الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل الأول- أوكتوبر 1917: هل هو انقلاب أم ثورة اجتماعية

إرنست ماندل

2013 / 10 / 17
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



إن حملة اغتياب وتشهير حقيقية بحق ثورة أوكتوبر تأخذ مجراها حاليا، في الشرق كما في الغرب. وغالبا ما تأخذ نبرات حاقدة. إنها تقوم على تزويرات تاريخية وخرافات لا تقل إطلاقا عن تزويرات الستالينية وخرافاتها. ومكافحتها ليست أمرا لا بد منه فقط من وجهة نظر علمية وسياسية. إن الأمر يتعلق بعمل سلامةٍ فكري لا غنى عنه. إن القتال لأجل الحقيقة هو أيضا قتال لأجل حد أدنى من الاحتشام في الحياة العامة.

يهم في هذا الفصل الأول، أن نتناول ثلاثا من هذه الخرافات التي نلتقيها في أكثر الأحيان على امتداد الكتابات السجالية المعاصرة.



خرافة الانقلاب على يد أقلية

إن التضليل الأول يتناول طبيعة ثورة أوكتوبر بالذات. فبحسب هذه الخرافة، لم يكن أوكتوبر غير انقلاب شيطاني، بقيادة معلم في المناورات هو لينين، حقته شلة صغيرة من الثوريين المحترفين. إن التعليقات التي تلت انقلاب 26 آب/أغسطس 1991 الفاشل، في موسكو، معبرة جداً من وجهة النظر هذه. فالبعض لم يترددوا في الكتابة أن انقلابا ثانيا (فاشلا) أتاح في عام 1991 إزالة ما كان انقلاب أول (ناجح) قد خلقه عام 1917.

والحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. فقلد كانت ثورة أوكتوبر نقطة الذروة في إحدى الحركات الجماهيرية الأشد عمقا في التاريخ. ففي أوروبا في تلك الفترة، كانت انتفاضة العمال الألمان عام 1920، ردا على انقلاب كاب-فون لوتفيتز، والثورة القشتالية (*) في تموز/يوليو 1936، بمواجهة استيلاء الفرانكويين العسكري الفاشي على السلطة، هما الوحيدتان اللتان اتخذتا اتساعا مشابهاً، لكن أكثر محدودية مع ذلك واقصر مدىً زمنياً. إن المصادر التاريخية لا تترك أي شك بخصوص اتساع تمثيل البلاشفة في أوكتوبر 1917. ولا حاجة للاقتناع بذلك لأن نلجأ إلى كتابات من كانوا قريبين إلى لينين (1). إن اتساع حركة الجماهير قبل ثورة أوكتوبر وخلالها وبعدها أمر بات ثابتاً في أيامنا هذه (2) فلنكتف هنا بإيراد بعض الشهادات العديدة الصادرة عن خصوم للبلشفية.

كان ن.ن. سوخانوف ينتمي إلى التيار الاشتراكي-الثوري. مع ذلك فهو يشدد على ما يلي:

"كان البلاشفة يعملون بعناد ومن دون كلل. كانوا مع الجماهير، وفي الورش، طيلة النهار. عشرات الخطباء، صغاراً وكباراً كانوا ينشطون في بتروغراد، في المصانع وفي الثكنات، في أيام العطل. كانوا قد أصبحوا بالنسبة للجماهير عناصر من جماعتها الخاصة بها، لأنهم كانوا حاضرين دائماً، يأخذون المبادرات في التفاصيل كما في الأمور الأهم داخل المنشأة أو المعسكر. باتوا الأمل الوحيد، إذا لم يكن لشيء فلأنهم إذ توحدوا مع الجماهير كانوا أسخياء في الوعود وحكايات جن جذابة على الرغم من بساطتها. كانت الجماهير تحيا وتتنفس بالانسجام مع البلاشفة. كانت بين يدي حزب لينين وتروتسكي".

"كان من العبث الواضح الكلام على مؤامرة عسكرية بدلاً من ثورة وطنية، في حين كانت تتبع الحزب الغالبية الكبرى للشعب، وفي حين كان قد استولى بالفعل على السلطان الحقيقي وعلى السلطة" (3).

ويشير المؤرخ الألماني أوسكار أنوايلر، وهو ناقد صارم للشيوعيين، يشير من وجهته إلى أنه:

"كان البلاشفة يحوزون الأكثرية في مجالس النواب في كل المراكز الصناعية الكبرى تقريبا، كما في معظم مجالس نواب الجنود في حاميات المدن" (4).

ولا يتمكن مارك فيرون، وهو ناقد شرس آخر للبلاشفة، من الامتناع عن ملاحظة ما يلي:

"في المقام الأول، كانت البلشفية ناتج تجذر الجماهير وكانت هكذا تعبيرا عن الإرادة الديمقراطية [...]. إن تجذر الجماهير يجد تفسيره الكافي في انعدام فعالية السياسية الحكومية (التي كان يشارك فيها الاشتراكيون منذ أيار/مايو)، التي أقامت بين الطبقات السائدة والطبقات الشعبية إجراءات توفيق، تحت غطاء الضرورة. وبدلا من أن تعدل المفاوضات النظام القائم كانت تؤبده [...]".

"مذاك، حل الاستيلاء في المدينة كما على صعيد الجيوش، لذا فان أولئك الذين اعترضوا منذ البداية على مبدأ التعاون بين الطبقات رأوا أنفسهم يكافأون على هذا الموقف، ومن بينهم الأكثر تصلباً، أي البلاشفة، المتبنون اتجاه لينين".

"كان الشغيلة يطالبون بأن يحصلوا على شروط حياة أقل لا إنسانية. ولقد كان رفض المالكين، الفظ أو المتحايل، هو الذي أدى إلى احتلال المصانع، واحتجاز أرباب العمل، ثم الانتقام من البرجوازية، بعد أوكتوبر [...]".

"كانت تلك الحركة تستند على قاعدة شعبية سبق أن أشرنا إلى أشكال تنظيمها. وحين شاركت اللجان التي تعطيها بنيتها في الحركة التي أفضت إلى أوكتوبر، كان الخوف من القمع، والغضب من القادة الخونة، كافيين لتفسير موقف استبدادي [!] أولي، لا علاقة له بالاستبداد البلشفي، لكنه متضامن مع الحركة التي يُدب الحياة فيها" (5).

وبالنسبة لدان، أحد القادة المناشفة الرئيسيين، فإن الجماهير، عشية أوكتوبر:

"بدأت تعبر بصورة أكثر فأكثر تواترا عن استيائها ونفاد صبرها في حركات متهورة، وخلصت [...] إلى التحول نحو الشيوعية [...] تعاقبت الإضرابات. حاول العمال أن يردوا على ارتفاع كلفة المعيشة السريع بزيادات في الأجور. لكن كل جهودهم أخفقت بفعل الهبوط المتواصل لقيمة العملة الورقية. فأطلق الشيوعيون في صفوفهم شعار "الرقابة العمالية"، ونصحوهم بأن يأخذوا بأيديهم هم بالذات إدارة المنشآت، بهدف الحيلولة دون "تخريب" الرأسماليين. من جهة أخرى، بدأ الفلاحون يستولون على الملكيات الزراعية، ويطردون المالكين العقارين ويشعلون النار في قصورهم الريفية خوفاً من أن تفلت من أيديهم تلك الممتلكات، من ذلك الحين حتى دعوة الجمعية التأسيسية إلى الانعقاد..."(6)

لقد تحققت ثورة أوكتوبر تحت شعار "كل السلطة للسوفييتات" أي للمجالس العمالية، ومجالس الجنود والفلاحين. ويلخص المؤرخ بيريل ويليامز بهذه العبارات السيرورة التاريخية التي أفضت إلى أوكتوبر:

"كانت الجماهير ترى في سلطة السوفييتات حل مشكلاتها، أكثر مما في برامج الأحزاب أو في الجمعية التأسيسية. والبلاشفة وحدهم كانوا يماثَلون حقاً مع تلك السلطة السوفييتية [...]. كان حزبهم قادراً آنذاك على امتطاء الموجة الشعبية وصولاً إلى انتزاع السلطة"(7).

فلنتذكر أن أنصار التوجه القائل "كل السلطة للسوفييتات" حصلوا في مؤتمر السوفييتات الثاني على 69.6% من التفويضات. وفي مؤتمر النواب الفلاحين لعموم روسيا، الذي انعقد من 9 إلى 25 كانون الأول/ديسمبر 1917، ظهرت أغلبية خفيفة (لاشتراكيين-ثوريين يساريين وبلاشفة) لصالح سلطة السوفييتات. وقد خلص المؤرخ أنوايلر، في معرض تفحصه لموقف الجماهير حيال حل الحكومة السوفييتية للجمعية التأسيسية في كانون الثاني/يناير 1918، إلى أنه:

"كان من النادر، في صفوف الشعب، أن يتم الاحتجاج على التدابير القمعية التي يتخذها البلاشفة. ولم يكن السبب الوحيد وراء ذلك إرهاب معنوي ومادي، وهو إرهاب "ناعم" نسبيا في تلك الفترة. إن واقع كون البلاشفة استبقوا إلى حد بعيد قرارات للجمعية التأسيسية حول مسائل بحيوية تلك الخاصة بالسلم والأرض، لعب دوراً لم يكن أقل أهمية في هذا المجال [...]. كانت الجماهير العمالية والفلاحية [...] أشد ميلا لإعطاء موافقتها على التدابير الملموسة التي كان يتخذها الأسياد الجدد [...] وبالرغم من ضعف السوفييتات، سواء على الصعيد التنظيمي، أو في الغالب على مستوى التمثيل، كانت الجماهير تعتبرها "أجهزتها الخاصة بها" (8).

خرافة الطوبى القاتلة: الاشتراكية في الحال؟

ثمة مخاتلة ثانية، تزوير ثانٍ للتاريخ يعتبر أن البلاشفة قاموا بانقلابهم ليخلقوا في روسيا في الحال أو في مهلة قصيرة، مجتمعا مثالياً، جنة على الأرض. "وضعوا الطوبى في السلطة"، وفقا لصيغة المؤرخ السوفييتي الكسندر نيكريتش الذي كان عوَّدنا مع ذلك على قدر أكبر من الموضوعية في كتاباته السابقة (9).

في الواقع، كان الهدف من استيلاء السوفييتات على السلطة هو تحقيق أهداف ملموسة جداً، دقيقة: إيقاف الحرب حالاً، توزيع الأرض على الفلاحين، ضمان حق تقرير المصير للقوميات المضطهدة، تحاشي سحق بتروغراد-الحمراء التي كان كيرنسكي يريد تسليمها للجيش الألماني، وقف تخريب البرجوازية لاقتصاد، إرساء الرقابة العمالية على الإنتاج، الحيلولة دون انتصار الثورة المضادة.

يمكن توليف هذه الأهداف بالصيغة الماركسية الكلاسيكية: انجاز المهام التاريخية للثورة الديمقراطية-(الوطنية)-البرجوازية بفضل إقامة ديكتاتورية البروليتاريا، أي تدمير الدولة، وقبل كل شيء جهاز الدولة البرجوازي. لا شك أن الثورة شهدت تنامياً سريعاً باتجاه تحقيق مهام اشتراكية. لكن لم يكن ذلك لأن البلاشفة طوباويون، بل لأن الجماهير العمالية رفضت أي تقييد ذاتي في تحررها، تماماً كما كان تروتسكي قد توقع منذ عام 1906. بما أنها كانت تحس بسيادتها في الدولة وفي الشارع، لم تكن مستعدة للبقاء خاضعة في المنشآت، ولترك الآخرين يستغلونها أيضاً وأيضاً وإلى الأبد (10).

لقد تزايدت مبادرات الرقابة العمالية بشكل عفوي، في المنشآت، عشية ثورة أوكتوبر وغداتها. وقد أفضت أيضا إلى مصادرات للمصانع وانتزاع لملكيتها، حين اتخذ الصناعيون تدابير صرف جماعي، لا بل إقفال (11).

لم يكن البلاشفة يأملون تحقيق "الطوبى"، أي الاشتراكية فوراً في روسيا. وفي الواقع، كانوا مجمعين على نبذ فكرة كهذه. لم يُخْفِ لينين يوماً على الجماهير الروسية أن الاستيلاء على السلطة في روسيا، له وظيفة تاريخية، بالنسبة إليه، هي تشجيع الثورة العالمة وقبل كل شيء الثورة الألمانية (عبر الاستفادة من واقع أن موازين القوى كانت لصالح البروليتاريا، في روسيا، أكثر مما في أي بلد آخر في العالم).

لقد شدد جوليوس برونتال على الأهمية التي كانت هذه المسألة تكتبها في نظر لينين:

"كل مستقبل الثورة العمالية العالمية، والاشتراكية، هو على المحك. هذه الحجة تتكرر عملياً في كل المقالات والرسائل التي يدفع فيها اللجنة المركزية، في خريف عام 1917، للانتقال إلى العمل. هو يردد: "إن النضج المتزايد للثورة الاشتراكية العالمية وطابعها المحتوم لا يمكن أن يرقى إليهما الشك [...]. نحن على حافة الثورة العالمية. سنكون خونة حقيقيين للأممية إن لم نرد في لحظة مشابهة، وفي شروط ملائمة إلى هذا الحد، على نداء الثورة الألمانية (على سبيل المثال [الصادر عن بحارة] البحرية الألمانية) بقرارات" (12).

وبالطبع لا يجب أن نستنتج مما قيل للتو أن توجها نحو الاشتراكية لم يكن أساسيا في الدعاوة البلشفية، وأنه لم يؤثر، على الأقل بصورة هامشية، في التدابير الملموسة التي اتخذوها. كان لينين والبلاشفة يرون آنذاك، خلافاً لمواقفهم قبل نيسان/ابريل 1917، أن "سلطة السوفييتات"، و"السلطة العمالية" (أو العمالية-الفلاحية) والتوجه الاشتراكي، تعتبر عملياً مترادفات.

لكن لينين لم ينفك يشدد على أن ذلك يعني فقط أنه يمكن –وينبغي- البدء بالانخراط في تلك الطرق، لا شيء أكثر. كان لينين يعرف أن مجتمعاً اشتراكياً متطوراً (بالمعنى التقليدي، الماركسي، للكلمة: مجتمعاً خالياً من الطبقات)، لا يمكن أن يبصر النور إلا بعد انتصار الثورة العالمية. وقد كرر ذلك في كانون الثاني/يناير 1918 أمام المؤتمر الثالث للسوفييتات:

"ليس لديَّ أيُُّ وهم: اعترف أننا دخلنا فقط في فترة الانتقال نحو الاشتراكية، وأننا لم نبلغ الاشتراكية بعد [...]. نحن بعيدون حتى عن إنهاء فترة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. لم يخدعنا يوماً الأمل بإنهائها من دون عون البروليتاريا العالمية" (13).

خرافة حزب-شلة من المتعصبين

وثمة المخاتلة الثالثة، التزوير الثالث للتاريخ. بحسب هذه المخاتلة، قامت بـ"انقلاب" أوكتوبر 1917 شلة صغيرة من الثوريين المحترفين مفرطة في المركزة، حرضها على التعصب وحركها لينين، المتعطش للسلطة، لا بل للسلطة المطلقة.

في الواقع، كان الحزب البلشفي قد أصبح، خلال الأشهر الممتدة من شباط/فبراير إلى تشرين الأول/أوكتوبر، حزباً جماهيرياً، يجمع الطليعة الفعلية للبروليتاريا الروسية: القادة الطبيعيين للطبقة، المعترف بهم بوصفهم هذا من جانبها. كان عدد الثوريين المحترفين (المتفرغين) في صفوفه صغيراً إلى ابعد الحدود (14). كان ذلك الحزب، الحزبَ الجماهيري الأقل تبقرطاً الذي حدث أن عرفه العالم. كان يضم حوالي 700 متفرغ من أصل أكثر من 250 ألفاً إلى 300 ألف عضو. وكان يشتغل، فضلاً عن ذلك، بصورة ديمقراطية جداً: كانت النقاشات، والاختلافات في الرأي كثيرة، وكان يتم التعبير عنها، عموماً، بصورة علنية (15).

هذه الحرية في التعبير لم تكن تتعلق فقط ببعض القادة، الذين شرحوا علانية وجهات نظرهم بوصفهم أقلية، (كبوخارين والشيوعيين اليساريين) بما في ذلك عن طريق صحف منفصلة. كانت تتعلق أيضا بأجهزة حزبية بقضِّها وقضيضها. هكذا خلال أشهر، أرسلت لجنة فيبورغ الحزبية، عام 1917، محرضيها الخاصين بها في أسطول البلطيق، للاعتراض على حجج لجنة بتروغراد المعتبرة متسامحة جداً حيال الحكومة المؤقتة.

لقد تعارض تياران بلشفيان علنياً خلال كونفرنسات لجان المصانع، قبل ثورة أوكتوبر. كان يمثل الأول ميليوتين ولارين، الحاظيان بدعم ريازانوف ولوزوفسكي وشليابنيكوف. والثاني، الذي كان مثله سكريبنيك وتشوبار، كان يصر بوجه خاص على المبادرة غير الممركزة في القاعدة.

ولقد بقي هذا التراث نشيطاً، ونجد آثاراً له حتى في عام 1921، في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي، في حين كانت تشتد المعركة لمنع التكتلات داخل ح.ش (سوف نعود لاحقاً للحديث عن ذلك المؤتمر). وخلال النقاش، كان لينين قد هاجم كيسيليف بحدة، والمذكور كان مندوباً انتقد بعض السلطات التأديبية غير العادية التي كان مشروع القرار يمنحها للجنة المركزية. وبما أن كلماته السجالية تجاوزت بشكل واضح ما كان يقصده بالفعل، لم يتردد في النطق على الفور بنقد ذاتي. قال:

"أيها الرفاق آسف كيراً لأني استخدمت كلمة "رشاش" (ضد كيسيليف)، وأقدم وعداً رسمياً بألا أستخدم في المستقبل تعابير مجازية كهذه، لأنها تخف الناس مجاناً، تم تجعل ردود فعلهم غير قابلة للفهم (تصفيق). لا أحد ينوي أن يرمي بالرشاش على أحد، ونحن متأكدون تماماً من أنه لن يكون على الرفيق كيسيليف ولا على أيَّ غيره، أن يفعل ذلك" (16).

كان الحزب البلشفي آنذاك حزباً مندمجاً إلى أبعد الحدود بالمجتمع الروسي وقواه الحية. وهذا ما ذكّرت به، بعد ست سنوات على الثورة، إزاء صعود التكتل الستاليني، أول أرضية برنامجية للمعارضة اليسارية، في صيغة مذهلة:

"كان الحزب تلك الجماعة المستقلة والحية التي كانت تدرك برهافةٍ الواقع المتغير لأنها كانت مشدودة إلى ذلك الواقع بألف طريقة" (17).

إذا لم تكن ثورة أوكتوبر انقلاباً، فهي لم تكن أيضا المآل البسيط لانتفاضة جماهيرية عفوية. لقد كانت أيضا ثورة أعدها بصورة منهجية ونفذها البلاشفة وحلفاؤهم، أنصار سلطة السوفييتات: الفوضويون والاشتراكيون-الثوريون اليساريون.

لم يكن الأمر يتعلق بانتفاضة سرية وأقلية، بل بثورة جرى تنظيمها في وضح النهار، وبشكل أساسي في إطار مؤسسات منبثقة من السوفييتات.

كانت ناتج شرعية جديدة فرضت نفسها على الغالبية الكبرى من الشغيلة والجنود، ثم على قسم مهم من الفلاحين بعد قليل. كانت شرعية السوفييتات ومجالس المصانع تتغلب على شرعية الحكومة المؤقتة وهيئة الأركان العسكرية، وأرباب العمل والملاكين العقاريين.

كان العمال يعترفون هكذا، في المنشآت، وأكثر فأكثر، بسلطة لجان المصانع، بدلاً من سلطة أرباب العمل (18).

وفي بتروغراد، بفضل التحريض والتنظيم اللذين قادهما ليون تروتسكي بمهارة، قررت كل أفواج الحامية، في جمعيات، ألا تعود تعترف بأوامر هيئة الأركان والهرمية العسكرية بل بأوامر السوفييت ولجنته العسكرية الثورية.

ضمن هذه الشروط بالذات، أمكن تحقيق الإطاحة "التقنية" للحكومة المؤقتة، في 25 أوكتوبر 1917، تلك الإطاحة التي لم تهرق إلا القليل من الدم: كلفت قتلى أقل مما تتسبب به عادة حوادث السير خلال نهاية أسبوع عادية، في بلدان أوروبا الرئيسية (19).

باختصار، ماذا كانت ثورة أوكتوبر؟ كانت ذروة حركة جماهيرية هائلة، قادها نحو انتزاع السلطة حزب عمالي طليعي مندمج بالجماهير بصورة وثيقة. حزب كان يسعى قبل كل شيء لأن يحقق مطالب السكان المباشرة الأكثر إلحاحا، في حين يتطلع إلى أهداف اشتراكية عالمية وقومية أشد اتساعا (20).






إحالات

(*) المقصود الثورة الاسبانية. وقشتالة هي منطقة واسعة في وسط شبه الجزيرة (م).

(1)انظر بوجه خاص دافيد ماندل، عمال بتروغراد واستيلاء السوفييت على السلطة، لندن 1984. ر. روليتر، ثورة 1917 الروسية، نيمفنبورغر فرلاغسا نغستالت 1981، جون ريد، عشرة أيام هزت العالم، باريس 1982. س.أ.سميث، بتروغراد الحمراء، كامبريدج 1983. وبالطبع ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية باريس، 1950.

(2) انظر، علاوة على الكتب الثلاثة الواردة في الهامش السابق، إ.ه.كار، الثورة البلشفية، باريس، 1969-1974، ج.كومت، الثورة الروسية نقلا عن الشهود، باريس 1963، م.فيرو، ثورة 1917: أوكتوبر، باريس 1976، ر.كوهن، Die russiche Revolution in Augenzeugen berichten، ميونخ 1977. م.ليبمان، اللينينية في ظل لينين، باريس 1975، ر.ميد فيديف، ثورة أوكتوبر، باريس 1978. وبين التحليلات المنشورة في الاتحاد الوفييتي في الفترة ما بعد الستالينية، فلنذكر بوجه خاص في علاقة بدور الطبقة العاملة: أ.غ.إيغوروفا Raboci klas Oktjabr skoj revoljutcii ، موسكو 1967، ج.أ.تروكان، Raboci Klas vobe za pobedu iupraenie sovetsjkoj vlasti، موسكو 1975. وبخصوص مؤلف ما قبل ستالني، انظر ب.ن.أ موزوف وآخرين: Kaja Revoliuucijai FabzavKomy، موسكو 1927.

(3) ن.ن. سوخانوف، الثورة الروسية 1917، الجزء 2، أوكسفورد 1955، ص 528 و579.

(4)أ.أ.انوايلر، السوفييتات في روسيا 1905-1921، باريس 1971، ص 231.

(5)م.فيرو، من السوفييتات إلى الشيوعية البيروقراطية، باريس، 1980، ص 139-140، 164.

(6)دان، في مارتوف-دان: Geshichte der russischen Sozialdemokratie برلين 1926، ص 300-301.

(7) ب.وليامز، الثورة الروسية 1917-1921، لندن، 1987، ص 38، 39.

(8)أ.نيكريتش، مرجع مذكور، ص 273.

(9)أ.نييكريتش، الجيش الأحمر مغتالا، باريبس 1965.

(10)انظر في هذا العدد، بين شهادات عديدة، تلك التي تبقى الأكثر تأثيرا: فيكتور سيرج، السنة الأولى للثورة الروسية، باريس، 1917. وثمة شهادات أخاذة عديدة جرت استعادتها في كتاب .أ.سميث، بتروغراد الحمراء.

(11)س.أ.سميث، المرجع المذكور، ص 223.

(12)ج.برونتال، Geshichte der Internationale، الجزء 2، برلين-بون 1978، ص 113.

(13)لينين، "تقرير حول نشاط مجلس مفوضي الشعب، 11 كانون الثاني/يناير 1918"، الأعمال الكاملة، الجزء 26، موسكو/باريس، ص 489.

(14)فيما يسعى فيرو للبرهنة على أنه كان هنالك منذ البداية اتجاه إلى تبقرط حركة الجماهير، يثبت العكس، في الواقع. ففي الكونفرانس الثاني للجان المصنع التي كان البلاشفة يستندون إليها بشكل رئيسي، كانت نسبة الأعضاء الذين ينتخبهم العمال مباشرة 93%، ونسبة الأعضاء الذين تسميهم النقابات والأحزاب والسوفييتات 7%. وفي الكونفرانس الثالث، الذي تم في أوكتوبر 1917. كانت هذه النسب على التوالي 88% و12% (مرجع مذكور ص 118). ويصعب أن نعتبر كمبقرط أو في طريق البقرطة جسما 88% من أعضائه عمال مصانع، انتخبهم مباشرة زملاؤهم في العمل.

(15)يشير تروتسكي في تاريخ الثورة الروسية إلى أن الحزب البلشفي عين كممثلين له في رئاسة المؤتمر الثاني للسوفييتات 14 شخصا كان ستة من بينهم خصوماً للانتفاضة.

(16)لينين، ملاحظة حول مداخلة كيسيليف بخصوص القرار حول وحدة الحزب. 16 آذار/مارس 1921، المؤلفات الكاملة، الجزء 42، ص 289.

(17) استشهاد مأخوذ من الأرضية البرنامجية المسماة "أرضية الـ46"، المنشورة في 26 تشرين الأول/أوكتوبر 1923. انظر وثائق معارضة 1923، لندن 1975 ص 7.

(18)أنظر في .أ سميث (مرجع مذكور، ص 58-60، 63-64، 85-86، 139)، المبادرات العديدة للرقابة العمالية في المنشآت. كان الحراس الحمر في كل حال ينبثقون من الميليشيات التي أقامتها تلك اللجان.

(19)"بدا النجاح، من دون جهد تقرباً، الذي حققته عملية بتروغراد في 25 أوكتوبر 1917، يثبت أن وراءه حقاً الغالبية اللاحقة من السكان. وحين كان البلاشفة يفاخرون بواقع أن الثورة المذكورة لم تكلف إلا القليل من الحيوات البشرية وأن معظم الضحايا سقطوا خلال محاولات خصومهم أن ينتزعوا منهم النصر الذي أحرزوه، كانوا على حق. "إ.هـ.كار، الثورة البلشفة، الجزء الأول، ص 155.

(20)إن س.أ.سميث (مرجع مذكور، ص 150-165) يعارض بحق أطروحة العديد من المؤرخين الذين يؤكدون أن البلاشفة كانوا يعارضون فطرياً الرقابة العمالية الممأسسة. لكننا ناسف لكونه يقدم هو ذاته بعض التنازلات، مستندا إلى "السنوات السوداء"، 1920-1921. ففي هذا الصدد، لا يشر إطلاقا إلى المواقف اللاحقة لكل من لينين وتروتسكي، في المؤتمرين الثالث والرابع للأممية الشيوعية، وإلى مواقف تروتسكي، والمعارضة اليسارية والأممية الرابعة لصالح الرقابة العمالية، بدءا بعام 1923. "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024