمه التقني.
يكفي أن نقول في الجانب الاقتصادي المحض من «نضال وتيرة الأجور ضد وتيرة الربح»، كما يسمي برنشتاين النشاط النقابي، ما يلي: إن هذا النشاط لا يحدث في السماء، بل يحدث ضمن الإطار المحدد جيدا لقانون الأجور، ولا يمكن تحطيم قانون الأجور بنشاط النقابات بل هو يطبق بهذا النشاط.
إن النقابات هي التي تقود، طبقا لبرنشتاين ، الهجوم الحقيقي على وتيرة الربح الصناعي – في الحركة العامة من أجل انعتاق الطبقة العاملة. وعليها، في رأي برنشتاين، تترتب مهمة تحويل وتيرة الربح الصناعي إلى «وتائر أجور». ولكن الحقيقة هي أن النقابات اخر من يستطيع شن حملة اقتصادية على الربح، فالنقابات ليست الا الدفاع المنظم للقوة العاملة ضد هجمات الربح، وهي تعبر عن المقاومة التي تبديها الطبقة العاملة في وجه اضطهاد الاقتصاد الرأسمالي.
تعمل النقابات، من جهة، على التأثير على الوضع في سوق قوة العمل. ولكن هذا التأثير يقهر باستمرار بدفع الشرائح الوسطى من مجتمعاتنا إلى صفوف البروليتاريا، وهي عملية تجلب باستمرار بضائع جديدة إلى سوق العمل. الوظيفة الثانية للنقابات هي تحسين حالة العمال. أي أنها تحاول زيادة نصيب الطبقة العاملة من الثروة الاجتماعية. بيد أن هذا النصيب يجري تخفيضه، بحتمية عملية طبيعية، بنمو انتاجية العمل. وليس المرء بحاجة إلى أن يكون ماركسيا ليلاحظ ذلك، إذ تكفي قراءة كتاب رودبيتس «تفسيرا للمسألة الاجتماعية».
بكلمات أخرى، تحول الظروف الموضوعية للمجتمع الرأسمالي الوظيفتين الاقتصاديتين لاتحادات العمال إلى نوع من العمل السيزيفي(2)، الذي لا غنى عنه برغم ذلك، لأن العامل نتيجة نشاط اتحادات العمل ينجح في الحصول لنفسه على وتيرة الأجور التي يستحقها طبقا لوضع سوق قوة-العمل. ومن هنا فإن قانون الأجور الرأسمالي يطبق نتيجة لنشاط اتحادات العمال، ونتيجة له يشل ميل التطور الاقتصادي إلى الهبوط، أو إذا أردنا الدقة بلطف هذا الميل.
بيد أن تحويل اتحادات العمال إلى أداة للتقليص المضطرد للربح لمصلحة الأجور بفترض مسبقا الشرطين الاجتماعيين التاليين: أولا توقف سقوط الشرائح الوسطى من مجتمعنا إلى صفوف البروليتاريا، وثانيا وقف نمو انتاجية العمل. وفي الحالتين تكون العودة إلى الظروف ما قبل الرأسمالية.
ليست التعاونيات واتحادات العمال بقادرة اطلاقا على تحويل نمط الانتاج الرأسمالي. وهذا ما يتفهمه برنشتاين وإن بشكل مشوش. ذلك أنه يشير إلى التعاونيات واتحادات العمال على أنها وسيلة لتخفيض ربح الرأسماليين وإثراء العمال. وهو بذلك يتخلى عن النضال ضد نمط الإنتاج الرأسمالي ويحاول أن يوجه الحركة الاشتراكية إلى النضال ضد «التوزيع الرأسمالي»(3)، فهو يشير إلى الاشتراكية المرة تلو المرة على أنها جهد إلى نمط توزيع «عادل وأعدل وأكثر عدالة من ذلك».
لا يمكن إنكار أن السبب المباشر الذي يدفع الجماهير الشعبية إلى الحركة الاشتراكية هو بالضبط نمط التوزيع «المجحف» الذي يميز الرأسمالية. وعندما تناضل الاشتراكية الديموقراطية لتشريك الاقتصاد كله، فهي إنما تطمح أيضا إلى توزيع «عادل» للثروة الاجتماعية. لكن الاشتراكية الديموقراطية، على هدي ملاحظة ماركس ان نمط التوزيع في حقبة معينة نتيجة طبيعية لنمط الإنتاج في تلك الحقبة، لا تناضل ضد التوزيع ضمن إطار الانتاج الرأسمالي، بل تناضل بدلا من ذلك للقضاء على الانتاج الرأسمالي ذاته. وباختصار، تريد الاشتراكية الديموقراطية أن تقيم نمط توزيع اشتراكي بالقضاء على نمط الانتاج الرأسمالي. لكن طريقة برنشتاين على العكس من ذلك ترمي إلى مقارعة نمط التوزيع الرأسمالي أملا منها بهذه الطريقة في إقامة نمط انتاج اشتراكي تدريجيا.
ما هو إذا والحالة هذه أساس برنامج برنشتاين لإصلاح المجتمع؟ هل يجد هذا البرنامج دعمه في اتجاهات محددة للإنتاج الرأسمالي؟ كلا، فهو في المقام الأول ينكر هذا الاتجاه. والتحويل الاشتراكي بالنسبة له هو نتيجة التوزيع لا سببها. إنه لا يستطيع أن يعطي برنامجه أساسا ماديا، ذلك أنه قد تخلى عن أهداف ووسائل الحركة من أجل الاشتراكية وبالتالي عن شروطها الاقتصادية. ونتيجة ذلك، فهو يجد نفسه مجبرا على الوقوف على أساس مثالي.
إنه يشكو «لماذا نقدم الاشتراكية على أنها نتيجة الحتمية الاقتصادية؟» «لماذا نحط من قدر فهم الإنسان، وشعوره بالعدالة وإرادته؟». إن التوزيع الفائق العدالة الذي يقول به برنشتاين يجب أن يتحقق إذن بفضل إرادة الإنسان الحرة، إرادة الإنسان التي لا تعمل وفق الضرورة الاقتصادية بحكم أن هذه الإرادة ذاتها ليست غير أداة، بل بسبب من فهم الإنسان للعدالة، بسبب مثال الإنسان عن العدالة.
هكذا نعود بحبور إلى مبدأ العدالة، ذلك الحمار العجوز الذي امتطاه مصلحو الأرض أجيالا عددا، لافتقارهم إلى وسائط نقل تاريخي أفضل. نعود إلى «روسينانت»(4) المأسوف على ذكرها التي امتطى صهوتها كل دون كيشوتات التاريخ وخبوا بها نحو الإصلاح العظيم للارض، ليعودوا دوما وقد اسودت منهم الوجوه.
اشتراكية علاقة الغني بالفقير أساسها ومبدأ التعاون محتواها و«التوزيع الأكثر عدلا» هدفها وفكرة العدالة شرعيتها التاريخية الوحيدة! ألم يدافع ويتلنغ عن هذا النوع من الاشتراكية قبل خمسين عاما بقدر أكبر من القوة والذكاء والحماسة! بيد أن عبقريته التي تشبه عبقرية الخياطين لم تكن تعرف الاشتراكية العلمية. فإذا كان هذا المفهوم الذي مزقه ماركس وإنجلز نتفا قبل نصف قرن يرقَّع اليوم ويقدم للبروليتاريا وكأنه الكلمة الأخيرة للعلم الاجتماعي، فان ذلك أيضا فن من فنون الخياطة، ولكن لا عبقرية فيه.
النقابات والتعاونيات هي نقاط الدعم الاقتصادية للنظرية التحريفية، ونمو الديمقراطية هو شرطها السياسي الأساسي. والمظاهر الراهنة للرجعية السياسية «إزاحة» فقط بالنسبة لبرنشتاين، فهو يعتبرها طارئة ومؤقتة، ويقترح أن لا تأخذ بعين الاعتبار عند وضع التوجهات العامة للحركة العمالية.
الديمقراطية، بالنسبة لبرنشتاين، مرحلة حتمية من تطور المجتمع، وهو يرى، كما يرى المنظرون البورجوازيون للبيرالية، ان الديمقراطية هي قانون التطور التاريخي الاساسي العظيم الذي تدفع الى تحقيقه كل قوى الحياة السياسية. غير أن موضوعة برنشتاين خاطئة تماما، فهي تبدو في شكلها المطلق هذا ابتذالا بورجوازيا صغيرا لنتائج مرحلة قصيرة جدا من التطور البورجوازي، هي مرحلة السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة. فنحن نصل الى نتائج مختلفة تماما عندما نتفحص التطور التاريخي للديمقراطية تفحصا أكثر تمعنا بقليل، ونأخذ بعين الاعتبار في الوقت ذاته التاريخ السياسي العام للرأسمالية.
لقد وجدت الديمقراطية في أكثر التشكيلات الاجتماعية اختلافا: في الجماعات الشيوعية البدائية وفي دول العبودية في العصور القديمة السابقة للعصور الوسطى وفي عاميات (كومونات) العصور الوسطى. كذلك يمكن العثور على الحكم المطلق وعلى الملكية الدستورية في أكثر الأنظمة الاقتصادية تنوعا. وقد لجأت الرأسمالية عندما بدأت في أول إنتاج للسلع إلى دستور ديمقراطي في العاميات-البلدية في القرون الوسطى. وفيما بعد تطورت الرأسمالية إلى المانيفاكتورة فوجدت الشكل السياسي المناسب لها في الملكية المطلقة. وفي النهاية أصبحت الرأسمالية اقتصادا صناعيا متطورا ودفعت إلى حيز الوجود في فرنسا الجمهورية الديموقراطية عام 1793 ثم ملكية نابليون الأول المطلقة ثم ملكية النبلاء في فترة العودة إلى الملكية (1815-1830) ثم ملكية لويس فيليب البرجوازية الدستورية ثم ملكية نابليون الثالث و أخيرا و للمرة الثالثة الجمهورية. أمّا في ألمانيا فلم يكن الدستور الديموقراطي الوحيد – الاقتراع العام – نصرا أحرزته البرجوازية الليبرالية، بل كان الاقتراع العام أداة لصهر الدويلات الصغيرة. وهو بهذا المعنى فقط ذو أهمية لتطور البرجوازية الألمانية التي كانت ستكتفي، لولا ذلك، بالملكية الدستورية شبه-الاقطاعية. وفي روسيا ازدهرت الرأسمالية ردحا طويلا من الزمن في ظل نظام من الحكم المطلق الشرقي، دون أن تبدي البرجوازية أدنى رغبة في ادخال الديموقراطية. وفي النمسا، لم يكن الاقتراع العام غير حبل النجاة مدّ لملكية غريق أصابها التحلل. أما في بلجيكا، فقد كان إحراز الحركة العمالية للاقتراع العام عائدا بلا شك إلى ضعف العسكرية المحلية وبالنتيجة إلى الوضع الجغرافي السياسي الخاص للبلد، ولكننا هنا نجد «نتفة من الديموقراطية» لم تحرزها البرجوازية بل أحرزت ضدها.
إن تفحصا أكثر إمعانا يبين لنا أن النصر المتواصل للديموقراطية، الذي يبدو للتحريفيين وكذلك للبيرالية البرجوازية قانونا أساسيا عظيما من قوانين التاريخ الإنساني، وعلى الأخص التاريخ الحديث، ليس إلاّ شبحا. وأنه لا تمكن إقامة صلة عامة بين التطور الرأسمالي والديموقراطية. فالشكل السياسي لبلد محدد هو دائما نتيجة العوامل السياسية القائمة جميعها: محلية وكذلك أجنبية، وهو يسمح ضمن حدوده لكل المنوعات من الملكية المطلقة إلى الجمهورية الديموقراطية.
لذا فإن علينا أن نودع كل الآمال في إقامة الديموقراطية كقانون عام للتطور التاريخي، حتى ضمن إطار المجتمع الحديث. ذلك أنه إذا ما التفتنا إلى المرحلة الراهنة للمجتمع البرجوازي ، فإننا نلاحظ هما أيضا عوامل سياسية تؤدي إلى تخلي المجتمع البورجوازي عن المنجزات الديموقراطية التي تم كسبها حتى الآن، بدلا من أن تؤدي إلى تأكيد خطط برنشتاين.
لقد استنفدت المؤسسات الديموقراطية كل دور لها كأدوات معينة في تطور المجتمع البرجوازي (وهذا أمر على جانب عظيم من الأهمية). فقد كانت هذه المؤسسات ضرورية لصهر الدويلات الصغيرة وخلق دولة عصرية كبيرة (ألمانيا، إيطاليا)، ولكنها لم تعد أمرا لا غنى عنه في الوقت الراهن، ذلك لأن التطور الاقتصادي قد خلق في هذه الأثناء التئاما عضويا داخليا.
يمكن أن يقال الشيء ذاته فيما يتعلق بتحويل جهاز الدولة السياسي والإداري كله من الآلية الإقطاعية أو شبه الإقطاعية إلى الآلية الرأسمالية. فمع أن هذا التحويل كان ملازما تاريخيا لتطور الديموقراطية، إلاّ أنه تحقق اليوم إلى مدى أصبح فيه من الممكن القضاء على العناصر الديموقراطية النقية في المجتمع كالاقتراع العام والشكل الجمهوري للدولة دون أن تجد الإدارة أو مالية الدولة أو المنظمة العسكرية أن من الضروري العودة إلى الأشكال التي كانت سائدة قبل ثورة آذار/مارس(5).
إذا كانت الليبرالية بما هي قد أصبحت غير ذات فائدة إطلاقا للمجتمع البرجوازي، فهي من جهة أخرى أصبحت معيقا مباشرا للرأسمالية من وجهات نظر أخرى. هناك عاملان يحكمان تماما الحياة السياسية للدول المعاصرة وهما: السياسة العمالية والحركة العمالية. وليس كل منهما سوى وجها آخر من وجوه المرحلة الراهنة للتطور الرأسمالي.
ونتيجة لتطور الاقتصاد العالمي وتفاقم التنافس على السوق العالمي وانتشاره فقد أصبحت العسكرية وسياسة الأساطيل الكبيرة، كأدوات للسياسة العالمية، عاملا حاسما في الحياة الداخلية للدول الكبرى وكذلك في حياتها الخارجية. وإذا كان صحيحا أن السياسة العالمية والعسكرية تمثلان ميلا صاعدا في المرحلة الراهنة للرأسمالية، فإن الديموقراطية البرجوازية يجب أن تتحرك منطقيا في خط هابط.
ولقد دفع ثمن غال في ألمانيا لفترة التسلح الكبرى والتي بدأت عام 1893 ولدخول ألمانيا السياسية العالمية الذي دشن في كياوشو. لقد كان القربان الضحية الذي دفع ثمنا هو تحليل الليبرالية وتضاؤل حزب الوسط الذي انتقل من صف المعارضة إلى صف الحكومة. ولقد كانت الانتخابات الأخيرة للريشتاغ في العام 1907 والتي جرت تحت شعار السياسة الكولونيالية الألمانية جنازة الليبرالية الألمانية.
إذا كانت السياسة الخارجية تدفع بالبرجوازية إلى أحضان الرجعية، فإن هذا صحيح كذلك بالنسبة للسياسة المحلية – وذلك بفضل صعود الطبقة العاملة. ويشير برنشتاين إلى أنه يدرك ذلك عندما يجعل «أسطورة» الاشتراكي الديموقراطي الذي «يريد أن يبتلع كل شيء» – بكلمات أخرى الجهود الاشتراكية للطبقة العاملة – مسؤولة عن خيانة البرجوازية الليبرالية.
إنه ينصح البروليتاريا أن تتنكر لهدفها الاشتراكي، حتى يخرج الليبراليون المذعورون من جحر الرجعية. وعندما يجعل برنشتاين القضاء على الحركة العمالية الاشتراكية شرطا حيويا للحفاظ على الديموقراطية البرجوازية، فإنه يثبت بطريقة مدهشة أن هذه الديموقراطية على تناقض تام مع الميل الداخلي لتطور المجتمع الراهن. ويثبت في الوقت ذاته أن الحركة الاشتراكية ذاتها نتاج مباشر لهذا الميل.
ولكنه يثبت في الوقت ذاته أمرا آخر أيضا. فهو عندما يجعل التخلي عن الهدف الاشتراكي شرطا حيويا لانبعاث الديموقراطية البرجوازية، إنما يبين إلى أي حد من عدم الدقة يذهب الادعاء بأن الديموقراطية البرجوازية شرط لا غنى عنه للحركة الاشتراكية وانتصار الاشتراكية. إن تفكير برنشتاين يستهلك ذاته في حلقة مفرغة، فنتائجه تبتلع الافتراضات التي انطلق منها!
الحل بسيط جدا. بالنظر إلى أن الليبرالية البرجوازية قد ذعرت خوفا من الحركة العمالية النامية وهدفها النهائي، فإننا نستنتج أن الحركة الاشتراكية العمالية هي اليوم السند الوحيد للديموقراطية مع أن الديموقراطية ليست هدف الحركة الاشتراكية. وعلينا أن نستنتج أن الديموقراطية لا يمكن أن يكون لها سند آخر. يجب أن نستنتج أن الحركة الاشتراكية ليست مرهونة بالديموقراطية البرجوازية، بل على العكس من ذلك أن مصير الديموقراطية مرهونة بالحركة الاشتراكية. يجب أن نستنتج أن الديموقراطية لن يكون لها فرص حياة أكبر إذا ما تنكرت الطبقة العاملة للنضال من أجل إنعتاقها، ولكن على العكس من ذلك إن الديموقراطية تحوز فرص حياة أكبر عندما تصير الحركة الاشتراكية قوية قوة تكفي للنضال ضد النتائج الرجعية للسياسة العالمية وخيانة البرجوازية للديموقراطية. من يريد أن يقوي الديموقراطية، يتوجب عليه أن يريد تقوية الحركة الاشتراكية لا إضعافها. ومن يتخلى عن النضال من أجل الاشتراكية يتخلى عن الحركة العمالية والديموقراطية معا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إن المصانع التعاونية للعمال انفسهم تمثل البدايات الاولى للجديد داخل الشكل القديم . على الرغم من أنها تفرخ ويجب أن تفرخ في كل مكان من تنظيمها الفعلي كل معايب النظام السائد ـ رأس المال المجلد الثالث ، ص 521.
(2) سيزيف (باليونانية سيزيفس) هو الملك الميثولوجي لكورينثيا الذي حكمت عليه الآلهة في العالم السفلي ان يدحرج صخرة ضخمة من قاع الوادي إلى قمة الجبل ، حتى إذا فعل تدحرجت الصخرة إلى قاع الوادي مرة ثانية ليتعين عليه أن يبدأ العمل للتو من جديد و أن يستمر في ذلك إلى الأبد .وقد أصبح سيزيف وعمله رمزا للعنة و العبث.
(3) اصطلاح يستخدمه برنشتاين للدلالة على تقسيم الثروة الاجتماعية الكلية على الاقسام المختلفة من المجتمع الراسمالي ـ ر.ل .
(4) فرس دون كيشوت.
(5) الثورة الالمانية عام 1848 التي ضربت بعنف وفعالية على المؤسسات الاقطاعية في ألمانيا .

9- الاستيلاء على السلطة السياسية
رأينا أن مصير الديموقراطية مرهون بمصير الحركة العمالية. ولكن هل يجعل تطور الديموقراطية ثورة بروليتارية، أي استيلاء العمال على السلطة السياسية، أمرا لا حاجة له أو أمرا مستحيلا؟
يسوي برنشتاين المسألة بأن يزن على وجه الدقة الجوانب السيئة والحسنة للإصلاح الاجتماعي والثورة الاجتماعية. وهو يفعل ذلك بالطريقة ذاتها التي يوزن فيها البهار أو القرفة في مخازن جمعية استهلاكية. إن برنشتاين يرى أن المجرى الشرعي للتطور التاريخي من فعل «الذكاء» بينما المجرى الثوري للتطور التاريخي من فعل «الشعور». وهو يدرك أن النشاط الاصلاحي وسيلة بطيئة للتقدم التاريخي وأن الثورة وسيلة سريعة له. وهو يرى في التشريع قوة منهجية وفي الثورة قوة عفوية تلقائية.
لقد عرفنا منذ أمد طويل أن المصلح البورجوازي الصغير يرى جوانب «حسنة» و«سيئة» في كل شيء. إنه يقضم قليلا من كل أنواع الأعشاب، ولكن المجرى الحقيقي للأحداث لا يتأثر بهذا التركيب إلاّ قليلا. ذلك أن الكومة الصغيرة التي تجمع بحرص من «الجوانب الحسنة» من كل شيء يمكن أن تنهار عند أول نقفة تاريخية. فالإصلاح التشريعي والطريقة الثورية تعملان طبقا لتأثيرات أعمق بكثير من اعتبارات فوائد ومعايب هذه الطريقة أو تلك.
لقد عمل الإصلاح التشريعي في تاريخ المجتمع البرجوازي على تقوية الطبقة الصاعدة باضطراد حتى تصبح هذه الطبقة قوية بما يكفيها للاستيلاء على السلطة السياسية، والقضاء على النظام الحقوقي القائم وبناء نظام جديد. إن برنشتاين حينما يصب جام غضبه ضد الاستيلاء على السلطة السياسية على أنها نظرية عنف بلانكي، إنما يقع في كارثة اعتبار ما كان دوما محور التاريخ وقوته الدافعة خطا بلانكيا. لقد كان الاستيلاء على السلطة السياسية هدف كل الطبقات الصاعدة منذ أن ظهرت المجتمعات الطبقية التي يكون الصراع الطبقي المحتوى الجوهري لتاريخها. هنا نقطة البدء ونهاية كل فترة تاريخية. ويمكننا أن نرى ذلك في نضال الفلاحين اللاتين الطويل ضد المتمولين والنبلاء في روما القديمة، وفي نضال نبلاء القرون الوسطى ضد الأساقفة، وفي نضال الحرفيين ضد النبلاء في مدن القرون الوسطى. ونرى ذلك أيضا في العصور الحديثة في نضال البرجوازية ضد الإقطاع.
هكذا نجد أن الاصلاح التشريعي والثورة ليسا وسيلتين مختلفتين للتطور التاريخي يمكن أن ننتقي من على مائدة التاريخ أيا منهما كما ينتقي المرء مقانق ساخنة أو باردة. إن الإصلاح التشريعي والثورة عاملان مختلفان في تطور المجتمع الطبقي، وهما يحددان ويكملان بعضهما البعض، ولكنهما في الوقت ذاته منفصلان تبادليا مثل القطب الشمالي والقطب الجنوبي، ومثل البرجوازية والبروليتاريا.
كل دستور شرعي نتاج لثورة. ففي تاريخ الطبقات تكون الثورة فعل الخلق السياسي بينما يكون التشريع التعبير السياسي عن حياة مجتمع ظهر لتوه إلى حيز الوجود. والعمل من أجل الاصلاح لا يحتوي على القوة الخاصة به مستقلة عن الثورة. ففي كل فترة تاريخية يجري العمل من أجل الاصلاحات في الاتجاه الذي تعطيه له القوة الدافعة للثورة السابقة وهو يستمر ما دامت القوة الدافعة للثورة الأخيرة مستمرة. أو إذا أردنا أن نتكلم كلاما أكثر عيانية، فإننا نقول أن العمل من أجل الإصلاحات يجري في كل فترة تاريخية داخل إطار الشكل الاجتماعي الذي خلقته الثورة الأخيرة. وهنا لب المسألة.
إن تصوير العمل من أجل الإصلاحات كثورة تمتد على فترة زمنية طويلة والثورة كسلسلة مكثفة من الإصلاحات أمر مناقض للتاريخ. فالتحويل الاجتماعي والإصلاح التشريعي لا يختلفان في امتدادهما الزمني بل في محتواهما. فسرّ التغيير التاريخي عبر استخدام السلطة السياسية يكمن بالتحديد في تحويل التعديلات الكمية البسيطة إلى نوع جديد، وبكلمات أخرى يكمن في انتقال مرحلة تاريخية من شكل معين من أشكال المجتمع إلى شكل آخر.
هذا هو السبب في أن أولئك الذين يعلنون أنهم يحبذون وسيلة الإصلاح التشريعي بدلا من الإستيلاء على السلطة السياسية والثورة الاجتماعية وفي مقابلهما لا يختارون في الحقيقة طريقا أهدأ وأبطأ إلى الهدف ذاته بل يختارون هدفا مختلفا. فهم بدلا من أن يتخذوا موقف بناء مجتمع جديد، يتخذون موقف إجراء تعديلات سطحية على المجتمع القديم. وإذا ما تتبعنا المفاهيم السياسية للتحريفية فإننا نصل إلى النتيجة ذاتهاالتي نصلها عندما نتتبع النظريات الاقتصادية للتحريفية. إن برنامجنا إذ ذاك لا يصبح تحقيق الاشتراكية بل اصلاح الرأسمالية، ليس القضاء على نظام العمل المأجور بل تخفيف الاستغلال، أي القضاء على تعسفات الرأسمالية بدلا من القضاء على الرأسمالية ذاتها.
هل ينطبق الدوران المتبادلان للاصلاح التشريعي والثورة على الصراع الطبقي في الماضي فقط؟ أليس من الممكن الآن، نتيجة لتطور النظام الحقوقي البرجوازي، أن يكون انتقال المجتمع من مرحلة تاريخية إلى أخرى أمرا يتم بالاصلاح التشريعي، وأن استيلاء البروليتاريا على سلطة الدولة قد أصبح فعلا «حملة فارغة» على حد تعبير برنشتاين؟
العكس تماما هو الصحيح. فما الذي يميز المجتمع البورجوازي عن غيره من المجتمعات الطبقية عن المجتمع القديم وعن النظام الاجتماعي في العصور الوسطى؟ إن الذي يميز المجتمع البرجوازي هو أن السيطرة الطبقية فيه لا تقوم على «حقوق مكتسبة» ولكن على علاقات اقتصادية حقيقية. إن العمل المأجور ليس علاقة حقوقية بل علاقة اقتصادية صرف. فليس في نظامنا الحقوقي معادلة واحدة تشرع للسيطرة الطبقية اليوم. والآثار القليلة الباقية لمعادلات كهذه (كتلك الخاصة بالخدم) ليست إلاّ بقايا من المجتمع الاقطاعي.
كيف يمكن القضاء على عبودية الاجرب «الطريقة التشريعية» إذا كانت هذه العبودية غير مدرجة في القوانين؟ هنا يجد برنشتاين الذي يريد أن يتخلص من الرأسمالية بواسطة الاصلاح التشريعي أنه يشبه الشرطي الروسي الذي يخبرنا في رواية أوسبينسكي «لقد أمسكت بالوغد من ياقته. لكن يا لله ماذا أرى؟ ليس للّعين ياقة». وهذه هي بالضبط الصعوبة التي يجابهها برنشتاين.
«إن المجتمعات السابقة جميعا قامت على صراع بين طبقة مضطهدة وطبقة مضطهَدة» (البيان الشيوعي). ولكن هذا الصراع يعبر عنه في كل المراحل السابقة من التاريخ الحديث في علاقات حقوقية محددة مميزة، ولهذا السبب على وجه الخصوص كان يمكن لهذه العلاقات أن تفسح إلى حد ما مجالا لعلاقات جديدة ضمن إطار العلاقات القديمة. «كان القن في عهد القنانة يتوصل لأن يصبح عضوا في إحدى الكومونات (البلدية)» (البيان الشيوعي). كيف صار ذلك ممكنا؟ بالقضاء المضطرد على كل امتيازات الإقطاع في نطاق المدينة: السخرة وحق اللباس الخاص وضريبة الإرث وحق السيد الإقطاعي في أفضل القطيع والجباية الشخصية والزواج تحت الإكراه وحق الخلافة الخ التي كانت تشكل بمجموعها القنانة.
كذلك نجحت البرجوازية الصغيرة في العصور الوسطى بالطريقة ذاتها في رفع نفسها إلى مصاف البرجوازية وهي لا تزال تحت ربقة الحكم المطلق الاقطاعي (البيان الشيوعي). بأية وسيلة؟ بالقضاء الجزئي الرسمي أو التفكيك التام للروابط التعاونية، والتحويل المطرد للادارة المالية والجيش.
نتيجة لذلك نستطيع عندما نبحث المسألة من وجهة النظر التجريدية وليس من وجهة النظر التاريخية (أي بالنظر إلى العلاقات الطبقية السابقة) أن نتخيل انتقالا شرعيا طبقا للطريقة الاصلاحية من المجتمع الاقطاعي إلى المجتمع البرجوازي. ولكن ما الذي نراه في الواقع؟ إننا نرى أن الاصلاحية القانونية لم تكن لتجنب استيلاء البرجوازية على السلطة السياسية فحسب، بل على العكس من ذلك مهدت لهذا الاستيلاء وأدت إليه. فقد كان التحويل الاجتماعي السياسي الرسمي أمرا لا غنى عنه لالغاء العبودية وكذلك للقضاء الكامل على الإقطاعية.
لكن الوضع مختلف تماما الآن. فالقانون الآن يجبر البروليتاريا أن تخضع لنير الرأسمالية. والفقر والافتقار إلى وسائل الانتاج يجبران البروليتاريا على الخضوع لنير الرأسمالية. وليس هناك في الدنيا كلها قانون يستطيع أن يعطي البروليتاريا وسائل الانتاج وهي لا تزال ضمن إطار المجتمع البرجوازي، ذلك لأن التطور الاقتصادي وليس القوانين هو الذي انتزع وسائل الإنتاج من ملكية المنتجين.
كذلك ليس الاستغلال داخل نظام العمل المأجور قائما على القوانين. فليست القوانين هي التي تحدد مستوى الأجور، ولكن العوامل الاقتصادية هي التي تفعل. إن ظاهرة الاستغلال الرأسمالي لا تقوم على تنظيم قانوني، بل تقوم على الحقيقة الاقتصادية البحتة، حقيقة أن قوة العمل تلعب في هذا الاستغلال دور السلطة التي تملك ضمن خصائص أخرى خاصية إنتاج قيمة تفوق القيمة التي تستهلكها على شكل وسيلة عيش العامل. باختصار، إنتاج قيمة تفوق القيمة التي تستهلكها على شكل وسيلة عيش العامل. باختصار، لا يمكن تحويل العلاقات الأساسية، علاقات سيطرة الطبقة الرأسمالية، بواسطة الاصلاحات التشريعية على أساس المجتمع الرأسمالي لأن هذه العلاقات لم تقم بقوانين برجوازية ولا هي اتخذت شكل قوانين كهذه. ومن الواضح أن برنشتاين لا يعي ذلك، لأنه يتحدث عن «اصلاحات اشتراكية». ولكنه من جهة أخرى يبدي ادراكا ضمنيا لذلك عندما يكتب قائلا «يعمل الدافع الاقتصادي اليوم بحرية، بينما كان في السابق يختفي خلف قناع كل أنواع علاقات السيطرة وكل أنواع الأيديولوجيا».
إن إحدى خصائص النظام الرأسمالي هي أن كل عناصر المجتمع الجديد داخل هذا النظام تتخذ في بداية تطورها شكلا لا يقترب من الاشتراكية بل على العكس من ذلك شكلا يتحرك مبتعدا أكثر فأكثر عن الاشتراكية. فالانتاج يأخذ طابعا اجتماعيا باضطراد، ولكن ما هو الشكل الذي يجري به التعبير عن الطابع الاجتماعي للانتاج الرأسمالي؟ أن يجري على شكل مشاريع كبيرة وعلى شكل شركات مساهمة وعلى شكل الكارتل وفي داخل هذه الأشكال تندفع التعاديات الرأسمالية والاستغلال الراسمالي واضطهاد قوة العمل إلى الحد الأقصى.
وفي الجيش يؤدي التطور الرأسمالي إلى اتساع الخدمة العسكرية الاجبارية وإلى تقليص مدة الخدمة. وبالتالي إلى الاقتراب المادي من المليشيا الشعبية. ولكن كل هذا يحدث على شكل عسكرية حديثة تتجلى فيها بأوضح صورة سيطرة الدولة العسكرية على الشعب والطابع الطبقي لهذه الدولة.
وفي حقل العلاقات السياسية، يدفع تطور الديمقراطية –إذا وجدت الديمقراطية أرضا مؤاتية- إلى اشتراك كل الشرائح الشعبية في الحياة السياسية وبالتالي إلى نوع من «دولة الشعب». ولكن هذه المشاركة تأخذ شكل البرلمانية البورجوازية التي لا تنتفي فيها التعاديات الطبقية والسيطرة الطبقية. بل على العكس من ذلك تكشف علنا. وبالضبط لأن المجتمع الرأسمالي يتحرك عبر هذه التناقضات كلها، يتوجب استخلاص لب المجتمع الاشتراكي من قشرته الرأسمالية وتقضي قضاء مبرما على النظام الرأسمالي.
يستخلص برنشتاين نتائج مغايرة بالطبع. إنه يجيبنا: إذا كان تطور الديمقراطية يؤدي إلى تفاقم التعاديات الرأسمالية وليس إلى التخفيف منها، «فإن على الاشتراكية الديمقراطية أن تحاول وبكل الطرق وقف الاصلاحات الاجتماعية والمؤسسات الديمقراطية، وذلك كي لا تجعل مهمتها أكثر صعوبة» هذا بالفعل ما يجب أن تفعله الاشتراكية الديمقراطية، إذا وجدت أن من المناسب أن تضع لنفسها، على طريقة البرجوازية الصغيرة، مهمة عقيمة هي التقاط كل الجوانب الحسنة من التاريخ ورفض جوانبه السيئة. بيد أن على الاشتراكية الديموقراطية في هذه الحالة أن تحاول في الوقت ذاته وقف الرأسمالية بشكل عام، فلا شك أن الرأسمالية هي الوغد الذي يضع كل العقبات في طريق الاشتراكية. ولكن الرأسمالية تزودنا إلى جانب كل هذه العقبات بالامكانات الوحيدة لتحقيق البرنامج الاشتراكي، ويمكن قول الشيء ذاته بالنسبة للديموقراطية.
إذا كانت الديموقراطية قد أصبحت زائدة عن حاجة البرجوازية ومبعث ضيق لها، فإنها على العكس من ذلك ضرورية ولا غنى عنها للطبقة العاملة. إنها ضرورية لأنها تخلق الأشكال السياسية (الأداة المستقلة، الحقوق الانتخابية الخ) التي ستفيد البروليتاريا كنقاط ارتكاز في مهمة تحويل المجتمع البرجوازي. ولا غنى عنها لأن البروليتاريا لا يمكن أن تصبح واعية لمصالحها الطبقية ومهمتها التاريخية إلاّ عبر ممارسة الحقوق الديموقراطية والنضال من أجل الديموقراطية.
الديموقراطية باختصار لا غنى عنها لا لأنها تجعل استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية أمرا لا حاجة له ولكن لأنها تجعل هذا الاستيلاء ضروريا وممكنا في آن واحد. وعندما راجع إنجلز في مقدمته لكتاب «الصراعات الطبقية في فرنسا» تاكتيكات الحركة العمالية الحديثة وحث على النضال الشرعي مقابل المتاريس، فإنه لم يقصد مسألة استيلاء معين على السلطة السياسية ولكنه قصد النضال اليومي المعاصر –وهذا أمر يدل عليه كل سطر من سطور المقدمة. إنه لم يكن يقصد الوجهة التي يجب أن تتخذها البروليتاريا تجاه الدولة الرأسمالية في وقت استيلائها على السلطة، بل كان يقصد الوجهة التي يجب أن تتخذها البروليتاريا بينما هي لا تزال ضمن حدود الدولة الرأسمالية. لقد كان انجلز يقدم الارشادات للبروليتاريا مضطهدة وليس للبروليتاريا منتصرة.
من جهة أخرى فإن جملة ماركس المعروفة جيدا في المسألة الزراعية في انكلترا (وهي جملة يرتكز عليها برنشتاين كثيرا) والتي يقول فيها «ربما سننتصر بسهولة أكبر بشراء أملاك السيد الاقطاعي» لا تشير إلى موقف البروليتاريا قبل نصرها بل بعده، ذلك أنه من الواضح أن مسألة شراء أملاك الطبقة المسيطرة القديمة لا تبرز إلا حينما تكون البروليتاريا في السلطة. إن الإمكانية التي يتصورها ماركس هي امكانية ممارسة دكتاتورية البروليتاريا سلميا وليست امكانية استبدال هذه الديكتاتورية بالاصلاحات الاجتماعية البورجوازية. لم يكن أي شك ليعتري ماركس وانجلز حول ضرورة استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية، فهما يتركان لبرنشتاين اعتبار قن دجاج البرلمانية البورجوازية الأداة التي يتحقق بواسطتها أعظم تحويل اجتماعي للتاريخ، الا وهو الانتقال من المجتمع الرأسمالي إلى الاشتراكية.
بيد أن برنشتاين في تقديم نظريته بتحذير البروليتاريا ضد خطر استيلائها على السلطة السياسية في وقت مبكر. أي أنه ينبغي على البروليتاريا، طبقا لبرنشتاين، أن تترك المجتمع البرجوازي على حاله الراهن وتمنى هي ذاتها بهزيمة مريعة. أما إذا وصلت البروليتاريا إلى السلطة فإن النتيجة «العملية» التي يمكن أن تستخلصها من نظرية برنشتاين فهي الاخلاد إلى النوم. إن نظرية برنشتاين تحكم على البروليتاريا بالخمول في أكثر لحظات الصراع حسما، تحكم عليها بالخيانة السلبية لقضيتها.
سيكون برنامجنا قصاصة ورق تاعسة إن لم يفدنا في كل احتمال وفي كل لحظات الصراع وان لم يفدنا بتطبيقه لا بعدم تطبيقه. وإذا كان برنامجنا يحتوي معادلة التطور التاريخي للمجتمع من الرأسمالية إلى الاشتراكية فإن عليه أن يصيغ، في كل أفكاره الأساسية المميزة، كل المراحل الانتقالية لهذا التطور، وينبغي عليه أن يكون قادرا على توجيه البروليتاريا بما يتوجب عليها فعله في كل لحظة على الطريق نحو الاشتراكية. فلا تكون ثمة لحظة تضطر فيها البروليتاريا إلى التخلي عن برنامجها أو يتخلى فيها هذا البرنامج عنها.
عمليا، يتجلى ذلك في أنه عندما تتبوأ البروليتاريا السلطة بقوة الاحداث، فلن يكون ثمة وقت تعجز فيه البروليتاريا عن اتخاذ اجراءات معينة لتحقيق برنامجها أي اتخاذ اجراءات انتقالية باتجاه الاشتراكية، أو لا تكون فيه مجبرة اخلاقيا على ذلك. وخلف الاعتقاد بأن البرنامج الاشتراكي يمكن أن ينهار تماما في أي نقطة من نقاط ديكتاتورية البروليتاريا يكمن الاعتقاد الآخر بأن البرنامج الاشتراكي لا يمكن تحقيقه عموما وفي كل الأوقات.
وماذا إذا كانت الاجراءات الانتقالية سابقة لأوانها؟ إن هذا التساؤل يخفي عددا من الأفكار الخاطئة فيما يتعلق بالمجرى الحقيقي للتحويل الاجتماعي.
أولا- لا ينتج استيلاء البروليتاريا، أي الطبقة الشعبية الواسعة، على السلطة السياسية بصورة مصطنعة. إنه يفترض مسبقا درجة محددة من نضوج العلاقات الاقتصادية والسياسية (باستثناء حالات كحالة عامية – كومونة باريس – حين لم تحصل البروليتاريا على السلطة بعد نضال واع في سبيل هدفها، بل سقطت السلطة في يد البروليتاريا وكأنها شيء جيد تخلى عنه الجميع) . هنا يكمن الفارق الجوهري بين الانقلابات حسب مفهوم بلانكي، تلك التي تحققها «أقلية فعالة» والتي تنفجر دوما كطلقات مسدس في غير أوانها، وبين استيلاء جماهير شعبية غفيرة واعية على السلطة السياسية، ذلك الاستيلاء الذي لايمكن الا أن يكون نتاج تحلل المجتمع البورجوازي والذي يحمل بالتالي في ذاته الشرعية الاقتصادية والسياسية لظهوره في الوقت المناسب.
لذا فان استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية اذا نظراليه من زاوية التأثير السياسي لا يمكن أن يتحقق «قبل أوانه»، أما من زاوية الاحتفاض بالسلطة فان الثورة السابقة لأوانها التي تقض مضجع برنشتاين تهددنا كسيف ديموقليطس. وفي مقابل ذلك لا تنفع أدعية وصلوات ولا مخاوف وقلق وذلك لسببين بسيطين جدا.
أولا– من المستحيل أن يتخيل المرء تحولا عظيما عظمة الانتقال من المجتمع الرأسمالي الى المجتمع الاشتيراكي يمكن أن يتحقق بضربة واحدة فرحة. وتخيل ذلك ممكنا يعني ثانية بعث الحياة في مفاهيم من الواضح أنها بلانكية. فالتحويل الاشتراكي يفترض نضالا طويلا عنيدا يمكن أن ترد البروليتاريا خلاله عن أعقابها غير مرة، لذا، فان على البروليتاريا من وجهة نظر النتيجة النهائية للصراع، أن تأتي الى السلطة أول مرة «قبل الأوان».
ثانيا– سيكون مستحيلا تجنب استيلاء البروليتاريا على سلطة الدولة «قبل الأوان» وذلك بالضبط لأن هجمات البروليتاريا «السابقة لأوانها» هذه تشكل عاملا هاما بالفعل في خلق الشروط السياسية للنصر النهائي. ففي خلال الأزمة السياسية التي تصاحب استيلاء البروليتاريا على السلطة وفي خلال النضالات الطويلة العنيدة، ستحصل البروليتاريا على درجة من النضج السياسي تسمح لها أن تحرز في الوقت المناسب نصر الثورة المبين. هكذا فإن هذه الهجمات «السابقة لأوانها» التي تقوم بها البروليتاريا على سلطة الدولة هي بحد ذاتها عوامل تاريخية هامة تساعد على إثارة وتحديد نقطة النصر الحاسم. من وجهة النظر هذه، تبدو فكرة الاستيلاء «المبكر» على السلطة السياسية سخافة سياسية ناجمة عن مفهوم ميكانيكي لتطور المجتمع يضع لانتصار الصراع الطبقي نقطة مثبتة خارج الصراع الطبقي ومستقلة عنه.
ولما كانت البروليتاريا لا تستطيع الاستيلاء على السلطة السياسية سوى «قبل الأوان»، ولما كانت البروليتاريا مجبرة على الاستيلاء على السلطة مرة أو عدة مرات «قبل الأوان» قبل أن تستطيع الاحتفاظ بالسلطة الى الأبد، فإن الاعتراض على الاستيلاء «المبكر» على السلطة السياسية ليس في حقيقة الأمر غير رفض عام لطموح البروليتاريا إلى امتلاك سلطة الدولة. وكما أن كل الطرق تؤدي إلى الطاحون، فإننا منطقيا نصل في النتيجة الى أن الاقتراح التحريفي بتعديل الهدف النهائي للحركة الاشتراكية هو في الحقيقة نصيحة بالتخلي عن الحركة الاشتراكية ذاتها.

10- الانهيار
بدأ برنشتاين تحريفه للاشتراكية الديمقراطية بالتخلي عن نظرية الانهيار الرأسمالي. بيد أن هذه النظرية هي حجر أساس الاشتراكية العلمية. ولذا فإن رفض برنشتاين لها هو رفض للنظرية الاشتراكية كلها . وهو أثناء النقاش يتخلى عن واحد إثر آخر من مواقف الاشتراكي كي يستطيع الحفاض على تأكيده الأول.
إن نزع ملكية الطبقة الرأسمالية مستحيل دون انهيار الرأسمالية. ولذا فإن برنشتاين يتنكر لنزع الملكية ويختار التحقيق التدريجي لـ«المبدأ التعاوني» هدفا للحركة العمالية.
لكن التعاون لا يمكن أن يتحقق داخل الانتاج الرأسمالي، ولذا فإن برنشتاين يتنكر لتشريك الانتاج، ويقترح فقط إصلاح التجارة وتطوير تعاونيات المستهلكين.
لكن تحويل المجتمع عبر تعاونيات المستهلكين حتى بواسطة اتحادات العمال لا يتفق مع التطور الحقيقي للمجتمع الرأسمالي. لذا فإن برنشتاين يتخلى عن المفهوم المادي للتاريخ.
لكن مفهومه لسير التطور الاقتصادي لا يتفق مع نظرية ماركس في فائض القيمة. لذا فإن برنشتاين يتخلى عن نظرية القيمة وفائض القيمة وبذلك يتخلى عن النظام الاقتصادي الماركسي لكه.
لكن نضال البروليتاريا لا يمكن أن يجري دون هدف نهائي محدد ودون قاعدة اقتصادية في المجتمع القائم. ولذا فإن برنشتاين يتخلى عن الصراع الطبقي ويتحدث عن المصالحة مع الليبرالية البورجوازية.
لكن الصراع الطبقي في مجتمع طبقي ظاهرة طبيعية لا يمكن تجنبها. لذا فإن برنشتاين يشكك حتى في وجود الطبقات في المجتمع. والطبقة العاملة بالنسبة له كتلة من الأفراد مجزأة سياسيا وثقافيا وأيضا اقتصاديا. والبورجوازية بالنسبة له لا تتكتل سياسيا طبقا لمصلحتها الاقتصادية الداخلية، ولكن فقط بسبب الضغط الخارجي عليها من تحت ومن فوق.
ولكن إذا لم يكن ثمة أساس اقتصادي للصراع الطبقي، وإذا لم يكن هناك بالتالي طبقات في المجتمع، فإن نضالات البروليتاريا ضد البورجوازية لا في المستقبل فحسب بل وفي الماضي أيضا تبدو مستحيلة، كما تبدو الاشتراكية الديموقراطية وانتصاراتها غير قابلة للفهم على الإطلاق، أو أنها يمكن أن تفهم فقط على أنها نتاج ضغط الحكومة السياسي، أي أنها ليست النتائج الطبيعية للتطور التاريخي بل النتائج العرضية لسياسة الهوهنزولرن، وليست المولود الشرعي للمجتمع الرأسمالي بل الوليد اللقيط للرجعية. هكذا فإن برنشتاين المنطقي جدا في هذا المجال ينتقل من المفهوم المادي للتاريخ إلى نظرة جريدة «فرانفكفورتر تزايتونغ» وجريدة «فوسيش تزايتونغ».
من السهل على برنشتاين بعد رفضه للنقد الاشتراكي للمجتمع الرأسمالي أن يجد الحالة الراهنة للأمور مرضية، على الأقل بخطوطها العامة. وهو لا يتردد في ذلك، فيكتشف أن الرجعية ليست اليوم قوية في ألمانيا، وأننا «لا نستطيع الحديث عن رجعية سياسية في أقطار أوروبا الغربية»، «وأن موقف البورجوازية» في معظم أقطار الغرب «تجاه الحركة الاشتراكية هو في الغالب موقف دفاعي وليس موقفا اضطهاديا» وحالة العمال لا تسوء بل تتحسن، والبورجوازية بالفعل تقدمية سياسية وقومية أخلاقيا. ونحن لا نستطيع الحديث عن رجعية أو اضطهاد. كل شيء يسير على ما يرام.
هكذا يتحرك برنشتاين بتتابع منطقي من الالف حتى الباء. فقد بدأ بالتخلي عن الهدف النهائي مفترضا أنه أبقى على الحركة. ولكن بما أنه لا حركة اشتراكية دون هدف اشتراكي، فإن برنشتاين ينتهي إلى التنكر للحركة.
وهكذا ينهار مفهوم برنشتاين للاشتراكية انهيارا تاما. وهكذا يتحول بناء الفكر الاشتراكي المتناسق الرائع إلى كومة من النفايات يجد فيها مكان حطام كل النظريات وفتات فكر كل المعقول صغيرة وكبيرة. ماركس وبرودون، ليون فون بوش وفرانز أوبنهايمر، فريدريك ألبرت لانج وكانط، بروكوبوفيتش ودكتور ريتر فون نوبار، هيركز وشولتز جافيرنتز، لاسال والبروفسور جوليوس وولف: كل هؤلاء يسهمون في نظرية برنشتاين وهو يأخذ من كل منهم شيئا. وليس هناك ما يدهش في ذلك، ذلك أنه عندما تنكر للاشتراكية العلمية فقد محور التبلور الفكري الذي تتمحور حول الحقائق المعزولة لتكون في كل عضو مفهوم متسق للعالم.
أول وهلة، تبدو نظرية برنشتاين، المكونة من الفتات من كل النظريات الممكنة، خلوا تماما من التحيز. فبرنشتاين لا يحب أن يتحدث عن «علم الحزب»، أو على وجه الدقة على علم الطبقة، أكثر مما يجب أن يتحدث عن ليبرالية الطبقة أو أخلاقية الطبقة. وهو يضن أنه قد نجح في التعبير عن علم انساني عام تجريدي وليبرالية تجريدية وأخلاقية تجريدية. ولكن بما أن مجتمع الحقيقة والواقع مكون من طبقات لها مصالح ومطامح ومفاهيم متعارضة، فإن علما إنسانيا عاما يعالج المسائل الاجتماعية وليبرالية تجريدية وأخلاقية تجريدية ليست جميعا في الوقت الراهن غير أوهام ويوتوبيا محضة. فالعلم والديموقراطية والأخلاق التي يعتبرها برنشتاين إنسانية وعامة لا تعدو كونها العلم المسيطر والديمقراطية والأخلاق البورجوازية.
وعندما يرفض برنشتاين نظرية ماركس الاقتصادية ليعتنق تعاليم برينتانو وبوهيم بورك وجيفونز وسي وجوليوس وولف، فإنه يستبدل القاعدة العلمية لانعتاق الطبقة العاملة بالمدافعة التبريرية للرأسمالية. وعندما يتحدت عن الطابع الانساني عموما لليبرالية يحول الاشتراكية إلى نوع من الليبرالية، فإنه يحرم الاشتراكية (بشكل عام) من طابعها الطبقي وبالتالي من محتواها التاريخي وبالتالي من كل محتوى، ومن جهة أخرى فإنه يعتبر الطبقة التي تمثل الليبرالية تاريخيا، أي البرجوازية، البطلة الممثلة للمصالح العامة للبشرية.
وعندما يشن حربا على «رفع العوامل المادية إلى مرتبة قوة كلية القوة دافعة للتطور»، ويحتج على ما يسمى «احتقار المثل» التي يفترض أن تسود الاشتراكية الديمقراطية، وعندما يتحد مدافعا عن المثالية والاخلاق معلنا في الوقت ذاته أنه ضد المصدر الوحيد للانبعاث الخلقي للبروليتاريا، أي الصراع الطبقي، فإنه لا يفعل شيئا غير الآتي: وعض الطبقة العاملة بجوهر أخلاقية البرجوازية، أي بالمصالحة مع النظام الاجتماعي القائم وتحويل آمال البروليتاريا لتعقد على غياهب الصور الأخلاقية المزيفة.
وعندما يوجه أمضى سهامه ضد الجدل «الدياليكتيك»، فإنه يهاجم في الواقع نمطا محددا من التفكير هو الذي تستخدمه البروليتاريا في صراعها من أجل التحرر. إنه يحاول أن يكسر السيف الذي ساعد البروليتاريا على اختراق حجب ظلام مستقبلها. إنه يحاول أن يحطم الساعد الذي تستطيع البروليتاريا بعونه أن تنتصر على البورجوازية، على الرغم من أنها لا تزال ماديا تحت نيرها. ذلك أن الجدل هو الذي يبين للطبقة العاملة الطابع الانتقالي لهذا النير ويبرهن للعمال حتمية انتصارهم، كما أنه يحقق الآن ثورة في مجال الفكر. يودع برنشتاين الجدل ويلجأ بدلا من ذلك إلى التأرجح الفكري من النوع المعروف جيدا، نوع «من جهة –ومن جهة أخرى» «نعم – ولكن» «على الرغم – بيد أن» «أكثر – أقل» الخ، وهو بذلك يهوي في منزلق نمط من التفكير ينتمي إلى البرجوازية في مرحلة هبوطها، نمط هو الانعكاس الفكري الأمين للوجود الاجتماعي والنشاط السياسي للبرجوازية في تلك المرحلة. إن عبارة «من جهة – ومن جهة أخرى» «نعم – ولكن» الخ، التي ترددها البرجوازية سياسيا تشبه إلى حد مميز طريقة برنشتاين في التفكير، وهذا هو البرهان القاطع الأكيد على الطبيعة البرجوازية لمفهوم برنشتاين عن العالم.
لكن كلمة «بورجوازي» كما يستخدمها برنشتاين ليست تعبيرا طبقيا بل مفهوما اجتماعيا عاما. فقد استبدل برنشتاين الذي يظل منطقيا حتى النهاية علم البروليتاريا وسياستها وأخلاقها ونمط تفكيرها وكذلك لغتها التاريخية بتلك التي تخص البرجوازية. فعندما يستخدم برنشتاين دون تمييز اصطلاح «مواطن» ليشير إلى البرجوازية وكذلك إلى البروليتاريا بقصد الإشارة إلى الإنسان بشكل عام، فهو إنما يعطي الإنسان بشكل عام هوية البورجوازي والمجتمع الإنساني هوية المجتمع البرجوازي.

11- الانتهازية في النظرية والتطبيق
إن كتاب برنشتاين على جانب عظيم من الأهمية للحركة العمالية الألمانية والعالمية. فهو أول محاولة لإعطاء التيارات الانتهازية في الاشتراكية الديموقراطية أساسا نظريا.
يمكن القول أن هذه التيارات قد وجدت في حركتنا منذ زمن طويل، إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك التجليات المتفرقة للانتهازية مثل مسألة اعتمادات الأسطول. ولكننا لا نجد اتجاها انتهازيا ذا طابع محدد إلاّ منذ حوالي العام 1890 عند القضاء على القوانين المضادة للاشتراكية. إن «اشتراكية الدولة» التي نادى بها فولمار والتصويت على الميزانية البافارية و«الاشتراكية الزراعية» في جنوب ألمانيا وسياسة هاين في التعويضات وموقف شيبل من التعرفة والظاهرة العسكرية هي العلاقات الفارقة في تطور ممارستنا الانتهازية.
ما الذي يميز هذه الممارسة قبل ما عداه؟ إنه العداء لـ«النظرية». وهذا أمر طبيعي، ذلك أن نظريتنا، أي مبادئ الاشتراكية العلمية، تضع حدودا مميزة للنشاط العلمي –فيما يتعلق بأهداف هذا النشاط و الوسائل التي تستخدم في الوصول إلى هذه الأهداف والنهج الذي يستخدم في هذا النشاط. ولذا فإن من الطبيعي أن يحاول الذين يركضون خلف «النتائج» المباشرة تحرير أنفسهم من حدود كهذه ليجعلوا ممارستهم مستقلة عن نظريتنا.
بيد أن هذه النظرة تدحضها كل محاولة لتطبيقها على الواقع. فقد كانت اشتراكية الدولة والاشتراكية الزراعية وسياسة التعويضات ومسألة الجيش جميعا هزائم للانتهازية. ولذا فإن من الواضح أن يتعين على هذا الاتجاه كي يستطيع البقاء والاستمرارأن يحاول تحطيم مبادئ نظريتنا ليقيم نظرية خاصة به. وكتاب برنشتاين هو بالضبط جهد في هذا السبيل. وهذا ما جعل كل العناصر الانتهازية في حزبنا في شتوتغارت تجتمع سريعا تحت راية برنشتاين. إذا كانت التيارات الانتهازية في الممارسة العملية لحزبنا ظاهرة طبيعية تماما يمكن تفسيرها على ضوء الظروف الخاصة بنشاطنا، فإن نظرية برنشتاين محاولة طبيعية لتكتيل هذه التيارات في تعبير نظري عام، ومحاولة من هذه التيارات لتضع شروطها النظرية الخاصة بها وتفترق عن الاشتراكية العلمية. وهذا هو السبب في أن التعبير المنشور على أفكار برنشتاين يجب أن يعتبر امتحانا نظريا للانتهازية وأول مشروعية علمية لها.
فماذا كانت نتيجة هذا الامتحان؟ لقد رأينا النتيجة: إن الانتهازية ليست قادرة على وضع نظرية إيجابية تصمد أمام النقد: فكل ما تستطيعه هو شن الهجوم على موضوعات ماركسية متنوعة مقطوعة. ولأن النظرية الماركسية تشكل صرحا متماسكا، فإن الانتهازية تأمل بهذه الطريقة أن تهز الصرح من الأساس حتى الرأس.
إن هذا يبين أن الممارسة الانتهازية لا تتفق أساسا مع الماركسية. كما يثبت أن الانتهازية لا تتفق مع الاشتراكية (الحركة الاشتراكية) عموما، وأنها تميل داخليا إلى دفع الحركة العمالية إلى السبل البورجوازية وأنها تميل إلى شل الصراع الطبقي البروليتاري تماما. ومن الواضح أن الصراع الطبقي من وجهة نظر تاريخية لا يمت إلى النظرية الماركسية، وذلك لأن حركات عمالية ونظريات اشتراكية عدة وجدت قبل ماركس وباستقلال منه، وكان كل منها بطريقته الخاصة التعبير النظري بما يتفق مع ظروف العصر عن صراع الطبقة العاملة من أجل انعتاقها. ولقد وجدت من قبل كل مفاهيم برنشتاين الجميلة: نظرية استناد الاشتراكية على المفهوم الأخلاقي للعدالة وعلى النضال ضد نمط التوزيع بدلا من النضال ضد نمط الانتاج، فهم الصراع الطبقي على أنه تعاد بين الغني والفقير، محاولة حفر «المبدأ التعاوني» على جسم الاقتصاد الرأسمالي. ولقد كانت كل هذه النظريات في زمنها نظريات فعالة للصراع الطبقي البروليتاري على الرغم من عدم كفايتها. لقد كانت هذه النظريات احذية الاطفال التي تعلمت البروليتاريا بفضلها أن تمشي على مسرح التاريخ.
ولكن بعد أن أدى تطور الصراع الطبقي وانعكاسه في الظروف الاجتماعية إلى التخلي عن هذه النظريات وتطوير مبادئ الاشتراكية العلمية، لم يعد ثمة اشتراكية – على الأقل في ألمانيا – خارج الاشتراكية الماركسية، ولا يمكن أن يكون ثمة صراع طبقي اشتراكي خارج الاشتراكية الديمقراطية. منذ ذلك الحين أصبحت الاشتراكية هي الماركسية وأصبح النضال البروليتاري هو الاشتراكية الديمقراطية. وهذا هو السبب في أن العودة إلى نظريات اشتراكية قبل-ماركسية لا تمثل عودة إلى أحذية البروليتاريا في طفولتها بل إلى الأحذية البرجوازية المهترئة.
لقد كانت نظرية برنشتاين أول وآخر محاولة لاعطاء الانتهازية أساسا نظريا. إنها الأخيرة لأن الانتهازية ذهبت في نظريته إلى أقصى ما تستطيع – سلبيا بالتنكر للاشتراكية العلمية وايجابيا بتجميع كل قطعة ممكنة من حطام التشوش النظري. لقد توجت الانتهازية تطورها بكتاب برنشتاين (تماما كما أتمت تطورها العلمي بالموقف الذي اتخذه شيبل من مسألة العسكرية) ووصلت نتيجتها النهائية.
تستطيع الماركسية أن تدحض الانتهازية نظريا، وليس ذلك فحسب فهي أيضا الوحيدة القادرة على تفسير الانتهازية كظاهرة تاريخية في تطور الحزب. إن مسيرة البروليتاريا إلى الأمام على النطاق التاريخي العالمي نحو النصر النهائي ليست بالفعل «أمرا بسيطا». إن الصفة المميزة لحركة البروليتاريا يكمن بالضبط في أن الجماهير الشعبية تقوم أول مرة في التاريخ بفرض إرادتها ضد الطبقات الحاكمة، ولكن على البروليتاريا أن تفعل ذلك خارج المجتمع القائم، متخطية المجتمع القائم. ولا تستطيع الجماهير الشعبية بهدف يتخطى النظام الاجتماعي القائم واتحاد النضال اليومي بالتحويل العظيم للعالم هو المهمة الملقاة على الاشتراكية الديمقراطية التي ينبغي عليها أن تتحسس طريقها عبر صخرتين: التخلي عن الطابع الجماهيري للحزب أو التخلي عن الهدف النهائي، الوقوع في الاصلاحية البورجوازية أو في الفئوية، في الفوضوية أو الانتهازية.
لقد وضعت الماركسية في جعبتها النظرية منذ أكثر من نصف قرن أسلحة فعالة ضد هذين الحدين المتقابلين. لكن الماركسية لا تستطيع أن تقينا سلفا وإلى الأبد من الاتجاهات الفوضوية والانتهازية وذلك لأن حركتنا حركة جماهيرية ولأن الأخطار التي تتهددها ليست ناتجة عن العقل البشري بل عن ظروف اجتماعية ولا يمكن التغلب على هذه الاتجاهات إلاّ عندما ننتقل من مجال النظرية إلى مجال الممارسة، وذلك غير ممكن بغير الاستعانة بالأسلحة التي زودنا بها ماركس.
كتب ماركس قبل نصف قرن يقول «إن الثورة البورجوازية، كثورات القرن الثامن عشر، تندفع من نصر إلى نصر، لتسبق آثارها بعضها بعضا، فيبدو الناس والأشياء وكأنهم يحترقون من لهب لألاء، وتكون النشوة الروح المخيمة. لكن قصيرة هي هذه الثورات، فهي تصل أوجها سريعا، ليرتد المجتمع إلى نوبة رد فعل عصيبة قبل أن يتعلم كيف يقطف ثمار فترة الهياج المحموم. أما الثورات البروليتارية، كثورات القرن التاسع عشر، فهي على العكس من ذلك تمارس نقد نفسها باستمرار، وباستمرار تتوقف خلال سيرها، تعود إلى ما كان يبدو منجزا لتبدأ من جديد، تهزأ بشمول قاس من كل نقاط ضعف محاولتها الأولى وحقارتها واجراءاتها المجزوءة، فتبدو وكأنها ما تطرح خصمها ليستمد من الأرض عزما جديدا فينهض ثانية ضدها وقد اتخذ قواما عملاقيا، تتردد باستمرار فزاع من الحجم الهائل غير المحدد لأهدافها ذاتها – إلى أن يخلق في النهاية وضع يجعل كل تراجع مستحيلا، وترفع الظروف ذاتها عقيرتها بالصياح: «هنا الوردة ، وهنا علينا أن نرقص!»
ظل هذا صحيحا حتى بعد أن طورت النظرية الاشتراكية العلمية. فالحركة البروليتارية لم تصبح كلها اشتراكية-ديمقراطية حتى في ألمانيا. ولكنها تصير اشتراكية ديمقراطية أكثر فأكثر فتتغلب باستمرار على الانحرافات الانتهازية والفوضوية المتطرفة، التي لا تعدو كونها مراحل محددة في تطور الاشتراكية الديموقراطية منظورا إليها كعملية.
لهذه الأسباب، ينبغي علينا أن نقول أن الشيء المدهش هنا ليس ظهور تيار انتهازي بل ضعف هذا التيار. فطوال ظهور الانتهازية في حالات منعزلة من النشاط العملي كان المرء يستطيع أن يفترض أن لها أساسا جديا، ولكن المرء لا يملك الآن وبعد ظهور كتاب برنشتاين إل أن يصرخ بدهشة « ماذا؟ أهذا كل ما لديكم من قول ؟ » لا ظل من فكرة أصيلة ! لا فكرة واحدة لم تدحضها الماركسية وتسحقها وتحيلها غبارا قبل عدة قرون!
كان يكفي الانتهازية أن تتكلم لتبرهن أنه ليس لديها ما تقول. هذه هي أهمية كتاب برنشتاين الوحيدة في تاريخ حزبنا.
فليشكر برنشتاين نمط تفكير البروليتاريا الثورية والدياليكتيك والمفهوم المادي للتاريخ، وهو يتخلى عنها جميعا، لأنها أوجدت ظروفا مخففة لردته. ذلك أن الديالكتيك والمفهوم المادي للتاريخ هما وحدهما اللذان يستطيعان في شهامتهما أن يجعلا برنشتاين يبدو أداة لا واعية مسيرة تعبر بها الطبقة البروليتارية الصاعدة عن ضعفها الآني، أداة تلتقي بها البروليتاريا جانبا باحتقار وكبرياء عندما تتفحصها بقدر أكبر من الدقة.
ـــــــــــــ
كتبته روزا لوكسمبورغ سنة 1900.
نشر لأول مرة: سنة 1900 (وتم مراجعته في الطبعة الثانية 1908)
المصدر العربي: دار الطليعة – الطبعة الأولى 1970
تحويل رقمي: : جريدة المناضل-ة (أبريل 2005)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024