الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جماليات الرقص الدرامي في -بيت برناردا ألبا-

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2013 / 9 / 10
الادب والفن


تنتمي الدراما المسرحية للشاعر الإسباني (فيديريكو غارسيا لوركا) إلى ذلك النوع من المسرحيات ذات الخصوصية الشعرية ، ذلك أن إحساس المؤلف الذي تكون في مسارب الشعر إبتداءا لم يغادره في صياغة نصوصه الدرامية بل على العكس من ذلك فإنه عمد إلى تفعيل أسلوبه من خلال تضمينه للعديد من المقترحات الفكرية التي هيمنت على النص المسرحي الذي طالما كان يسعى من خلاله إلى معالجة العديد من القضايا الإجتماعية ، ولا سيما قضايا المرأة التي تعد المحور الأساس في مسرحه ، ذلك أن (لوركا) كان متنوعاً تناوله للمرأة التي كانت في (ماريا بينييدا) تلك البطلة الثائرة التي تضحي بكل شيء ، وفي موضع آخر كانت (يرما) ومحنة المرأة العاقر ، وهي ذاتها المرأة المجبولة من قسوة في (بيت برناردا ألبا) تلك المرأة التي تحول العالم إلى جحيم بعد وفاة زوجها .. وغيرها من شخصيات (لوركا) التي إمتلكت كل واحدة منهن خصوصيتها وإسلوبها في التعبير عن محنتها في قلب المجتمعات الذكورية التي تسيطر على الحياة في أزمنة الحرب والسلطة الدكتاتورية التي كان يقودها الجنرال (فرانكو) والذي كان له دور البطولة في القضاء على حياة (غارسيا لوركا) الذي لم تزال قصائده حاضرة .

التعصب في التقاليد ..قتل للحرية
إختار (لوركا) في مسرحية (بيت برناردا ألبا) فكرة متعددة الوجوه ، وقد بدا ذلك واضحاً في الشخصية الرئيسية (برناردا ألبا) تلك المرأة –الام – الأرملة التي تقيم مراسيم الحداد على زوجها لسنين طويلة ، وهي بذلك تكون قد ورثت تقاليد عفا عليها الزمن ، إلا أنها ترفض أن تغادرها ، وتعمل على تحويل البيت إلى سجن يضيق ببناتها اللواتي يسكن فيه ، وهي بذلك ترفض الحياة وتركن ومن معها إلى الموت متكئة على التقاليد التي تحاصر خمس نساء تبدو الرغبة شاخصة في احداقهن، إلا ان (برناردا) كانت تهيمن على المكان وترفض كل المحاولات التي تقضي بإنهاء الحداد الأبدي.
ولم يكن يبدو واضحاً ان سنوات الحداد ستنتهي، بل على العكس فإن الزمن كان يجعل من (برناردا / الأم) اكثر قسوة وأكثر تشبثاً بالتقاليد ، حتى انها احالت البيت إلى قطعة من السواد اطفأت شعلة الحياة في قلوب النساء ، حتى ان إحداهن تردد “أقوم بأعمالي دونما إيمان، ولكنّني أقوم بها على أيّ حال، كساعة”، وعلى الرغم من القسوة التي فرضها الأم على بناتها إلا ان بنات برناردا كنّ يسرقنَ الفرح خلسة بالنظر من النوافذ أحيانا وبالتنصّت على أحاديث الرّجال العابرين قرب البيت أحيانا أخرى، إلا ان ذلك المتنفس المسروق كان يزيد من معاناتهن ، كنّ سجينات البيت وسجينات أجساد لم تكن ملكًا لهنّ، حتى أن إحداهنّ تقول لأخواتها وهنّ يسترقن النظر إلى الرجال العائدين من الحقول: “حتى عيوننا ليست لنا!”.
الأمر الذي دفع العديد منهن إلى الإستسلام والرضوخ إلى سلطة الأم ، بإستثناء (آديلا)، صغرى أخواتها، ابنة العشرين ربيعًا، كانت الوحيدة التي تمرّدت على ثقافة الموت التي سادت البيت، وانتزعت الحياة من سجّانها بيديها الصغيرتين.
فقد رفضت (آديلا)، أن تكبر في بيت يشبه المقبرة كأخواتها، واختارت أن تستعيد ملكيّتها لذاتها وأن تحيا الحياة، إلا انها في النهاية لاقت مصيراً اكثر بشاعة من مصير اخواتها لكنه كان من إختيارها رغم انها إختارت أن تكون ضحية الموت لكي يكون رفيقها الوحيد .
إن شخصية ( برناردا) ، التي جسّدت الماضي الذي مات منذ زمن سحيق، تعود مجدّدا، وتختار أن تعيش بعد (آديلا) في نكران آخر، مؤكّدة لمن تبقّى من بناتها،وللخادمات في البيت، وللقرية كلّها بعد ذلك، أن ابنتها ماتت عذراء، وتكرّر حتى النهاية: ابنتي ماتت عذراء، هل سمعتنّ؟ ماتت عذراء، وبذلك تعود (برناردا) إلى تقاليدها مرة اخرى متناسية ان الموت لا يمنح العذرية لأحد ، لتبدأ سنوات طويلة من الحداد الازلي في بيت الارملة المتشحة بالسواد.
المعالجة الإخراجية للنص الشعري
جاءت مشاركة العرض ضمن فعاليات مهرجان (منتدى المسرح الدولي السابع عشر )، وتعد الأولى لفرقة مسرح (الحوار) في ألمانيا، والمسرحية من إعداد وإخراج : العراقي – الكوردي (إحسان عثمان) ، كيروغرافيا (يوهان لانزارو) ، على قاعة المسرح الوطني في بغداد ، وقد حصل العرض على جائزة افضل عرض مسرحي في المهرجان .
إختار المخرج الركون إلى فن (الكيروغراف) للتعبير عن الأفكار التي سطرها (لوركا) في المتن النصي ، وعلى الرغم من ان المخرج لم يعمل على تفكيك النص والخروج من دائرة المؤلف كما هو حاصل مع العديد من التجارب المسرحية المعاصرة ، بل على العكس فإننا نلاحظ ان المخرج إرتبط بالنص إلى حد كبير ، ولم يكن إرتباطه هذا يشكل مثلبة على مستوى الإخراج بل على العكس من ذلك فإنه إختار أن يقدم معالجة درامية مغايرة لتلك التي تعتمد اللغة الشعرية التي صاغ بها (لوركا ) النص المسرحي .
ولم تكن لغة (الرقص الدرامي ) بما فيها من تنوع في الحركات التعبيرية ، بمعزل عن إشتغالات أخرى مجاورة كما هو الحال مع اللغة المحكية ، بل عمل على توظيفها لتكون فعلاً مسانداً للفعل الحركي والتعبيري ، وعلى الرغم من اننا لم نتمكن من التواصل مع المنظومة اللغوية ذلك ان المخرج إعتمد على اللغة الالمانية ، إلا ان ذلك لم يشكل عقبة في التلقي إلا فيما يتعلق ببعض المشاهد التي إقتصرت على وجود الفعل اللغوي ، ووهي بدورها إتسمت بوجود الاداء التمثيلي الفاعل كما هو الحال مع شخصية (برناردا) التي إستطاع المخرج ان يوظف سلوكها الأدائي على نحو جعل المتلقي العراقي يغادر منطقة اللغة الملفوظة إلى لغة أكثر حضوراً ألا وهي اللغة التعبيرية التي إعتمدت على طبقات صوتية تحيل المتلقي إلى ذلك الوجع المزمن في إشارة إلى وقوع كارثة تمثلت بإنتحار(الابنة).
إن إعتماد المخرج على تقنيات (الكيروغراف) في التعبير عن الافكار النصية من جهة فضلا عن التشكيلات الحركية التي كانت حاضرة على نحو بارز في العرض من جهة أخرى منح العرض خصوصية واضحة ، وعلى الرغم من أن ذلك لم يكن بمعزل عن اللغة التي عمل المخرج تارة على المزج بينها وبين الحركات الراقصة وبينها وبين الحركات الوظيفية تارة اخرى ، الأمر الذي خلق انساقاً متنوعة في التشكيلات الحركية ، فقد جاء التعبير عن الحالات الدرامية المتمثلة بالحزن من خلال الإفادة من الأنساق اللونية التي إعتمدها المخرج فقد كان حضور اللون الاسود الذي إتشحت به الشخصيات معبراً عن النسق العام الذي يغطي (الفضاء – المنزل) فضلا عن ذلك فإن دلالة اللون الاسود إمتلكت حضورها في الذاكرة الجمعية كما هو الحال مع اللون الأبيض الذي أمتلك دلالات باتت ثابتة في الوعي الانساني ، والذي عمل المخرج على توظيفه ليكون نقيضاً تقليدياً للون الاسود على مستوى الشكل والمضمون ، ذلك ان اللون الاسود كان لصيقاً بشخصية (برناردا) وكان مفروضاً على بناتها وخادماتها بإستثناء الابنة الصغرى (اديلا) التي إختارت التمرد عليه وإرتداء اللون الأبيض ، وهي معادلة ادخلنا المخرج فيها للإشارة إلى الظلمة التي تقبع في عقول الكثير منا ، والنور الذي نحلم بان يكون طريقنا ، وهي إشارة لها إرتباطها في المجتمعات الإنسانية وما يواجهها من تطرف وعنف ، وكذلك هو الحال مع واقعنا المحلي الذي تتنازعه صرخات الظلمة ونداءات النور؛ فضلا عن ذلك فإن إعتماد المخرج على حركات تعبيرية جاءت منسجمة مع النسق اللوني والتي أسهمت بدورها في تفعيل المنظومة البصرية وبذلك يكون المخرج قد نجح في تحقيق التواصل البصري مع المتلقي ، ولم تكن المنظومة اللونية في الازياء المسرحية تعمل بمعزل الاكسسوارات التي كانت متوافرة في فضاء العرض ، والتي كانت قادرة على إنتاج المعنى المزدوج ، كما هو الحال في إستخدام (مهفات الهواء) التي جاءت هي الأخرى متسقة مع فرضيات العرض ذلك انها كانت تعبر عن الفكرة النصية التي يطرحها (لوركا) على لسان الأم (برناردا ألبا) التي تقول " إن الحداد لدينا ثمان سنوات ينبغي أن لايدخل خلالها من أبواب هذا المنزل ولا من نوافذه حتى هواء الطريق نفسه" وذلك من اجل تحريك الهواء الساكن في البيت المغلق ، والتعبير عن حالة الضجر الذي بدا واضحاً من خلال النسق الحركي الذي إختاره المخرج بالتعاون مع مصمم الرقص (الكيروغراف).
وبذلك يكون المخرج قد عمل على توظيف طروحات النص بما ينسجم مع الرؤية الإخراجية التي إعتمدت على نحو أساس على الحركات التعبيرية .
من جهة اخرى فإن المخرج إختار العمل على توظيف مفردات ديكورية متحركة لتكون متوافقة مع الفعل الحركي المستمر على خشبة المسرح ، فضلا عن ذلك فإن تلك المفردات الديكورية التي كانت على شكل (مناضد) صغيرة والتي أستخدمت في تحولات عدة كان من بينها تحولها إلى كراسي للشخصيات وغير ذلك من التحولات التي إتخذت بدورها نظاماً حركياً يتوافق مع النسق الحركي للشخصيات، إلا ان المخرج لم يتمكن من الحفاظ على النسق الديكوري الذي تمثل بـ(المناضد) وذلك عن طريق توظيفه لقطعة ديكورية لم تكن منسجمة مع ذلك التشكيل ، وإنما بدت غريبة عن فضاء العرض بمجمله ، وقد تمثل ذلك في إستخدام (قدر الطبخ) الذي كان بعيداً عن بيئة العرض حتى انه بدا ثقيلاً على خشبة المسرح مقارنة بالافعال الحركية (الراقصة) التي إمتازت بالتشكيلات الحركية المعبرة فضلا عن جماليات الحركة التي كانت حاضرة في فضاء العرض، الأمر الذي أربك التشكيل الحركي من خلال تلك المفردة التي لم تكن منسجمة مع بيئة العرض الذي غادر فيه المخرج المقترحات المحلية للعرض مستفيداً من ادواته التعبيرية سواء على مستوى التمثيل أو المفردات الديكورية أو الموسيقى التي كانت بمجملها تنحو نحو المعالجة العالمية للنص الدرامي.
ولم تكن الإضاءة بعيدة عن الاشتغال النسقي الذي إعتمده المخرج في العرض بل على العكس من ذلك فإنها كانت حاضرة من خلال إستخدام اللون الاصفر الذي كان مهيمناً على العرض ، والذي إمتلك دلالات متعددة في التعبير عن الحالة النفسية للشخصيات المسرحية، فضلا عن ذلك فقد عمل المخرج على إستخدام اللون الأحمر في المشهد الاخير والذي إمتلك خصوصية واضحة للتعبير عن المأساة التي إنتهت بإنتحار الإبنة (اديلا) فكان إستخدام اللون الاحمر دلالة واضحة على بشاعة الفعل ، فضلا عن ذلك فقد كان
للموسيقى دور فاعل في تطوير العرض المسرحي لاسيما ان الاعتماد على الرقص الدرامي كانت به حاجة إلى النسق الموسيقي الذي كان حاضراً في العرض إلا انه إنقسم إلى قسمين احدهما تمثل في الموسيقى المباشرة والتي كانت حاضرة على خشبة المسرح والتي إمتلكت حضوراً تعبيرياً واضحاً ومباشراً مع المتلقي ، والآخر كان يتمثل في الموسقى التصويرية ، ونعتقد ان المخرج لم يكن موفقاً في إستخدام نوعين من الموسيقى ، ذلك ان النسق التعبيري للموسيقى المباشرة على خشبة المسرح كان أكثر إنسجاماً مع الرقص الدرامي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق