الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظارة من فييتنام

وليد الحلبي

2013 / 9 / 9
الادب والفن


لم تكن هذه الرحلة السياحية في نهر الميكونغ سوى تجربة فريدة في هذه البلاد الغريبة، يستمتع ركاب القارب أثناءها بمناظر طبيعية خلابة، وبمشهد الفلاحين في قراهم على الضفتين، يتقون بقبعاتهم المستديرة المصنوعة من القش حر شمس لاهبة،،، تحمل بعض النساء منهم أطفالهن على ظهورهن، بينما يغرسن شتلات الأرز، أويقطفن أوراق الشاي، والرجال يحملون على أكتافهم عُصِيٍّ طويلة، ثبتت في نهايتيها سلال احتوت على بعض الغلال من خضروات وفواكه، وجواميس ضخمة يمتطيها صبية يتنافسون في الإسراع بها إلى قرى مجاورة. مهرجان قروي آسيوي بامتياز، لم تره عين شرق أوسطي سوى في الصور أو في الأفلام، والمركب السياحي الذي يقل مجموعة من السياح الأجانب، مع بعضٍ من أهل البلاد، يتهادى صاعداً مجرى النهر، ودليل سياحي يقدم شرحاً عما يراه ركاب القارب بلغة إنكليزية بائسة، ربما فهموا ما يقوله بصورة أفضل لو كان قدمها بلغته الوطنية - التي لا يعرفون منها حرفاً - مع الإشارة، وصاحبنا العربي هذا بين كل هذا الهرج والمرج الذي يحيط به، لا يدري كيف رمته الأقدار إلى فييتنام، في مهمة من شركته الخليجية التي تبحث عن فرص تصدير إلى دول جنوب شرق آسيا.
تضع على عينيها نظارة شمسية سوداء كبيرة، بحيث وصلت حافتها السفلى أسفل وجنتيها، تجلس قبالته، بانحراف قليل إلى الشمال، دأبت على التحديق في وجهه منذ انطلق القارب في رحلته قبل ساعة ونصف، من أناقة ملابسها استنتج أنها على جانب لا بأس به من الثراء، والحلي الذهبية التي تدلت على صدرها وأذنيها، أو تحلقت حول معصميها، تشي بالميسور من الحال. إلى جانبها جلس رجل بدا أصغر منها سناً، ربما كان زوجاً احتمل فارق السن بينهما مقابل فارق الثروة، اختارته بعد وفاة زوجها العجوز الذي أورثها ثروة محترمة، فانفتاح هذه البلاد اقتصادياً بعد خروج المحتلين الأمريكان - مع مراقبة حكومية واضحة - قد أفرز عدداً من رجال الأعمال الوطنيين، خاصة من أولئك الذين كانوا يدرسون العلوم الاقتصادية في جامعات الغرب، بينما كان أبناء جلدتهم يقاتلون المحتلين ويموتون بعشرات الآلاف، لكن هكذا هو طبع الثورات: قادتها المفكرون، ووقودها الأميون، وورثتها المتعلمون، فهل كان زوجها الراحل من بين أولئك المتعلمين الذين ورثوا الثورة، وورثت هي عنه بدورها هذه الثروة؟.
بينما القارب ماضٍ في رحلته، والدليل مستمرٌ، بل ومغرق في شرحه، لم ترفع ناظريها عنه. قال في نفسه: هي النظارات السوداء، لا يضعها على عينيه إلا من خشي أشعة الشمس أن تؤذيهما، أو من استلقى على شاطيء بحر، تحت أشعة شمس لاهبة، يبغي جسداً برونزياً، أو أن يكون عنصر أمن يتابع مشبوهاً، غيرأن ما يجول في خاطره في هذا الموقف الذي هو فيه، ذلك النوع من الناس الذي يهوى أن يسترق النظر والتلصص على الآخرين من خلف نظارته دون أن يلحظه أحد،،، يجيل عينيه في جميع الاتجاهات، ويتجاوز حدود الحرمات، دون أن يلفت الانتباه إليه، أو يُشعِرَ الآخرين بما يقوم به، فهل تكون هي من هذا النوع الأخير؟، ثم: لماذا لا تنظر في وجه غيره، فيستريح هو من هاجس الشك، ويتذكر أن بعض الظن إثم؟.
كان الشاب الجالس إلى جوارها يكلمها، فتجيبه باقتضاب دون أن تنظر إليه، ويحاول لفت انتباهها إلى أمر ما، فلا تلقي إليه بالاً، ناظرة إلى الجالس قبالتها بتمعن يوحي بتحد وإصرار. هل يعقل أن هذه السيدة معجبة به لوسامته الشرق أوسطية؟، فهذا النوع من الزوار هم قلة من البشرالتي يراها سكان هذه البلاد، أم هل تخطط لمغادرة بلادها عن طريقه، والنجاة بثروتها الطائلة إلى بلاد أكثر حرية في مجال الأعمال، هرباً من مراقبة حكومية صارمة تتحكم بمفاصل الاقتصاد؟، فالتصدير والاستيراد في هذه البلاد، بكافة أنواعه، لا يهم إلى أين ومن أين، لا بد لمن يعمل في مجالهما من معاملات حكومية تستنزف الوقت والجهد، ناهيك عن المبالغ التي يتقاضاها الموظفون الحكوميون كَرِشاً، بعد أن ازداد التضخم في العملة المحلية عقب التحرير والاستقلال، وأصبح الراتب الشهري لا يكاد يكفي الموظف لأكثر من عشرة أيام. جميع هذه النفقات المترتبة على الحصول على أذونات الاستيراد والتصدير، إلى جانب تدخل الدولة في تحديد الأسعار،علاوة على تدهور قيمة العملة المحلية أمام الدولار، كل ذلك جعل العمل التجاري في هذه البلاد لا يعود على صاحبه بالمردود المناسب للجهد المبذول فيه، ومن المؤكد أنها تعمل في هذا المجال. تذكر أنه لا يضع على عينيه نظارته الشمسية، ففتح علبتها،،، نظفها بقطعة قماش، ثم وضعها على عينيه، فحركت هي نظارتها بيدها دون أن ترفعها عن عينيها، بينما ما زالت تحدق فيه من خلف النظارة. أقنعه ذلك بأن شكوكه قد تكون في محلها،،، تمايل القارب بفعل موجة عارضة، فمال هو إلى جانبه، فمالت هي إلى جانبها دون سائر الركاب. لقد اقترب شكه من عين اليقين.
الدليل يدعو الركاب إلى تناول بعض المرطبات والسندويتشات، وقبل أن تنهض للتوجه إلى المنضدة لتناول حاجتها من الطعام، رجاها الشاب الذي بصحبتها أن تبقى في مكانها، وأنه سوف يقوم بخدمتها، مستفسراً منها عما تفضله من طعام،،، هكذا خمن الشرق أوسطي قبل أن يقوم لأخذ حاجته من الطعام كذلك.
لو صدق ظنه وكانت شكوكه في محلها، فماذا ستكون الخطوة التالية بعد الانتهاء من هذه الرحلة؟، هل ستقوم بصرف مرافقها بحجة إحضاره شيئاً ما تخترعه؟، كأن يكون دواءاً من صيدلية، أو شراء لحاجة ما، فعندها سوف يكون لديها الوقت للحديث معه، خاصة ولابد أنها تتكلم اللغة الانكليزية طالما أنها تعمل في مجال التجارة كما خمن. ثم ماذا بعد؟، قال في نفسه: لا شئ، دع المقادير تجري في أعنتها، ولكل حادث حديث.
تاق إلى انتهاء هذه الرحلة في أسرع وقت، وماهي إلا نصف ساعة من الزمن، حتى خفف القارب من سرعته، وجنح به قبطانه إلى المرسى ببطء، بينما تسارعت دقات قلب الأسمر المقبل على مغامرة جنوب شرق آسيوية، وتوقف عقله عن التفكير في ما سيحدث بعد النزول على اليابسة. توقف القارب تماماً، وشرع الركاب في مغادرته،،، السيدة اتكأت على ذراع مرافقها، الذي قادها برفق إلى سلم النزول من القارب، منبهاً إياها كي تتوخى الحذر. عندها تذكر صاحبنا أن العميان أيضاً، إضافة إلى الآخرين، يضعون على أعينهم نظارات شمسية سوداء.
29 أغسطس 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/