الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ المختصر لرئاسة مصر ومعضلة الرئيس القادم

محمود يوسف بكير

2013 / 9 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


هناك حقائق تاريخية واقتصادية كثيرة تثبت أن العامل المشترك بين كل رؤساء مصر السابقين هو أن سيئاتهم أكثر من حساناتهم ولذلك استمرت مسيرة تدهور الاقتصاد المصري عبر سنوات حكمهم. ولعلي أضرب مثلا واحدا من خلال مقارنة قيمة الجنيه المصري أمام الدولار والريال السعودي في عام 1977 وقيمته الآن في عام 2013 حيث كان الجنيه يساوي 1.4 دولار و 5.5 ريال. أما الآن فإن الدولار يساوي 7 جنيهات والريال يساوي 1.86 جنيه وهذا يعني أن القوة الشرائية للجنيه أصبحت نصف ريال بعد أن كانت 5.5 ريال في الوقت الذي نجد فيه أن قيمة الريال تكاد أن تكون ثابته امام الدولار خلال نفس الفترة.
ولابد أن نؤكد هنا أن أخطاء هؤلاء الرؤساء كانت في الغالب غير متعمدة ولكنها كانت قاتلة وذات اثار سلبية بعيدة المدى على المجتمع المصري ولازالت ممتدة حتى يومنا هذا.
بالطبع فإن الموضوع يحتاج إلى دراسة تفصيلية ولكن في عجالة قصيرة يمكن القول بأن جمال عبد الناصر استحق وقته لقب زعيم الامة العربية لمواقفه الوطنية وانشغاله بقضايا التحرر من الاستعمار والتبعية على مستوى العالم الثالث ككل مما أعطى لمصر ثقلا سياسيا واحتراما لم تحظى بمثله منذ أيام محمد علي باشا هذا بالإضافة إلى سعيه المخلص لرفع مستوى معيشة العامل والفلاح المصري بعد طول اهمال فعمل على بناء قطاع عام قوي وأمم قناة السويس وبنى السد العالي وجعل التعليم مجانيا...الخ
ولكنه في المقابل فقد الغي كل أشكال الديمقراطية وحرية التعبير في مصر وقام بتصفية كل الأحزاب السياسية وأغلق الصحافة المستقلة وسيطر على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والاعلام والجامعات ...الخ واسس بهذا لديكتاتورية عسكرية لازلنا نعاني منها حتى اليوم.
ولأن الديكتاتورية القمعية عادة ما تفضي إلى كارثة فقد انتهى حكم عبد الناصر بهزيمته المهينة امام إسرائيل في عام 1967 واحتلال سيناء.

أما خليفته أنور السادات فقد كان أيضا رجل دولة من الطراز الأول وذو رؤية وعمق استراتيجي ومن أبرز حسناته محو عار هزيمة 1967 واسترداد سيناء بعد حرب أكتوبر المجيدة عام 1973. كما سعى السادات إلى ربط الاقتصاد المصري بالاقتصاد العالمي من خلال ما أطلق عليه وقتها بسياسة الانفتاح الاقتصادي وذلك لتفادي أضرار عزلة مصر عن العرب بعد توقيعها لمعاهدة كامب دافيد مع إسرائيل التي أدت إلى قطع كل الدول العربية تقريبا علاقاتها مع مصر.
ويقال إن توقيع السادات لمعاهدة سلام مع إسرائيل يمثل أحد أخطائه الكبرى ولكن هذا موضوع يطول فيه الجدل لأن ما فعله السادات منذ أكثر من ثلاثين عاما تحاوله كل الدول العربية الآن سرا وعلنا.
على أن من أخطاء السادات التي لا تقبل الكثير من الجدل هي إطلاقه العنان للحركات الإسلامية المتطرفة في بداية حكمه في محاولة منه لإقامة نوع من التوازن مع التيارات الاشتراكية والشيوعية والليبرالية التي ورثها عن عبد الناصر والتي مثلت تهديدا مباشرا لحكمه.
ومن أخطائه الأخرى استهانته بتحول سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أسس لها إلى نوع من الانفتاح الاستهلاكي المجنون في بلد فقير ومحدود الموارد الامر الذي أدى إلى اشتعال الأسعار واندلاع انتفاضة 18 و19 يناير عام 1977 والتي أسماها السادات بانتفاضة الحرامية إمعانا في حالة الغرور الشديد التي انتابته بعد نجاحه في استعادة سيناء حتى أنه تصور انه لا يصح لأحد أن يعترض عليه أو ينتقده بأي حال واطلق على نفسه لقب الرئيس المؤمن و كبير العائلة المصرية وهذا يعني ببساطة أنه لم يعد رئيسا مسؤولا أمام شعبه بل أصبح هو المسؤول عن شعبه!
وواصل السادات تحديه للجميع من خلال اعتقاله لكل رموز المعارضة الشديدة التي بدأت في التزايد السريع ضده حتى من جانب حلفائه السابقين وهم الاخوان المسلمين. وانتهى الأمر بمأساة اغتياله وتولي مبارك الحكم، واختيار هذا الأخير كنائب لرئيس الجمهورية كان واحدا من أكبر أخطاء السادات في حق مصر.
أما الرئيس مبارك فقد بدأ عهده بداية طيبة من خلال ظهوره بمظهر الرئيس المتواضع والديمقراطي الذي يؤمن بالمشاركة والحوار. ومن محاسنه التزامه بنصيحة مستشاريه بأهمية البدء في برنامج للإصلاح الاقتصادي وإقامة بنية تحتية جيدة في مصر بعد طول تأجيل بسبب الحروب المتوالية مع إسرائيل. كما أنه نجح في إعادة العلاقات مع العرب.
وكالعادة فأنه بمجرد ظهور بوادر تحسن في الأوضاع الاقتصادية سيطرت على الرجل حالة من الغرور والغطرسة وبدأ ينشغل بالبحث عن موقع له في تاريخ مصر من خلال تبني بعض المشاريع الكبرى الفاشلة، بالإضافة إلى سعيه إلى توريث الحكم لابنه بعد أن تحولت مصر على يديه إلى ما يشبه العزبة أو الضيعة.

وقد كان أن أستغل هذه الحالة المرضية للرئيس بعض المتسلقين والانتهازيين من حوله وبدأوا في التغني بعبقريته وحكمته وحنكته التي لم يجود بها التاريخ من قبل ولا من بعد، ولأنه رجل أجوف ولا يقرأ او يفكر فقد كان من السهل السيطرة عليه من قبل زوجته وأهلها وشبكة قوية من محترفي السلب والنهب حتى أصبح هو وأسرته واجهتها ومنتهاها حيث كان من الصعب أن تتم أي عملية نهب مال عام من النوع الثقيل دون أن تمر عليه أو على زوجته أو أبنائه بعضا من نفحاتها.
وهكذا يمكن تلخيص عهده في كلمات بسيطة بأنه زمن الاستبداد والقمع مثل سلفيه مضافا اليه جرعة عالية من الفساد والنهب التي شملت جميع مؤسسات الدولة.
وصحيح أن معدلات التنمية زادت في عهد مبارك بفضل السياحة وتحويلات المصريين في الخارج والاستثمارات الأجنبية إلا أنها لم تؤدي إلى تحسن ملموس في حياة نصف سكان مصر من المعدمين، حيث تمتع آل مبارك وحاشيته ورجال الاعمال المقربين منه بكل الخير الأمر الذي أدى إلى زيادة الفجوة بين الفقراء والاغنياء كما لم يحدث في تاريخ مصر.
ومن المفارقات المضحكة أن مبارك كان يحلو له دائما أن يقول "أنه منحاز دائما للفقراء"! وأعتقد أنه كان محقا في هذا لأنه كان يلقي إليهم بالفعل بعضا من الفتات والفضلات من وقت لآخر.
ومن ثم كانت ثورة 25 يناير 2011 الشعبية والسلمية ضد مبارك ونظامه والتي حازت على إعجاب العلم كله ما عدا المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية في مصر وكل من استفاد من نظام حكمه.

وعندما جاء الرئيس أو الشيخ مرسي إلى الحكم بعد صراع مرير مع المجلس العسكري كان عليه أن يواجه كل أجهزة دولة مبارك التي ظلت مسيطرة على أركان الدولة بدعم من العسكري. وبدلا من ان يعمل الرجل بحنكة وديبلوماسية لعمل تحالفات لاستقطاب كل القوى الثورية والليبرالية التي أسهمت في وصوله للحكم ضد إرادة العسكر انشغل بأجندة دينية إقصائية ساذجة أدت إلى عزلته عن الجميع ما عدا أبناء عشيرته الذين استغلوا قربهم منه لتأمين مواقعهم ومصالحهم والتمتع بالحصانات والمزايا بشكل أحرج الرئيس أكثر من مرة وأضاع ما تبقى له من مصداقية وسهل مهمة العسكري والاعلام في حشد الملايين ضده في 30 يونيو 2013 والاطاحة به بعد عام واحد فقط في الحكم.

وها نحن نعود إلى مربع عام 1952 ونرتمي في حضن العسكر من جديد وكأن التاريخ لا يتحرك في مصر. ويتم الآن صياغة دستور جديد يؤسس لدولة عسكرية لا يعلوا فيها صوت فوق صوت الجيش والشرطة ومعهم جيش آخر من البلطجية والإعلام الموجه وقضاء مسيس.

والان إذا افترضنا على سبيل الجدل ان الرئيس القادم سوف يكون مدنيا كما يقال لنا، فإن السؤال يكون: كيف سيحكم هذا المسكين بلدا يضم كل هذه التنظيمات والمؤسسات التي لا تأخذ أوامرها وتوجهاتها الا من العسكر وهؤلاء "أي العسكر" لهم دولتهم المستقلة وبمقدورهم خلع أي رئيس لا يروق لهم تحت شعار "بناءا على طلب الجماهير" وتحت وقع نغمات "تسلم الأيادي"

ولابد هنا أن نؤكد أنه بالرغم من عدم تقبل مبدأ الحكم العسكري في كل دول العالم الحر فان الاعلام المصري يشيع أن غالبية الشعب المصري سعيدة بالخيار العسكري. وبافتراض أن هذا صحيح يكون لزاما علينا أن نحترم هذه الرغبة وان نتعايش معها. ولكن تظل مشكلتنا الكبرى في مصر هي خوفنا من تسمية الأشياء بحقيقتها حيث لازال أعلامنا وقطاع كبير من مثقفينا يدعي أن دولتنا مدنية 100% وبمرتبة الشرف وان العسكر لا يتدخلون في السياسة. هذا بالرغم من تناقض هذا الادعاء مع ما نشاهده من انتشار مكثف لمدرعات الجيش وقواته في شوارع وميادين القاهرة وفرض قوانين الطوارئ وحظر التجول، إذ عادة ما يكون هذا من مظاهر الانقلاب والحكم العسكري كما هو متعارف عليه في كل أنحاء العالم ما عدا مصر حسب رواية إعلامنا.
ومرة أخري ليست هناك مشكلة في كل ما سبق طالما أن هناك مباركة شعبية ورغبة أصيلة في عودة حكم العسكر ورفض المفهوم الحديث للحوكمة السياسية، ولكننا هنا أمام أسئلة فارقة يتعين علينا الإجابة عليها بصراحة حتى نعرف إلى أين نحن متجهون:

• هل يتحول النظام العسكري إلى مدني بمجرد ارتدائه لملابس مدنية؟
• هل يمكن أن تشهد مصر أي انتخابات نزيهة مع عودة جهاز مباحث أمن الدولة وهو في حالة توحش غير مسبوقة ومدعوم بجيش يضم عشرات الالوف من البلطجية؟
• هل يمكن أن يحمي نظامنا القضائي "الشامخ" أي عملية انتخابية في ظل هذه الأجواء وهل يستطيع حماية الناخبين والمرشحين غير المحسوبين على الجيش؟
• هل سيسمح للأخون المسلمين بخوض الانتخابات البرلمانية القادمة بحرية؟ وهل يمكن أن يفوز أحد مرشحيهم بمنصب الرئاسة مرة أخرى؟ أنا شخصيا لا أتمنى هذا لأنني لا أؤيد أي نظام حكم ديني أو عسكري لما ينطوي عليه النظامين من استبداد وتقييد للحريات ولكن الأماني الشخصية لا يصح أن تعطل أي إجماع شعبي على اختيار أي شكل من أشكال الحكم. أوليس هذا ما يتغنى به الاعلام المصري هذه الأيام وهو يروج للحكم العسكري؟ وربما نراه قريبا يروج للاستبداد الديني وهذا ليس بمستغرب على أعلام يحب ركوب المراجيح.
• وأخيرا هل سيكون بمقدور الرئيس "المدني" القادم أن يحكم بفاعلية وهو في مهب الريح في ظل هذه المعطيات الصعبة وهل يجرؤ على محاولة إخضاع العسكر لإدارته كما هو الحال في كل الدول المتحضرة؟ وهل يضمن الستور الجديد له هذا؟

وإزاء كل هذه الأسئلة والمعادلات الصعبة والإرادة الشعبية المشوهة ألا يكون من الأفضل أن نكون صرحاء مع أنفسنا ونقر بان الرئيس القادم لابد أن يأتي من المؤسسة العسكرية حتى يحظى برضاء الجنرالات ومن ثم يستطيع أن يتعايش مع الشرطة وبلطجيتها والاعلام والقضاء ورجال اعمال مبارك؟

أليس هذا أفضل من الإتيان بإمعة جديدة بدلا من الإمعة الحالية؟


محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الهدف وراء الضربة الإسرائيلية المحدودة في إيران؟|#عاجل


.. مصادر: إسرائيل أخطرت أميركا بالرد على إيران قبلها بثلاثة أيا




.. قبيل الضربة على إيران إسرائيل تستهدف كتيبة الرادارات بجنوب س


.. لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟




.. هل وصلت رسالة إسرائيل بأنها قادرة على استهداف الداخل الإيران