الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطائر المبتل بماء الشمس ... النتاج المتولد من بنية الحذف خليل ابراهيم المشايخي

محمد كاظم جواد
شاعر

(M0hammad Kadom)

2013 / 9 / 19
الادب والفن


قبل أن نستهل قراءتنا لمجموعة ( الطائر الذي ابتلّ بماء الشمس ) للشاعر العراقي محمد كاظم جواد ، نبدأ من العنوان ومواءمته تصميم الغلاف ، وكذلك مع النصوص الشعرية التي ضمها الديوان . ولذا أشد على يد الفنانة المبدعة ريم العسكري لتصميمها هذا الغلاف تصميما معبرا بابداع فذ ، وكأني بها قد ادركت انّ العنوان هو خبر لمبتدأ محذوف لجعله نكتة بلاغية تكون نتاجا متولدا عن بنية الحذف ، لكي يعدُّ عملية تحفيزية لاستحصال الدلالة بطرق مختلفة اذ يحوم الكلام داخل محيط التفسيرات والتأويلات وحذفه كان مقصودا لتوسيع دائرة الدلالة ، وهي عملية تحويلية بلاغية ، فجاء رسمها لنصف الوجه الأيسر المحذوف والمكمل له كف اليد اليمنى جاعلة الأصابع هي قوادم الطير وزاوية الراس هو المنقار والعين بنظرتها المعبرة الى الأمام هي ذلك الايحاء الجميل الذي يستوقفك لتتأمل ما في الديوان من معانِ بعد عنوانه لتمضي معه محلقا نحو فضاء يدلك بشعاع الابداع لتنتفض عن الحقيقة ساطعة في سطور القصائد ... وكأني أرى بؤرة التركيز تنطلق من العنوان .. وبما ان المبيّن والبيان معنى واحد في البنية العميقة فضّ ديوانه بنص (( عثرات )) يبدأ نصه بهذه الهندسة الايقاعية ( شبه جملة + اسم نكرة + فعل ) ليتمكن من توزيع الدفقة الكلامية بشكل معبّر ومتسق ومنتظم ،
في بريدي
أحلام ٌ هربت من ليلٍ مكسور
سَأسْتبدلها .....
حين يؤرخني الصباح ،
بمسلّته الخاوية
لقد اعتمد تلك الهندسة لجعلها محورا لما يريده من الشكل البديهي لرسم صورته لأحلام هاربة منه في خضم المعاناة من ليل حياته الذي تكسّر ، هذه المعاناة التي ينتظر أن ياتي الفرج الذي ينتظره رغم خوائه .. فالجمالية التي رسمها الشاعر نابعة من هذا الدفق الايقاعي الأخاذ ، مما زاد من فرادة الكلام ، ورونقه ، وأضفى على هذا المقطع مسحة ابداعية لتزويق واجهة نصه هذا .
وبقى المقطع الثاني من نصه هذا يشبه جملة ظرفية للمكان ليؤسس لجملة اسمية مبتدأها نكرة موصوفة ، ليخلق مثل المقطع السابق تناسقا صوتيا مموسقا ليزيد من فرادة الكلام ورونقه ويضفي عليه جمالية شكلية ومسحة ابداعية ،
ثمة أضواء تخفت بارتعاش
سأسألها أن تطلق في سمائي
نيزك النهار
علّني استدلّ به
طريق خطوتي الضائعة .
وأجد ان الشاعر أراد أن ينبه على أهمية السؤال المقدر في البنية الداخلية وصولا لمعرفة الحقيقة التي غابت في ليل حياته الدامس ... وقد عمد بنجاح الى ابراز ظلامية طريفة بحسن تأديته باسلوب المتكلم .
فإذا كان الشاعر في المقطع الأول والثاني اعتمد على اسلوب القصر بتقديم ماحقّه التأخير كإسلوب بلاغي لخلق عملية توليدية بحسب الطاقة التوليدية التي تكمن في هذا التقديم والتأخير أي ( في بنية العمق ) .
وفي المقطع الثالث عمد الى تغيير الهندسة البنائية بعد أن قطع أشواطا محسوبة في دلالاتها وصورها في المقطعين السابقين ، فبدأ المقطع باسم معرفة أخبر عنه بالتمثيل بصورة بيانية :
المسافات
مثل ليل يعوي فب بحرِ الحروب
ليعلن انكساره ،
على عتبات الطريق .
استخدم في هذا المقطع بنية تعبيرية في تقديم الاصل وهو المبتدأ (المسند اليه ) ولا يقتضي في العدول عنه ولم تكن هناك نكتة بلاغية تستدعي تاخيره لأنّ هذه البنية المحايدة هي التي تنطلق منها التحولات البلاغية فلذلك اوردها في هذا المقطع جاعلا المسند بنية تشبيهيه اخبارية ارتكزت عليها صورته ( المسافات ـــــــــ ليلُ يعوي في بحر الحروب ) .
وهنا أعطى للحروب فضاءً لامنتهيـًا ( بحراً ) من الموت والضياع وللحرب تجارها المتخمين بالجشع والبشع ، ولها سماسرتها الذين يعتاشون عليها .. هذا الليل الذي وصفه الشاعر في المقطع الأول انّهُ (ليل مكسور ) وهنا أعلن بعوائه المسعور عن هذا الانكسار .. ويأتي الى مقطع آخر ليبدؤه بالبناء نفسه والهندسة المعمارية المتقنة نفسها ، فقد بدأهُ بالمسند اليه المعرفة ليزيد من رسوخ هذا البناء الذي ضمَّ معه المسند الاسم المفرد النكرة وفراغ منقوط كدليل على المسكوت عنه الذي يمكن ان يفهم ويؤول بعد الجملة الاسمية لاسيما بعد الخبر المفرد ....وبعد هذا الفراغ المنقوط تصدّر السطر ( حرف استقبال + حدث دال على الاستقبال ..) لربط الدلالة وزمنها ثمّ يبدأ بحدث دال على الحال والاستقبال :
الهامشُ ضيِّق
سَأسْتَدير إذن
وأمشي على حافة الهاوية .
نرى أنَّ الشاعر محمد كاظم جواد خلق لغة شعريّة خاصة به باحثا عن طرائق جديدة في التعبير ، ونلحظهُ من خلال المقاطع السابقة والمقاطع الآتية لانجده سيستأذن اللغة في أي تركيب فني أو هندسة بنائية وهو وحده كان الليل عنده مكسورا ويعلن انكساره في بحر الحروب وهو وحده أُدْرِجَتْ عبارته في متن متخوم لا في الهامش الضيّق :
الإعلان صريح
غير أنَّ العبارة .....
أُدْرِجَتْ في متن متخوم .
في المقطع التالي يعمد الشاعر الى أن يبدأهُ باسلوب الطلب مستخدما حدثا طلبيا لخلق صورة ابداعية من خلالها يستطيع أن ينتج الواقع ليؤسس من خلال الانحراف الكلامي جمالية تتولد من امتزاج المعنى الحقيقي والمجازي في استعمال واحد ليبقى اللفظ بعد الانحراف حاملا لظلال المعنى الحقيقي ليلقيه على المعنى المجازي ، لخلق صورة جمالية متفردة :
أَعِرني خوذة الربيع
لأحارب بهدوء
ماتبقّى من أشلائي .
بهذا الشكل خلق هذه الجمالية الشعرية بعد أن أبقى ألفاظه تحمل ظل معناها الحقيقي ... وبعد ان كان ليله المكسور ، صار زمنه مكسور :
أهدر دم الألوان
في زمن مكسور
وبعدها يحمل المسند اليه بمعرفة أكثر حركيّة في الماضي بالاخبار بسند ( حدث ماضوي ) لجعل ادراك النهاية هي التي تكون قائدة الى البداية :
قافلتي خلّفتْ وراءها
شرنقة السؤال
لأنها أدركتْ أنّ النهاية
ستقودها الى البداية .
وكلّما أوغَلتُ في هذا النص كلما وجدت أنّ الشاعر ازداد تأنقا وتصاعدا وابداعا في صوره وتراكيب جمله وانزياحاته المتقنة في مسارب اللغة لجعل الانتاجية البلاغية تكمن في استبطان الكلام حركة استدلالية ...
ولنا وقفة مع نص (منفى... آخر ) المهدى الى الشاعر عبد الرزاق الربيعي الذي غيّر فيه محمد كاظم من نمط التعبير وفي شكل البناء الهندسي لنصّه فأكثر فيه من الفراغ المنقوط الذي وجد الشاعر فيه أبلغ تعبير على المسكوت عنه الكثير ، فوجد فيه انه عميق الدلالة والايحاء لافساح المجال للمتلقي ليؤول مايتلقاه بحرية وزمن هو يقدره أو حسب ما سيشغله من فهمه للمحذوف الذي سكت عنه الشاعر :
ربّما ... اتوسّل بالبحر
ليقودني الى منفى .......
أتنفس فيه هواءً لايشبهني
أسْتَجمعُ كُلَّ قواي .......
التي دَبَّ فيها الوهنُ
كدبيب النمل الجائع
..........................
استهلَّ بناءه الهندسي بحرف الجر من حروف المعاني وهوحرف خافض وتعمّد أن يلحق البناء ب (ما ) الكافة ، ليكون وحدة واحدة تقف بشموخ في بداية البناء لتضفي عليه جمالية أخاذة بعد هذا المسكوت عنهالقليل أو القصير كما أراده الشاعر اضاءة ذهنية لمدى شدّة التركيز أوضعفه ليشكّل معنى دلالي متكامل ، ناشيء من تركيز العملية التواصلية في الكلام ليجعل بؤرة التركيز هو الحدث (أتوسَل ) لينتج حركة مستمرة من خلال هذه البؤرة بحدث آخر ( أتنفّس ) وآخر ( أستجمع ) للذهاب الى حدث ماضوي (دَبَّ ) وصولاً الى صورة ابداعية نابضة بالحياة ( دبيب النمل الجائع الذي دَبَّ في قواه ) وأراد منها أن يتخذّ أبعاداً جديدة في خطابه الشعري هذا وقد نجح في تصعيد النص رؤيويا وهذا مافعله في كثير من نصوص الديوان ( أسئلة القدّاح ، ناصية الخراب ، براقع النرجس ، رحلة داخل الجسد ، سيف الوقت ، جذر الروح ، وقصائد . ثمّ يختم هذا المقطع بفراغ منقوط كرمز لمسكوت عنه مدته طويلة أكثر مما سبقه في المقطع نفسه ... وبعده يبدأ المقطع الثاني :
يقولون انَّ المنافي ضيّقة
والبلاد ستلاحقك
لتسدد فاتورة حسابك
انّ من يطالع هذه القصيدة اكثر من مرة سيقف على ما أراده الشاعر محمد كاظم من هذا النص المهدى الى الشاعرعبد الرزاق الربيعي ، انّ احساس الشاعر بعذاب الغربة التي لم يذقها إلاّ من خلال الآخرين الذين عرفهم وأحبّهم لكنّهُ صدّق بما قالوه : (انَّ المنافي ضيّقة ) وكأنه آمن بذلك فالمنافي الممتدة كالبحر أو الصحراء امتدادا لانهاية له إلاّ انّها رغم هذا الامتداد تضيق بالانسان المنفي رغم سعتها ويبقى (المنفي) على الرغم من بعده ملاحقا من ذكرياته وأحلامه ، وحبّه وكرهه لايمكن ان يهرب منه أو يفلت من ربقتها مهما حاول ، وربما تأتي ساعات وربما لحظات تعتصر قلبه ووجدانه لتهدد سعادته وراحته حتى استقراره في المنفى :
لست بحاجة الى أن تدخل نفسك
في أشياء تبصرها بعيون باكية
انظر الى وجهك في المرآة
سترى خارطة صمّاء....
تمتدّ من القلب ... الى خطوط جبينك المتغضن .
هذا المقطع يعبر عن الغربة أو المنفى بكل دقة وايجاز لأنَّ مافي القلب من معاناة ينطبع على الوجه بدقة وكأنه المترجم الدقيق الصادق على معاناة الانسان ومايعانيه في منفاه ، وكان الشاعر من خلال تجربته الشعرية الثرّة جعل بؤرة التركيز في هذا المقطع لرفع الضبابية عن الموقف السابق ، وتبيين زواياه وكأنّه جعل العلاقة البيانية تشكّل حركة رأسية في الحدث الكلامي يكون ثقلها في قاعدة المقطع .. ومع كل المعاناة التي يقرأها الشاعر بما يحسّهُ ويشعر به وما يقرؤه عن المنافي فهو يريد أن يجعل من الوطن وسيلته أن يبحث عن منفى آخر :
سأتوسّل بالوطن الملقى على قارعة الدرب
أن يمنحني منفى أتلمّس فيه سنيني
فأنا ماعدت أطيق رؤية من يشبهني .
وَوِفق ذلك راحت تتعدى رغباته ومايريده ( حلماً ، نشيداً ، ربيعاً ) وأغرب مايريد : أريدُ حاكماً يَفهَمُ معنى نَظريّة فيثاغورس
والقاسم المشترك الأعظم
.................................
وإذا بالشاعر يرى حقيقة الأشياء بعد مناداته :
أيّها البحر .... أيّتها الأنهار
أيّها الوطن المبتلى بأناشيد الحروب
سأسحب توسلاتي
وأمسح احلامي من خارطتي الصمّاء
لأنني أدركتُ وبيقين تام
أن لاحاجة لي الى منفى آخر
...............................
أسقط فيه كلّ خساراتي
أراد من خلال استعمال (أيّها ، أيتها ) أن يحقق البنية العميقة المستبطنة للإستنتاج المنطقي داخلها ... فلذا تجده انه في نهاية الأمر أصبح على يقين تام (أن لا حاجة لي الى منفى آخر) ، بمثل هذا الايجاز البليغ عبّرَ بدقة بلاغية مفعمة بصدق التعبير عمّا في ذاته بذائقة بلاغية مدربة تدريبا متقنا ، فلذلك تجده نأى في هذا النص المفعم بالحياة عن ان يوغل في كثافة من الرمزية أضخم مما اعتمده في كثير من نصوص هذا الديوان لذلك لم يكتنفها بما يمنع المتلقي من اختراقها المباشر والذي يقف على نصوص الديوان ، ستبهره الصور النابضة بالحيوية وهذه التعابير الأخاذه التي تمتلك وجدان المتلقي وتهز كوامنه برشاقة المفردة وبلاغتها وعمقها الدلالي ، واختيارها بكل حذاقة وابداع لكي تعبّر عمّا في دواخله من معاناة صادقة حميمية ، لتأتي بهذا التناسق الصوتي الجميل الأخاذ ليزيد من فرادة الكلام ورونقه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا